مأزق إقليمي جديد: قراءة في المشهد الأمني الكاميروني في ضوء سحب استضافة كأس الأمم
أصدر الاتحاد
الأفريقي لكرة القدم قرارًا حاسمًا بسحب
حق استضافة كأس أمم أفريقيا 2019 من الكاميرون بصفة نهائية، حيث جاءت نتائج تقرير
اللجنة الفنية بالاتحاد الأفريقي بشأن تحضيرات الكاميرون للبطولة سلبية، وعكست عدم
جاهزية الدولة استضافة البطولة بدعوى افتقارها للبنية التحتية المناسبة للملاعب،
وعدم جاهزيتها لتنظيم فعاليات البطولة نتيجة للتوترات السياسية والأمنية التي تشهدها
الدولة، لاسيما خلال العاميين الماضيين بعد تصاعد الاحتجاجات في الأقاليم
الأنجلوفونية نتيجة نقص تمثيلهم في الحكومة الوطنية التي تهيمن عليها المجموعة
الفرانكفونية، وهي التوترات التي تنذر باحتمالية نشوب حرب أهلية ما بين الفصيلين.
ومن ناحية أخرى تواجه الكاميرون
تهديدات مستمرة من جماعة "بوكو حرام" في أقصى الشمال. والآن بعد تجريدها من حق استضافة
البطولة الكروية الأهم في أفريقيا، يثار تساؤلًا بشأن الأدوات التي سينتهجها نظام
"بول بيا" لتحسين صورة نظامه إقليميا ودوليا، لاسيما بعد توالي
الاتهامات لنظامه بشأن جرائم وانتهاكات حقوقية.
جذور الانقسامات الكاميرونية
نشأت الكاميرون بموجب اتحاد بين إقليمين
خضعا لنمطي استعمار مختلفين (البريطاني
والفرنسي)، وذلك بعد صدور الدستور الاتحادي في أكتوبر عام
1961، ليصبح بذلك الرئيس الكاميروني السابق "أحمدو أهيدجو" هو رئيس الدولة. وكانت أهم مميزات الدستور الاتحادي
هو تبنيه للغتين الانجليزية والفرنسية لغات رسمية للدولة، ورغم الحرص الشديد على أن
يكفل الدستور كل ما من شأنه تحقيق اندماج وطني طوعي، إلا أن المشهد السياسي لم يخلو
من تطورات متلاحقة أدت إلى إثارة سخط الأنجلوفون ما دفعهم مع الوقت لأن يشكلوا جماعة
ضغط قوية حفزت فكرة التحول الديمقراطي في الكاميرون .
وقد عكست خطابات الرئيس "أهيدوجو"
اهتمام كبير بحقوق الأنجلوفون، وأهمية صياغة مبادئ دستورية تعكس حقوقهم ، وتدفعهم نحو
الانصهار الطوعي داخل الدولة، وهو ما يستشف عبر خطاباته المتنوعة في مختلف المحافل،
ورغم ذلك إلا أن الممارسات الفعلية للنظام كانت مغايرة تماما لما عكسه الخطاب السياسي، وهو
ما يستدل عليه من التقسيمات الإدارية وتراجع الأوزان النسبية للأنجلوفونين، إلى جانب إلغاء التعددية الحزبية وفرض
نظام الحزب الواحد، وكذلك تعديل التقسيم الإداري للدولة من حيث إلغاء الفيدرالية،
وبسط هيمنة الفرانكفون الكاملة على الواقع السياسي للدولة، بل وإتباع كافة السبل الإغرائية
والإكراهية لدمج المعارضة في جهاز الدولة لاسيما عبر تبنيه نموذج الليبرالية المخططة
لتحقيق التنمية(1).
انعكاسات سياسات النظام الحاكم على الداخل الكاميروني
دفعت ممارسات النظام السياسي الكاميروني
المهمشة بشكل واضح لوضع الأنجلوفون إلى تحركهم بغية الحفاظ على هويتهم، وكانت أبرز
تحركاتهم في هذا الصدد تأسيس حزب سياسي، في مواجهة خطيرة للسلطة الحاكمة التي أصدرت تشريعات تم بمقتضاها
إلغاء التعدد الحزبي، حيث أعلن أحد بائعي الكتب في إحدى المقاطعات الشمالية الغربية
يدعى "جون فرونداي" عن تأسيس الجبهة الديمقراطية الاجتماعية باعتبارها أول
حزب سياسي يخرج عن الأوامر والقرارات الرئاسية، وقد كان هذا التحرك بمثابة نقطة فاصلة
لتحريك المياه الراكدة والتوجه نحو التحول الديمقراطي في الكاميرون. ورغم إصرار الأنجلوفون
الحصول على حقوقهم إلا أن النظام الكاميروني لم يخضع لهذا الأمر بسهولة، حيث لجأ إلى
استخدام العنف والقمع، ومن ثم أسفرت المواجهات عن قتلى وجرحى، هيأت الفرصة فيما بعد
لأن تجذب الجبهة المشكلة حديثا أنظار العالم، ونظرا لموجة التحول الديمقراطي التي جابت
العالم حينذاك، فكانت بمثابة أداة ضغط على النظام السياسي الكاميروني للاعتراف بالجبهة(2).
ومن جهة أخرى تصاعدت المطالب بضرورة
التحول الديمقراطي، فمنذ نشأة الجبهة الأنجلوفونية أصبح الأنجلوفون مصدر الاضطرابات
، وبحلول تسعينات القرن العشرين نشأت العديد من الأحزاب السياسية بدعم من الجبهة الجديدة
التي قامت بالوظيفة التنسيقية بين تلك الأحزاب المشكلة حديثا، حيث قامت الجبهة بالدعوة
إلى مؤتمر وطني للإطاحة بالنظام الحاكم في الكاميرون، إلا أن تلك المطالب لاقت رفضا
من النظام، وهو ما أدى إلى تصاعد حملات العصيان المدني التي امتد تأثيرها لتشمل كافة
المقاطعات، أسفرت عن خسائر بلغت قيمتها نحو 4 مليارات فرنك فرنسي .
وقد دفعت تلك الخسائر الحكومة لتفريق
التجمعات عبر القمع ، وهو ما أسفر عن ارتفاع أعداد القتلى والمصابين، إلى أن أفضت
تطورات الأحداث إلى دعوة الرئيس "بول بيا" لعقد مؤتمر ثلاثي بحضور ممثلين
عن الحكومة وأحزاب المعارضة والمجتمع المدني، ثم أعلن الرئيس الكاميروني حالة الطوارئ
في البلاد ، كما قرر تعيين "سيمون اتشيدي" المنتمي لمقاطعة مؤسس الجبهة
"فرونداي" بمنصب رئيس الوزراء ليصبح أول رئيسا للوزراء الكاميروني من أصول
أنجلوفونية.
التهديد الأنجلوفوني الداخلي
تعتبر إشكالية الاندماج الوطني هي
الأخطر من بين المشكلات التي تواجهها الكاميرون، ورغم ما قدمته الدولة من استجابات
محدودة فيما يتعلق بوضع الأنجلوفون، إلا أن الاضطرابات ظلت مستمرة في الأقاليم
الناطقة بالانجليزية. فكان عام 2016 نقطة فاصلة حينما تصاعدت مطالب الأنجلوفون
المطالبة بالمزيد من الحكم الذاتي، بعدما قررت الحكومة الناطقة بالفرنسية فرض
اللغة الفرنسية في المؤسسات الرسمية بمناطق الأنجلوفون، إلى جانب التهميش السياسي
والاقتصادي والفجوة في معدلات التنمية ما بين المناطق الفرانكفونية والأنجلوفونية.
وهي المطالب التي واجهتها الحكومة بحملات عسكرية مكثفة أسفرت عن اعتقال مئات
الكاميرونيين، بل تفاقمت الأوضاع لتصل إلى إعلان
بعض الانجلوفون انفصالهم وتكوين دولة خاصة بهم تحت مسمى
"أمبازونيا" خلال أكتوبر 2016 ، ما أدى
إلى مواجهات قمعية نتج عنها فرار عدد كبير من اللاجئين إلى دول الجوار
كنيجيريا(3).
جدير بالذكر أن أزمة اللغة
بالنسبة للأنجلوفون ليست النقطة الرئيسية لكنها المنطلق الذي يتم خلاله تعبيد الطريق
إلى الحياة السياسية بعد عقود من معاملتهم كمواطني درجة ثانية، وبالنظر إلى تاريخ
الأنجلوفون السياسي نجد لهم وزير واحد فقط من بين 35 وزير في الحكومة الحالية في
حين لم يتم اختيار وزير مالية أو وزير دفاع منهم.
وترجع تلك الأزمة بالأساس إلى
إشكالية السلطة، فقد تولى الرئيس "بول بيا" البالغ من العمر 85 عام السلطة
منذ عام 1982م، ويعتبر الأطول حكمًا من حيث المدة بعد الإطاحة بالرئيس "روبرت
موجابي" ديسمبر 2017، ومن ثم تظل
سياساته جامدة دون أي تغير لاسيما فيما يتعلق بموقفه تجاه المناطق الأنجلوفونية،
وهو ما أدى مع الوقت إلى تراكمات أسفرت عن أزمة سياسية عميقة، وفي خطاب له عام
2017 على خلفية الاحتجاجات الانجلوفونية أكد خلاله على أن "مسؤولية الضحايا
والخسائر البشرية تقع على كاهل المتطرفين
ومثيري الشغب، مشددًا على حاجته لتكرار هذا الأمر بزعم أن الكاميرون غير قابلة للتجزئة وستبقى
موحدة كما هي"(4).
وبالرغم من تعنت الحكومة إزاء مطالب الأنجلوفون إلا أنها اتخذت خطوات
لتهدئة الأوضاع عبر تعديلات وزارية تم
خلالها تعيين سياسيين من المناطق الناطقة بالانجليزية، في حين أعلنت مصادر إعلامية
رسمية عن إنشاء وزارة جديدة للامركزية والتنمية المحلية وتم تعيين "بول أتانغا
نجي" المنحدر من المنطقة الشمالية الغربية المضطربة كوزير للإدارة الإقليمية.
في حين أفادت الباحثة الكاميرونية "إيلاريا أليغروزي" "بأن الأزمة
الراهنة لا يمكن معالجتها إلا عبر حوار سليم يسفر عن توافقات تفضي إلى تنمية
حقيقية، تعليم شامل ، ومساواة حقوقية،
والأهم من ذلك الاعتراف بكينونة الأنجلوفون من حيث لغتهم وثقافتهم وحصتهم من
الموارد، ونصيبهم من تقلد المناصب السياسية من جانب آخر".
لعل الوضع الحالي في الكاميرون شبيه
بما يحدث لدى معظم الدول الأفريقية المجاورة من خلافات بين السلطة السياسية
الحاكمة ومواطني الدولة، حيث يتم فرض سياسات لا تتماشى مع البنية الاجتماعية لتلك
الدول،ما يؤدي إلى إشكالية الاندماج التي سبق وأشرنا إليها. فمعظم الدول الأفريقية
ومنها الكاميرون تعاني من تجاهل حقوق الأقليات، ومن ثم تحدث مواجهات حتمية تسفر في
نهاية المطاف عن وضع أمني غير مستقر.
تدهور الأوضاع الأمنية
تعتبر العلاقات الكاميرونية بدول
الجوار من الملفات الشائكة، لاسيما العلاقات الكاميرونية ـ النيجيرية على خلفية
الخلاف الحدودي على شبه جزيرة بكاسي النفطية، حيث أسفرت المفاوضات الخاصة به عام
2008 عن تنازل نيجيريا عن الجزيرة لصالح ياوندي، ولعل تمركز تنظيم بوكوحرام
واتخاذه من نيجيريا مركزا له، تداعيات خطيرة على أمن الكاميرون. فلم تقتصر هجمات "بوكوحرام"
على الداخل النيجيري فحسب، لكنها امتدت إلى دول الجوار من ضمنها الكاميرون ليشن
التنظيم هجمات متكررة على شمال الدولة ما أدى إلى إجبار سكان الشمال لترك مناطقهم،
فيما فر المزارعين من حقولهم وتخلوا عن نشاطهم الزراعي(5).
