بين الصراع الأيديولوجي وصعود اليمين المتطرف .. دلالات الهجوم الإرهابي في نيوزيلاندا
يشهد النظام العالمي عدد من التحولات الدولية والإقليمية
التي انعكست بشكل كبير على الأمن والسلم الدوليين، بجانب تنامي تداعيات العولمة
الثقافية، وانتشار الإرهاب والفكر المتطرف، بالتزامن مع صعود القوى اليمينية
والشعبوية في السلطة التي تسعى إلى انتهاج سياسات أكثر انعزالية، ومعادية للآخر
سواء كان مختلف عنها أيديولوجيًا أو ثقافيًا، أو سياسيًا.
تجلى ذلك في الهجوم الإرهابي الأخير الذي تعرض له مسلمي
نيوزيلندا، على يد مُسلح استرالي في أواخر العشرينات من عمره، يُدعى
"برينتون تارانت"، مستخدمًا عدد من البنادق وسلاح نصف آلي –(استطاع
الحصول على رخصة سلاح في
نوفمبر 2017 وبدأ في شراء الأسلحة بشكل قانوني في ديسمبر 2017)- مما أدى إلى
استشهاد 41 شخصًا، وإصابة أكثر من 49 آخرون في إطلاق نار على مسجدي (النور،
لينوود) في وسط مدينة كرايستشيري؛ حيث قام الإرهابي بتصوير الهجوم وبثه مباشرة
لمدة 17 دقيقة عبر الإنترنت، باستخدام كاميرا مثبته على رأسه، وذلك يوم
الجمعة الموافق 15 مارس/ آذار 2019. (1)
موقف الحكومة النيوزيلندية من الهجوم
أثار الهجوم حالة من الجدل داخل المجتمع النيوزيلندي؛
حيث أعربت رئيسة الوزراء النيوزيلندي "جاسيندا أرديرن" بانها واحدة من
"أحلك الأيام" التي تعيشها نيوزيلندا، "ولا يمكن وصف ذلك سوى بأنه
هجوم إرهابي". فيما وصف "سكوت موريسون" رئيس الوزراء الأسترالي
الرجل بأنه إرهابي "يميني متطرف"، وأكد مفوض الشرطة النيوزيلندية أن الرجل لم يكن معروفًا
مسبقًا لأجهزة الأمن النيوزيلندية أو الأسترالية.
وعليه فقد قامت الشرطة باعتقال الإرهابي، ووجهت إليه
تهمة القتل، دون إعلان رده على التهمة، حتى مثوله أمامها مرة أخرى يوم 5 إبريل/
نيسان 2019. كما تم اعتقال رجلين آخرين وامرأة، وتم نزع فتيل عدد من العبوات
الناسفة المرتبطة بالسيارات التابعة للمشتبه فيهم، ونصحت السلطات جميع المساجد في
المدينة بالإغلاق حتى إشعار آخر. وفي هذا السياق؛ أوضحت "ليان ديلزيل"
عمدة مدينة "كرايستتشيرتش" رفضها للهجوم، معلنةً تضامنها مع الضحايا؛
قائلةً "رحبنا بأناس جُدد جاءوا إلى مدينتنا، وهم أصدقاؤنا وجيراننا، ولابد
من أن نصطف من أجل دعمهم". (2)
والجدير بالذكر؛ أن المشتبه به قام باستخدام حسابات وسائل التواصل
الاجتماعي باسم Brenton Tarrant
لنشر وثيقة عنصرية مطولة حدد فيها ا المساجد التي تعرضت للهجوم لاحقًا. يقول الرجل
إنه بدأ التخطيط لهجوم بعد زيارته لأوروبا عام 2017 وقد شعر بالغضب من الأحداث
هناك. وتسمى الوثيقة بـ"البديل العظيم" -وهي عبارة نشأت في فرنسا وأصبحت
صرخة لحشد للمتطرفين الأوروبيين المناهضين للهجرة. (3)
دلالات
الهجوم الإرهابي
يعد المجتمع النيوزيلندي من المجتمعات المتنوعة من حيث
الديانات _(المسلمين، والمسيحيين، والهندوس، البوذيين)_ فقد بلغ نسبة المسلمين بداخله
ما يقرب من 1% من عدد السكان أي ما يقرب من 50 ألف شخص من إجمالي 5 مليون، وفقًا
لإحصائيات الحكومة. (4) لذا فقد عكس
الهجوم عددًا من الدلالات المهمة على النحو التالي:
1- مكان الهجوم؛ وقع الهجوم في مدينة كرايستشيري، بنيوزيلندا، هو
مكان غير متوقع لأي عمل إرهابي؛ في دولة مازالت تسعى للتعافي من الآثار السلبية
الناجمة عن تعرضها لزلزال مدمر في 2011 أسفر عن هدم الآلاف من المباني وقتل ما
يقرب من 200 شخص، مما أدى إلى انخفاض عدد سكان المدينة بشكل حاد بعد هذا الحدث،
فهي في حاجة دائمًا إلى تنامي عدد السكان وخاصة من المهاجرين.
2- استخدام
الإنترنت من قبل الإرهابي؛ استطاع الإرهابي توظيف
وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت لخدمته في بث الهجوم مباشرةً، والتحضير له فقبل
الهجوم، طلب المسلح من مشاهديه على الإنترنت الاشتراك في قناة يوتيوب الخاصة بـ PewDiePie، التي تضم ما يقرب من 89 مليون
متابع على المنصة، وهي تابعة لاعب سويدي يدعى YouTuber، كان يقوم بالترويج للأفكار اليمينية
المتطرفة. كما قام بنشر وثيقة مطولة مليئة بعدد من العبارات المعادية والأفكار
المتطرفة ضد المسلمين. ويبدو من الوهلة الأولى أن الوثيقة تذكرنا ببعض القتلة
البيض السابقين مثل Anders Breivik،
وهو إرهابي يميني متطرف ارتكب هجمات النرويج عام 2011. لذا فقد استطاع الإنترنت أن
يوفر مساحة من الحرية للأشخاص الذين لديهم معتقدات متوافقة تحمل في طياتها العديد
من الأفكار المتطرفة. وهنا لابد من توضيح نقطة مهمة هو أن الهجوم هو استكمال حركي
للفكر المتطرف الذي يعتنقه الإرهابي الأسترالي. (5)
3- نمط الهجوم
الإرهابي؛ تشابهه طريقة الهجوم المُمنهجة بألعاب الفيديو
التي ساهمت بشكل كبير في انتشار العنف والقتل، بالتزامن مع اتساع نطاقها عبر
الإنترنت، كما أصبحت هذه الألعاب جماعية عابرة للحدود، يستطيع الأفراد وضع الخطط
والإجراءات اللازمة لخوض المعارك والهجوم على الأعداء.
4- مدى إمكانية
امتلاك السلاح؛ تعد القوانين الخاصة
بامتلاك السلاح في نيوزيلندا من القوانين المرنة بالرغم من النقاش الذي تم
لتعديلها في عام 1992، والخاصة بتنظيم الأسلحة النارية شبه الآلية
العسكرية؛ حيث يحتاج أصحاب الأسلحة إلى ترخيص لكنهم ليسوا مطالبين بتسجيل أسلحتهم -على
عكس أستراليا المجاورة، كما أن السلطات لا تعرف بشكل دقيق عدد الأسلحة النارية
المملوكة قانونًا أو غير القانونية التي يتم تداولها في نيوزيلندا. (6)
5- الكلمات
المكتوبة على السلاح؛ نقش الإرهابي عدد من
الكلمات والأسماء العنصرية لبعض الأشخاص الذين ارتكبوا بعض الجرائم الإرهابية على
أساس ديني وعرقي، ووضع شعارات التي يتم استخدامها مقبل العنصريين البيض مثل رقم
(14) في إشارة لهم.
6- الموسيقى
التي استخدمت في خلفية الفيديو؛ في سياق الهجوم المنظم
حاول الإرهابي تجسد كافة أفكاره العنصرية التي تمثلت أيضًا في اختيار الموسيقية
التي تم استخدامها في خلفية الفيديو وهي عبارة عن أغنية صربية ترجع إلى
"رادوفان كاراديتش" المعروف باسم "سفاح البوسنة" الذي قام
بانتهاكات إرهابية ضد المسلمين في البوسنة في الفترة ما بين عامي (1992_ 1995).
(7)
ختامًا؛ من المتوقع أن يكون هذا الهجوم الإرهابي هو بداية لموجة من العمليات الإرهابية ضد المسلمين المهاجرين، لذا فلابد من التكاتف الدولي ضد الإرهاب والمتطرفين من خلال وضع سياسات رادعة لانتشار هذه العمليات تحت مسمى جرائم الكراهية.
الهوامش:
1-
“Christchurch
shootings: How the attacks unfolded”, BBC, 15/3/2019, at: https://www.bbc.com/news/world-asia-47582183
2-
"هجوم
نيوزيلندا: المتهم يمثُل أمام المحكمة"، هيئة الإذاعة البريطانية،
16/3/2019. http://www.bbc.com/arabic/world-47593622
3-
“Christchurch
shootings: 49 dead in New Zealand mosque attacks”, BBC, 15/3/2019. https://www.bbc.com/news/world-asia-47578798
4-
"بعد هجوم المسجدين في نيوزلندا.. هذا حجم الجالية
المسلمة بالبلاد"، CNN، 15/3/2019، الرابط:
https://arabic.cnn.com/world/article/2019/03/15/muslim-population-nz
5-
Jenni Marsh, Tara Mulholland “How
the Christchurch terrorist attack was made for social media”, CNN,
15/3/2019, at:
. https://edition.cnn.com/2019/03/15/tech/christchurch-internet-radicalization-intl/index.html
6-
Lianne Kolirin, “New
Zealand Prime Minister says, 'Our gun laws will change'”, CNN, 15/3/2019,
at:
https://edition.cnn.com/2019/03/15/asia/new-zealand-gun-control-intl/index.html
7- "ماذا
كتب منفذ "مذبحة نيوزيلندا" على سلاحه؟"، سكاي نيوز عربي،
16/3/2019، الرابط: