الارتداد للخلف: دوافع ومآلات انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان
مثَّل انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان
صدمة كبيرة لدى كثير من المعجبين بالقيم الغربية في حقوق الإنسان خاصة في ظل
الإجراءات الأخيرة التي تتخذها إدارة ترامب في التعامل مع أبناء المهاجرين غير
الشرعيين؛ حيث تقوم بفصلهم عن ذويهم. اعتبر البعض أن إدارة ترامب تعمل لمصلحة
إسرائيل لا الولايات المتحدة. ويأتي قرار ترامب بالانسحاب من المجلس كمحصلة
للانتقادات التي تعرض لها المجلس من قِبل واشنطن قبل نتيجة تقاريره وملاحظاته فيما
يتعلق بالأراضي المحتلة والقضية الفلسطينية. ولطالما كانت لواشنطن علاقات متعارضة
مع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؛ حيث قررت إدارة بوش الابن مقاطعة
المجلس عندما تم إنشاؤه في عام 2006، فيما قررت إدارة أوباما الانضمام له عام 2009.
وتشير التحليلات إلى الرغبة الأميركية الجامحة في الهيمنة على قرارات المؤسسات
والمجالس المتخصصة، وهو ما يبرر انسحابها من مجلس حقوق الإنسان وقبله منظمة
اليونسكو بعد فشل ترويضهما لصالحها بذريعة الإصلاح.
نشأة
مجلس حقوق الإنسان
تأسس مجلس حقوق الإنسان بموجب
القرار 251/60 عام 2006، وانعقدت دورته الأولى في يونيو/حزيران 2006، وهو بمثابة
هيئة حكومية دولية داخل منظومة الأمم المتحدة، ويتألف المجلس من 47 دولة يتم
انتخابهم من أعضاء الأمم المتحدة بواسطة أعضاء الجمعية العمومية. وقد حل مجلس حقوق
الإنسان محل مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، التي تعرضت لانتقادات كبيرة نتيجة
سماحها لانضمام دول إلى عضويتها ذات سجل سيء في حقوق الإنسان. وفي هذا السياق، رفضت
أميركا الانضمام إلى المجلس الجديد لذات الأسباب التي حُلت بسببها المفوضية، مما
قد يثير التساؤلات حول مستقبل استمرار
المجلس في ممارسة انشطته خاصة بعد قرار ترامب الأحادي بالانسحاب من عضويته.
ويعمل المجلس أساسًا على تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها في
جميع دول العالم، وذلك من خلال آلية "الاستعراض الدوري الشامل" التي
تُستخدَم لتقييم أوضاع حقوق الإنسان في جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. ويقوم
المجلس كذلك برصد حالات انتهاكات حقوق الإنسان المختلفة حول العالم، وتقديم توصيات
بشأنها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويعمل الأعضاء في اجتماعاتهم على مراجعة
سجلات حقوق الإنسان للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ويمنح المجلس الدول الفرصة
لعرض مجهوداتها في تحسين أوضاع حقوق الإنسان في بلادها خلال آلية "الاستعراض
الدوري الشامل". ويمكن أن يُرسل المجلس خبراءه للتحقيق في انتهاكات حقوق
الإنسان كما حدث في حالات مثل سوريا وميانمار وبورندي وجنوب السودان.
محفزات
الانسحاب الأميركي من المجلس
تتحجج إدارة ترامب في قرار انسحابها من مجلس حقوق
الإنسان على أنه بات مثل المفوضية القديمة
خاصة بعدما قبل في عضويته دول ذات سجل سيء في حقوق الإنسان مثل الصين والجزائر
والسعودية وروسيا. وعلى الرغم من انتقاد الولايات المتحدة لانتخاب هذه الدول في
عضوية المجلس لكنه لم يكن الدافع الحقيقي لانسحاب ترامب من المجلس. ويعتبر البعض أن الانسحاب الأميركي لا يمكن أن
ينفصل بأي حالٍ من الأحوال عن الانتقادات التي تتعرض لها إسرائيل داخل المجلس، مما
ترتب عليه مقاطعتها لإحدى جلسات "الاستعراض الدوري الشامل"(1).
