فرنسا وديمقراطية الفضاء .. بين المحاولات غير الودية والتدابير الاستباقية
يعد الفضاء من أهم ميادين
التنافس بين القوى الدولية والإقليمية الكبرى، فقد تم استخدامه إبان الحرب الباردة
للأغراض العسكرية مثل الاتصالات والمراقبة. تجسد ذلك بين القوى الدولية العظمى؛
حيث استخدمت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي الأقمار الاصطناعية
للتجسس على بعضهما البعض، وذلك عبر امتلاك الولايات المتحدة صاروخًا نوويًا مضادًا
للأقمار الصناعية يتمركز في المحيط الهادئ في مواجهة سلاح الاتحاد السوفيتي يمكن
أن يدخل في قمر صناعي يدور حول الأرض. وفي الآونة الأخيرة دخلت الصين في مضمار
التنافس مع روسيا والولايات المتحدة باختبار جميع الأسلحة القادرة على استخراج قمر
صناعي من مداره.(1)
محاولات غير ودية من روسيا تجاه فرنسا
في سياق حالة الزخم التي
تشهدها العواصم الأوروبية نتيجة ما تواجهه من تحديات يأتي في مقدمتهم صعود النفوذ
الروسي في أوروبا لاستعادة مكانتها الدولية كفاعل دولي يساهم في إدارة كافة الملفات
لا يمكن تهميشه. ظهر هذا الدور بشكل كبير في التعاطي الروسي مع الأزمة الأوكرانية وضم
شبه جزيرة القرم.
لذا تتخوف الدول الأوروبية
من تنامي الدور الروسي في الشأن الداخلي، فضلاً عن زيادة مقدراتها الدفاعية على حساب تراجع القوى
الأوروبية، وفي هذا السياق تزايدت المخاوف الأوروبية؛ حيث اتهم وزير الدفاع
الفرنسي روسيا بمحاولة اعتراض الاتصالات الفضائية الفرنسية، واصفًا إياها بالتجسس.
فقد حاولت روسيا التجسس واعتراض
عمليات نقل قمر صناعي فرنسي-إيطالي للاتصالات العسكرية يساهم في توفير اتصالات آمنة للجيش الفرنسي في 2017، وذلك عبر اقترب
القمر الصناعي الروسي من طراز Louch-Olymp""، بشكل كبير من القمر الصناعي الفرنسي
الإيطالي "أثينا-فيدوس"، أثناء دورانهما حول الأرض، لدرجة تدفع إلى
الاعتقاد إنه يحاول اعتراض الاتصالات.(2)
ديمقراطية الفضاء
لم يعد الفضاء قاصرًا على
عددًا من الفاعلين الدوليين، ولكنه أضحى ساحة للتنافس فهناك أعداد متزايدة من
الأقمار الصناعية يتم إطلاقها من القوى الدولية سواء لأغراض عسكرية أو مدنية ومن
المتوقع أن تتزايد أعداد الأقمار الصناعية
في غضون الــ 10 سنوات القادمة ما يقرب من
3000 قمر صناعي.
لذا فمن المتوقع أن تتشابك
وتتداخل هذه الأقمار معًا، رغم تمتعها بتقنيات تكنولوجية عالية السرعة والجودة،
الأمر الذي يؤدي إلى التركيز على مدى إمكانية تنظيم حركة المرور والتحكم في
الإطلاق، ومراجعة مسؤوليات جميع الجهات الفاعلة في حالة حدوث ضرر. ولذلك تعد إدارة
حركة المرور الفضائية قضية أساسية.(3)
ففي الوقت الذي تنفق فيه
فرنسا وحلفاؤها الأوروبيون لتطوير أجهزتهم الفضائية وتكنولوجيا الفضاء مقارنة مع
النفقات التي تقوم بها الولايات المتحدة والصين، فإن هذا التحول يُظهر مخاوف
متزايدة بشأن عسكرة الغلاف الجوي الخارجي للأرض. "هذا النوع من السلوك يحمل
بذور صراعات الغد"
وعليه تتجه فرنسا نحو تطوير
قدراتها الفضائية بشكل مستقل بسبب التهديدات العسكرية الجديدة التي جلبتها الصين
وروسيا والتوترات مع الولايات المتحدة، باعتبارها الضامن التقليدي للأمن الأوروبي،
بالتزامن مع مراجعة الولايات المتحدة خطابها الخاصة بحماية وضمان الأمن الأوروبي.
ففي مارس/ آذار 2018، قال
الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" إنه يريد إنشاء "قوة فضائية"
أمريكية. مطالبًا من الكونجرس أن يخصص لها 8 مليارات دولار على مدى السنوات الخمس
المقبلة لحماية أمن الفضاء. وذلك في إطار دعوة نائب الرئيس الأميركي "مايك
بنس" إلى "الهيمنة الأمريكية على الفضاء". على الرغم من المعاهدة
الدولية التي تم توقيعها في عام 1967، التي تحظر وضع أسلحة الدمار الشامل في
الفضاء، إلا أن الاتفاقية لا تمنع استخدام الأسلحة التقليدية في المدار الفضائي. ويأتي
تحرك الولايات المتحدة لإيجاد قوة فضائية بعد أن طرح وزير الدفاع الأمريكي البنتاجون
"جيم ماتيس" لهذه الفكرة.
كما جاءت هذه الدعوة نتيجة
تحذير أجهزة الاستخبارات الأمريكية في فبراير/ شباط 2018، أن كل من روسيا والصين
قد تمتلك قريبًا أسلحة فضائية مدمرة؛ حيث يطلق البلدين أقمار صناعية
"تجريبية" مصممة لمواجهة البنية التحتية الفضائية الأخرى. كما تواصل
روسيا والصين الترويج على المستوى الدولي والدبلوماسي للاتفاقيات الدولية بشأن عدم
تسليح الفضاء، مما يسمح لهم بمواصلة سعيهم وراء تنمية قدراتهم الحربية في الفضاء،
مع الإبقاء علانية على أن هذا الفضاء يجب أن يكون مجالًا سلميًا.(4)
في المقابل أعلنت إدارة
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أغسطس/ آب
عن خطة طموحة لإدخال "قوة فضائية" جديدة باعتبارها الفرع السادس من
الجيش الأمريكي بحلول عام 2020، وستكون مسئولة عن مجموعة من القدرات العسكرية
الأمريكية الفضائية، التي تشمل كل ما يتعلق بتكنولوجيا الفضاء.(5)
تدابير استباقية
تعد فرنسا من الدول
الرائدة في غزو الفضاء؛ حيث قامت بالمزج بين الاستخدام المدني والعسكري للفضاء
وعليه فقد تمكنت من اتقان جميع تطبيقات الاتصالات والمراقبة الرئيسية. لقد كانت
فرنسا حافزًا لأوروبا في التوجه نحو الفضاء التي أدت إلى ظهور جهات فاعلة صناعية
قوية ومشاريع مهمة مثل "جاليليو" الذي يهدف إلى توفير بيانات خاصة بنظم
الملاحة يتم استخدامه في الأغراض العسكرية والمدنية، كما يعد بديلًا للنظام
العالمي ((GPS.
وفي هذا السياق استعدت باريس من خلال عدد من
الإجراءات الاستباقية لمواجهة التحديات والتهديدات الفضائية التي تُعرض أمنها
القومي بل وأمن أوروبا أيضًا للخطر في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية المتلاحقة
على النحو التالي:
1-
التعاون مع شركاء الدوليين: سعت باريس إلى التعاون الدولي مع الشركاء في مجال الأمن الفضائي؛
حيث أبرمت كل من وكالة الفضاء الاسترالية ونظيرتها الفرنسية مذكرة تفاهم للتطوير
الصناعات الفضائية، للمساعدة على توحيد الجهود وتطوير قدراتهم الفضائية، لا سيما
في مجالات العمليات والعلوم الفضائية، ومراقبة الأرض، ونظام تحديد المواقع
والاتصالات.(6)
2-
الاستثمار في الأقمار الصناعية: تستعد فرنسا لزيادة استثماراتها في مجال الفضاء، وقد ساهم قانون
البرمجة العسكرية في ذلك من تخصيص أكثر من 3.6 مليار يورو لتمكين باريس من زيادة
استثماراتها الفضائية، وخاصة في مجال الأقمار الصناعية. ومن المقرر أن بحلول 2020
أن يتم إطلاق ثلاث أقمار صناعية من طراز "CERES"، مما
سيوفر لها قدرات تمكنها من اكتشاف مراكز قيادة العدو والأساطيل. وبحلول عام 2022،
سيكون أول قمر صناعي للاتصالات Syracuse
4"" في
مدار الفوقي لفرنسا.(7)
كما يسعى المسؤولون في
باريس إلى العمل مع ألمانيا لمساعدة الشركات على الاستثمار في مشاريع فضائية
مبتكرة ومزعزعة في محاولة للحاق بالتقنيات المالية والتكنولوجية مع الصين والولايات
المتحدة.
3-
زيادة الميزانية العسكرية: قام الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" رسميًا بتوقيع ميزانية
دفاعية جديدة لعدة سنوات، مما يمهد الطريق أمام زيادة تمويل المشتريات للقوات
الجوية والجيش والبحرية. عبر توقيع قانون الميزانية العسكرية للفترة من 2019-2025
وذلك في 13 تموز / يوليو 2018 حيث يعد الهدف الأساسي من هذا القانون هو أن تصل
نسبة الإنفاق الدفاعي 2 % من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025، كما ساهم
القانون في زيادة الإنفاق على أجهزة الاستخبارات.
وفي هذا الصدد دعا "ماكرون" إلى وضع استراتيجية فضائية
عسكرية في لعام 2019؛ حيث تلزم فرنسا في الوقت الحالي بتخصيص نسبة 1.78% من الناتج
المحلي الإجمالي للجيش، مع ارتفاع الإنفاق إلى 1.91% لعام 2023، ثم الوصول إلى 2 %
بحلول عام 2025. وسوف تبلغ الزيادة السنوية المزمعة 1.7 مليار يورو من عام 2019
إلى عام 2022، مع زيادة سنوية قدرها 3 مليار يورو السنوات اللاحقة.(8)
تأتي هذه الخيارات الفرنسية على خلفية إدراك "ماكرون" مدى التهديدات والتحديات التي تواجهها العواصم الأوروبية، وعليه اتجهت فرنسا نحو بناء شراكات استراتيجية قوية في مجال الدفاع والأمن خاصة لضمان وحماية أمن القارة في ظل الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي وتراجع الدعم الأميركي منذ تولي "دونالد ترامب".
الهوامش
1)
"Reality
Check: Why is President Trump creating a space force?" BBC,
17/8/2018. https://www.bbc.com/news/world-us-canada-45171311
2)
"'Act of
espionage': France accuses Russia of trying to spy on satellite data",
the guardian, 7/9/2018:
3)
"Space & Defence policy
speech by the French Minister of the Armed Forces", satellite
observation, 23/9/2018:
4)
Helene Fouquet,
Ania Nussbaum, "France Joins 21st Century Space Race Fearing Future
Conflict", Bloomberg, 7/9/2018:
5)
" France accuses Russia of
spying on military from space", Reuters ,7/9/2018:
6)
"MoU signed
between Australia and French space agencies", 3/9/2018: https://pacetoday.com.au/mou-signed-australia-france-space/
7)
"Space & Defence policy
speech by the French Minister of the Armed Forces", Ibid.
8) "Macron signs French military budget into law. Here’s what the armed forces are getting",defensenews,16/7/2018: https://www.defensenews.com/global/europe/2018/07/16/macron-signs-french-military-budget-into-law-heres-what-the-armed-forces-are-getting/