الاقتصاد، الأمن، والهجرة: تحديات أمام الرئيس المكسيكي الجديد
تشهد المكسيك حالة من الزخم السياسي على خلفية
الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أسفرت عن فوز مرشح اليسار "أندريس مانويل لوبيز أوبرادور"،
والتي عكست في الوقت ذاته غضبًا بين الأوساط المكسيكية على سياسات التيار اليميني
ونمط تعاطيه مع ملفات الدولة الاستراتيجية، لاسيما المرتبطة بقضايا الفساد، وإشكالية
الأمن المترافقة مع ارتفاع معدلات الجريمة، إلى جانب الموقف من سياسات الرئيس
الأمريكي "دونالد ترامب" إزاء عدد من القضايا المشتركة، لعل أبرزها ملف
الهجرة. كل ما سبق يفرض تحديات خطيرة على "أوبرادور" تحتم عليه صوغ استراتيجية متعددة الأبعاد،
يستشعر خلالها المكسيكيون ثمار التغير.
أولاً-
لمحة عن التاريخ السياسي "لأوبرادور"
يمتلك الرئيس المكسيكي الجديد "أندريس مانويل لوبيز
أوبرادور" تاريخًا سياسيًا حافلًا، حيث شكلت بداية الثمانينيات توجهه اليساري
وذلك بانضمامه إلى "الحزب الثوري الدستوري المكسيكي"، وفي أواخر
الثمانينات تحديدًا عام 1989 قام بتأسيس "حزب
الثورة الديمقراطية"، بينما شغل
"أوبرادور" منصب رئيس حكومة إحدى المقاطعات الاتحادية بمكسيكو سيتي خلال
الفترة من عام (2000- 2005)، كما شغل أيضا
منصب رئيس المجلس الوطني "لحركة النهضة الوطنية" خلال الفترة من عام (2012- 2015 )، وكان "أوبرادور " أبرز المرشحين الرئاسيين خلال الانتخابات الرئاسية لعامي
2006, و2012 لكنه لم يحظى بنسب أصوات عالية حينها. (1) .
انتصاره الانتخابي
أظهرت نتائج الانتخابات المكسيكية الأخيرة فوز "لوبيز
أوبرادور"، وحصوله على نسبة 53.6 % من إجمالي الأصوات، في حين حصل المرشح
"خوسيه أنطونيو" المنتمي "للحزب الثوري المؤسسي" الذي ينتسب
إليه الرئيس المكسيكي المنتهية ولايته "انريكي بينا نيتو" على 15.6% من
الأصوات، ما يعكس هزيمة نكراء أصابت الحزب نتيجة للسقطات التي وقع بها على خلفية
قضايا الفساد والرشاوي وانهيار المنظومة الأمنية، إلى جانب الاختلالات الاقتصادية
التي أصابت هيكل الاقتصاد المكسيكي خلال فترة الرئيس السابق "بينا
نيتو"، وفي الوقت ذاته لم يحقق الحزب
أي نجاح يذكر في انتخابات الكونجرس التي تزامنت مع الانتخابات الرئاسية،
فيما حصل الائتلاف اليساري المنتمي إليه
الرئيس المكسيكي الفائز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة على الغالبية العظمى من
المقاعد.
برنامجه الرئاسي
أكد
الرئيس المكسيكي عقب إعلان نتيجة الانتخابات، عن توجهه نحو تنفيذ ما تعهد به خلال
حملته الانتخابية، وقيامه بوضع استراتيجية متعددة الأبعاد لمكافحة الفساد، مشددًا
في الوقت ذاته على ضرورة إعادة النظر في العقود التي منحتها شركة النفط الحكومية
لمجموعة شركات خاصة خلال فترة الرئيس "نيتو" المنتهية ولايته، وذلك
للتأكد من خلوها من أي شبهة فساد أو رشاوى، فيما كانت توجيهاته نحو تفعيل آليات
جديدة يتم بمقتضاها تحسين الوضع الاقتصادي، عبر تنفيذ عدد من البرامج التنموية
لمواجهة مشكلات البطالة، وخلق فرص عمل جديدة، إلى جانب تضييق الفجوة الاجتماعية،
وتقليص نسب الفقر التي تجاوزت في بعض الولايات الـ 60%، هي الأبرز من بين بنود برنامجه الانتخابي. وفي سياق الحديث عن أهم البرامج التي أعلن عنها
"أوبرادور"؛ نجده يتحدث عن برامج تتعلق بتوسيع نظام المنح الجامعية
للشباب، وأخرى تخص الرعاية الاجتماعية والصحية للمسنين. بينما على الجانب الآخر
عرض "أوبرادور" على القطاع الخاص إقامة شراكات تستهدف تطوير الأوضاع
الاقتصادية، ولم يغفل بالطبع الملف الأمني حيث تعهد بمحاولة إحراز تقدم ملموس
واقعيًا فيه، لاسيما بعد أن وصلت معدلات الجريمة لأعلى مستوياتها خلال فترة الرئيس
السابق كنتيجة منطقية للتناحر بين عصابات الاتجار بالمخدرات(2).
وعلى
مستوى السياسة الخارجية، والموقف من سياسات الرئيس "ترامب" العدائية
إزاء المكسيك، فقد أكد "أوبرادور" على أن السياسة الخارجية المكسيكية
ستكون من موقع الند للند، مشددًا على انه "لن يسمح "لترامب" بأن
يجعل من المكسيكيين جلادين لديه"، وفي الوقت ذاته أكد على أن علاقته
بالولايات المتحدة ستقوم على أسس الاحترام المتبادل لسيادة الدولتين وتفادي الدخول
في أي حروب تجارية، إلى جانب وصفه لسياسات "ترامب" تجاه قضية الهجرة
بالعنصرية واللامسئولة.
ثانياً-
أبرز التحديات
يترقب المكسيكيون بحذر ما ستحمله السنوات الست المقبلة
من تغيرات عميقة داخل مؤسستي الدولة التشريعية والتنفيذية فيما يتعلق بالتعامل مع
التحديات الراهنة، حيث تتراوح تلك التحديات ما بين داخلية وأخرى خارجية، تحتم على
الرئيس الجديد ذو التوجه اليساري التعامل بحنكة.
(1) تحديات داخلية
تتعدد التحديات الداخلية التي يترقب المواطنون سياسات جديدة
من قبل الرئيس "أوبرادور" تجاهها، بما يستهدف الحد من تأثيراتها السلبية
على استقرار الأوضاع الداخلية، لعل أبرزها ما يلي:
الوضع الاقتصادي؛
يحتل هذا الملف أولويات الرئيس الجديد، لاسيما في ظل
الصعوبات التي يواجهها هيكل الاقتصاد منذ فترة ممتدة؛ عصفت بكل محاولات الرئيس
السابق في مواجهتها. ويمكن استعراض أبرز الصعوبات التي تشكل هذا المحور في السياسات النقدية للولايات المتحدة والتي
تؤثر سلبًا، وبشكل مباشر على مقدار
التكافؤ ما بين العملتين الأمريكية والمكسيكية (الدولار والبيزو)،ما ينعكس سلبًا
على القوة الشرائية للمكسيك. وعلى الجانب الآخر نجد أيضا مصير اتفاقية
"نافتا" والذي سيتحدد بحلول مارس 2019؛ في ظل تصاعد التهديدات الأمريكية
المتتالية بالانسحاب منها، تزامنًا مع الخلافات المكسيكية الكندية حول ذات الملف،
ما يضيف ثقلًا آخر على الاقتصاد المكسيكي في حالة إلغاء الاتفاق. وبالنظر إلى
مؤشرات تدهور الوضع الاقتصادي هناك نجدها متجسدة في ارتفاع نسب البطالة، تراجع معدلات
النمو، زيادة الفجوة الطبقية، وارتفاع معدلات الفقر لتصل في بعض المناطق لنسبة
60%، وهو ما أثر بشكل مباشر على المستوى المعيشي للأفراد. ومن هنا أصبح على
الحكومة الجديدة المنتظر أن تتسلم مهامها ديسمبر المقبل أعباء تتعلق بضرورة احراز تقدم في مؤشرات الملف الاقتصادي بما يلقى قبولا
يعكس رضاء شعبي.
الملف الأمني:
تعاني
المكسيك وضعًا أمنيًا متدهورًا، تتمثل أبرز مؤشراته في ارتفاع نسب الجريمة؛ وحسب
الإحصائيات الصادرة عن الجهات الأمنية المختصة هناك، فقد بلغت معدلات حالات القتل حوالي 25 ألف حالة خلال عام 2017 فقط، بينما تصاعد الاقتتال بين المجموعات
الإجرامية المتنافسة على زراعة الحشيش والاتجار في الأفيون والهيروين.
وعلى صعيد آخر تصاعدت حدة العنف خلال الحملات الانتخابية السابقة، ما أسفر عن
اغتيال عدد من السياسيين من بينهم مرشحين للرئاسة من قبل مافيا الاتجار بالمخدرات،
نظرًا لتعارض توجهات تلك الشخصيات مع طبيعة عمل المافيا. كما أغلقت العديد من
المؤسسات الصحفية والقنوات الإعلامية بعد توالي التهديدات بقتلهم في حالة عدم الكف
عن تناول بعض الجهات والشخصيات كمادة إعلامية، ويستدل على ذلك من إغلاق صحيفة "نورت" المكسيكية بعدما
قتلت إحدى الصحفيات التي تعمل بها، وأرسلت تهديدات لباقي الصحفيين العاملين
بالمؤسسة(3).
قضايا الفساد:
يعتبر
ملف الفساد من أهم الملفات التي تنتظر
الرئيس الجديد، خاصة في ظل تزايد قضايا الرشوة وتورط عدد من كبار المسئولين
بالحكومة السابقة في قضايا فساد كبرى،
لعل أبرزها حصول زوجة الرئيس المكسيكي السابق "انريكي
نييتو" على رشوة في صورة قصر فخم تقدر قيمته بحوالي
سبعة ملايين يورو لتمرير إحدى الصفقات، هذا إلى جانب انتشار الفساد والمحسوبية
داخل مؤسسات الدولة المختلفة، ما أدى بشكل مباشر إلى تراجع معدلات التنمية وتدني
مستوى المعيشة.