يأتي الانسحاب الأميركي من عضوية المجلس بعد الانتقادات
الحادة التي تتعرض لها أميركا بعد قرار "ترامب" بفصل أطفال المهاجرين غير
النظاميين عن ذويهم عند الحدود الأميركية المكسيكية(2)؛ حيث أثار هذا
القرار جدلًا كبيرًا داخل وخارج الولايات المتحدة ، فعلى المستوى الداخلي اعترض
الحزبين الرئيسين على سياسة "عدم التسامح" التي أعلنت عنها إدارة ترامب
تجاه المهاجرين غير الشرعيين، ونجح ضغط الرأي العام فيما بعد إجبار
"ترامب" على إصدار أمرًا تنفيذيًا يقضي بإعادة الشمل بين أبناء
المهاجرين غير الشرعيين وذويهم(3). وخارجيًا، دعا المفوض السامي لحقوق
الإنسان في الأمم المتحدة "زيد رعد الحسين" الولايات المتحدة إلى وقف
ممارسة فصل أبناء المهاجرين غير الشرعيين عن ذويهم، ورأى المفوض السامي في افتتاح
الجلسة الـ 38 لمجلس حقوق الإنسان أن ما تقوم به أميركا في هذا الشأن يثير القلق(4).
وتعترض الولايات المتحدة على أداء المجلس نتيجة إدراجه
الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية على جدول أعمال جميع جلساته السنوية
الثلاث. وأرجع وزير الخارجية الأميركي "مايك بومبيو" الانسحاب إلى عداء
المجلس للأجندة الأميركية مثل انحياز المجلس المتواصل ضد دولة إسرائيل معتبره "متجاوزًا
لكل الحدود"، فضلًا عن عدم توجيهه انتقادات لأنظمة معادية لأميركا مثل فنزويلا
وكوبا رغم سجلهم السيء في حقوق الإنسان. واحتجت "نيكي هيلي" على قرارات
المجلس التي اعتبرتها موجهة بالأساس ضد دولة إسرائيل. واعتبرت "هيلي" أن
إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تخضع لمراجعة دائمة من جانب المجلس. واعتبر "بومبيو"
أن قرار الانسحاب لم يكن مفاجئًا، او متسرعًا ولكنه جاء نتيجة محاولات لإصلاح عمل
المجلس، ولكنها باءت جميعها بالفشل.
جدير بالذكر الإشارة إلى أن انسحاب الولايات المتحدة من
المنظمات الدولية بسبب إسرائيل لم يكن الوحيد في عهد "ترامب". فقد
انسحبت من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)؛ حيث اتهمتها
بمعاداة إسرائيل، وقامت بخفض تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين
(أونروا) فيما بدا عقابًا جماعيًا للفلسطينيين نتيجة سعيهم لاقتناص الاعتراف
الدولي بقضيتهم.
ردود
الفعل الدولية على خروج الولايات المتحدة من المجلس
جاءت ردود الفعل الدولية على القرار
الأميركي بالانسحاب معارضة ما عدا الموقف الإسرائيلي الذي جاء مرحبًا؛ حيث وصف
رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" في تغريدة له على تويتر ما
أقدم عليه "ترامب" بالخطوة الشجاعة، معتبرًا أن المجلس معادي لإسرائيل
ومنحاز. وأبدى مكتبه ترحيبًا بالقرار؛ حيث أورد في بيانٍ له: "تشكر إسرائيل
الرئيس "ترامب"، ووزير خارجيته " بومبيو"، والسفيرة الأميركية
لدى الأمم المتحدة "هيلي"، على قرارهم الذي يرفض نفاق مجلس حقوق الإنسان
الأممي وأكاذيبه". من ناحية أخرى، رأت وزارة الإعلام الفلسطينية أن انسحاب
الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بمثابة مكافأة
للاحتلال، وتشجيع على العدوان وانتهاك حقوق الشعب الفلسطيني(5).
وانتقدت منظمة "هيومان رايتس ووتش" الانسحاب
الأميركي من مجلس حقوق الإنسان معتبرةً أن الولايات المتحدة تُنصِب نفسها محاميًا
عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث عبَّر المدير التنفيذي للمؤسسة "كينيث
روث" عن أسفه لما وصفه بالسياسة الاحادية التي تتخذها الولايات المتحدة في
الدفاع عن الانتهاكات الإسرائيلية. وأوردت "هيومان رايتس" في بيانها عن
الانسحاب الأميركي من مجلس حقوق الإنسان: "لعب دورًا مهمًا في دول على غرار
كوريا الشمالية وسوريا وبورما وجنوب السودان، لكن على ما يبدو كل ما يهم ترمب هو
الدفاع عن إسرائيل"(6).
وأبدى الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريس"،
أسفه لانسحاب الولايات المتحدة من المجلس. ومن جهته، طالب "فويسلاف
شوتز" رئيس المجلس بالمحافظة على كيان المجلس من الانهيار خاصة في ظل الحالة
الكارثية التي تمر بها حقوق الإنسان في العالم نتيجة الصراعات والحروب الأهلية
والكوارث بالعالم. وأكد وزير الخارجية البريطاني عد تأثر بلاده بالقرار الأميركي واعدًا
بمواصلة بلاده دعم المجلس. واعتبرت منسقة الشئون الخارجية بالاتحاد الأوربي "فديريكا
موجرينى" أن الخطوة التي أقدمت عليها أميركا ستقوض دورها كمؤيد للديمقراطية وداعم
لنشر ثقافة حقوق الإنسان في العالم(7).
وفي ظل حالة التخبط التي تعيشها الولايات المتحدة في
التعاطي مع المنظمات الدولية التي تتعارض مع سياساتها كاليونسكو، ومجلس حقوق
الإنسان الذي انسحبت منه مؤخرًا، انتهزت موسكو الفرصة؛ حيث أعلن مندوب روسيا
الدائم لدى الأمم المتحدة أن بلاده تقدمت بطلب لترشيح نفسها في انتخابات مجلس حقوق
الإنسان في الفترة من عام ٢٠٢١ إلى عام ٢٠٢٣. جدير بالذكر الإشارة إلى أن عضوية
روسيا في المجلس كانت قد انتهت نهاية ديسمبر/كانون الأول 2016.
ختامًا؛ عملت إدارة الرئيس "ترامب" منذ انتخابه أواخر 2016 على فرض إسرائيل بالقوة على المجتمع الدولي، وهو ما بدا جليًا في محاولاته لفرض سياسة الأمر الواقع مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل إضافة إلى محاولاته لفرض التطبيع مع إسرائيل، وإعلانه الانسحاب من المنظمات المتخصصة التي اعتبرها معادية لدولة إسرائيل نتيجة مواقفها من القضية الفلسطينية مثل مجلس حقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة "اليونسكو".
الهوامش
1-
US
quits 'biased' UN human rights council (20/6/2018), BBC News
2-
US leaving UN Human
Rights Council -- 'a cesspool of political bias' (20/6/2018),
CNN
3-
Fact Checker,
Fact-checking claims about Trump’s plan to stop family separations (21/6/2018), Washington Post
4- الأمم المتحدة تدعو واشنطن إلى وقف فصل أبناء
المهاجرين عن ذويهم (18/6/2018)، روسيا اليوم
5- فلسطين: انسحاب واشنطن من
مجلس حقوق الإنسان مكافأة للاحتلال (20/6/2018)، البوابة
6- فاطمة سليمان، هيومان
رايتس :كل ما يهم ترامب الدفاع عن اسرائيل (20/6/2018)، الجمهورية
7- ردود فعل دولية لانسحاب واشنطن من مجلس حقوق الإنسان (20/6/2018)، روسيا اليوم