إحكام السيطرة: الحكومة الإيرانية ومحاولات تأميم وسائل التواصل الاجتماعي
أدى
الاستخدام المتزايد لوسائل التواصل
الاجتماعي إلى زيادة تفاعل المجتمعات وتواصلهم عالمياً؛ حيث تمكن الأفراد
والجماعات من إنشاء شبكات اجتماعية للتواصل، التي كانت بمثابة المحفز الأساسي لنظرية
رأس المال الاجتماعي فيما يتعلق بالاستثمار في العلاقات الإنسانية.
في حين
تلجأ بعض الدول إلى استثمار هذه المميزات بطريقة خاطئة من خلال محاولة التضييق على
الحريات السياسية، وخلق الأطر الشبكية التي تمنحها السيطرة على الفضاء الإلكتروني،
متخذة من فكرة وجود العدو الخارجي ذريعة لتحقيق مأربها الداخلية.
وعليه؛ تستعد
طهران قبيل فرض الحزمة الثانية من العقوبات بحلول نوفمبر لعام 2018، لتشغيل شبكة انترنت محلية، إذا ما حرمتها العقوبات
الأمريكية من الخدمة العالمية، لتعمل على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين. جدير
بالذكر، أن هذه الخدمة ستمنع المواطنين من الوصول إلى المواقع الأجنبية، بما فيها
الشبكات العملاقة مثل "جوجل" أو مواقع المنظمات العالمية، على أن تسمح
فقط بالوصول إلى المواقع الداخلية(1).
أولاً- نبذة عن نظرية الإعلام
السياسي (
Political Media)
أشار عدد
من المحللين إلى التأثير الذي خلفته وسائل التواصل الاجتماعي خاصة (فيسبوك وتوتير)
على السياق السياسي داخل المجتمع، ولاسيما فيما يتعلق بالمشاركة السياسية؛ حيث
تمثل أحد أهم آليات قادة وسائل التواصل الاجتماعي للتعبئة السياسية فضلاً عن
الرغبة في التعرف على ميول المواطنين وأراءهم،
ومن هنا تساعد وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل ثلاثة أنواع من التعبئة، ومنها:
1-
التعبئة المؤسساتية: يُبنى هذا النوع من التعبئة على العلاقة بين المنظمات الوسيطة
(المؤسسات غير الحكومية) والمواطنين بهدف تعزيز التفاعل الاجتماعي.
2-
الحركات الاحتجاجية: يهدف هذا النوع من التعبئة إلى تفعيل العمل الجماعي، وعلى
الرغم من أنه أقل تنظيماً، إلا أنه يتضمن هوية وهدف واضح، ويتسم بممارسة ضغط إنتاجي على البنية السياسية.
3-
المواطنة التفاعلية: يتحقق هذا النوع من التعبئة السياسية من خلال مشاركة
الأفراد في اتخاذ القرارات المؤسسية، من خلال إتاحة الفرصة للجماهير للمشاركة في
العملية السياسية، مما يجعلها مهيأة عند الحاجة إليها.
وفي هذا
الشأن، توصلت الدراسات إلى أن وسائل الإعلام والتكنولوجيا الرقمية أصبحت لديها
القدرة على توثيق العلاقات الاجتماعية بين الهياكل السياسة و الجمهور، فضلاً عن
أنها تعد منصة هامة لتعزيز رأس المال الاجتماع. ومن هنا يمكن للسياسيين استغلالها
بغرض حشد المواطنين للمشاركة في العمليات السياسية، وبالتالي، أصبحت وسيلة سهلة،
رخيصة وسريعة للتعبئة عند الاقتضاء(2).
ثانياً- دور وسائل التواصل
الاجتماعي في تأجيج الاحتجاجات
كان الإعلام
الرسمي هو الموجه الأساسي للرأي العام الإيراني منذ قيام الثورة الإسلامية في
طهران عام 1979؛ حيث استطاع عبر سنوات عز ل الإيرانيين عن ما يجرى في العالم، بل
عمل على تكوين رؤية مؤيدة لتوجهات السياسة الخارجية، وراضية عما يحدث في الداخل.
ولكن بعد
توقيع الاتفاق النووي، أصبح الإيرانيون أكثر استخداماً لوسائل التواصل الاجتماعي؛
حيث ارتفع عدد مستخدميه إلى 46 مليون مواطن من أصل 80 مليون مواطن، ومعظمهم من
الشباب، نتيجة تخفيف القيود و الرقابة عليها، فضلاً عن انفتاح طهران على الدول
الغربية وإقبال الشركات العالمية على الاستثمار فيها، بما يتضمن الشركات المالكة
لمواقع التواصل الاجتماعي ذاتها.
كما باتت
وسائل التواصل الاجتماعي أداة هامة لحشد الاحتجاجات في إيران، على الرغم من
التضييق علي استخدامها من قبل السلطات؛ حيث وصفت الشبكة الألمانية "دويتشه
فيلة" وسائل التواصل الاجتماعي بالمنظم للاحتجاجات العمالية والفئوية في
إيران المطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والسياسية. ونتيجة لما سبق حجبت الحكومة
الإيرانية خدمات تطبيقية مثل "تيلجرام" بدعوى حماية الأمن القومي، وهو
الأمر الذي اعتبره بعض المحللين بمثابة ذريعة لقمع التمرد الشعبي إزاء تصاعد
المظاهرات(3).
في
السياق ذاته، لجأت طهران لحجب عديد من مواقع التواصل الاجتماعي مثل
"يوتيوب"، بسبب دوره في تأجيج الاحتجاجات التي قادتها الحركة الإصلاحية
في عام 2009، ضد الرئيس السابق "محمود أحمدي نجاد"، فضلاً عن دورها
الكبير في احتجاجات أواخر عام 2017، وتوابعها في عام 2018، ومن هنا أصبحت وسائل
التواصل الاجتماعي الأداة الأكثر تأثيراً في الرأي العام من خلال عرضها للحقائق التي
أجبرت وسائل الإعلام التقليدية على اعتبارها المصدر الرئيسي للمعلومات(4).
ثالثاً- خطة الحكومة
الإيرانية ومرحلة فرض الحزمة الثانية من العقوبات
تنبهت
إيران بعد احتجاجات عام 2009، إلى الدور المهم لوسائل التواصل الاجتماعي في تحريك
المواطنين، ولذلك شرعت في إنشاء شبكة إنترنت محلية، بحجة تحسين مستوى الأمن الإلكتروني
في البلاد. وكانت تعتزم تطبيق النظام الإلكتروني المحلي بحلول مارس/آذار لعام
2013، ولكن عدلت عن ذلك بعد ظهور بوادر لمفاوضات مع القوى الكبرى بشأن برنامجها
النووي، ولإسميا بعد توقيع الاتفاق النووي مع دول (5+1) في عام 2016 .
ولكن مع
بدء مرحلة فرض الحزمة الثانية من العقوبات بحلول نوفمبر/ تشرين الثاني طُرحت الفكرة
مرة أخرى، على خلفية إمكانية حرمان الإيرانيين من زيارة المواقع الخارجية. فيما
تشكل أبرز عيوب الشبكة الداخلية؛ حرمان الإيرانيين من الوصول إلى الشبكة العالمية،
وانعزالهم. الأمر الذي أكده أحد المسئولين بأن تضرر المواطنين مرهون باعتمادهم على
المواقع الخارجية من عدمه(5).
رابعاً- تداعيات إنشاء
الشبكة المحلية للإنترنت على المجتمع الإيراني
ستكون
هناك مجموعة من التداعيات التي من الممكن أن تترتب على تدشين الجمهورية الإسلامية
للشبكة المحلية المزعومة قبيل فرض الحزمة الثانية من العقوبات بحلول الرابع من
نوفمبر المقبل؛ ومنها حجب مئات المواقع الغربية التي تخاطب المواطنين ولاسيما
باللغة الفارسية، وتقويض مستقبل الحركات الاحتجاجية داخلها، وعزل الإيرانيين عن
العالم الخارجي، عوضًا عن التأثير على مستقبل الجامعات والبحث العلمي، وهو ما يمكن
توضيحه على النحو التالي:
1-
عزل الإيرانيين عن العالم الخارجي: سيؤدى إنشاء شبكة الإنترنت المحلية إلى حرمان إيران من الوصول
إلى عديد من المواقع الأجنبية، بل سيقتصر الأمر على المواقع التي سيتم تدشينها من
قبل الحكومة، فضلاً عن خروج الشركات الأجنبية، مما يؤدى لتأثيرات سلبية على واقع
المجتمع الإيراني. فعلى الرغم من أن الأوروبيون هم الأكثر تأثيراً في الدبلوماسية متعددة الأطراف، خاصةً ما يتعلق
بالصفقة النووية، وقادرين على التغيير الإيجابي من خلال الانخراط في الالتزام بالاتفاق،
إلا أنهم يواجهون حسابات أكثر تعقيداً، فضلاً عن أنهم من أكثر الدول تضرراً من
سياسات "ترامب".
لكن في
النهاية لم تستطع الدول الأوروبية إقناع الشركات الأجنبية مثل "توتال
الفرنسية" "هاني ويل انترناشونال"، "دوفر كوربوريشن"،
"جنرال إلكتريك"، بالبقاء في إيران، مما كان له تداعيات كبيرة على
الإيرانيين؛ تمثلت في انخفاض حجم الاستثمارات الأجنبية، وبالتالي، غلاء الأسعار وتصاعد
الركود، فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة(6).
2-
التأثير على وضع الجامعات والبحث العلمي: ستؤثر الشبكة المحلية للإنترنت المزمع تدشينها على وضع البحث
العلمي للجامعات داخل الجمهورية الإسلامية، فمن المتوقع أن تحرم الباحثين، الطلاب،
وأساتذة الجامعات من الوصول إلى قواعد البيانات العالمية، فضلاً عن الاطلاع على أخر ما توصل إليه العلم في الغرب.
