المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

جيبوتي.. والتوجه نحو عسكرة التنمية

الأحد 20/مايو/2018 - 02:50 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
نهال أحمد

تحتل جيبوتي مكانة استراتيجية هامة انعكست في كونها أكثر الدول الأفريقية استضافة للقواعد العسكرية، ورغم ذلك لا يمتلك الجيش الجيبوتي سوى طائرتين و67 مركبة مدرعة، و76 قطعة من الأسلحة الخفيفة، ومن هنا يثار التساؤل حول أسباب توجه جيبوتي نحو اعتمادها اقتصاديًا على استضافة القواعد العسكرية كأداة للتنمية؟

المكانة الجيوسياسية

تشغل جيبوتي مكانة جيواستراتيجية هامة رغم اقتصار مساحتها الجغرافية على حوالي 23 ألف كيلومتر مربع، بيد أن هذه المساحة الصغيرة لعبت الكثير في بلورة الوضع الحالي لها؛ وذلك بجعلها مقصد للتنافس الدولي من أجل الاستثمارات في إنشاء القواعد العسكرية على أراضيها.

وعندما نطالع الخريطة نجد أن جيبوتي تتعدد في حدودها البرية والبحرية، فنجدها تتشارك في حدودها البرية كل من إريتريا شمالاً، وإثيوبيا من الشمال الغربي، والصومال في الجنوب الشرقي، إلى جانب وقوعها على البحر الأحمر وخليج عدن واشتراكها مع اليمن في إدارة مضيق باب المندب الذي يعد أحد أهم الممرات المائية في العالم، كل هذه المقومات مجتمعة أضافت ثقلًا استراتيجيًا للدولة دفعها نحو استثماره في تعظيم مكاسبها الاقتصادية.(1)

معضلة التنمية الاقتصادية

تمثل جيبوتي أكثر الدول الأفريقية فقرًا من حيث وفرة الموارد والإمكانيات الطبيعية؛ حيث لا تسمح أراضيها القاحلة بالاستثمار في القطاع الزراعي، فضلاً عن عدم توافر أي ثروات معدنية أو نفطية تمكن الدولة من تحقيق نمو اقتصادي.

في حين يعيش قرابة خُمس السكان تحت خط الفقر بدخل يومي لا يزيد عن 1.25 دولار، ويضاف إلى تلك المشكلات الاقتصادية، بعد سياسي يتمثل في الأوضاع المتوترة التي تشهدها علاقات جيبوتي مع كل من أريتريا وإثيوبيا بسبب النزاعات الحدودية.(2)   

كل ما سبق دفع حكومات جيبوتي المتعاقبة منذ عام 1995 إلى وضع خطط إصلاح هيكلية لاقتصادها، إلا أن تلك المحاولات ووفقًا لتقارير دولية لم تتكلل بالنجاح، وبعيدًا عن النتائج التي تعلنها الحكومة بشأن معدلات التنمية المرتفعة، نجد أن البيانات الواردة في التقرير السنوي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2017 كانت مخيبة للآمال، حيث لم تتجاوز معدلات التنمية 0.447%، وبهذا احتلت المركز 149، بحسب التصنيف الدولي الذي شمل 174 دولة.(3)

 ومن هنا أصبح الاقتصاد الجيبوتي قائم بالأساس على القطاع الخدمي معتمدًا وبشكل كبير على المعونات والدعم الخارجي من جهة، ومن جهة أخرى على تفعيل إستراتيجية اقتصاديات القواعد العسكرية.

عسكرة التنمية

بلورت الأوضاع الاقتصادية الهشة التي تمر بها جيبوتي الفكرة الأساسية المتعلقة بربط خطط التنمية, بالتوجه نحو المقايضة بينها وبين قوى دولية وإقليمية وبناء علاقات قوية تتم عن طريق استبدال المساعدات الاقتصادية التي تقدم لجيبوتي، بمساعدات لوجيستية وذلك بإقامة عدد من القواعد العسكرية على سواحل جيبوتي المطلة على البحر الأحمر أو خليج عدن.

ورغم ما تشكله تلك القواعد العسكرية من قيود على سيادة الدولة إلا أنها تمثل العمود الفقري لاقتصادها، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى وجود العديد من علاقات التنافس الدولي والإقليمي لإنشاء قواعد خاصة بهم في تلك الدولة المحورية؛ وذلك على النحو التالي:

فرنسا والاتحاد الأوروبي

تعتبر القاعدة العسكرية الفرنسية التي تم إنشائها عقب الاستقلال أولى القواعد العسكرية الأجنبية بجيبوتي بينما يرابط في تلك القاعدة حوالي 5000 جندي, تقوم مهمتهم الرئيسية على مراقبة حركة سير السفن والبضائع في خليج عدن، فضلا عن الاشتراك في حماية جيبوتي من أي اعتداء خارجي أو داخلي، كما حدث عام 2001 في مهمة القضاء على حركة تمرد داخل جيبوتي.(4)

كما ساهم الوجود العسكري الفرنسي في دعم المنظومة الاقتصادية؛ حيث تقترب نفقات القوات الفرنسية الموجودة بالقاعدة لنحو 135 مليون يورو سنويًا ما يشكل حوالي 25% من إجمالي الناتج القومي، وحوالي 65% من موازنة الدولة.

