تجديد الريادة... افتتاح ألمانيا لأكبر وكالة استخبارات في العالم
افتتحت المستشارة
الألمانية "أنجيلا ميركل" المقر الجديد لوكالة الاستخبارات الفيدرالية
الألمانية في العاصمة برلين، بالقرب من جدار برلين السابق، بعد ما يقرب من 12
عامًا من بدء البناء بتكلفة أكثر من مليار يورو، ليعد بذلك أكبر مقرات للمخابرات في
العالم على مساحة تصل إلى 36 ملعبًا لكرة القدم.
كما يمثل واحدًا من أكثر المناطق
السرية في ألمانيا؛ حيث يخضع العاملون فيه لعدد من القواعد الأمنية الصارمة التي
تدير نطاق عملهم. ومن المتوقع أن يبلغ عدد العاملين في المقر الجديد ما يقرب من
4000، فيما توظف الوكالة بشكل عام حوالي 6500 شخص في ألمانيا وحول العالم. (1)
وكالة الاستخبارات الفيدرالية الألمانية
تأسست الوكالة في عام 1956،
في ضاحية بولاخ، أحد ضواحي ميونيخ، باعتبارها جزء من الإرث النازي، وكان أول رئيس لهذه
الوكالة هو "راينهارد جيهلين" الذي كان مسؤولاً في الجيش الألماني عن الاستخبارات
العسكرية في الرايخ الثالث. وفي السنوات الأولى للوكالة استخدمت لتعقب النازيين المطلوبين
بعد الحرب العالمية الثانية، كما تم تطويع الوكالة ضد الشعب الألماني إبان المخابرات
السرية الشيوعية. وبعد الحرب العالمية الثانية، ساعدت الوكالة القوات الأميركية في
تنسيق أنشطة الاستخبارات التي تستهدف الاتحاد السوفياتي.
وفي هذا السياق، استطاع
جهاز المخابرات الفيدرالي أن يتطور من ذاته ويغير من نمط العمليات والمهام التي
يقوم بها منذ نهاية الحرب الباردة، فخلال معظم تاريخه الممتد على ستة عقود، ركزت المخابرات
على أعداء الحرب الباردة، لا سيما ألمانيا الشرقية. وهي تتعامل مع المعلومات الاستخباراتية
خارج الحدود الألمانية وهي واحدة من اثنتين من أهم أجهزة الاستخبارات غير العسكرية
في ألمانيا.
كما ساهم في الكشف عن بعض
عمليات الاختراق الخاصة بالدول التي تهدد أمنها القومي من خلال التنسيق والتعاون
مع الدول الأخرى. تجلى في كشف تفاصيل قضية إدوارد سنودن في 2013 عبر التعاون مع
دائرة عمليات الاستخبارات الأميركية. (2)
دلالات افتتاح أكبر مجمع استخباراتي في العالم
تأمل "ميركل" أن
تؤدي هذه الخطوة إلى ضمان انتقال مهام ومسئوليات الوكالة من سياق الحرب الباردة
إلى خدمة أهداف ألمانيا وشعبها، ومواجهة التحديدات والتهديات التي تعاني منها
برلين بصفة عامة.
كما تسعى إلى بناء سمعة ومستوى
ثقة المؤسسة؛ حيث تؤمن "ميركل" بوضوح بعظمة الموقع الجديد، مشيرة إلى أنها
"ستثير إعجاب أي جهاز استخبارات أجنبي" كما
تكمن دلالاته على النحو التالي:
1-
تحدي الثقة؛ يُنظر إلى فكرة الخدمة السرية في ألمانيا بشكل تقليدي، لإنها
تستحضر ذكريات المخابرات التابعة للحكومات النازية والمعروفة باسم "الجستابو"،
والمخابرات الشيوعية السرية التي تعرف باسم "الستاسي". لذا تحمل الوكالة
أهمية كبيرة لبرلين التي تسعى إلى تجديد ثقتها بنفسها من الناحية الدفاعية
والأمنية، مع استعادة مكانتها العالمية.
2-
انتهاج استراتيجية استباقية؛ يساهم المقر الجديد للوكالة في التعامل مع المخابرات الألمانية
بشكل أكثر جدية؛ حيث أنه سيكون قادرًا على لعب دور أكثر استباقية في جمع المعلومات
الاستخبارية، مع قدرة أكبر على العمل. وقد أعربت "ميركل" عن ذلك إبان
الافتتاح أن "برلين تحتاج إلى خدمة استخبارات أجنبية قوية وفعالة".
