سياسات ارتدادية .. موت الديموقراطية التركية لأنها لم تحيا أبدًا
بعد
انعقاد الانتخابات البرلمانية والرئاسية في تركيا في 24 يونيو 2018، والانتخابات
البلدية في 31 مارس 2019، ألغى المجلس الأعلى للانتخابات في تركيا انتخابات بلدية اسطنبول
الأخيرة في 7 مايو 2019 بعد فوز مرشح المعارضة التركية أكرم إمام أوغلو، مما دفع العديد
من المحللين والصحفيين إلى إعلان نهاية الديمقراطية التركية. لكن هذه التحليلات فشلت
في التفكير بسؤال محوري وهو كيف يمكن أن ينتهي شيء ما لم يكن أبدًا؟
وعلى مدار
السنوات الماضية، أصبح من الحقائق المقبولة أن تأسيس الحزب الديمقراطي التركي في
عام 1946 ليس فقط بشرى لميلادفي عصر جديد من العملية السياسية متعددة الأحزاب ولكن
أيضًا بدأت عملية انتقالها الديمقراطي. تمكن الحزب الديمقراطي من السيطرة على السلطة
عام 1950، دون مقاومة من حزب الشعب الجمهوري الذي شهد حالة من التراجع، ومنذ ذلك
الحين، أجريت الانتخابات في موعدها، ويعتقد أنها كانت حرة ونزيهة، وأنتجت مجموعة متعددة
من الحكومات الائتلافية، خاصة في السبعينيات والتسعينيات.
بداية الاستحواذ
كان هناك
أيضًا أربعة انقلابات بين عامي 1960 و1997، أدت إلى تغيير هذه الحكومات، ولهذا
السبب اعتبر العديد من المراقبين انتخاب حزب العدالة والتنمية (AKP)، الذي تولى السلطة لأول مرة في عام 2002،
خطوة حاسمة نحو التحول الديمقراطي في تركيا. الذين تعهد قادتها بإصلاح أو إلغاء المؤسسات
التي أنشأها الجيش لحماية الدولة من الفرد (معظمها على حساب أحزاب مثل حزب العدالة
والتنمية ومكوناته). ولتحقيق هذه الغاية، استخدم حزب العدالة والتنمية أغلبيته
البرلمانية لتمرير حزم الإصلاح الدستوري، على سبيل المثال، تقويض عمل مجلس الأمن
القومي، وإلغاء المحاكم المدنية والعسكرية المختلطة لأمن الدولة، وتغيير قانون
العقوبات.
ومع ذلك، بعد مرور 17 عامًا، أصبح
قادة حزب العدالة والتنمية ما زعموا ذات يوم أنهم يمقتونه، اعتمدوه كآلية لتحقيق أهدافهم. فلم
يقم الحزب بإعادة إحياء الجيش باعتباره المسيطر داخل السياسة التركية، ولكن الرئيس
رجب طيب أردوغان انخرط في نمط مألوف في الاستفادة من المؤسسات السياسية والقانونية
في تركيا وإعادة هندستها لضمان بقاءه وبقاء حزب العدالة والتنمية في السلطة، على
سبيل المثال المجلس الأعلى للانتخابات الذي يتم اختيار عضوية الهيئة من قضاة محكمة
النقض ومجلس الدولة، ودورها هو ضمان نزاهة الانتخابات التركية. ومع ذلك، توقف مجلس
الانتخابات عن العمل كحكم محايد في العملية الانتخابية، وبدلًا من ذلك، ومن خلال
التعيينات في القضاء، أصبحت اللجنة أداة لحزب العدالة والتنمية وأردوغان في تحقيق
السيطرة الكاملة على الحياة السياسية الداخلية.
التلاعب بالديمقراطية
في 16 أبريل
2017، ذهب الأتراك إلى صناديق الاقتراع للتصويت على مجموعة من التعديلات الدستورية
التي تهدف إلى تعزيز سلطة الرئيس أردوغان ومنحه صلاحيات تفوق كافة المؤسسات
الرقابية، والتي أشارت إليها استطلاعات الرأي إلى أن الموافقة على التعديلات تمثل
خطرًا كبيرًا على العملية السياسية في تركيا.
وامتدادًا
لتحقيق الهيمنة السياسية والدستورية مارس حزب العدالة والتنمية ضغوطًا كبيرة على
المجلس الأعلى للانتخابات لقبول بطاقات الاقتراع التي كانت تفتقر إلى المصادقة
الصحيحة، وبالتالي منح أردوغان النصر الذي يحتاجه لإثبات ما يطلق عليه الأتراك
"الرئاسة التنفيذية.
وفي نفس
الإطار في 7 مايو 2019، صوت أعضاء مجلس الانتخابات المعين من حزب العدالة والتنمية
لإلغاء نتائج مسابقة بلدية إسطنبول على أساس أن الذين يديرون التصويت لم يكونوا
موظفين مدنيين، وهذا انتهاك للقوانين الانتخابية. لكن انتخاب إكرام إمام أوغلو ليكون
عمدة إسطنبول وهذه الانتخابات الوحيدة التي تراجعت قدرة حزب العدالة والتنمية
ومرشحه بن على يلدريم في المدينة. المفارقة هنا أن مجلس الانتخابات صدق على نتائج
انتخابات دائرة اسطنبول التي فاز بها مرشحو حزب العدالة والتنمية من قبل ، على
الرغم من وجود نفس الأشخاص لفرز نتائج هذه الانتخابات البلدية.
وقبل
قرار مجلس الانتخابات بإلغاء فوز إمام أوغلو، أعلن ممثلو الادعاء الأتراك أن نفس
المسؤولين الذين لم يتمكنوا من فرز أصوات مرشح حزب الشعب الجمهوري، والذين تمكنوا
من فرز أصوات مرشحي حزب العدالة والتنمية لهم صلات بمنظمة فتح الله جولن الإرهابية،
الاتهام الوحيد المناسب للجميع والذي يستخدم لتطهير مئات الآلاف من الأشخاص منذ
الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، على الرغم من الجهود المبذولة لوضع قرار المجلس
الأعلى للانتخابات المشكوك في مدى صحته قانونيًا، فقد كان في الأساس عملًا
سياسيًا. نظرًا لأن أردوغان وحزبه ومؤيديهم كانوا متعطشين جدًا في مقاربتهم
للسياسة لأكثر من عقد من الزمان، ومن ثم فمن الصعب عدم التفكير في العجز
الديمقراطي في تركيا كمشكلة لحزب العدالة والتنمية. كان هذا جزئيًا بسبب الإشارات
التي لا نهاية لها قبل عدة سنوات إلى "تحول تركيا الاستبدادي".
سياسات استبدادية
على
الرغم من أن حزب العدالة والتنمية أصبح سيئًا، فإن أردوغان ليس أول زعيم تركي
يستغل مؤسسات الدولة التي تغلق أبوابه أو بقمع المعارضين له، ويشعر أتباع فتح الله
جولن بالاستهداف بسبب حملات القمع المستمرة لسنوات وأدت إلى اعتقال الصحفيين
والأكاديميين والقضاة. إذا وضعنا جانبًا للحظة التي لم يكن تطهير أردوغان فيها
شيئًا فاحشًا، فلم يكن لدى الغوليين إلا القليل ليقولوه عندما انحازوا إلى حزب
العدالة والتنمية وكانت مجموعة مختلفة تمامًا من الصحفيين والأكاديميين والقضاة
يتم تطهيرهم. لم يكن صمتهم هو الذي جعلهم متواطئين.
وربما
يكون الحزب الديمقراطي قد استهل حقبة حكمه بالتعددية الحزبية والسياسية، لكنه لجأ
أيضًا إلى الاستفادة من مؤسسات الدولة لتعزيز مصالحه السياسية على حساب الديمقراطية، إن تحركات السياسة التركية بقيادة أردوغان
وردودها المضادة تكذب فكرة أن البلاد كانت ديمقراطية أو كانت ديمقراطية حتى فاز
حزب العدالة والتنمية في أول انتخابات له في عام 2002. وأصبحت تركيا مثل مجموعة من
البلدان الأخرى، بارعة في بعض الممارسات الديمقراطية، وأنشأت دساتيرها ما يشبه
المؤسسات الديمقراطية، ولكن القليل من قادتها أبدوا التزامًا بالمعايير الديمقراطية.
وبدون ذلك، ازدهر القمع والاستبداد إلى جانب الممارسات الديمقراطية وحتى بمساعدة
هذه الممارسات.
الالتفاف حول
الديموقراطية
ارتكب أردوغان
مخاطرة وإجراءات من شأنها أن توصف بالانتحار السياسي من خلال الضغط على لجنة
الانتخابات لإلغاء الانتخابات البلدية في اسطنبول، وربما يكون بهذه السياسات قد
أطلق الربيع التركي، وأثناء احتجاجهم على إعلان الهيئة الانتخابية التركية بأن
الانتخابات المحلية في إسطنبول ستُعاد في 23 يونيو 2019، أبدى المحتجين اعتراضهم
على هذه الممارسات من جانب حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، وأن هذه
الإجراءات ليست فقط حول انتخاب العمدة، بل إنها عن مستقبل تركيا الديموقراطي. لقد
أدى القرار المثير للجدل بإجراء انتخابات بلدية جديدة بعد خسارة حزب أردوغان بفارق
ضئيل إلى تقسيم حزب العدالة والتنمية الحاكم وأدى إلى إضعاف أوراق اعتماد تركيا
الديمقراطية.
إن التلاعب المؤسسي من أجل إلغاء انتخابات اسطنبول ربما يكون قد ذهب بعيدًا بمرشح حزب العدالة والتنمية الذي هو الآن المرشح الذي يقدم له كافة أنواع الدعم للفوز؛ حيث أن أردوغان لن يواجه مشكلة إلغاء الانتخابات فقط ليخسرها مرة أخرى. ولكن لا يبدو أن أهالي إسطنبول يسقطون دون قتال. من المحتمل أن تكون الانتخابات المعادة قضية ضائعة لكن ربما، ربما فقط، يمكن أن تكون مقدمة لمولد ديمقراطية تركية حقيقية.