وعلى الجانب الآخر, فقد سعى الاتحاد الأوروبي لوضع نفسه وبقوة على خريطة التنافس نحو الفوز بتواجد عسكري له في جيبوتي؛ حيث شكلت بعض دول الإتحاد قوة مشتركة أطلق عليها اسم "العملية الأوروبية لمكافحة القرصنة" "أتلانتا"، تتركز مهامها في العمل على تطويق جرائم القرصنة في مضيق باب المندب، ومراقبة حركة التجارة بها.(5)

الولايات المتحدة الأمريكية

دشنت الولايات المتحدة القاعدة العسكرية الوحيدة لها بالقارة الأفريقية، قاعدة "أفريكوم" عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر مباشرة، ففي عام 2001 أقيم معسكر "ليمونير" الأمريكي بالقرب من مطار جيبوتي ليضم قرابة 900 مقاتل، ولكن في ظل تزايد المخاطر الأمنية بتلك المنطقة وصل عدد العناصر المقاتلة لنحو 4500 تكون مهمتهم الرئيسية القيام بعمليات ضد تنظيم القاعدة وحركة شباب المجاهدين الصومالي، إلى جانب حماية المصالح السياسية والاقتصادية لواشنطن بالقارة.(6)

وينعكس المردود المادي لجيبوتى من هذه القاعدة في بنود عقد الإيجار الأمريكي الخاص بها والذي ارتفع في عام 2014 ليصل إلى 60 مليون دولار في العام الواحد.

اليابان

أسست اليابان عام 2009 القاعدة العسكرية الخاصة بها في جيبوتي، وقد شملت تلك القاعدة ميناء بحري ومطار جوي، بل وقامت تلك القاعدة بدور محوري في مساعدة السلطات الوطنية في مكافحة أعمال القرصنة  التي تمارس بشكل مكثف بالقرب من الشواطئ الجيبوتية.(7)

الصين

تمكنت الصين عام 2014 من عقد عدد من الاتفاقيات مع الجانب الجيبوتي والتي تضمنت تعهد صيني بتمويل مجموعة من المشاريع الاستثمارية التي تقدر تكاليفها بنحو 15 مليار دولار، بحيث تتضمن تلك المشاريع مد خطوط السكك الحديدية وتأسيس بني تحتية قوية، في مقابل سماح الحكومة الجيبوتية لبكين بإقامة قاعدة عسكرية مناظرة للقواعد العسكرية الأمريكية والفرنسية واليابانية، وبالرغم من المحاولات الأمريكية المتتابعة لعرقلة تلك الصفقة إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل.(8)

وبالفعل افتتحت الصين القاعدة العسكرية الخاصة في أغسطس 2017، وبذلك تعتبر أولى القواعد البحرية الصينية بالخارج؛ فيما تستهدف تلك القاعدة إمداد سفن القوات البحرية التي تشارك في مهام حفظ السلام قرب السواحل اليمنية والصومالية.

مساعي لإنشاء قاعدة عسكرية سعودية

دفعت مستجدات الأوضاع الإقليمية والدولية خلال الخمس سنوات الماضية لاسيما اليمنية؛ المملكة العربية السعودية للبحث عن موطئ قدم لها في إفريقيا، ومن هنا بدأت الرياض التفكير في إنشاء قاعدة عسكرية سعودية بدولة جيبوتي لتكون بمثابة دعامة لضربات التحالف العربي باليمن، وبالفعل شهدت الفترة الأخيرة مباحثات كثيفة أسفرت عن وضع مشروع مسودة اتفاق أمني وعسكري بحيث لا يقتصر على انشاء قاعدة عسكرية فحسب ولكن يشمل التعاون في كل الجوانب العسكرية.(9)

تأثير القواعد العسكرية على توازنات القوى

لم تؤدِ الظروف الأمنية المضطربة إلى سعي القوى الدولية لتعزيز نفوذها عسكريًا بمنطقة القرن الأفريقي فحسب وإنما بدأت قوى شرق أوسطية تنهج نفس النهج ما جعل جيبوتي فضاءًا متسعًا لقواعد عسكرية من جنسيات مختلفة، ومن شأن هذا التكالب أن يثير تنافسًا قابلا للتحول إلى صراع مستقبلي.