الجدير
بالذكر، أن العقوبات في حد ذاتها سيكون لها تأثير سلبي كبير على الطلبة الإيرانيين
الدارسين في الدول الغربية، و لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية التي تتلقى أكبر
نسبة من الطلبة الإيرانيين على مستوى العالم.
في
السياق ذاته، عانى كثير من الطلبة الإيرانيين و لاسيما في فترة حكم الرئيس السابق
"محمود أحمدي نجاد" كثيراً جراء فرض العقوبات؛ حيث انقطعت سبل اتصال
تحويل الأموال ما بين الطلبة وذويهم في إيران، فضلاً عن تجميد حساباتهم المصرفية،
وتلقى طلبات رفض من قبل الجامعات في الخارج(7).
3-
تقويض مستقبل الحركات الاحتجاجية داخل
إيران: أقر بعض المحللين أن الهدف الأساسي وراء انشاء الشبكة
العنكبوتية المحلية في إيران، يتمثل في منع ظهور احتجاجات في المستقبل، خاصةً بعد
فرض الحزمة الثانية من العقوبات حلول نوفمبر لعام 2018، وتدهور الأوضاع السياسية
والاقتصادية أكثر مما هي عليه حالياً. في السياق ذاته، تعتبر طهران وسائل التواصل
الاجتماعي بمثابة أدوات الحرب النفسية عليها في المجالات السياسية، الثقافية،
الأمنية والاقتصادية.
وتضع
الجمهورية الإسلامية ما تطلق عليه " تهديد وسائل التواصل الاجتماعي" على
رأس أولوياتها، معتبرة أنه تهديد لأمنها القومي. ونتيجة لذلك، حذر رئيس منظمة
الدفاع المدني الإيراني "غلام رضا على بور" من أن الولايات المتحدة
الأمريكية تعمل على تحريض الشعب الإيراني على الحكومة بوسائل الإعلام، فضلاً عن
الهاتف و الإنترنت(8).
انطلاقاً
من محددات النظرية العامة للإعلام السياسي، ولاسيما الإعلام الإلكتروني، نجد أن
طهران تحاول تجاوز كل المعايير الديمقراطية المتعارف عليها، فيما يتعلق بالحقوق
والحريات فضلاً عن سلطات الحكومة فيما يتعلق بقدرة المواطنين على الوصول إلى
الشبكات العالمية.
كما تتصور إيران أن هذه السياسات سوف تدوم أو تمكنها من استمرارية إحكام السيطرة على المواطنين، ولكن في الحقيقة من الممكن أن تخدم مصالحها في الوقت الحالي أو على المدى القصير، إما في غضون بضعة سنوات سينقلب الأمر رأساً على عقب، كما يحدث حالياً؛ حيث يشير عدد من المحللين إلى أن تصاعد موجة الاحتجاجات الموجودة حالياً داخل الجمهورية الإسلامية هي نتيجة سياسات قمعية تم فرضها من قبل الدولة على مدى سنوات طويلة مضت.
الهوامش
1. طهران تفكر في بدائل لعقوبات قد تحرمها من الانترنت،
19/10/2018، الشرق الأوسط، متاح على الرابط التالي:
2.
Kayode Ayankoya, A Framework For The Use Of Social
Media For Political Marketing: An Explanatory Study, Conference Paper,
9th International Business Conference (IBC 2015), Victoria Falls, Zambia.
3. هشام رشاد، التواصل الاجتماعي وسيلة الإيرانيين للحشد في
مواجهة الملالي، 31/5/2018 ،العين الاخبارية، متاح على الرابط التالي:
https://al-ain.com/article/social-communication-iranians-mobilizethe-mullahs
4. قحطان العبوش، مواقع التواصل تهدم قناعات الإيرانيين
التي بناها الإعلام الرسمي، إرم نيوز، متاح على الرابط التالي: https://www.eremnews.com/entertainment/society/625542
5. إيران تجهز شبكة إنترنت محلية وتحجب خدمة جوجل،
24/9/2018 ، اليوم السابع، متاح على الرابط التالي:
6. إسراء أحمد فواز، اقتصاد إيران يتلقى صفعة قوية: فرار
الشركات الاجنبية جحيم العقوبات، 3/6/2018، اليوم السابع، متاح على الرابط
التالي:
http://cutt.us/JJT6O
7.
Iranian complain of discrimination overseas: Sanctions blamed as bank
accounts frozen, loans denied and students university applications rejected,
14/2/2018, The Guardian, available at:
https://www.theguardian.com/world/2013/feb/14/iranian-students-discrimination-overseas
8. صالح حميد، بسبب العقوبات: إيران بدون انترنت والبديل شبكة محلية، 19/10/2018 ، العربية. نت، متاح على الرابط التالي: http://cutt.us/Dszlp