3-
الريادة الاستخباراتية؛ تعد الوكالة رمز لإيمان ألمانيا بكونها ستصبح رائدة عالميًا
في مجال الاستخبارات، على الرغم من أن تاريخ جمع المعلومات الاستخبارية ينظر إليه بازدراء
شديد في ألمانيا. نتيجة إنعدام الثقة التي نبعت من سياسات المنظمات الاستخباراتية
في عهد الحكم الشيوعي والنازي. هو ما أوضحته "ميركل" أيضًا إن "عدم
الثقة السليمة أمر مفيد، لكن كونها مشبوهة بشكل مفرط هي عائق". (3)
4-
إعادة الحركة الرمزية إلى ألمانيا
الموحدة؛ إن الابتعاد عن مقر ميونيخ
هو الخطوة الأخيرة في السعي الألماني للتغير عقود من الزمان لإنه يوفر فرصة لإعادة
الحركة الرمزية إلى ألمانيا الحديثة الموحدة، بعيداً عن العلاقات النازية القديمة.
(4)
لماذا الآن؟!
يأتي الافتتاح بالتوازي مع
التهديدات التي تواجه برلين على الصعيد الداخلي التي تتجلى في تنامي صعود القوى
اليمينية والشعبوبية المناهضة لسياسات الحزب الحاكم، وإدارته لعدد من الملفات
الدولية المثارة التي تأتي في مقدمتها مللف الهجرة واللجوء. بجانب الصعود الروسي الموازي للغرب خاصة في أوروبا
الشرقية، علاوة على التحول الاستراتيجي في النهج الأميركي تجاه دول القارة بصفة
عامة وبرلين بصفة خاصة.
فمنذ مجئ الرئيس الأميركي
"دونالد ترامب" إلى السلطة، انتهج سياسات أحادية الجانب تدعم المصالح
الأميركية على حساب الحلفاء في الغرب تبلور ذلك الضغط المستمر عليهم في تحمل أعباء
الدفاع عن أنفسهم، مع زيادة مخصصات الدفاع والأمن لتصل إلى ما يقرب من 2% من
الناتج الإجمالي المحلي.
كما تزامن الافتتاح مع
تهديد "ترامب" العواصم الأوروبية بما فيهم برلين باستعادة أكثر من 800
مقاتل من تنظيم "داعش" من سوريا،
تم اعتقالهم ومحاكمتهم، مع بالتوازي مع الانسحاب الأميركي منها، بدلًا من إطلاق
سراحهم وعدم السيطرة عليهم.
وعليه، فقد سعت المستشارة
الألمانية إلى مواجهة هذه التهديدات والتحديات من خلال إعادة هيكلة المؤسسات
الدفاعية والأمنية الداخلية تمهيدًا لزيادة المخصصات المالية، مع تبنها نهج حذر في
التعاطي مع هذه المسالة التي قد تعصف بمستقبلها السياسي مرة ثانية بعد أزمة الانقسام
السياسي داخل الحكومة حول ملف اللجوء والهجرة.
بجانب التنسيق والتوافق مع
الضامن التقليدي للأمن الأوروبي فرنسا بقيادة الرئيس "إيمانويل ماكرون"
لطرح مبادرات خاصة بتأسيس جيش أوروبي يرتكز على المقدرات أوروبية خالصة، لا يتعارض
مع مهام حلف شمال الأطلسي "الناتو"، مع تدشين اتحاد دفاعي لحماية الأمن
الأوروبي.
إجمالًا: تسعى إلمانيا لاستعادة رياداتها عالميًا في سياق
المتغيرات الدولية والإقليمية المتلاحقة بما يعزز من تواجدها، وحماية لأمنها
القومي بل والأوروبي.
الهوامش:
1.
"World’s
biggest intelligence headquarters opens in Berlin", The Guardian,
8-2-2019. https://www.theguardian.com/world/2019/feb/08/worlds-biggest-intelligence-headquarters-opens-berlin-germany-bnd
2.
Daniel Clark,
"Germany opens massive Intelligence headquarters in Berlin", UK
Defence Journal, 11-2-2019. https://ukdefencejournal.org.uk/germany-opens-massive-intelligence-headquarters-in-berlin/
3.
Daniel Clark, Ibid.
4. Christopher F. Schuetze, "Germany Opens Massive Intelligence Complex (Maybe the World’s Largest) in Berlin", New York Times, 9-2—2019. https://www.nytimes.com/2019/02/09/world/europe/germany-intelligence-service-headquarters-berlin-bnd.html