التدخل الإيراني في العراق: آليات السيطرة وحدود الدور
شهدت السنوات الأخيرة عدة شواهد توضح
مدى حدود الدور الإيراني المؤثر داخل العراق. وينصرف الانتباه الأكبر إلى الجانب العسكري
بطبيعة الأمر، أي الإشارة إلى التمويل والتدريب
والتسليح الذي تمنحه للعصابات الشيعية المسلحة في العراق ولا سيما من خلال "فيلق
القدس" التابع لـ "الحرس الثوري الإيراني". بالإضافة لذلك فإن لتدخل
ايران أيضًا جوانب سياسية واقتصادية ودينية تريد بها أن تصوغ دولة تحت هيمنة شيعية
تلائم مصالح ايران، ولا تهدد مكانتها في المنطقة وتكون بمثابة معبر للنفوذ
الإقليمي في الدول العربية المتاخمة للعراق.
التوظيف السياسي
استمرت خيوط التدخل الإيراني في التكشف
خاصة فيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية في العراق المنعقدة في 12 مايو 2018، خاصة
بعد محاولة نظام الملالي دعم ترشح قيادات من ميليشيات الحشد الشعبي في الانتخابات
التي فاز فيها تحالف "سائرون" الذي يتزعمه رجل الدين الشيعي "مقتدى
الصدر" في المركز الأول، بعدد 54 مقعدًا.
إن ترشيح زعماء من ميليشيات الحشد
الشعبي في الانتخابات، هو جزء من سياسة إيران الكبرى للسيطرة من الداخل على
العواصم العربية خاصة بغداد، وفي ذلك الشأن تعمل إيران مع حلفائها في العراق على تشكيل
ائتلاف يقطع الطريق أمام القوى الأخرى وتنصيب قائد ميلشيات الحشد الشعبي "هادي
العامري"، قائد منظمة بدر، أحد أذرع إيران العسكرية في العراق، وسعى النظام في
طهران مرارًا من أجل توليه منصبًا أمنيًا في الحكومة العراقية منذ عام 2014؛ حيث
تستثمر طهران كل الفرص الجديدة لدعم "العامري" من أجل تكريس هيمنتها على
رأس السلطة في العراق، إن ايران تتدخل في العراق لأنها تعتبره حديقتها الخلفية في
محاولة لملء الفراغ الناجم عن انسحاب القوات الأمريكية.
كما عمدت إيران منذ احتلال العراق
عام 2003 إلى التوغل داخل المجتمع العراقي كهدف يجعل تدخلها في شؤونه السياسية أمرًا
تلقائيًا من دون أن تواجه تهمة التدخل في شؤون بلد ذي سيادة، ثم بعد ذلك باتت تتذرع
بأن كل ما تفعله في العراق هو بطلب من حكومته، لتتمكن عبر هذه السياسة من جعل العراق
بحكوماته المتعاقبة منصاعا لتوجهاتها من أجل تعميق توغلها.
إيران وبدايات الدور المشبوه
بعد احتلال العراق تحققت الرغبة الإيرانية
بسقوط النظام العراقي على الرغم من انه تم على يد "الشيطان الأكبر" الولايات
المتحدة وحلفائها، بيد أن الحكومة الإيرانية اعترفت بالأمر الواقع واعتبرت سقوط النظام
العراقي فرصة لبسط نفوذها بين الشرائح والفصائل التي ساندتها.
وبعد الانسحاب الأمريكي من العراق
وتضاؤل عدد القوات الموجودة هناك، برزت المخاوف الإقليمية من عدم قدرة العراق على
الوقوف مجددًا وتزايد فرص أن يصبح العراق دولة تحت رعاية إيران، في حين حاولت
العديد من الدول العربية وخاصة المجاورة للعراق مواجهة النفوذ الإيراني المتنامي
هناك في محاولة لملء الفراغ الذي سينشأ مع انسحاب الولايات المتحدة، وقد حاولت جميع
الدول المحاذية للعراق منذ عام 2003 زيادة تأثيرها فيه بحسب مصالحها؛ حيث أرادت منع
العراق من أن يشكل مرة أخرى تهديدًا لها عسکريًا أو سياسيًا أو عقائديًا ـ دينيًا،
واستندت طهران في تحركاتها داخل العراق وفى حسابها لخطواتها الإقليمية على فكرة ضعف
وتناقض الاستجابات العربية تجاهها.
وتُشكل العراق بالنسبة لإيران
الجار الاستراتيجي الذي قد يمكنها من إحكام السيطرة على مفاتيح المنطقة برمتها،
ولعل الاهتمام الإيراني بالعراق يتركز حول الاعتبارات الجغرافية؛ حيث يتشارك
العراق وإيران في أطول حدود تبلغ 1500 کم. كما تستحوذ على اهتمام كبير فيما يتعلق بتعزيز
المنطقة الشيعية (مع إضعاف الهوية السنية) الكبيرة في جنوب العراق، التي تسيطر على
المنفذ الاستراتيجي إلى الخليج الذي يحتوي نحو نصف احتياطي نفط العراق.
ظل العراق حتى اسقاط نظام صدام حسين
المنافس الرئيسي لإيران؛ حيث اشتعلت بين الأثنين حرب الخليج الأولى التي استمرت 8
سنوات، لکن الآن الميزان العسكري بين الدولتين في المستقبل القريب يميل لمصلحة ايران
بوضوح بعد تعرض العراق للعديد من الأزمات منذ بداية الاحتلال الأمريكي مرورًا
بمواجهة الجماعات الإرهابية مثل تنظيم "داعش"، انتهاءً بسيطرة
الميليشيات الشيعية سياسيًا وعسكريًا على عدة مناطق في العراق بفضل الدعم الإيراني
الموجهة لها.
كما تسعى إيران دائمًا إلى عدم نهوض
الدولة الوطنية العراقية التي تشكل تهديدًا استراتيجيًا للنفوذ الإقليمي الفارسي وتعرقل
الأطماع الإيرانية في ارض الرافدين، وذلك بضمان
بقاء النفوذ الإيراني في بغداد مؤثرًا في الشؤون العراقية، بحيث يكون لطهران دائما
رجالها المؤثرون في الهياكل السياسية العراقية من خلال التأثير في نتائج الانتخابات
المختلفة من خلال دعم مرشحيها المفضلين، وتقديم المشورة لهم، وتشجيع حلفائها على خوض
الانتخابات تحت قائمة موحدة لمنع تقسيم أصوات ناخبيهم وتبذل ايران کل جهد لتوحيد الاحزاب
الشيعية في العراق کي تستطيع تکوين حكومة شيعية لضمان تأمين مصالحها.
محفزات إيران للسيطرة على العراق
بالنسبة لإيران يمثل العراق أهمية
استراتيجية في العديد من المحددات أهمها:
1) يعتقد الإيرانيين بأن العراق بمثابة العمق الاستراتيجي الأهم
لهم، بل وينظرون إلى العراق على أنه جزء من إقليمهم، تكشف ذلك في التصريحات
المعلنة من المسئولين الإيرانيين بداية بأبو الحسن بني صدر- أول رئيس بعد الثورة
الإيرانية- الذي أعلن أن "العراق كان
عبر التاريخ جزءًا من فارس والدليل وجود آثار طاق كسرى قرب بغداد"، ويؤكد ذلك
ما صرح به رئيس أركان الجيش الإيراني "فيروز أبادي" عندما قال: "الخليج
والمنطقة كانت دائمًا ملكًا لإيران وأن نفط الخليج يقع في مناطق فارسية وأنها ملك لإيران".
إن تدخل ايران في العراق ينبع من رؤيتها هذه المنطقة مجال تأثير طبيعيًا لها. وطموحها
إلى الهيمنة في المنطقة مدرکة أن العراق ركن هام في الطريق إلى احراز هذا الهدف، ثمة
مصلحة استراتيجية إيرانية ترى في العراق منطلقًا هامًا للتوغل الإيراني في باقي دول
المنطقة، سواء باتجاه سوريا، أو لبنان، والأردن ودول الخليج.
2) تعتبر العراق بمثابة البوابة الأكثر تأثيرًا للسيطرة على
بقية دول الخليج ومن ثم المنطقة العربية برمتها، وأن العراق بمثابة حلقة الوصل بين
المكونات الشيعة بين طهران وسوريا ولبنان ودول الخليج، كون العراق أكبر وأقوى الدول
في المنطقة سوف يؤهلهم لأن يقفوا ندا للسعودية القوية؛ وبالتالي إخضاع دول الخليج والتي
بعض من سكانها من هم من المذهب الشيعي في الأصل لإملاءاتهم.
3) تحتضن العراق أعداد كبيرة من الشيعة وهو ما تستغله إيران في
تسهيل مهمتها في السيطرة الداخلية وإحكام التأثير في مجريات الحياة السياسية
والدينية العراقية، عوضًا عن وجود الحوزات الدينية وخاصة "حوزة النجف"، وكذلك
وجود كربلاء المقدسة في العراق التي تضم أضرحة عددا من آل البيت في مقدمتهم "الحسين
والعباس"، تجعلهم يمسكون مفتاحا دينيا آخرًا في العراق، التي من اليسير على
طهران اخضاعها لتبعيه "حوزة قم" هناك بما يخدم مصالح نظام الملالي، عن
طريق تحويل الولاء الوطني للعرب الشيعة في العراق إلى ولاء طائفي فقط من اجل تحويل
ذلك الولاء تدريجيًا إلى الولاء الفارسي، عن طريق الدعم المالي الكبير الذي تُقدمه
إيران للأحزاب والحركات السياسية والمسلحة في العراق، ويتخذ هذا الدعم شكلين: الأول
هو الدعم المالي المباشر للأحزاب والتيارات والميليشيات (قادة وأعضاء)، أما الشكل الثاني
فيتمثل في وضع إيران للأموال في خدمة الكثير من رجال الدين بغرض التأثير الفكري والسياسي
والديني من خلالهم على المجتمع العراقي.
4) غياب القيادة السياسية القوية في العراق،
عوضًا عن تراجع الدور العربي في مساندة بغداد بعد انسحاب الولايات المتحدة وهذا ما
أكدة الجنرال "قاسم سليماني" قائد فيلق القدس الإيراني بـــ "أن بلاده
حاضرة في العراق، وأنه يخضع بشكل أو آخر لإرادة
طهران وأفكارها". نتيجة
تغلغل المخابرات الإيرانية في الدوائر الرسمية والمدن العراقية وكذلك الحال لفيالق
(القدس وبدر وجيش المهدي، الأداة العسكرية التابعة لزعيم التيار الصدري في العراق "مقتدى
الصدر"، والذي أنشئ بعد الغزو الأمريكي للعراق الموالي لإيران مما يسهل لهم بسط
وتعزيز النفوذ.
تجريف العراق
لم تقف محاولات إيران حول السيطرة
على العراق عند الحدود السياسية والعسكرية بل عملت طهران على تخريب الاقتصاد العراقي؛
حيث أصبح العراق سوقا مفتوحة للبضائع الإيرانية بمختلف أنواعها ابتداء من أصغر شيء
وانتهاء بالأسلحة والأمور الكبيرة والمؤثرة على مجريات الحياة الداخلية والخارجية،
مما جعل الاقتصاد العراقي تابعًا لإيران تبعية مطلقة، ومعتمدًا عليها اعتمادًا كليًا.
