الأسباب والتداعيات والسيناريوهات المحتملة: استقالة رئيس الهيئة التأسيسية لدستور ليبيا
شهدت
ليبيا منذ الإطاحة بالعقيد "معمر القذافي" في 2011 حالة من عدم
الاستقرار السياسي والمؤسسي، وتفاقمت نتائجها برفض التيار الإسلامي الاعتراف بنتائج
انتخابات مجلس النواب في يونيو/حزيران 2014، التي أسفرت عن فوز التيار المدني
بأغلبية مقاعد المجلس. نتج عن هذه الحالة دخول منطقتي الشرق والغرب الليبي في
صراعات مسلحة ما زالت آثارها ممتدة حتى اليوم، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها
المبعوث الأممي "غسان سلامة" بشأن ليبيا (1) إلا أن الوضع ما
زال معقدًا، وهو ما أبرزته مؤخرًا استقالة رئيس الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور
"نوح عبد السيد".
أقرَّت
الهيئة التأسيسية مسودة مشروع الدستور الليبي في يوليو/تموز 2017، وذلك بعد 3
أعوام من انتخابها في فبراير/شباط 2014. وتعتبر عملية إقرار الدستور والتوافق عليه
أولى المراحل لإتمام الخريطة السياسية التي طرحتها الأمم المتحدة مطلع 2018.
وتوافقت هذه الخطة مع ما توصل إليه الليبيون ضمن المبادرة الفرنسية التي حددت
نهاية عام 2018 كموعد لإجراء الانتخابات.
طرحت
الاستقالة المفاجئة لـ "نوح عبد السيد" العديد من التساؤلات المتعلقة بأسباب
الخلاف في المسودة النهائية لمشروع الدستور، وكذلك التوقيت الذي صدرت فيه
الاستقالة، وأسبابها، وتداعياتها لا سيما على عملية الاستفتاء المقرر إجراؤها خلال
هذا العام. تجدر الإشارة إلى أن الاستقالة جاءت قبل يوم واحد من
موعد إقرار قانون الاستفتاء بمجلس النواب بطبرق، وذلك تمهيدًا لعرض مسودة مشروع الدستور للاستفتاء الشعبي للتمهيد
للانتخابات النيابية والرئاسية وفق ما حددته "خطة العمل الجديدة من أجل
ليبيا".
جذور الأزمة
تعود الأزمة
إلى يوليو/تموز 2012؛ حيث تم انتخاب أول هيئة تشريعية بعد ثورة 2011 وهي المؤتمر الوطني
العام، الذي انبثق عنه حكومة المرحلة الانتقالية التي عملت على دمج الميليشيات والمسلحين
في صفوف الجيش والشرطة دون أي جدوى؛ حيث أصبحت الحكومة وقراراتها رهينة لهذه الميليشيات
وقوى الثوار المسلحة التي مارست ضغطًا سياسيًا على عمل المؤتمر الوطني العام لإصدار
قانون العزل السياسي الذي أصاب الداخل الليبي بشقاق عميق.
وتصاعدت الأزمة
بعد إعلان المشير "خليفة حفتر" في فبراير/شباط 2014 إطلاق عملية الكرامة
لتخليص ليبيا من الإرهاب والميليشيات التي باتت تتحكم في السياسة الليبية (2).
وعلى الرغم من توافق القوى السياسية على إجراء انتخابات برلمانية في يونيو/حزيران 2014
إلا أن نتائجها أججت الصراع المسلح خاصة بين قوات عملية فجر ليبيا (المدعومة من ثوار
طرابلس، والمؤتمر الوطني) وعملية الكرامة (المدعومة من قبائل الغرب وبني غازي بقيادة
"حفتر" ومجلس طبرق)، وصاحب ذلك انشقاق في صفوف المؤتمر الوطني العام الذي
يسيطر عليه إسلاميون وقبليون، وبرلمان طبرق الذي يسيطر عليه ليبراليين وقبليين وعسكريين
من الشرق، وانقسم الطرفان بين تأييد عملية فجر ليبيا كما في حالة المؤتمر الوطني العام،
وتأييد عملية الكرامة بقيادة "حفتر" كما في حال برلمان طبرق. وبجهودٍ من
المبعوث الأممي، ودول الجوار تمكن الفرقاء الليبيين من توقيع اتفاق الصخيرات
بالمغرب لتبدأ فعليًا عملية الانتقال السياسي التي تعثرت فيما بعد.
الاستقالة وأسبابها
لم يحدد "نوح" أسبابًا
واضحة لاستقالته المفاجئة من رئاسة الهيئة التأسيسية للدستور، واكتفى بإشارته في
الخطاب الموجه لأعضاء الهيئة التأسيسية إلى عدم استطاعته الاستمرار في العمل
بالهيئة التأسيسية سواءً بصفته رئيسًا أو عضوًا (3).
ويؤكد عضو الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور "عبد القادر اقدوره"
أن استقالة "نوح" جاءت نتيجة لضغوط كبيرة تتعرض لها الهيئة من قبل عدة
أطراف؛ أحدها من مصلحته تمرير الدستور، بينما تضغط أطراف أخرى منها الأمم المتحدة
والدبلوماسيين الأجانب لتعطيل الاستفتاء، وذلك لاعتبارات تتعلق بعدم زيادة
الانقسام بين الليبيين خاصة بعد الفشل في تعديل اتفاق الصخيرات والوصول إلى صيغة للتوافق
الوطني بين الاطراف كافة.
ويعتبر
"اقدوره" أن هناك أطرافًا ليبية لا ترغب في الوصول إلى مرحلة الاستفتاء
لاستمرار حالة الفوضى والانقسامات المؤسسية، ويُستشهد في ذلك بما حدث يوم التصويت
على مسودة الدستور؛ حيث تعرض أعضاء الهيئة للضرب والإهانة والحصار لأكثر من 5
ساعات في مقر الهيئة. ويُرجع البعض استقالة رئيس الهيئة إلى ضغوط قبلية واجتماعية
من الشرق الليبي خاصة من إقليم برقة الذي يرفض الاستفتاء.
وشهد عمل الهيئة منذ تشكيلها
علامات استفهام لدى الأقليات الثقافية في ليبيا مثل التبو والأمازيغ الذين أعلنوا
منذ البداية مقاطعتهم للاستفتاء على مشروع الدستور نظرًا لما تعرضوا له من اجحاف
فيما يتعلق بمطالبهم الثقافية (4).
تداعيات الاستقالة
أشار أعضاء
من مجلس النواب الليبي إلى أن استقالة "نور" لن تؤثر على سير عملية
الاستفتاء قانونًا؛ حيث انتهت الهيئة التأسيسية من مسودة مشروع الدستور قبل
الاستقالة، وبالتالي أصبحت ملكًا للشعب الليبي. في هذا السياق، سيحدد مجلس النواب
في جلسة التصويت على قانون الاستفتاء مستقبل المسودة؛ حيث يتطلب تمرير القانون
حضور 120 نائبًا من أصل 200 نائب. وحاول عدد من المحتجين الليبيين في مدينة طبرق
محاصرة مجلس النواب الليبي لمنع أعضاء البرلمان من الدخول للتصويت على قانون الاستفتاء.
ومن
المقرر استفتاء الشعب الليبي سواءً بالقبول أو بالرفض على مسودة الدستور التي
أفرزتها اجتماعات الهيئة التأسيسية لصياغة دستور ليبيا. ويعد إنجاز الاستفتاء خطوة
لبدء مرحلة جديدة تتخلص فيها ليبيا من الكيانات والأجسام السياسية المؤقتة، وإنهاء
المرحلة الانتقالية التي امتدت منذ عزل "القذافي" في 2011.
ورغم
التأكيد على عدم أهمية الاستقالة في الوقت الحالي إلا أن البعض يعتبر أن تأثيرها
سلبي على الأجواء التي سينعقد فيها الاستفتاء في حال تمكن مجلس النواب من تمرير
القانون المنظم له. ويرى محللون أن إجراء الاستفتاء في هذه الأجواء قد يؤثر فيما
بعد على خطوات الانتقال الديمقراطي التي سيرتبها الاستفتاء مثل الانتخابات
النيابية والرئاسية.
وقد يوفر
الانقسام الدولي حول مسألة إجراء الاستفتاء الفرصة للمعرقلين للاستمرار في نهج
تعزيز الانقسام وعدم الاستقرار السياسي، وهو ما يمكن تجاوزه بتأجيل الاستفتاء
والرجوع إلى خطة المبعوث الأممي خاصة مرحلتها الاولى المتعلقة بالتوافق حول
"اتفاق الصخيرات" للوقوف على أرضية صلبة لضمان نجاح الاستحقاقات القادمة
(5).
وفشل
مجلس النواب في إقرار قانون الاستفتاء، وعلّق "عقيلة صالح" رئيس مجلس
النواب جلسة المجلس بشأن التصويت على قانون الاستفتاء على الدستور، وتم تأجيل
عملية التصويت إلى جلسة 13 أغسطس/آب القادم (6). وبرر
"عقيلة" هذه الخطوة لاعتبارات تتعلق بضرورة إعادة دراسة مواد الدستور
وإتاحة الفرصة للاطلاع على نصوصه. جدير بالذكر الإشارة إلى أن مجلس النواب يُصر
على طرح مشروع الدستور للاستفتاء، وذلك رغم الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية التي
حاولت عرقلة أعضاء المجلس من الالتحاق بجلسة التصويت.
خاتمة
تتحكم العديد من المحددات في رسم سيناريوهات مستقبل المشهد السياسي الليبي خلال الفترة المقبلة خاصة في سياق عدم الالتزام بالخطط الدولية بشأن ليبيا. وفي ضوء ذلك، يبرز 3 مسارات للأزمة، وكلاهما لن ينل التوافق التام وهم؛ اكتمال النصاب القانوني، وموافقة مجلس نواب طبرق -دون التواصل مع المحتجين- على قانون الاستفتاء في جلسة 13 أغسطس/آب 2018، ومن ثم موافقة الشعب الليبي على الدستور، وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في بعض أجزاء ليبيا وتبقى حالة الانقسام والصراع غير محسومة بعد، أو تتعثر عملية إقرار الدستور، ومن ثم يتم تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهو ما قد يُنذِر بأزمة سياسية تتعلق باستمرار حالة التدهور في الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية وإبقاء الوضع على ما هو عليه، ويرتبط المسار الثالث (وهو مستبعد على الأقل خلال الأمد القصير) بتمكن الفرقاء الليبيين قبل جلسة منتصف أغسطس/آب بالتوافق حول مسودة مشروع الدستور، ومن ثم التوافق عليها وإجراء الاستحقاقات الانتخابية.
الهوامش
1-
تتكون خطة المبعوث الأممي "غسان سلامة" من
ثلاث مراحل تبدأ بتعديل اتفاق الصخيرات، واستئناف جولات الحوار الوطني، بإجراء استفتاء
لاعتماد الدستور، وبناءً عليه يتم انتخاب الرئيس والبرلمان.
2-
أنظر:
معركة "كرامة ليبيا".. الصراع وأطرافه (21/5/2014)، العربية نت
3-
استقالة رئيس
هيئة صياغة الدستور قبيل تصويت النواب على قانون الاستفتاء (29/7/2018)، روسيا اليوم
4-
التبو والأمازيغ
يدعون إلى مقاطعة الاستفتاء على الدستور (29/7/2018)، ليبيا الآن
5-
عبد اللطيف
حجازي، صراع ممتد: مستقبل تسوية الأزمة الليبية في عام 2018، مركز المستقبل للدراسات المتقدمة