متي يجب أن تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية من الشرق الأوسط؟
تتناول هذه المقالة الجدل
بين فريقين حول الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط فيري الفريق الأول المتمثل في
مارا كارلين وتمارا ويتس، ضرورة الانسحاب من الشرق الأوسط وتطهيره من التدخل
الأمريكي، بينما في المقابل يدافع الفريق الثاني المتمثل في روبرت ساتلوف، وإيان لوستيك
عن وجوب التدخل الأمريكي في بعض القضايا التى تخص مصالح الولايات المتحدة
الأمريكية في المنطقة.
وفي هذا السياق، يناقش الفريقان تلك الحجة
من خلال ثلاث أفكار أساسية تتمثل في؛ مصالح الولايات المتحدة الأمريكية من وجودها
في الشرق الأوسط، ومواجهة الولايات المتحدة الأمريكية لتحديات الأمن في المنطقة،
وأخيرا تأثير علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بإسرائيل وإيران على وجودها في
الشرق الأوسط.
أولاً- مدى أهمية الشرق الأوسط بالنسبة للمصالح الأمريكية
يجادل مارا
كارلين وتامارا ويتس بأن الشرق الأوسط يهم الولايات المتحدة الأمريكية أقل مما كان
عليه قبل 20 عامًا، لذا ينبغي أن تحصل هذه المنطقة على إهتمام وموارد أقل. وخلصوا
إلى أن التدخل الأمريكي المكثف في الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين كان خطئًا
فادحًا يجب تصحيحه.
ونظرًا لأن
الولايات المتحدة الأمريكية تعد حالياً من أكبر منتجى النفط في العالم، فقد انخفض
أمن الطاقة كمحرك للسياسة الأمريكية تجاه دول الشرق الأوسط. لكن لا يزال لواشنطن
مصلحة في وجود سوق نفط عالمي مستقر، بالنظر إلى إعتماد حلفائها على الطاقة
الخليجية وأمن الدول المنتجة.
وفي
المقابل يدعي ساتلوف ولوستيك تقلص وجود القوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط
كدلالة علي انسحابها بالفعل من المنطقة. فيوجد اليوم 35000 جندي أمريكي فقط في
المنطقة بأسرها، وهو جزء صغير من حوالي 500000 جندي أرسلهم الرئيس الأمريكي "جورج
بوش" الأب إلى الخليج في عام 1991 أو ما يقرب من 285000 جندي أرسلهم الرئيس
الأمريكي "جورج دبليو بوش" إلى الشرق الأوسط في عام 2003.
كما يوضحوا
أن إحتمال نشوب صراع على دولة في الشرق الأوسط أصبح اليوم أعلى منه في أي وقت خلال
العقدين الأخيرين، ما يستوجب التدخل الأمريكي بصورة أكبر، فهجمات إسرائيل على
الوجود الإيراني في سوريا، على سبيل المثال، هي علامات مشؤومة على حرب محتملة بين
إسرائيل وإيران. وفي حالة وجود صراع بين حزب الله وإسرائيل، فهناك فرصة كبيرة لأن
تمدد تل أبيب إنتقامها خارج لبنان ليشمل مناطق أخري في الشرق الأوسط.
ويعتبر كارلين
وويتس أن الشرق الأوسط لا يقل أهمية بالنسبة للأمن القومي للولايات المتحدة
الأمريكية عن الصين وروسيا، المنافسين من القوى العظمى الذين تتصادم رؤيتهم للنظام
الدولي بشكل مباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية والذين تمثل جيوشهم تحديًا
خطيرًا للقوة الأمريكية. فإذا لم تتمكن واشنطن من التنافس بشكل فعال مع الصين
وروسيا للدفاع عن الأمن والنظام الإقليميين في آسيا وأوروبا، فإن قدرتها على
مواجهة نفوذها في الشرق الأوسط لن يعوض هذا الفشل.
لكن يري
ساتلوف ولوستيك أن الحجة السابقة بأن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تحول بعض
الموارد التي تنفقها حاليًا في الشرق الأوسط بإتجاه آسيا تفشل في تفسير حقيقة أن المنطقة
كانت دائمًا مسرحًا كبيراً لمنافسة القوى العظمى، وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأن
واشنطن يمكن أن تصر على أن الصين وروسيا تتنافسان معها في آسيا وأوروبا فقط، لأنها
بالتأكيد ستتجه للشرق الأوسط.
كما لا
يمكن للمرء أن يفترض أن الولايات المتحدة الأمريكية ستكون قادرة على إعادة فرض
سيطرتها على المنطقة بسهولة بعد انسحابها. فسيكون من الصعب إستعادة الوصول الفعلي
إلى الموانئ والقواعد والمطارات المهجورة، واستعادة ثقة شركاء واشنطن من جديد إذا
خرجت من هذه المنطقة.
ثانياً- الولايات المتحدة الأمريكية وتحديات
الأمن في الشرق الأوسط
يقترح كارلين
وويتس على واشنطن أن تعامل الشرق الأوسط بنفس الإهمال الذي أبدته تجاه إفريقيا
خلال الحرب الباردة، فرغم أن هذه السياسة كانت لها عواقب وخيمة على الأفارقة
ولكنها كانت مقبولة للمصالح الأمريكية وهذا ما يجب أن تسعي إليه الإدارة الأمريكية
من حماية مصالحها بصرف النظر عن المبادئ الإخلاقية الداعية لتدخلها لدعم استقرار
المنطقة.
فتصدير إنعدام
الأمن وفقا لرؤية كارلين وويتس في الشرق الأوسط يُشكل مصدر قلق حقيقي للولايات
المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، فإن إدارة هذا التهديد يتطلب التزامًا محدودًا؛ حيث أثبتت
الحكومة الأمريكية قدرتها على حل النزاعات في المنطقة بتكلفة أقل بكثير مما أنفقته
في محاربتها في السنوات الأخيرة. وفي هذا السياق، يدل تصويت مجلس النواب الأخير
لإجبار الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" لإنهاء تورط واشنطن في حرب اليمن
على أنه يمكن اتخاذ موقف أكثر تشددًا مع شركاء الولايات المتحدة الأمريكية في
المنطقة، من خلال وضع حدود للدعم الأمريكي، ويمكن لهذا النهج أن يمثل رد فعل أقوى
من خلال ردع السلوك المزعزع للاستقرار وتخفيف حدة النزاعات الإقليمية.
ورد علي
هذا ساتلوف ولوستيك بأن الشرق الأوسط كان مصدرًا
دائمًا لتهديد المصالح الأمريكية الحيوية، لذا يمكن مواجهة انعدام الأمن هذا يطريقيتين:
إما بعمل واشنطن مع شركاء محليين لتخفيف المشكلات قبل مغادرتهم الشرق الأوسط، باستخدام
العديد من الأدوات عبر نهج معتدل مثل مزيج متوازن من المشاركة العسكرية
والدبلوماسية النشطة. أو يمكن أن تحاول الولايات المتحدة الأمريكية عزل نفسها عن
هذه المشاكل وهو ما يكون أمرًا مستحيلًا في الوقت الراهن.
كما يمكن لواشنطن
وفقا لرؤية ساتلوف ولوستيك الحفاظ على حرية الملاحة عبر مضيق هرمز ومضيق باب
المندب وقناة السويس، ومحاربة الإرهاب ومنع ظهور تهديدات جديدة؛ وقصر انتشار مشاكل
الشرق الأوسط على مناطق أخرى؛ ومواجهة السلوك السيئ لإيران، فلا يمكن للولايات
المتحدة التي عانت كثيراً من الخصوم في هذه المنطقة، أن تكون قادرة على الهروب من
هذا الواقع في وقت قريب.
ثالثاً- الشراكة الاستراتيجية للولايات
المتحدة الأمريكية مع اسرائيل وايران
يدعم
كارلين ويتيس وجهة النظر القائلة بأن ميل الولايات المتحدة إلى التغلب على الحلفاء
من الشرق الأوسط خلق خطرًا واضحًا عليها، مما دفعها إلى التصرف بطرق عدائية وإتخاذ
قرارات غير عقلانية تخص تلك المنطقة، ما تسبب في دخولها في أزمات أضرت بمصالحها.
فعليه وفقاً
لكارلين وويتس، كل العلاقات الرئيسية للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط
تستحق الإهتمام الشديد، ومن هذا تبرز شراكة واشنطن مع إسرائيل باعتبارها أكثر
نفعًا متبادلًا وأكثر جذورًا في الدعم العام والسياسي من أي دولة أخرى لديها في
المنطقة. ويختلفان بشدة مع حجة لوستيك بأن إسرائيل هي أكثر شركاء الإدارة
الأمريكية زعزعةً للاستقرار وأقلها فائدة.
حيث تُظهر
استطلاعات الرأي الأمريكية أن ثلاثة أرباع الأميركيين من مختلف الأطياف السياسية
ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها رصيدًا استراتيجيًا، وأن التعاون الدفاعي حقق فوائد
مثل القفزات النوعية في الدفاع الصاروخي، ولكن هذا لا يعني وفقا لكارلين وويتس أن
تصرفات إسرائيل لا تستحق التدقيق من واشنطن، مثلها مثل شركاء واشنطن الآخرين.
وخلافًا لهذا يوضح ساتلوف ولوستيك أن
المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل،
والحماية السياسية والدبلوماسية التي توفرها لتلك البلد، تجاوزت إلى حد بعيد ما قدمته
الولايات المتحدة للدول العربية في الشرق الأوسط؛ حيث قدمت الولايات المتحدة
الأمريكية أكثر من 134 مليار دولار كمساعدات اقتصادية وعسكرية مباشرة إلى إسرائيل،
وتعهدت مؤخرًا بتسليم 38 مليار دولار أخرى على مدى العقد المقبل. واستخدمت واشنطن حق
النقض 41 مرة ضد قرارات مجلس الأمن الدولي الذي ينتقد إسرائيل، أي ما يمثل 77 % من
حق النقض من جميع قضايا مجلس الأمن التي صوتت عليها الولايات المتحدة الأمريكية.
فضلاً عن
هذا، شجعت هذه السياسات الحكومات الإسرائيلية على الانخراط في سلوك غير مرغوب فيه
في قضايا عدة، والتى تشمل عواقب الحصانة التي تدور حولها الإدارات الأمريكية
المتعاقبة حول الحكومات الإسرائيلية، الموقف النووي الإسرائيلي المتحدي، وسياساتها
الوحشية والعنيفة تجاه مليونين من سكان قطاع غزة، ورفضها التفاوض بشكل بناء مع
الفلسطينيين أو الرد على مبادرات السلام العربية.
فكثيراً ما
تستحضر الولايات المتحدة الأمريكية القيم الديمقراطية لتبرير علاقتها الخاصة
بإسرائيل، لكنها نادراً ما تطبقها. لأنه من غير المرجح أن يتمكن الرئيس الأمريكي
الحالي "دونالد ترامب" من التغلب على السياسة الداخلية المتمردة
للولايات المتحدة الأمريكية عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.
ووفقًا
لكارلين وويتس، يجب أن يظل كبح سلوك إيران السيئ أولوية بالنسبة لواشنطن، وعليها القيام
بذلك بالتنسيق مع الحلفاء الإقليميين، ولذلك فينصحا الحكومة الأمريكية بالتخلي عن
سياسة وزير الخارجية "مايك بومبو" بممارسة أقصى الضغوط على إيران لصالح
العودة إلى الصفقة النووية، غير أن ساتلوف ولوستيك يوضحان أن مثل هذه النصيحة
تتعامل مع القضية كما لو كان من الممكن معالجتها بشكل مستقل عن الضغط الذي تمارسه تل
أبيب واللوبي الإسرائيلي على السياسيين وصناع القرار في الولايات المتحدة
الأمريكية لمنع الإتفاق واسقاطه بعد التوقيع عليه، ثم تبني إستراتيجية شاملة لتغيير
النظام داخل إيران.
ففي الواقع،
هناك عقبة رئيسية في رأي ساتلوف ولوستيك أمام التعامل الشامل مع التهديد النووي
الإيراني، وهي أن القيام بذلك يعني في نهاية المطاف تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة
خالية من الأسلحة النووية، وهو إقتراح قدمته مصر، إيران والمملكة العربية السعودية
ودول عربية أخرى بالفعل، ولكن هذا سيتطلب من إسرائيل الاعتراف بترسانتها النووية
الكبيرة وتفكيكها، وهو أمر رفضت الولايات المتحدة الأمريكية تأييده.
ويتمثل الأمر
الأكثر أهمية وفقا لساتلوف ولوستيك في علاقة الولايات المتحدة بإيران، في أنه بارتباط
واشنطن ارتباطًا وثيقًا بإسرائيل لن تكون هناك سياسة صارمة ومستدامة تجاه إيران،
طالما أن إسرائيل تشن مئات الغارات الجوية ضد أهداف إيرانية في سوريا، ومتعارضة مع
حلفاء حزب الله الإيرانيين في لبنان، وتستغل كل الفرص الممكنة لدفع واشنطن للقيام
بتغيير النظام في طهران.
وإجمالا
لما سبق، يرتكز كارلين وويتس في حجتهما بالانسحاب من منطقة الشرق الأوسط علي أنه
يجب علي واشنطن أن تفعل ما هو أفضل من خلال الاختيار بين التخلي عن مصالحها في
منطقة الشرق الأوسط والتزام لا حدود له، بإعادة ترتيب المنطقة بناء علي الشركاء
الذين تتوافق أهدافهم ووسائلهم مع أهدافها.
بينما تتضح رؤية ساتلوف ولوستيك بضروة الوجود الأمريكي بغرض التوفيق بين طموحات الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط ومصالحها وقدراتها التى لا يمكن أن تحسب بالجملة، فيتطلب الأمر تقييماً واضحاً لما يمكن أن تفعله الاضطرابات في المنطقة، التى من الممكن أن تحد من قدرة واشنطن على تشكيل مسارها، بغض النظر عن مقدار ما تستثمره.
Source:
Robert Satloff،
Ian Lustick، Mara Karlin، Tamara Wittes، "Where
Should the U.S. Withdrawal From the Middle East Stop?"،
foreign policy، 16/4/2019، Available at:
https://www.foreignaffairs.com/articles/middle-east/2019-04-16/commitment-issues