وتعتمد طهران دورًا تخريبيًا
واستراتيجيًا يقوم على خطة تجميد الموانئ العراقية وعدم صلاحياتها مستقبلًا، في
المقابل تعمل على توسيع قدرات موانئها القديمة وبناء العديد من الموانئ الجديدة،
بالإضافة لذلك تعمل على تجريف الأراضي الزراعية عن طريق إلقاء فضلات المصانع
والمعامل الكيمائية إلى الأنهار التي تصب في العراق مثل نهر "الكارون"، وفي
نفس السياق قطعت إيران بعض مصادر المياه عن العراق، وحوّلت مسار بعض الأنهار الأخرى
إلى داخل الأراضي الإيرانية مثل نهر "الوند" الذي يغذي الزراعة في محافظة
ديالى في شرق العاصمة بغداد، وذلك لربط الاقتصاد العراقي بالسوق الإيرانية من اجل إغلاق
المصانع والمعامل العراقية والإضرار بالسوق العراقي وإنعاش السوق الإيرانية.
وعليه، يمثل الدور الاقتصادي لإيران
في العراق في التغلغل الكبير في مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية وقطاعات الاستثمار
والسياحة الدينية والقطاعات التجارية، وتسهيل منح التأشيرات للتجار والمستثمرين الإيرانيين،
وإغراق الأسواق العراقية بمنتجات وسلع إيرانية استهلاكية ورخيصة، حتى تمكنت إيران من
أن تكون الشريك التجاري الرئيسي للعراق، ومن أكبر المستثمرين فيه منذ عام 2003.
في نفس السياق، شجعت التجار
الإيرانيين للذهاب إلى العراق والاستثمار هناك خاصة في مجالات الأدوية الفاسدة
والمجرثمة والمخدرات وتعمد إيران نشر الفساد والتحلل الأخلاقي من خلال الدعارة،
والإعلام؛ حيث قامت بإنشاء العديد من القنوات الإعلامية والإذاعات التي تتبنى خطابات
طائفية بلغت أكثر من عشرين محطة فضائية مثل: السلام والعدل ومحطتا أهل البيت والفرات
وغيرها، يضاف لذلك سرقة النفط العراقي من الحقول الحدودية.
بالإضافة إلى تشكيل شبكات مالية في
العراق لغرض دعم الميليشيات وفرق الموت التابعة لـ "الحرس الثوري الإيراني"
وتجهيزهم بالسلاح والمال من خلال فيلق القدس ووزارة المخابرات الإيرانية، ونفذت
العديد من الاغتيالات السياسية والدينية أعدادًا
كبيرة من العلماء والأساتذة الجامعيين والأطباء بالإضافة إلى الضباط وخاصة الطيارين
الذين شاركوا في ضرب أهداف عسكرية داخل إيران إبان الحرب الإيرانية العراقية.
كما استخدمت إيران العراق كورقة ضغط
وتفاوض في ملفاتها الدولية وتحقيق مكاسب لها على حساب العراق، فبات الوجود الإيراني في العراق شائكا إلى درجة تفوق
التعقيد، فقد استطاعت أن تسيطر على العراق من خلال استراتيجيات عدة تعود في
النهاية بالنفع على مصالح إيران بالأساس، مستغلة بذلك الحرب الدولية على الجماعات الإرهابية
المسلحة لترسيخ نفوذها في العراق، وتغيير صورتها من متهمة بدعم الإرهاب إلى شريك في
محاربته.
إجمالًا: دخلت إيران
بثقل عسكري وسياسي ومخابراتي ومالي واقتصادي للهيمنة على كل مفاصل الحياة في العراق،
وأشرفت على تشكيل العملية السياسية المنشأة ونصّبت فيها أحزاب وقوى ذات منشأ إيراني؛
كما أخذت على عاتقها موضوع تكريس الطائفية، في محاولة لسلخه من محيطه العربي وتبديل
هويته القومية بهويات طائفية وعرقية، من أجل إضعاف العراق وتفتيته.
هنا يمكن القول بأن الاستراتيجية الإيرانية في العراق تنبع بشكل أو بأخر من طبيعة المصالح الإيرانية في هذا البلد والمتمثلة في الحيلولة دون ظهور عراق قوي قد يشكل تهديدًا سياسيًا وعسكريًا وإيديولوجيًا لها.