(ب)
تحديات خارجية
شكلت مواقف الرئيس "ترامب" ازاء عدد من
القضايا، لاسيما ملف المهاجرين المكسيكيين، إلى جانب تهديداته المتصاعدة بالانسحاب
من "النافتا"، أبرز التحديات
التي تواجه الرئيس المكسيكي الجديد والتي يمكن استيضاحها على النحو التالي:
الانسحاب من “نافتا":
منذ تولي الرئيس الأمريكي "دونالد
ترامب" منصبه، عكست تصريحاته ومواقفه تجاه المكسيك عدائية كبيرة، تجسدت
ملامحها في تهديداته المستمرة بالانسحاب
من "النافتا"، وهو الملف الأكثر إثارة للجدل في علاقة البلديين لاسيما
في ظل انعكاسات هذا القرار على الاقتصاد المكسيكي ، ما ينذر بحقبة جديدة من
العلاقات المتوترة بين الدولتين في حالة استمر "ترامب" في تبني نهجه
المتشدد إزاء الملفات المشتركة.
ملف الهجرة:
يعتبر ملف الهجرة من الأوراق التي اعتمد عليها مرشح
اليسار "مانويل لوبيز أوبرادور" في مارثون الانتخابات الأخيرة، مستغلًا
مواقف الرئيس الأمريكي إزاء المهاجرين المكسيكيين، وتعهده ببناء جدار عازل ما بين
الدولتين، بعدما اتهم "ترامب" في إحدى خطاباته المهاجرين المكسيكيين
بالتسبب في إدخال مزيد من المواد المخدرة
داخل الولايات المتحدة، إلى جانب سياسات "ترامب" الأخيرة
والمثيرة للجدل بشأن فصل العائلات المهاجرة عن أطفالهن، مؤكدًا أنه "الخيار
الوحيد" لمحاربة الهجرة غير الشرعية بشكل فعال(4)، كل ذلك فرض على الرئيس المكسيكي الجديد تحد خطير يقتضي
ضرورة صوغ استراتيجية تكون فحواها تشجيع
التنمية بما يجذب الأفراد للمكوث في
مناطقهم وعدم مغادرتها.
ثالثاً-
آليات المواجهة
بعد
استعراض أبرز التحديات التي تواجه الرئيس المكسيكي الجديد، أصبح لزامًا على " لوبيز أوبرادور "
البدء بتجميع خيوط التعامل مع تلك
الملفات. فعلى صعيد الأوضاع الداخلية لاسيما الملف الأمني ؛ يفترض أن تبدأ
المواجهة من خلال إعادة هيكلة الجهاز الشرطي، والمؤسسة الأمنية بشكل عام كآلية
حقيقية لإعادة بسط هيمنة الدولة على الأوضاع الداخلية واستعادة النفوذ من عصابات
الاتجار بالمخدرات. أما فيما يتعلق بملف الفساد فينبغي أن تكون نواة مواجهته
مرتكزة بالأساس على استئصال كافة رموزه وتغليظ
العقوبات، وسن مزيد من القوانين المجرمة لتلك الآفة من الأعلى إلى الأسفل.
وعلى صعيد الأزمات الإقليمية مع
الولايات المتحدة فينبغي أن تكون السياسة الخارجية المكسيكية تجاه واشنطن أكثر حزمًا وصرامة في التعامل مع
الملفات الحساسة، لاسيما ملف الهجرة ، وملفات التبادل التجاري
المشترك؛ فعلى صعيد ملف الهجرة نصل لنتيجة مفادها إن التنمية الإقليمية للمناطق
التي تشهد هروبًا سكانيًا هي الآلية الرئيسية للحل، أما على صعيد التعاون التجاري
والاستثماري فإن الوصول لنقطة الاكتفاء الذاتي وعدم الانصياع لتوجهات الغير هي خير
طريق لمواجهة أي ضغوطات من هذا القبيل.
وختامًا؛ ستكون الفترة الرئاسية الحالية بمثابة تحدٍ خطير لمستقبل اليسار السياسي المكسيكي، وهو ما يلقي بعبء كبير على الرئيس " لوبيز أوبرادور"، يحتم عليه أنماط معينة أكثر حزمًا في التعامل مع ملفات الدولة الهامة.
المصادر:
( 1) تعرف على لوبيز
أوبرادور رئيس المكسيك الجديد، روسيا اليوم، متاح على الرابط:
(2) من هو الرئيس المكسيكي
الجديد الذي تعهد بتحدي ترامب، هيئة الإذاعة البريطانية، متاح على الرابط:
(3) تحديات تنتظر الرئيس المكسيكي، جريدة إيلاف،
متاح على الرابط:
(4) "ترامب" يرسل "ميلانيا" إلى حدود المكسيك.. ردا على الانتقادات، سكاي نيوز، متاح على الرابط: