نفوذ متصادم .. سجالات إيطالية فرنسية حول الأزمة الليبية ، ملف الهجرة، وأفريقيا
اشتعلت أزمة جديدة بين باريس وروما على خلفية تصريحات
لنائب رئيس الوزراء الإيطالي "لويجي دي مايو" اتهم فيها فرنسا بممارسة
سياسات استعمارية داخل عشرات الدول الأفريقية، تسببت في تدفق موجات متوالية من
المهاجرين إلى أوروبا، داعيا الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على باريس لمنعها من
الاستمرار في تلك الممارسات، في حين دفعت التصريحات الإيطالية الأخيرة؛ الخارجية الفرنسية لاستدعاء السفيرة الايطالية
لديها للبحث في تصريحات المسئولين الإيطاليين. ولم تكن تلك التوترات وليدة اللحظة
وإنما تمتد جذورها منذ هيمنة التيار اليميني على مفاصل الحكومة الايطالية؛ تحديدًا
خلال نهايات عام 2017.ومن ثم يتناول التقرير أسباب الأزمة الفرنسية ـ الإيطالية
الأخيرة، وما أفرزته من تداعيات، إلى جانب البحث في أسباب الصدامات بين الدولتين.
أسباب الصدام
ظهرت بوادر الأزمة بين الجانبين الايطالي والفرنسي بعد
تبادلهما حربا كلامية، واتهامات متبادلة طالت عدد من القضايا،تصدرها الملف الليبي
وأزمة المهاجرين واللاجئين الأفارقة،حيث اتهمت ايطاليا السلطات الفرنسية بالتسبب في استنزاف ثروات القارة الأفريقية، ومن
ثم تدني الأوضاع الاقتصادية لتلك الدول بشكل كبير ، وإفقار شعوبها بعد تعرضهم لمجاعات
قاسية، وهو ما أفرز موجات من النزوح والهجرة.
جاءت تلك الاتهامات على لسان نائب رئيس الوزراء الإيطالي
"دي مايو" المنتمي للتيار اليميني المتطرف، وعززها النائب الثاني لرئيس
الوزراء الايطالي "ماتيو سالفيني " الذي اعتبر السياسات الفرنسية منصبة
بالأساس على استنزاف الثروات الأفريقية تحت زعم مساعدة القارة وانتشالها من الفقر والتخلف
ووضعها على طريق التنمية، لكن ما حدث يتنافى مع الأهداف التنموية التي أعلنتها
السلطات الفرنسية، فالوجود الفرنسي يستهدف تهيئة الأجواء سواء على المستوى الأمني
والعسكري أو السياسي من أجل فرض نمط استعماري جديد(1).
وكان الملف الليبي ضمن النقاط الخلافية، حيث كشفت
الاتهامات الايطالية عن مساع فرنسية لإفساد أي محاولة لإنهاء الأزمة الليبية،
زاعمة أن فرنسا لا تتطلع إلى حلحلة الأزمة الليبية حفاظا على مصالحها النفطية والمرتبطة بشكل طردي مع توتر الأوضاع هناك. جديرًا
بالذكر الإشارة إلى شركتي "إيني الإيطالية" و "توتال"
الفرنسية اللتان تمتلكان مشاريع متعددة مرتكزة على القطاع النفطي بليبيا، وربما
تضارب المصالح بين الجانبيين كان ضمن أسباب اشتعال الأزمة الأخيرة.
تداعيات الأزمة
أدى التصعيد الإعلامي الإيطالي، إلى استدعاء الخارجية
الفرنسية يوم 21 يناير 2019 السفيرة الإيطالية لديها "تيريزا كاستالدو "
احتجاجا على التصريحات الايطالية التي اتهمت فيها باريس بإفقار أفريقيا والتسبب في
تصعيد أزمة المهاجرين، معلنة أن هذه التصريحات غير مقبولة وغير مبررة. في حين أعلنت
الوزيرة الفرنسية المكلفة بالشؤون الأوروبية "ناتالي لوازو" أن فرنسا لن
تشارك فيما وصفته "بمسابقة الأكثر غباءا ".
ورغم الإجراء الفرنسي إلا أن ذلك لم يمنع المسؤلين الإيطاليين من الاستمرار في
اتهاماتهما الموجهة إلى فرنسا، مطالبين الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على باريس.ومشيرين
إلى وجود عدد من الدول الأفريقية المرتبطة ماليًا بفرنسا وهو ما يعكس نمط استعماري
حديث،حيث هناك عشرات من الدول التي تستنزف فرنسا كافة ثرواتها من أجل تمويل الدين
العام الفرنسي ، مضيفين أنه لو لم يكن لفرنسا مستعمرات أفريقية لما كانت ضمن أفضل
ستة اقتصاديات في العالم. جدير بالذكر معرفة أن نائبي رئيس الوزراء الإيطالي
اللذان تسببا في الأزمة الأخيرة هما "دي مايو" زعيم حركة "5
نجوم" المناهضة للمؤسسات، و"ماتيو سالفيني" زعيم التيار اليميني
الايطالي(2).
محفزات التوتر
يرجع توتر العلاقات الايطالية ـ الفرنسية إلى نهاية عام
2017، منذ صعود اليمين المتطرف في ايطاليا والمناهض بشدة لسياسات "ماكرون"،
حيث كشف أعضاء بارزين في التيار العام الماضي، عن تسبب فرنسا في وصول مئات الآلاف
من المهاجرين الأفارقة والبالغ عددهم نحو 650 ألف مهاجر إلى ايطاليا خلال الأربع
سنوات الأخيرة، بينما تبلغ تكلفة ملف المهاجرين إلى إيطاليا قرابة الستة مليارات
يورو، وهو ما أدى إلى تصاعد غضب التيار اليميني الذي يرى أن تأثير السياسات
الفرنسية في أفريقيا يمتد إلى الداخل الايطالي، ممثلًا في ملف اللاجئين الضاغط
بشكل كبير على الموارد الايطالية والبنية التحتية الداخلية. ومتهمين الرئيس الفرنسي "إيمانويل
ماكرون" أنه لم يقدم شيء للمساعدة في ملف المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا قادمين
من ليبيا في السنوات الأخيرة(3).
وعلى الجانب الآخر
يسعى كل من "دي مايو" و"ماتيو سالفيني" لشن حملات
متواصلة خلال الانتخابات الحالية بالبرلمان الأوروبي وحرصهما الشديد على إظهار اتجاهاتهما والمرتكزة على رفضهما الشديد
للسياسات التوافقية التي تتبناها الأحزاب اليسارية ويمين الوسط، حيث دعى
"مايو" لعدم انتخاب أي مرشحين من حزب "ماكرون" خلال
الانتخابات المرتقبة. ومن
جهة أخرى تمثل أزمة تسليم متهمين إيطاليين متواجدين داخل فرنسا مصدر توتر آخر، حيث
طالبت الحكومة اليمينية في العديد من المناسبات نظيرتها الفرنسية بإعادة تسليم نحو 15 ايطاليًا مطلوبين أمنيا بتهم إرهاب في حين تنفي الحكومة
الفرنسية تلقيها طلبات لتسليمهم، ليشكل هذا الملف مصدرا توتر بين الجانبين.
أبرز النقاط الخلافية
كما سبق وأشرنا، فقد اتسعت الفجوة الخلافية بين روما
وباريس منذ وصول التحالف اليميني الذي يجمع بين حزب "الرابطة" المتطرف
وحركة "خمس نجوم" إلى السلطة ،حينذاك بدأت الصدامات اللفظية تطفو على
السطح، في حين تصاعدت الاتهامات الايطالية لفرنسا بالتسلل عدة مرات داخل الأراضي
الايطالية لإعادة الكثير من المهاجرين داخل ايطاليا ، ليأتي رد فعل نائب رئيس
الحكومة "ماتيو سالفيني" بأن روما لن تتوانى في الرد على تلك التصرفات، وأنها لن تقبل أي اعتذارات مقدمة إليها من
الجانب الفرنسي بشأن هذا الوضع، مشددًا
على انه لا يمكن استخدام ايطاليا كمعسكر للاجئين في أوروبا .
