ما بعد هلسنكي: بين مخاوف الداخل الأمريكي وتهور ترامب
لاقت قمة هلسنكي بين
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، اعتراضات وشكوك
كثيرة في الداخل الأمريكي سواء من قبل المؤسسات الرسمية والمسؤولين الحالين، أو
مسؤولين سابقين، فالزيارة التي استضافتها العاصمة الفنلندية، رأى الكثيرون أنها
انبطاح تام من قبل ترامب لبوتين، والتسليم بتدخلاته وتهديده للمصالح الأمريكية
والأوروبية، دون اتخاذ أي إجراء ضده، بل إشادة ترامب المتكررة بنتائج اللقاء وأنه
مجرد بداية لعلاقات أقوى بين البلدين.
ماذا دار في قمة هلسنكي:
مثلت قمة هلسنكي في
الـ16 من يوليو الجاري، بين بوتين وترامب، مرحلة مهمة ومفصلية في تاريخ البلدين
منذ تصاعد الخلافات بين روسيا والدول الأوروبية عقب الأزمة الأوكرانية عام 2014،
فقد اعتبرها كثيرون سواء في الداخل الأمريكي أو الخارج الأوروبي بأنه بمثابة
استسلام وقبول لسياسات الرئيس بوتين التصعيدية ضدهم، التي جاءت هي الأخرى ردا على
تحركات أوروبية لعزل روسيا بجانب الطموحات الشخصية لبوتين.
وتوقع البعض أن يشد
ترامب على بوتين خلال اللقاء، أو على الأقل يطالبه بوقف سياساته العدائية تجاه
واشنطن وحلفائها، إلا أن الأمر لم يكن هكذا. فقد تناولت القمة قضايا متنوعة بين
البلدين، ظهرت فيها روسيا بأنها ند للولايات المتحدة وحلفائها ولها الحق التدخل في
شؤونهم، بجانب مناقشة بعض الجوانب الثنائية التي يمكن خلق مساحة من التفاهم بشأنها
مثل موضوعات الاقتصاد والطاقة ومكافحة الإرهاب.
ومن ضمن القضايا
المحورية التي أثارتها القمة، هي "حالة العداء بين البلدين، فقد أكد
بوتين بأن "الحرب الباردة انتهت منذ فترة طويلة"، وأن روسيا والولايات
المتحدة تواجه تحديات مشتركة منها، الإخلال بتوازن آليات الأمن والاستقرار الدولي
والأزمات الإقليمية وانتشار مخاطر الإرهاب، وهذا ليس صحيح، فهناك خلافات جوهرية
بين روسيا والأوروبيين ومعهم واشنطن تقترب من أجواء الحرب الباردة، سواء تصاعد
سباق التسلح أو التدخل في الشأن الداخلي وخوض حروب بالوكالة أو التدخل بشكل مباشر
كما جرة في القرم وسوريا، وهذا ينسف مقولة عدم وجود خلافات بين روسيا والغرب التي
يريد بوتين الترويج لها(1).
وفي محاولة لخلق أرضية مشتركة بين
بوتين وترامب، ركز اللقاء على بعض القضايا الإقليمية بشكل خاص ومحاربة الإرهاب،
دون التطرق بشكل جدي لقضايا جوهرية تمثل أساس الخلاف مع موسكو، مثل التدخل في
الانتخابات الأمريكية وكذلك بعض الاستحقاقات الانتخابية الأوروبية، وسط مخاوف من
تكرار هذا الأمر مستقبلا.
وكان من بين القضايا
الإقليمية الحاضرة أيضا، الأزمة السورية، التي قال بوتين إن هناك تعاونا بشأنها
بين البلدين، أما ترامب ذهب أبعد من بوتين ليكشف عن وجود تنسيق بين العسكريين
الروس والأمريكيين في سوريا، مؤكدا ضرورة ضمان أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي التي
تحتل الجولان السوري. وقد أثارت هذه القضية خلافا داخل الكونجرس ووزارة الدفاع
الأمريكية التي نفت وجود تعاون وثيق مع الروس في سوريا، فهو مجرد تنسيق في حده الأدنى
ولم يتم التفاهم معهم على شيء، لتكشف عن المزيد من الخلل والمعارضة لسياسات ترامب.
وبخلاف سوريا تناولت
القمة أيضا بحث التنسيق الاستخباراتي والأمني بين البلدين خاصة في مجال محاربة
الإرهاب، وهذا الأمر موجود حتى الآن لخطورة الإرهاب على الطرفين، فسبق أن كشفت واشنطن
لموسكو عن خلايا إرهابية في روسيا، بجانب التعاون بين البلدين في تأمين كأس العالم
2018.
ويحاول بوتين التقرب
من ترامب بكل الوسائل وطرح مبادرات وهمية غير ممكن تطبيقها، ليستغل فترة وجود
الرئيس الجمهوري بالبيت الأبيض لتحقيق أقصى استفادة ممكنة، وتوظيف علاقاته
المتقلبة مع الاتحاد الأوروبي وبعض القوى المهمة لتوسيع نفوذه أو على الأقل تقوية
نفسه، استعدادا لمن سيأتي بعد ترامب، فسبق أن استفاد بوتين من فترة الرئيس السابق
باراك أوباما لتوسيع نفوذه عسكريا في سوريا بخلاف أوكرانيا وضم جزيرة القرم،
والتوصل للاتفاق النووي مع إيران بسهولة ودون قيود قوية، مستغلا ضعفه وسياساته
الإنسحابية من ملفات ومناطق مهمة.
ومن المقترحات التي عرضها بوتين
على ترامب، لمجرد كسب الوقت، تشكيل مجلس مشترك لشؤون العلاقات الثنائية مكون من
مجلس خبراء يضم باحثين سياسيين وعلماء ودبلوماسيين وعسكريين لوضع خطط لإقامة
علاقات مستقرة وإيجابية بين البلدين، كما عرض بوتين خطة لتحقيق الاستقرار
الاستراتيجي ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وهذا غير واقعي فالبلدان مستمران في
تطوير هذا النوع من الأسلحة والدخول في سباقات تسلح كالتي سادت أجواء الحرب
الباردة.
وبالنسبة للأمر الذي
كان الداخل الأمريكي يريد إثارته بشدة، هو التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة
الأمريكية لعام 2016، وبالفعل قال ترامب إنه بحثها مع الرئيس بوتين، نافيا
وجود أي تآمر روسي، وهو الأمر المرفوض تماما من قبل أجهزة الاستخبارات الأمريكية
التي أكدت وجود تدخل مؤكد من قبل عملاء روس، وما زال الأمر قيد التحقيق.
لماذا يرفض الأمريكيون التفاهم مع بوتين:
وصف ترامب لقاءه مع
بوتين بأنه نقطة انعطاف في علاقات البلدين، مؤكدا على معالجة الخلافات بين موسكو
وواشنطن، ولم يقف عن الإشادة والوعد بتحسين العلاقات، بل كلف مساعديه بعد أيام من
قمة هلسنكي بالترتيب لعقد قمة جديدة في البيت الأبيض مع بوتين، خلال الخريف المقبل(2).
لم تقتصر معارضة
اللقاء على المسؤولين الأمريكيين السابقين أو المنتمين للحزب الديمقراطي في
الكونجرس، إنما امتد الأمر لإدارة ترامب ذاتها وداخل صفوف الحزب الجمهوري،
فبالنسبة لإعلان التوافق مع روسيا في سوريا، نفى قائد القوات الأمريكية في الشرق
الأوسط الجنرال جوزيف فوتيل، تلقي تعليمات جديدة بعد قمة هلسنكي للتنسيق مع روسيا،
مشيرا إلى وجود تنسيق محدود بشدة بموجب القانون الأمريكي وتعليمات الكونجرس وهذا
يعني أن أي محاولة للتقارب مع روسيا في سوريا لن يوافق عليها الكونجرس أو على
الأقل لابد أن تمر عبره ويوافق عليها(3).
امتدت الانتقادات
الرافضة لمخرجات قمة هلسنكي، إلى رئيس مجلس النواب الأميركي بول رايان، الذي أكد
تدخل موسكو في انتخابات 2016، خلافا لترامب، محذرا إياه بأن روسيا ليست حليفة
للولايات المتحدة، قائلا "ليس هناك تكافؤ أخلاقي بين الولايات المتحدة وروسيا
التي ما زالت معادية لقيمنا وأفكارنا الأساسية. يجب أن تركز الولايات المتحدة على
محاسبة روسيا ووضع نهاية لهجماتها الوضيعة على الديمقراطية". كذلك هاجم
الرئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ بوب كوركر الجمهوري، ترامب الذي
جعل "الولايات المتحدة تبدو كما لو كانت لقمة سائغة" على حد قوله، كذلك
وصف جون ماكين العضو الجمهوري بالكونجرس، ترامب بـ"الساذج" والقمة
بـ"الخطأ المأساوي"(4).
ونتيجة للرفض
الأمريكي الواسع لقمة هلسنكي، اتهم الرئيس الروسي قوى أمريكية بمحاولة التقليل
والتنصل من نتائج القمة خدمة لـ"مصالح ضيقة"، فبوتين يعلم أن ترامب ليس
الولايات المتحدة وإنما هناك مؤسسات لابد أن توافق على توجهات البيت الأبيض، خاصة
فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا، وهو ما يحاول بوتين استغلاله لأقصى قدر إن لم يكن
الاستفادة من ترامب، فممكن توظيفه في تعميق الانقسامات داخل المؤسسات الأمريكية
وهو ما يوفر مرونة ووقت لبوتين في تحقيق الكثير من أهدافه(5).