وقد أسفرت التوترات الأمنية في
شمال الدولة عن تأزم الأوضاع الاقتصادية، لاسيما في ظل اعتماد اقتصادها على القطاع
الزراعي، ومن ثم ارتفاع معدلات الفقر لاسيما في الإقليم الشمالي على الحدود مع
نيجيريا، حيث بلغت نسبة السكان الذين يعيشون عند خط الفقر قرابة 74.5% ، لتسجل
بذلك تلك المنطقة أعلى معدل فقر في البلاد ، في حين بلغت معدلات الفقر في العاصمة
ياوندي حوالي 4.2% ، وخلال الفترة الأخيرة شهدت البلاد حالة من الانفلات الأمني
الشديد أدت إلى ارتفاع عمليات الخطف، ومن
ثم إصدار قرارات بإغلاق أكثر من 100 مدرسة، ومن ناحية أخرى حرصت الكاميرون على
الاستفادة من القوة الأفريقية المشتركة متعددة الجنسيات التي تم تشكيلها لمحاربة
تهديدات التنظيم، إلا أنه ورغم أهميتها لكن جهودها في مواجهة ودحر هجمات بوكوحرام
لا تزال محدودة ، وهو ما يستدل عليه من الهجوم الذي حدث خلال فبراير 2018 على كل
من الكاميرون وتشاد، والذي أسفر عن قتل خمسة مدنيين وجنديان، في حين توغل بعض
المقاتلين في مدينة أساغاشيا الشمالية الواقعة على الحدود مع نيجيريا، وجدير
بالذكر أن الكاميرون بدأت تتصدى لبوكو حرام منذ عام2014 بعدما خلفت هجمات
التنظيم عن قتل ما يقرب من 2000 مدني
وعسكري وخطف نحو ألف شخص وفقا لتقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية(6).
ومما سبق؛ نستطيع أن نستشف مبررات سحب الاتحاد الأفريقي لكرة القدم لحق الكاميرون في استضافة البطولة الكروية، وحتى بعيدا عن هذا التطور، فعلى نظام "بول بيا" اتخاذ إجراءات تمزج ما بين المرونة فيما يتعلق بالتعامل مع مطالب الأنجلوفون وأحقيتهم في أن يحظوا بمعاملة مناظرة ومتكافئة مع الفرانكفون وكذلك أحقيتهم في تمتع أقاليمهم بمعدلات تنمية عادلة بحيث تتقلص الفجوة بينهم وبين الأقاليم الفرانكفونية، يضاف إلى ذلك تمتعهم بقدر من اللامركزية ومشاركتهم كمكون اجتماعي أصيل في الحياة السياسية الكاميرونية. وعلى صعيد الإجراءات الصارمة يجب أن تكون المحدد الرئيسي للخطط الأمنية التي ستضعها الدولة سواء بشكل فردي أو في سياق تعاون أمني إقليمي لمواجهة ضربات بوكوحرام. ولعل الأخذ بتلك الأبعاد من شأنه أن يحسن ولو بشكل جزئي من صور نظام "بيا" محليا وإقليميا ودوليا.
المراجع
(1)George
Nagwane," Opposition Politics And Electoral Democracy In Cameroon
From1991-2007",(Council For The Development Of Social Science Research In
Africa,2014 ),available at: https://www.jstor.org/stable/afrdevafrdev.39.2.103?seq=1&cid=pdf-reference#page_scan_tab_contents
(2) حكيم نجم الدين،"أزمة
الانفصال والانتخابات الرئاسية القادمة (2018م) في الكاميرون"، موقع قراءات
أفريقية، على الرابط: https://bit.ly/2zDLkiI
(3) حكيم نجم الدين، الأزمة الأنجلوفونية بالكاميرون..
صراعٌ من أجل الحياة السياسية والتعدُّد الثقافي، موقع قراءات أفريقية، بتاريخ
5/3/2018، متاح على الرابط: https://bit.ly/2zUQoQ4
(4)تمرد انفصالي في الكاميرون يسبب أزمة لاجئين على
حدود نيجيريا، تقرير على موقع جريدة الشرق الأوسط، بتاريخ 9/12/2017، متاح على
الرابط: https://bit.ly/2C9FqHU
(5)قتلى في هجومين لبوكو حرام الإرهابية في الكاميرون
وتشاد، سكاي نيوز العربية، بتاريخ23/2/2018 ، متاح على الرابط : https://bit.ly/2PDVjtL
(6) Julius A.Amin ,"Cameroonian Youths And The Protests Of February 2008 ",(Chaiers D'Etudes Africanes,VOL 53, NO211,2013)P.115