جدير بالذكر أن التوترات بين البلدين غير قاصرة على ملف
الهجرة واللاجئين فحسب، ولكن امتد ليصل إلى إعلان الحكومة الايطالية اليمينية
دعمها لحركة "السترات الصفراء" ، وهو ما أثار غضب السلطات الفرنسية التي
رأت فيه تدخلًا سافرًا في شؤونها الداخلية، ومن بين أبرز النقاط الخلافية الأزمة
الليبية . فالمعروف أن ليبيا تشهد تنافسا حاد بين باريس وروما على القطاع النفطي
الليبي ، وبحكم خضوع ليبيا للاستعمار الايطالي فقد عزز ذلك من تمدد النفوذ
الايطالي بشكل كبير داخل الأراضي الليبية،
لذلك فقد أثار أي انخراط فرنسي داخل ليبيا غضب روما، حيث يرى محللون أن هناك حرب
سرية بين البلدين في هذا الملف(4).
وهو ما ينعكس في السباق الفرنسي الايطالي من أجل عقد
اجتماعات كان آخرها ما تم في مدينة باليرمو الايطالية، وذلك بعدما نجح الجانب
الفرنسي في جمع رئيس حكومة الوفاق الليبية "فائز السراج"، وقائد قوات
برلمان طبرق اللواء المتقاعد "خليفة حفتر"، بسان كلود، خلال يوليو 2017،
حيث طرح "ماكرون" مبادرة جديدة خلال مايو 2018 بحضور ممثلين عن الجامعة
العربية والاتحاد الأفريقي، وحينها أعلن عن تنظيم الانتخابات قبل انتهاء 2018، لكن
فشل الأطراف في تنفيذ مخرجات اللقاء، في حين
يتنافس كلا الجانبين على على النفوذ في مناطق غرب وجنوب ليبيا، وهو ما كان
دافعا وراء حدوث حرب إعلامية بين الجانبين.
وأخيرًا؛ فرغم الخلافات السياسية العميقة بين البلديين إلا أن
العلاقات الاقتصادية لم تعرف الفتور حيث بلغت قيمة الاستثمارات بينهما حوالي 200
مليون يورو يوميا . ومع ذلك؛ فسياسيًا يبدو أن الأزمة الايطالية ـ الفرنسية
ستشهد تفاقم كبير خلال الفترة القادمة،
لاسيما في ظل تمادي التصريحات المعادية من الجانب الايطالي للحكومة الفرنسية ، في
حين يظل المهاجرون الأكثر تضررا جراء صدام النفوذ بين روما وباريس.
المراجع
(1)صدام فرنسي إيطالي بسبب "استعمار أفريقيا"،
هيئة الإذاعة البريطانية، بتاريخ 22/1/2019، متاح على: https://bbc.in/2RP3MQq
(2)بعد التصعيد الإيطالي ضد فرنسا.. باريس ترد "لن نشارك
في مسابقة الأكثر غباء"، قناة فرنسا 24، بتاريخ23/1/2019، متاح على الرابط: https://bit.ly/2RMQ00P
(3)إيطاليا وفرنسا.. الحرب الكلامية تنتقل إلى ليبيا،
قناة سكاي نيوز بالعربية، بتاريخ 22/1/2019، متاح على الرابط: https://bit.ly/2T83vVv
(4)محمد المزيودي، مشاحنات
إيطاليا وفرنسا: أكثر من زعل وأقل من طلاق، موقع العربي الجديد/ بتاريخ 23/1/2019،
متاح على الرابط: https://bit.ly/2S4EIEr