وبخلاف الانتقادات من
داخل ترامب وقادة الحزب الجمهوري، خرجت انتقادات مضاعفة من الحزب الديمقراطي
المعترض بشكل دائم على سياسات ترامب سواء الداخلية أو الخارجية، وتأتي هذه
الانتقادات الواسعة بسبب التخوف من تهور ترامب، وتهديد مصالح الولايات المتحدة
وحلفائها، ففي الوقت الذي ذهب فيه إلى فنلندا للقاء بوتين وصف الاتحاد الأوروبي
بأنه خصم ومنافس للولايات المتحدة مثل الصين، وهو ما عزز التخوفات الأوروبية التي
لم تعد تثق في ترامب في ظل انتقاداته الواسعة لهم ولأعضاء حلف شمال الأطلنطي
"ناتو".
ويرى السياسيون
الأمريكيون أن هناك تقارب غير مشروط من قبل ترامب مع روسيا، فهي لم تقدم تعهدات
بحل الخلافات القائمة معها، فمثلا أزمة جزيرة القرم أكد بوتين لترامب أن "هذا
الأمر منتهي بالنسبة له"، وهو ما يعني أن روسيا لا تريد التفاوض على شيء ولن
تقدم أي تنازلات، ورغم ذلك تواصلت إدارة ترامب معها، وهو ما يعني وقف أي استهداف
أو عقوبات مستقبلا على روسيا، من قبل ترامب، الذي قد يخفف من علاقات الولايات
المتحدة الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي على حساب علاقته مع روسيا، أو على الأقل
ترك المجال أمام بوتين.
كذلك يرى مسؤولون أمريكيون
أنه لا يمكن إقامة علاقات قوية وطبيعية مع روسيا حاليا، وسط استمرار سياستها
التوسعية والتدخل في الشأن الداخلي الأمريكي والأوروبي، فالأمر لم يقف عن حد حروب
الوكالة أو توسيع النفوذ في الشرق الأوسط، وإنما وصل الأمر إلى تهديد الأنظمة
السياسية والديمقراطية الغربية عبر التدخل في الاستحقاقات الانتخابيةـ، بجانب
تنفيذ عمليات اغتيال داخل الدول الأوروبية مثل حادثة اغتيال عملاء روس في بريطانيا.
وبلقاء ترامب لبوتين يعني الإقرار بهذه التدخلات والخرائط الجيوسياسية التي يريد
بوتين تثبيتها وفرض الأمر الواقع على الجميع.
الخاتمة
يمكن القول أن بوتين
يدرك أن الرئيس ترامب لا يمكنه تنفيذ ما اتفق عليه معه وما سيتم لاحقا، فالمؤسسات
الأمريكية حتى التي يتحكم فيها الجمهوريون من أشد الرافضين لعلاقات قوية مع روسيا
أو حتى طبيعية، لهذا يريد قدر الإمكان استغلال فترة ترامب لتحقيق أكبر قدر من
المكاسب، وتوظيف حالة الشقاق التي تضرب الداخل الأمريكي بعد فوز ترامب في انتخابات
الرئاسة، بجانب الخلافات المتزايدة بين ترامب والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو،
إضافة إلى الخلافات الأوروبية الأوروبية والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
وفي حال نجح بوتين في تحقيق بعض مما اتفق عليه مع ترامب، فإنه سيكون الفائز الأكبر، لأنه بهذا يكون ثبت ولو مرحليا مفهوم الندية أو على الأقل الاعتراف بالدور الجديد لروسيا في النظام الدولي الذي يجري الآن تشكيله، بالتعاون مع القوى الصاعدة مثل الصين.
المصادر:
1-
أبرز 10 نقاط في المؤتمر الصحفي المشترك بين بوتين وترامب، روسيا اليوم،
17/7/2018، الرابط.
2-
ترامب يدعو بوتين لزيارة واشنطن في الخريف، هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي
سي"، 20/7/2018، الرابط.
3- جنرال أمريكي يفند ترامب: لا تغييرات في سوريا بعد قمة هلسنكي، موقع 24 الإماراتي،19/7/2018،
الرابط.
4- انتقادات واسعة لترامب بسبب تصريحاته خلال قمته مع بوتين، هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"،17/7/2018 الرابط.
5- بوتين: قوى أمريكية تحاول تقويض نجاح القمة مع ترامب، وكالة رويترز، 19/7/2018، الرابط.