العقوبات الأمريكية ومستقبل الاقتصاد التركي
تشهد العلاقات الأمريكية التركية مرحلة جديدة من
التوترات بعد فرض الأولى عقوبات اقتصادية تتوسع شيئًا فشيئًا مما دفع بالاقتصاد
التركي، فثمة تطور جديد في ملف العلاقات التركية الأمريكية ظهر جليًا في الأيام
الماضية، كانت نواته الأساسية قضية القس "أندرو برونسون"، الذي يتعرض لحكم
بالسجن؛ حيث أُلقي القبض عليه قبل أكثر من عامين، بتهمة الارتباط بحزب العمال
الكردستاني وجماعة فتح الله جولن، الذين تعتبرهما تركيا منظمات إرهابية وهو ما
ينفيه "برونسون" والولايات المتحدة في الدفاع عنه، وفى هذا الشأن قامت
تركيا بوضعه قيد الإقامة الجبرية في منزله في الوقت الذي تستمر فيه محاكمته، بعد
تعرضه لأزمة صحية.
خلاف
متجدد
تصاعدت التوترات بين الولايات المتحدة وتركيا بسبب الدعم
العسكري الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية السورية التي تعتبرها أنقرة امتدادًا
لحزب العمال الكردستاني المحظور الذي يحمل السلاح منذ ثلاثة عقود في جنوب شرق
تركيا، ورغم تحذيرات تركيا المتكررة للولايات المتحدة من إمكانية توجيه السلاح
الذي ترسله إلى "ب ي د/بي كا كا" ضدها مستقبلًا، فإن واشنطن استمرت في
مد التنظيم بالأسلحة الثقيلة، لممواجهة تنظيم داعش الإرهابي.
كما شهدت الفترات الأخيرة العديد من التجاذبات بين
الجانبين، حيث شهدت العلاقات الثنائية بينهم برودة غير مسبوقة منذ سنوات طويلة،
بدأت مع عدم تجاوب الولايات المتحدة في ملف تسليم فتح الله جولن زعيم حركة الخدمة،
والمتهم من قبل تركيا بتنفيذ عملية الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من يوليو 2016.
ومن قبل علقت البعثة الأمريكية في أنقرة والبعثة التركية
في واشنطن خدمات إصدار التأشيرات بعد اعتقال أحد موظفي البعثة الأمريكية في تركيا
في أكتوبر 2017، بتهمة الانتماء إلى حركة الخدمة بزعامة "جولن" وأرجعت
كل بعثة القرار لحاجتها إلى إعادة تقييم التزام الطرف الآخر بأمن أفرادها.
وعليه، فتحت السلطات الأمريكية التحقيق بحق 15 شخصًا من
أفراد حماية الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على خلفية الأحداث التي وقعت أمام
السفارة التركية في واشنطن، خلال زيارة أردوغان لها مايو 2017. تبع ذلك قيام
السلطات الأمريكية بفتح تحقيقًا آخر بحق 19 تركيًا بينهم 15 عنصر أمن، بتهمة
الاعتداء على محتجين، وجرى إعداد لائحة اتهام بحقهم، فيما أعربت الخارجية التركية،
عن أسفها لقبول محكمة أمريكية لائحة الاتهام.(1)
في حين شكلت قضية القس "برونسون" محور جديد في
محاور تلك التوترات والتي بموجبها قامت الولايات المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية
وسياسية على أنقرة والتي أدخلت تركيا في نفق مظلم من تراجع سعر الصرف لليرة
التركية مما يؤدي إلى تراجع شعبية أردوغان؛ حيث فرضت واشنطن عقوبات نوعية على
تركيا، الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، بدأها الكونغرس بقرار "منع بيع
مقاتلات من طراز "F -
35" لتركيا، وقبلها فرض عقوبات
على وزيري العدل والداخلية التركيين، كما هددت أيضا "بإلغاء الإعفاء الجمركي
الذي تتمتع به تركيا، ما تسبب في انهيار سعر صرف الليرة التركية، على الرغم من
محاولات البنك المركزي التركي التدخل لوقف انهيار قيمة العملة المحلية المتواصل.
تحديات
اقتصادية
كان لتصريحات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" الأثر الأكبر في تصعيد
الخلاف الأمريكي التركي؛ حيث أعلن "أن علاقة الولايات المتحدة مع تركيا ليست
جيدة حاليًا، معلنًا عن خطوة اقتصادية ستتسبب في خسارة جديدة للاقتصاد
التركي"، وعلى خلفية هذا التصريح سجلت الليرة التركية خسارة كبيرة في حجم
تداولها أمام الدولار، وخرجت فيها حركة العملة عن الاتجاه المنطقي،
واستأنفت الليرة انخفاضها المستمر منذ
فترة طويلة مع تفاقم الخلاف بين تركيا والولايات المتحدة ونمو المخاوف بشأن سيطرة
الرئيس أردوغان على السياسة النقدية بموجب رئاسة تنفيذية جديدة يتمتع فيها
بصلاحيات واسعة.(2)
وتعد هذه المرة الأولى التي تتعرض فيه الليرة التركية
لأكبر هزة في تاريخها منذ تعويمها في عام 2001، حيث فقدت العملة نحو 20% من قيمتها
في يوم واحد ونحو 40% منذ بداية العام الجاري، ومن ثم يواجه أردوغان وحكومته مأزق
حقيقي لأن الأزمة تثير رجل الشارع ضدهما خاصة إذا ما صاحبها قفزة في التضخم وزيادة
في الأسعار أو صاحبها عقوبات أمريكية جديدة في ظل التصعيد الأخير.
وكشف
ترامب، عبر حسابه الرسمي على موقع "تويتر"، أنه سمح بـ"مضاعفة
التعريفة الجمركية على الصلب والألمنيوم" الخاصة بتركيا، متحدثًا عن عملتها
الليرة التي قال عنها: "تنزلق سريعًا نحو الانخفاض مقابل الدولار القوي
جدًا".
على الجانب التركي دعا أردوغان الأتراك بسرعة التوجه للبنوك التركية واستبدال العملات
من اليورو والدولار إلى الليرة التركية لمحاولة رفع قيمتها من خلال زيادة الطلب
عليها.(3)
وعلى خلفية ذلك التصعيد تعاني تركيا من العجز في ميزان
تجارتها الخارجية، عوضًا عن أن وارداتها أكبر من صادراتها، مما يصيب الاحتياطي
النقدي من العملات الأجنبية بالعجز الكبير خاصة في ظل العقوبات الأمريكية الأخيرة،
مما يدفعها إلى الاستدانة أو محاولة تعويض ذلك بالاستثمار في رؤوس الأموال.
بجانب ذلك هناك عدة مظاهر عملت على إضعاف الاقتصاد
التركي منها، أن لدى تركيا مستوى مرتفع من الديون الخارجية المفترض سداده في
القريب العاجل، وتقدر وكالة تقييم الاستثمار "فيتش" أن الحاجة المالية
الكلية لتركيا هذا العام ستبلغ ما يقارب 230 مليار دولار. وفي الحالة التركية
سيكون أمام تركيا خيار الاستدانة من الشركات أو المؤسسات الدولية والتي تعد أكثر
تكلفة عليها عند دفعها خاصة مع التراجع المستمر في سعر صرف الليرة، مما يسبب مشاكل
التضخم المُلحّة في تركيا، فكلما ضعفت قيمة الليرة زادت تكلفة الواردات.
إن الأزمة التي تمر بها علاقة تركيا بالولايات المتحدة ليست
وليدة اللحظة بل عبارة عن أزمات صغيرة متراكمة ومتتالية خلال السنوات القليلة الماضية
حتى وصلت إلى الازمة الحالية والتي تعتبر الأسوء في علاقات البلدين، فالمتتبع
لسياسة تركيا في عهد أردوغان يلاحظ أنها سياسات أكثر جرأة على الصعيد الخارجي ولا تأبه
كثيرًا بموقف واشنطن بل أن الاعلام التركي المقرب من أردوغان حافل بالأخبار والتغطيات
التي تتهم واشنطن علنًا بالوقوف إلى جانب من تراهم الحكومة التركية اعداءها وعلى رأسهم
حزب العمال الكردستاني وجماعة جولن.(4)
وعلى ذلك فإن السياسات التي رسمها أردوغان أدت إلى
انهيار السوق التركية، وأن بلاده ستعانى ماليًا في المرحلة المقبلة، إلا أن يؤدى
تراجع الليرة إلى تخلى أردوغان عن سياساته، كما أن معالجته للأزمة تزيد من قلق الأسواق كونها تعبر عن مدى
الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد التركي، في غياب خطة واضحة لإنقاذه.
إن
إنجازات أردوغان الاقتصادية المتمثلة في
تحقيق متوسط معدل نمو بلغ 7% سنويًا، وارتفاع الاستثمارات الأجنبية في
البلاد بصورة ملحوظة، إلا أن أوضاع البلاد تدهورت، والمحاولة الانقلابية الفاشلة
في يوليو 2016.
وعلى الرغم من ارتفاع النمو الاقتصادي التركي إلى
مستويات غير مستدامة من خلال الإنفاق وسياسات الضرائب. فقد تم ترحيل السياسات
الاقتصادية طويلة الأمد؛ حيث تم تنحيتها بسبب التركيز على الدورات الانتخابية التي
شهدتها تركيا في الفترة الأخيرة.
إجمالًا، من المرجح أن تشهد تركيا مزيدًا من الضغوط الاقتصادية الأمريكية خاصة فيما يتعلق بموقف تركيا من الاتفاق النووي الإيراني وعلاقة أنقرة بطهران، ومن جانب آخر علاقتها مع موسكو وبكين، كما أن هذه العقوبات لن يكون تداعياتها على السياسة الخارجية فحسب، بل سوف يمتد ذلك إلى تراجع في شعبية أردوغان في ظل احتمالية كبيرة بوجود اضطرابات داخلية قد توثر على النظام السياسي التركي في مجمله.
المراجع:
(1) مصطفى صلاح، اتفاق منبج ومستقبل العلاقات التركية الأمريكية،
المركز العربي للبحوث والدراسات، بتاريخ 10/يونيو/2018 ،
على الرابط: http://www.acrseg.org/40775
(2) ترامب يكشف عن خسارة جديدة
للاقتصاد التركي: علاقتنا ليست جيدة، شبكة سي إن إن عربي، بتاريخ 10 أغسطس 2018،
على الرابط:
(3) أردوغان يدعو الأتراك لدعم
الليرة والتصدي للحرب الاقتصادية، موقع روسيا اليوم، بتاريخ 10 أغسطس 2018، على
الرابط:
(4) تركيا وواشنطن: أزمات تتراكم و لا حلول جاهزة
لها، شبكة بي بي سي عربي، بتاريخ 9 أكتوبر 2017، على الرابط: