صراع الثروة والنفوذ: غاز المتوسط والتنافس الاقليمي
مع تصاعد كشوفات الغاز في منطقة شرق المتوسط، ازداد
الصراع والتنافس الإقليمي على هذه الثروات باعتبارها عامل تهديد للاستقرار بدلًا
من ان تتحول إلى عنصر استقرار في منطقة الشرق الأوسط، مما ينذر بتحفيز الصراعات، وتجددها
كالصراع التركي القبرصي، والإسرائيلي اللبناني فضلًا عن توسيع هوة الخلاف المصري
التركي الذي لم يندمل منذ عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي في 3 يوليو 2013. انطلاقًا
من هذا تدور التكهنات حول آفاق التنافس في منطقة شرق المتوسط، وهل يمكن أن يكون
غاز شرق المتوسط سببًا للتصادم بين دول الحوض خاصة عند الأخذ في الاعتبار الصراعات
التي أشرنا لها سابقًا وانعكاساتها على عمل تحالف الشركات متعددة الجنسيات العاملة
في هذه الحقول مثل شركة إيني الإيطالية، وتوتال الفرنسية، وائتلاف شركتي (Nobel Energy) الأميركية مع
(Delek) الإسرائيلية.
بانوراما
الغاز في شرق المتوسط
عقب إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسي عن اتفاقية ترسيم
الحدود البحرية بين مصر وقبرص واليونان، أُوكل أمر البحث والتنقيب عن كشوفات الغاز
في المياه الاقتصادية المصرية إلى تحالف شركة إيني الإيطالية التي أعلنت في وقت
لاحق عن اكتشاف حقل ظُهر بمنطقة امتياز شروق البحرية كأكبر كشف في تاريخ البحر
المتوسط بل والعالم وفق تقديرات الخبراء، إذ يبلغ حجم احتياطاته ثلاثين ترليون قدم
مكعب ويحتل مساحة 100 كيلومتر مربع. وقد بدأ الانتاج الفعلي للحقل أواخر 2017، ومن
المتوقع تضاعف الانتاج إلى 2.9 مليار قدم مكعبة يوميًا بحلول منتصف عام 2019.
تسعى مصر للتوسع في
كشوفاتها من الغاز لتواكب رؤيتها للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة بمنطقة الشرق
الأوسط. تعد شركة إيني الإيطالية المشغل
الرئيسي لحقل ظهر؛ حيث تمتلك 60% منه، بينما تذهب 30% لشركة روزنفت الروسية، و10%
لشركة بريتيش بيتروليوم البريطانية(1). من ناحية أخرى، تعمل إسرائيل على تعظيم
منافعها من حقول المتوسط في ظل عدم التوصل إلى فكرة حل الدولتين، بل تطمح حاليًا
لتصبح أكبر مصدر للغاز في المنطقة وذلك من خلال عقود أبرمتها مع شركات من القطاع
الخاص في كل من مصر والهند.
وتزاحم إسرائيل دولة لبنان فيما يعرف بـ "البلوك
9" الغني باحتياطات الغاز؛ حيث تصاعدت الحرب الكلامية بين البلدين، وتوعد حزب
الله إسرائيل في حال إذا شرعت في عمليات التنقيب بالمناطق المتنازع عليها. من
جانبه، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان خطوة الحكومة اللبنانية بمنح
تحالف شركات عالمي امتياز التنقيب عن النفط والغاز في مياهها الاقتصادية
ب"الاستفزازية للغاية"(2). في هذا السياق، تشير التحليلات أن شكوكًا كبيرة تدور حول الدور الإسرائيلي
الذي قد يستغل حالة عدم الاستقرار في المنطقة العربية للسطو على المزيد من الحقول في
أرض فلسطين التاريخية، أو لبنان، او حتى سوريا مستقبلًا خاصة في ظل الحديث عما
تحويه المياه الاقتصادية السورية من ثروات للغاز وما يتلازم مع ذلك من حالة الضعف
والانهيار الذي تعاني منه الدولة، وهو ما برز في حالات الاختراق المتعددة التي
تعرضت لها الأجواء السورية من قبل القوات الجوية الإسرائيلية.
الشركات
العالمية كفاعل في العلاقات الدولية
لم يعد غاز شرق المتوسط عامل إغراء وتنافس بين الدول
المتاخمة لحدوده فحسب، ولكنه انتقل إلى الشركات والتحالفات العالمية العاملة في
مجال كشوفات الغاز والنفط نظرًا لما قد تحمله منطقة المتوسط في الأمد القريب كأكبر
مصدر لاحتياطيات الغاز في العالم. وتلعب شركات القطاع الخاص دورًا كبيرًا في إدارة
العلاقات السياسية ما بين الدول. في هذا الصدد، تدور العلاقات الإسرائيلية المصرية
وفق مبدأ المصالح المتبادلة؛ حيث أعلنت شركة ديليك الإسرائيلية عن صفقة عقدتها مع شركة
دولفينوس المصرية(3). وأشارت التقارير أنه بموجب هذا الاتفاق سيتم تسوية القضايا
محل التحكيم الدولي بين الجانبين المصري والإسرائيلي؛ إذ قضت محكمة سويسرية بتغريم
مصر 2 مليار دولار لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية، وذلك تعويضًا عن الأضرار التي
لحقت بالجانب الإسرائيلي نتيجة الهجمات المتكررة على خط الأنابيب الواصل بين مصر
وإسرائيل عبر سيناء(4). يتفق ذلك مع سعي إسرائيل لتحسين الصورة الذهنية ودعم
مواقفها السياسية من خلال إبرام العقود التجارية.
من جانب أخر، شهدت العلاقات الإيطالية التركية توترًا
كبيرًا نتيجة منع الحكومة التركية لشركة إيني الإيطالية من التنقيب عن كشوفات
الغاز في جنوب غربي قبرص وفق الاتفاقيات وعقود الشراكة المبرمة بين الجانبين. وفي
هذا السياق، أرسلت روما قوة عسكرية إلى شرق المتوسط، ودعا وزير الخارجية الإيطالي
نظيره التركي إلى مراعاة المصالح المشتركة بين الجانبين تمهيدًا لتعاون محتمل
مستقبليًا(5). بالتالي، برز غاز
المتوسط كعامل محفز للصراع الإقليمي بالمنطقة بدلًا من أن يكون مفتاحًا لحل مشاكل
المنطقة.
تركيا
ومصر: مواجهة مستمرة وخلافات لم تنتهي!
أسال ترسيم حدود مصر البحرية مع قبرص واليونان لُعاب دول
جوار المتوسط خاصة مع اكتشاف حقل "ظُهر" كأكبر كشف في تاريخ المتوسط.
ظهرت آفاق التنافس ليس فقط في عمليات التنقيب والاستكشاف ولكنها امتدت من تنافس
الشركات الدولية إلى تنافس دول الإقليم للتحول إلى مركز إقليمي لتصدير الغاز كحال
مصر وتركيا.
دخلت العلاقات المصرية التركية نفقًا مظلمًا منذ ثورة 30
يونيو إثر خلافات أيديولوجية وسياسية تتعلق بطبيعة ما جرى مع نظام جماعة الإخوان
المسلمين. وتسعى تركيا حاليًا لمزاحمة مصر في غاز المتوسط خاصة بعد اتفاقيات ترسيم
الحدود البحرية مع قبرص واليونان التي أعلن عنها الجانب المصري، وعارضتها تركيا،
التي لم تتوانى في تسجيل اعتراضها في الأمم المتحدة مطالبة الاخيرة بعدم الاعتراف
بهذه الاتفاقات، ومن جانبه أعلن المتحدث الرسمي للخارجية المصرية تحذيره من أي
مساس بالمياه الاقتصادية المصرية(6). ويحاول الجانب التركي مزاحمة مصر فيما يتعلق
بتسييل وتصدير غاز المتوسط، ولكن يرى المتابعين والمحللين أن افتقاد الجانب التركي
للبنية التحتية اللازمة للتسييل والتصدير لن يساعدها في ذلك؛ حيث لم تسفر محاولات تركيا لاستكشاف الغاز
في مياهها الاقتصادية منذ 1966وحتى عام 2016 عن كشوفات تجارية تُذكر، إذ تعتمد على
الغاز الروسي والقطري لتغطية احتياجاتها الأساسية(7). وتسعى حاليًا لاجتذاب
الغاز العراقي والإيراني لتحقيق طموحاتها في التحول إلى مركز إقليمي لتوزيع الغاز
خاصة في دول شرق وغرب أوربا. ويقف ضعف بنيتها التحتية وعلاقاتها السيئة مع الجانب
الأوربي حائلًا أمام تحقيق ذلك خاصة في ظل منافسة مصر لها.
تميل كفة مصر في أن تتحول إلى مركز إقليمي لتصدير الغاز
في المنطقة متسلحة في ذلك ببنيتها التحتية المتراكمة؛ حيث أنابيب الغاز ومحطات
التسييل، بالإضافة إلى قناة السويس وموانئها البحرية المتطورة، والموقع الجغرافي
المتميز الذي يتوسط قارات العالم القديم، وعلاقاتها القوية بالدائرة الأوربية خاصة
دول جوار المتوسط (قبرص، واليونان) المعادية لتركيا. على صعيد آخر، تطفو الخلافات
الأوربية التركية، والروسية الأوربية على السطح؛ إذ تسعى أوربا للخروج من العباءة
الروسية، وذلك عن طريق تنويع مصادرها من الطاقة خاصة عند الأخذ في الاعتبار شراكات
الغاز التي أبرمتها تركيا مع دولة روسيا الاتحادية في زيارة بوتين الاخيرة لأنقرة
في 7 أبريل 2018.
القوات
البحرية: قوة مصر الضاربة في المتوسط
شهدت السنوات القليلة الماضية طفرة في عملية إعادة تحديث شاملة لأفرع القوات المسلحة المصرية المختلفة خاصة الأسلحة ذات الأدوار النوعية كالقوات البحرية، التي أظهرت بعد نظر الجانب المصري فيما يتعلق بثروات الغاز في المتوسط، فحقوق مصر في غاز المتوسط تحتاج إلى قوة تحميها. عملت الحكومة المصرية عمليًا على تطبيق هذه الاستراتيجية؛ حيث تنوعت صفقات التسليح ما بين فرنسا، وروسيا، والصين، وألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية.
وادخلت القوات البحرية حاملتي الطائرات الفرنسية "الميسترال" إلى أسطولها كأول قوات بحرية تمتلك حاملة طائرات في المنطقة. برزت الأهمية الاستراتيجية لهذه الصفقات بعد الإعلان عن كشوفات الغاز في قلب المتوسط وتزايد أطماع دول إقليمية كتركيا في ثروات المتوسط؛ حيث وجهت مصر (وفق تقارير إعلامية مصرية) حاملة الطائرات من طراز "ميسترال" نحو حقول الغاز شرق البحر المتوسط عقب تصريحات وزير الخارجية التركية بشأن عدم اعتراف بلاده باتفاقات ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص في ديسمبر 2013 للاستفادة من المصادر الطبيعية في شرق المتوسط(8).
الهوامش
(1) مارسيل نصر، شركة مصرية خاصة تعاقدت لاستيراد غاز من
إسرائيل بـ 15 بليون دولار (20/2/2018)، الحياة، على الرابط: https://goo.gl/fSQoHt
(2) "لبنان
يقول إنه سيمنع إسرائيل من بناء جدار حدودي" (7/2/2018)، رويترز، على
الرابط: https://goo.gl/McZdku
(3) "دولفينوس"
المصرية توقع اتفاقيتين لتصدير الغاز الإسرائيلي" (19/2/2018)، البوابة
نيوز، على الرابط: http://www.albawabhnews.com/2952948
(4) وسام عبد العليم، الأسباب التي دفعت شركة
قطاع خاص مصرية لإبرام صفقة استيراد غاز من إسرائيل (21/2/2018)، بوابة الأهرام،
على الرابط: http://gate.ahram.org.eg/News/1830550.aspx
(5) سعيد
عبد الرازق، تركيا للتهدئة
في «إيجه» مع اليونان... وإيطاليا للتصعّيد في ملف غاز المتوسط (15/2/2018)، الشرق
الأوسط، على الرابط: https://goo.gl/aJR29Q ، وللمزيد من المعلومات حول ملابسات الخلاف
التركي الإيطالي، أنظر: "
قبرص: تركيا تعرقل عمل سفينة تنقب عن الغاز في شرق المتوسط"
(28/1/2018)، رويترز، على الرابط: https://goo.gl/ncpZmq
(6) "مصر ترد على تركيا حول نفط المتوسط: سنتصدى
للمساس بحقنا" (7/2/2018)، سي إن عن عربية، على الرابط: https://goo.gl/HDwvmt
(7) اتفاق "السيل التركي"
نقطة تحول في طاقة تركيا (تسلسل زمني)، وكالة أنباء الأناضول، على الرابط: https://goo.gl/HWPPtM
(8) البحرية المصرية قوة رادعة لحماية الأمن القومي" (19/10/2017) ، الشرق الأوسط، على الرابط: https://goo.gl/vcwAc2