ورغم ما تبديه منطقة القرن الأفريقي لاسيما دولة جيبوتي من ترحيب واسع باستضافة القواعد العسكرية، معتمدة على محورية هذا التوجه في تشكيل الدعامة الحقيقية لاقتصادها، إلا أن انتشار تلك القواعد على النحو الذي شهدته الفترة الأخيرة قد يسفر عن مشكلات تتعلق إلى حد كبير بتوازنات القوى في إقليم البحر الأحمر.

فنجد مثلاً أن الاستمرار في تدشين القواعد العسكرية من شأنه إثارة غضب دول إقليمية كإثيوبيا التي تمتلك نفوذ إقليمي متنامِ يتجسد في دورها بتسوية الصراعات ومكافحة الإرهاب إلى جانب ريادتها لبعض التجمعات الاقليمية "كالإيجاد"، ومع ذلك لم تدخل تلك الدولة في سباق للقواعد العسكرية رغم جغرافيتها القاسية منذ استقلال اريتريا عنها عام 1993.(10)

ويعزز من ذلك، أن فكرة الاستمرار في نشر القواعد العسكرية وتدريب الجيوش وتسليحها يعكس احتمالية تطور تلك المرحلة لتصل إلى مواجهات مباشرة تعيد للأذهان فترات تناحر القوى الأوروبية الكبرى منذ قرون سالفة على تفتيت موارد القارة.

ومن ناحية أخرى، فإن تزايد القواعد العسكرية الأجنبية في إقليم شرق أفريقيا بشكل عام يؤثر على التوازن الإقليمي بين الدول العربية، فدول الخليج العربي التي تبذل جهودا واسعة لتقليص النفوذ الإيراني على البحر الأحمر، لا تسعى في الوقت ذاته لاستبدال هذا النفوذ بآخر تركي أو أوروبي أو حتى شرق آسيوي، وهي المؤشرات التي تنذر باحتمال تحول تلك المنطقة على المدى البعيد إلى بؤرة  لنمط جديد من أنماط حروب وكالة بين القوى الإقليمية والدولية .

وختامًا: تتجسد خطورة الوضع بجيبوتي في سعيها الدءوب نحو استثمار حدة التنافس الدولي والإقليمي على التواجد العسكري فيها، من أجل بناء شراكات متعددة وتعظيم مكاسبها الاقتصادية للتغطية على مؤشرات العجز في التنمية الاقتصادية، في الوقت الذي يبدو فيه أن سلاح القواعد العسكرية ذي الحدين قد يؤثر على استقرار أوضاع القرن الأفريقي عامة فمن ناحية قد يوفر المال و الحماية للدول المضيفة، لكن على جانب آخر قد يجر هذه البلاد إلى توترات وعداوات وحتى إلى حروب لا تمثل هي بالأساس أي طرف فيها.

المراجع:

(1)جمهورية جيبوتي: دراسة في التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية, مركز مقديشيو للبحوث والدراسات, متاح على: http://mogadishucenter.com/2016/07  

(2)نظرة عامة على الاقتصاد الجيبوتي, مركز مقديشيو للبحوث والدراسات, متاح على: http://mogadishucenter.com/2015/

(3) المرجع السابق مباشرة.

(4) David Styan, “Djibouti: Changing Influence in the Horn’s Strategic Hub”, Chatam House, April 2013, Available at https://www.chathamhouse.org/publications/papers/view/190835

 (5)اقتصاديات القواعد العسكرية: كيف توظف جيبوتي موقعها الجيوسياسي لبناء شراكات اقليمية ودولية, مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية, متاح على: http://rawabetcenter.com/archives/22486

(6)Annette Weber, “Red Sea: Connecter and Divider.. Disruption Waves from the Arabian Gulf to the Horn of Africa”, Berlin, German Institute for International and Security Affairs, November 201, PP.4-6. Available at https://www.swp-berlin.org/fileadmin/contents/products/comments/2017C50_web.pdf

 (7) دولة عربية تستضيف 5 قواعد عسكرية, موقع سبوتنيك عربي, متاح على: https://arabic.sputniknews.com/militar /

)8) Dr. Gideon Elazar, “China in the Red Sea: The Djibouti Naval Base and the Return of Admiral Zheng He”, The Begin Sadat Center for Strategic Studies, August 2017. Available at https://besacenter.org/perspectives-papers/china-red-sea-djibouti/

 

(9) خريطة القواعد العسكرية في جيبوتي, جريدة الشرق الأوسط, ديسمبر 2016, متاح على: https://aawsat.com/home/article/8173

 (10) د.أميرة عبد الحليم, القواعد العسكرية في البحر الأحمر تغير موازين القوى, مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية, متاح على: http://acpss.ahram.org.eg/News/16525.aspx

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