الموقف الأوروبي من الاتفاق النووي مع إيران
مقدمة
من
المهم لمن يريد تحليل العلاقة الأوروبية الإيرانية أن يستحضر حقيقة أن السياسة
الخارجية الأوروبية إنما تبنى على المصالح لا المبادئ، وأن هذه المبادئ التي تؤسس-نظرياً-
للعلاقات الدولية، سرعان ما تتبدل وتتغير ويتم تجاوزها إذا ما تعارضت مع أي مصلحة
مباشرة.
هذا
الأمر، للإنصاف، لا يتعلق فقط بالدول الغربية أو الأوروبية، وإنما تبقى المصلحة
الاقتصادية خاصة، ثم الأمنية، هي المحرك الأساسي الذي يقود عجلة الحراك الدبلوماسي
لأغلب دول العالم، التي تتحرك وفق بوصلة المصلحة. لكن الفارق يبقى في حالة التناقض
الأوروبية التي تقدم دروساً بليغة، ليل نهار، حول الحريات والديمقراطية وحقوق
الإنسان، معلنة أنها بصدد وضع استراتيجية جديدة لربط العلاقة مع أي طرف كان بمدى
احترامه لهذه القيم. الأمر يبدو بالفعل أقرب للتناقض أو الشيزوفرينيا، مقارنة
بواقع العلاقات الأوروبية، والظاهر من تحركاتها الخارجية، فقد يتم انتقاد حالة
الحريات في بلد بشدة في منبر من المنابر ثم يتم في الوقت ذاته، وعبر منبر مجاور،
توقيع اتفاق للدخول مع ذات البلد في شراكة استراتيجية.
حين تستمع للبيانات الأوروبية
التفصيلية حول حجم الانتهاكات والجرائم، وحالة انعدام الروح السياسية في بلد من
البلدان تعتقد أن هذه البلاد
الحرة سوف تعمد في القريب العاجل لمعاقبة ذلك النظام على ما اقترفه، أو أنها ستتجه
على الأقل لفرض عقوبات عليه وتعليق التعاون معه في مجالات الاقتصاد والتجارة، لكنك
سرعان ما تتفاجأ، وفي الكثير من الحالات والأمثلة، بأن كل ما قيل كان مجرد ذر
للرماد في العيون. رماد لم يمنع انسياب العلاقات السياسية والتعاون في الكثير من
المجالات، ولم يرق حتى لدرجة تعطيل حركة تبادل الزيارات على أرفع المستويات.
يبدو
الأمر أشبه بلعبة، تصريحات ترضي المهتمين بمسألة الحريات، خاصة المنظمات الحقوقية
في الداخل والخارج، وأفعال تحقق مصالح لوبيهات المال والاقتصاد وتخدم تصورات
الفاعلين السياسيين وتعريفهم للمصلحة، وهو تعريف قد لا يكون مرتبطاً بالضرورة
بالمصلحة المادية المجردة، بل قد تكون وراءه دوافع أيديولوجية (موقف اليمين من
الإسلام مثلاً).
تجميلاً
لهذا الموقف السائل يطلق على هذه السياسة في الأدبيات الدبلوماسية اسم
«البراغماتية» التي تربط العلاقات الخارجية بشكل وثيق بالمصلحة. سياسة تتميز
بالقدرة على التماوج والتلون كحرباء، بحسب الريح وبحسب تغير اتجاه البوصلة.
يدافع
هؤلاء البراغماتيون عن سياستهم تلك بقولهم، إنهم لا يستطيعون التوقف عن التعامل مع
دولة مهمة تمدهم بموارد أساسية أو حيوية، حتى لو أدى الأمر لغض الطرف عن حالة حقوق
الإنسان فيها. هذا الأمر يبدو مفهوماً لولا الفذلكات والدروس المجانية، التي تجعل
هذه الدول تتربع على منصة إطلاق الأحكام، والتي تجعلها تعطي نفسها الحق في تقييم
حالة الحريات وحقوق الإنسان في جميع دول العالم. سلاح المعاقبة والمقاطعة واللغة
الأكثر قسوة يستعمل في نطاقات أخرى، وضد أطراف معينة، وذلك لا يكون بسبب أن هذه
الأطراف هي الأكثر إجراماً، أو أنها أتت بما لم يأت به الأوائل في عالم الاستبداد
والفساد، بقدر ما يكون بسبب أن المصلحة الآنية لا ترتبط كثيراً بذلك البلد، وهو
أمر سلبي لأنه يشير إلى أن بعض الدول تبدو سيئة الحظ، بسبب موقعها أو بسبب ضعف
مكانتها الدولية، ما يجعلها تتحمل النصيب الأكبر من السهام على عكس غيرها. لكن ذلك
المنطق في الوقت ذاته، يحمل بعض الأمل والإيجابية إذ يبقي باب التغيير مفتوحاً،
بمعنى أن الأمور قد تتغير إذا تغيرت وجهة المصلحة.
هذه
المعادلة أدت لتغيير نظرة الدول لمسألة الحريات والحقوق الأساسية، فبدلاً من أن
تعمل على تحسين أوضاعها الداخلية بشكل يجعلها أقرب لمبادئ أوروبا المزعومة، راح
الكثير منها يتخذ مساراً التفافياً عبر اللعب على حبل المصلحة بالتسويق لنفسه وربط
مشروعه بالمشروع الأوروبي، تارة بالتلويح بورقة المال والتجارة وتارة عبر دغدغة
الوتر الأمني بالدعاية للدور الذي يمكن أن تلعبه في «محاربة الإرهاب». العبارة
الرنانة والفضفاضة لكن التي تساعد في كسب تعاطف الكثيرين ممن لا يدركون حقيقة أن
تحالف الغرب مع الاستبداد ومد رموزه بأطواق النجاة وأسباب الحياة، هو أهم أسباب
تقوية ظاهرة التطرف والإرهاب.
ليس
كل الأوروبيين راضين عن تلك الطريقة التي تمارس بها السياسة الخارجية لبلدانهم، بل
يجد الكثير من المثقفين هناك أن التعاطي مع قضايا العالم الثالث يمثّل في كثير من
الأحيان إحراجاً لهم، حين يتم التعامل بانتقائية وبحسب تقلبات المصلحة، وهو ما
اتضح بشكل كبير في شكل ردود الأفعال الغربية والأوروبية على أحداث الربيع العربي،
وما تلاه من تطورات حتى اليوم. ينتقد كثير من الأوروبيين كذلك الطريقة التي تمرر
بها الشراكات الاقتصادية والتي تبدو في كثير من أمثلتها أقرب لمعادلة المال مقابل
غض الطرف عن الانتهاكات، بل إن الأمر يصل أحياناً درجة الرشوة حين يتم دفع مبالغ
طائلة ثمناً لصفقات خاسرة أو لا تستحق..(1)
ماذا عن إيران؟
إيران كانت
من الدول التي تدرك هذه الحقيقة أكثر من غيرها ولذلك فقد سعت لربط مصلحتها الذاتية
بالمصلحة الأوروبية حتى وصلنا للمرحلة الحالية التي تظهر فيها الدول الأوروبية وهي
تدافع بشكل مستميت عن هذه المصلحة المشتركة المتمثلة في اتفاق نووي "يجعل
العالم أكثر أمناً".(2)
من أجل
فهم الموقف الأوروبي من الاتفاق النووي يجب التذكير ببعض الحقائق المهمة في سياق
العلاقة بين الجانبين:
1-
ساهمت الدول الأوروبية في عهد ما قبل الشاه في تأسيس
المشروع النووي الإيراني ومده بالخبرة اللازمة والتقنيات المتطورة وكان لدول مثل
فرنسا وألمانيا القدح المعلى في ذلك. كانت محطة بوشهر النووية بالأساس مساهمة
ألمانية في حين تعاونت عدة دول أخرى مع إيران في سبيل إمدادها بالوقود النووي.
2-
أنقذت الدول الأوروبية إيران حينما نصحتها بالانصياع
للقانون الدولي إبان هجوم الرئيس الأمريكي جورج بوش على العراق وقد كان لهذه
الانحناءة الإيرانية الاستراتيجية وما نتج عنها من فوائد إبان غزو العراق
وأفغانستان دور كبير في إنقاذ النظام الإيراني من أي ضربة أمريكية محتملة خاصة وأن
طهران كانت على قائمة أعداء الرئيس جورج بوش.
3-
في الوقت الحالي يمكن ملاحظة أن الدول الأوروبية تلعب
ذات الدور المتمثل في محاولة حماية إيران من الدخول في حرب مكشوفة مع الولايات
المتحدة بالتركيز على التبعات السلبية لذلك على مجمل المنطقة. الأولوية الأوروبية
تبدو متمثلة في الوقت الحالي في الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران والدفاع عنه
أمام أي محاولة لنقضه.
هذا الوضع
الجديد وهذا الإصرار على حماية الاتفاق الذي يحقق مصلحة استراتيجية لإيران وبعض
المصالح الآنية للدول الأوروبية جعل الأمر يبدو وكأنما هناك تحالف بين الطرفين
الإيراني والأوروبي في مقابل تهديدات الشريك الأمريكي.
تحالف أوروبي إيراني؟
لقد استخدمتُ كلمة تحالف من قبل في هذا السياق(3)
رغم ما يبدو بداخلها من مبالغة وهو ما سيتوجب بعض التوضيح حيث يبدو وصف العلاقة
الأوروبية الإيرانية بالتحالف غريباً لكثير من المتابعين.
هذا أمر يمكن فهمه خاصة مع استحضار حقيقة أن هناك
من الباحثين من يرى أن الحديث الرائج عن وجود تحالف بين الطرفين الروسي والإيراني
اللذين يشتركان سياسياً وعسكرياً ويمتزجان فعلياً على أكثر من جبهة، هذا الحديث
والوصف الرائج لا أساس له وإنما هي تكتيكات مؤقتة أملتها الضرورة.
وإذا كان الأمر كذلك فسيكون الأمر أصعب بالنسبة
لهؤلاء فيما يتعلق بالعلاقة بين الدول الأوروبية وإيران مع ما بين الجانبين من
خلافات.
للخروج من هذا المأزق وحتى لا ندخل في مغالطات
فلسفية لسنا بحاجة إليها اقول أنني أستخدم كلمة تحالف في معناها اللغوي البسيط وهو
الاتحاد من أجل بلوغ هدف معين أو ضد تحدٍ مشترك لا بمعنى التماهي الكامل الذي قد
يشق طريقه لأذهان البعض. نذكّر هنا بأن التماهي وانطباق الأجندات لا يتوفر حتى بين
طرفين حميمين كروسيا وإيران أو روسيا والصين أو الاتحاد الأوروبي والولايات
المتحدة أو غير أولئك من الفاعلين السياسيين الذين نتعامل معهم في أحيان كثيرة وكأنهم
جزء من معسكر واحد.
الهدف المشترك هنا هو تثبيت الاتفاق النووي والحقيقة
التي ننطلق منها هي أن هذه الدول شكلت الحماية الحقيقية لإيران في وجه التهديدات
الأمريكية، حماية لولاها لنفّذ الرئيس دونالد ترامب تهديداته بنقض الاتفاق بكل ما
يعنيه ذلك من تداعيات.
لا يمكن لأحد
أن ينكر أن الاتحاد الأوروبي، برغم خلافاته
المبدئية مع إيران، قد ظل يرفض محاولات الإدارة الأمريكية إعادة عقارب الساعة إلى
الوراء، وإعادة إيران لمربع العقوبات والاستبعاد من الساحة الدولية وأنه تحمل في
سبيل ذلك ضغوطاً كثيرة.
باستحضار هذه المعطيات يمكننا أن نتجاوز التساؤل عن وجود هذا التحالف، أو سمها إن شئت "علاقة المصلحة"، بين أوروبا وإيران للانتقال لبحث أسباب هذه العلاقة الحميمة التي برزت للعلن بشكل مفاجئ.
أسباب الرهان الأوروبي على الاتفاق
بالنسبة لداعمي الاتفاق النووي من الأوروبيين فإن هذا الاتفاق يخدم
بالفعل المصالح الأوروبية، فمن الناحية الأمنية ستكون إيران حريصة على التوقف عن
تهديد الأمن الغربي، بما في ذلك ضمان ألا يشكّل ذراعها "حزب الله"
المتمدد سورياً أي تهديد على الكيان الصهيوني الحليف. أما من ناحية السوق والاقتصاد،
فإن انفتاح السوق الإيراني على الشركاء الغربيين بعد عقود من العزلة سوف يوفر بلا
شك مصلحة مهمة للقارة الأوروبية التي باتت تعاني من الشيخوخة والتي بدأ الركود
الاقتصادي يتسرب إلى الكثير من مفاصلها حتى وصل الأمر حد التشكيك في جدوى الاتحاد
الأوروبي نفسه كمؤسسة.
أوروبا هي المستفيد الاقتصادي الأكبر، حيث يبدو السوق الإيراني
مفتوحاً أمامها خاصة مع نأي الولايات المتحدة
ورفضها الانخراط في أي شراكة اقتصادية مع طهران.
العنوانان الأمني والاقتصادي هما الأبرز في هذا
السياق بشكل يجعل من الممكن لأي سبب آخر أن يندرج تحتهما. أسباب أخرى من قبيل:
1- محاولة الدول
الأوروبية اتقاء شرور إيران عبر الارتباط معها بعلاقة مصلحة طويلة الأجل من ناحية
وعبر منعها ليس فقط من تطوير العتاد النووي، ولكن أيضاً من تطوير أي نوع من
الأسلحة المحرمة أو الفتاكة، بدون تنسيق مع الشركاء الغربيين من ناحية أخرى.
2-
بحثاً عن المصلحة الأوروبية، رأى منظرون وساسة أوروبيون آخرون أن
من المطلوب الانخراط مع إيران، ذات الثقل الجيوسياسي المهم في المنطقة، وذلك
للاستفادة من هذا الانخراط في تحقيق قدر من التوازن مع معسكر الدول السنية عبر بعض
الشراكات التي تكون أقرب للابتزاز من مجرد علاقة ربح للطرفين.
3- لا يمكن تجاهل أن العلاقة
الاستراتيجية مع طهران توفر أيضاً الحماية اللازمة للكيان الصهيوني، الذي هو بشكل
أو بآخر، جزء من النادي الغربي. المفارقة المحرجة هي تمخض هذه العلاقة عن نتيجة
مفادها أن تعمل «دولة المقاومة» على ضمان أمن وسلامة حدود الكيان، رغم إيفادها
للآلاف من المقاتلين، الذين سيكونون على تماس مع حدوده، ورغم الوجود المسبق
لذراعها اللبناني الذي يملك سلاحاً وعتاداً نوعياً.
هناك بهذا المعنى شكل من أشكال التحالف الذي يظهر
في عدة أشكال، أهمها الدعم اللا محدود للاتفاق النووي ولإيران ضد التهديدات
الأمريكية. هنا تبدو مقترحات العقوبات الأوروبية ضد بعض الكيانات الإيرانية وكأنها
محاولة لتشتيت الانتباه من أجل إقناع الولايات المتحدة بالاكتفاء بهذه العقوبات
الرمزية وعدم المساس بجوهر الاتفاق النووي.
هناك مع هذا أشكال أخرى لهذا التحالف الوليد وهي
التي تتمظهر بوضوح في عدة مشاهد إقليمية أبرزها الأزمة السورية. صحيح أن هناك بعض
الانتقادات الأوروبية التي تظهر بين الحين والآخر للتدخل الإيراني هناك، إلا أن
نظرة مقارنة سريعة لهذه التصريحات مع تصريحات وردود أفعال متعلقة بأطراف إقليمية
أخرى (تركيا وعملية غصن الزيتون مثلاً) قد توضح إلى أي مدى يبدو الموقف الأوروبي
بعيداً عن الموضوعية، وذا ليونة تحكمها المصلحة.(4)
الانفتاح الإيراني: فوائد للجانبين
كلا الطرفين، الأوروبي والإيراني، كانا ينتظران فوائد وعوائد الاتفاق
الاقتصادية والتجارية. إيران التي كانت خياراتها في السابق محدودة والتي استنزفت
نفسها من خلال تدخلاتها العسكرية الخارجية ودعمها غير المحدود للمجوعات الفوضوية
في أكثر من مكان، وأوروبا التي كانت تتلهف لدخول السوق الفارسي بعد رفع العقوبات
بشكل كامل عنه.
هكذا كان الاتفاق بالنسبة لإيران مصلحة وطنية تقدم طوق النجاة
لاقتصاد أنهكه الانفاق العسكري وأضعفه تهاوي أسعار النفط. كانت بالفعل صفقة مربحة
تحصل بموجبها إيران بشكل فوري على 400 مليون دولار، هذا بخلاف تحرير مبالغ مجمدة
تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. كل هذا سيتم بلا مقابل من الجانب الإيراني سوى
القليل من التعهدات اللفظية بتحسن السلوك واحترام الجوار.
الاتفاق، أو الصفقة بالأحرى، كان يتعلق بالدرجة الأولى بإنعاش اقتصاد
الجانبين. أما حماس الأوروبيين وابتهاجهم به فقد ظهر في السرعة التي بدأت فيها
الوفود من مختلف البلدان بالتوافد على طهران، كما ظهر في الحفاوة التي استقبل بها
الرئيس روحاني في العواصم الأوروبية، ولعلنا نذكر كيف غطى المسؤولون في إيطاليا
تماثيل روما التاريخية العارية التي يفتخرون بها إبان زيارة الرئيس الإيراني.
أما المقاربة التي كانت تتحدث عن مقايضة الاتفاق بتحسين السلوك
الإيراني والتي روّج لها بعض الأكاديميين والسياسيين فلم يكن لها وجود في واقع
المحادثات التي لم يناقش فيها أي طرف، ويتساوى في ذلك الأوروبيون والأمريكيون في
زمن أوباما، المعنى السياسي لتحسن السلوك وما يمكن طلبه من إيران في هذا الصدد.
كان الحديث يدور في غالبه عن قطع الجزر المغرية: الإلغاء التام والوشيك للحظر
التجاري على إيران وتمكن الدولة الخارجة من الحصار في وقت قريب من شراء الذهب
والمعادن الثمينة وصيانة الطائرات المدنية وغير ذلك من تفاصيل الاقتصاد والتجارة
كالفوائد المترتبة على الجانبين الإيراني والأوروبي من تطوير الأولى لأنشطتها
المتعلقة بصناعة السيارات أو المواد البتروكيميائية أو حتى السجاد.
لم يكن من المطروح أن يشرع أي مفاوض غربي في الضغط على طهران
وتهديدها بإلغاء الاتفاق إذا ما واصلت مشاريعها الفوضوية في المنطقة، وذلك ببساطة
لأنه في هذه الحالة فإن الخسارة لن تكون فقط من نصيب الجانب الإيراني ولكنها ستكون
كذلك خسارة فادحة للجانب الأوروبي الذي بدأ بعض رجال أعماله بالفعل وبعد أيام من
اكتمال التوقيع على الاتفاق مشاريع تتجاوز قيمتها ملايين الدولارات. هذا هو ما جعل
الاتفاقية تبدو لكثير من المراقبين كصفقة مضمونها أن تسلّم طهران مفاتيح اقتصادها
للغربيين وتمنحهم وضعاً مريحاً للتبادل التجاري والاستثمار مقابل غض النظر عن
تجاوزاتها وعبثها في أركان المنطقة.
"الربط
الاقتصادي" بهذه الطريقة كان ناجحاً في تحييد مواقف الكثير من الدول
الأوروبية التي ظلت ترفض بقوة عودة إيران لمربع الحظر والعقوبات، ما أدى لعجز
الولايات المتحدة عن تنفيذ تهديداتها بتمزيق الاتفاق، أو حتى مراجعته، واكتفائها
بفرض عقوبات أحادية.
مهمة الأوروبيين الصعبة
كانت مهمة الحفاظ على الاتفاق التي تبناها الطرف الأوروبي معقدة منذ
البداية، ليس فقط بعد تولي الرئيس دونالد ترامب مقاليد الحكم في الولايات المتحدة
وما تبع هذه المرحلة من تهديدات انتهت بجلب فريق جديد أكثر تشدداً في هذه المسألة،
ولكن بسبب أن رفض الاتفاق لم يكن يقتصر على الجانب الأمريكي ولكن هناك جهات كثيرة
ومؤثرة في الداخل الإيراني قد بدت رافضة للاتفاق لأسباب مختلقة وقد شجعها التعنت
الأمريكي على التمسك بموقفها أكثر.
هذا الجانب الخاص بالداخل الإيراني قليلاً ما يحظى بالاهتمام اللازم،
فليس صحيحاً أن الولايات المتحدة هي المهدد الرئيس للاتفاق ويكفي في هذا الاستماع
لرأي علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي والذي يتبنى الرأي الذي يدعو
لاستباق الانسحاب الأمريكي بانسحاب إيراني وهو رأي الكثير من النافذين خاصة من
المرتبطين بالحرس الثوري والذين يرون في نجاح الاتفاق النووي بشكله المعلن والذي
قد يقود لتفكيك الحرس الثوري ومؤسساته تهديداً لمصالحهم.
هكذا يجد الأوروبيون أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه، فهناك من جانب
متشددون أمريكيون على رأسهم الرئيس ترامب نفسه ومستشاره للأمن القومي جون بولتون
واللذان يتفقان على أن لا فائدة ترجى من محاولة تعديل الاتفاق النووي وأنه يجب
إلغاؤه وهناك من الجانب الآخر المتشددون الإيرانيون الذين كانوا بالأساس قد قبلوا
هذا الاتفاق على مضض وهم يرون الآن أن الفرصة قد سنحت للقفز عنه.
لا يريد الأوروبيون خسارة الولايات المتحدة وإعلان تحديها بشكل سافر،
لكنهم لا يريدون في ذات الوقت التضحية بالامتيازات التي طالما انتظروها بشأن السوق
الإيراني. في ذات الوقت تجد دول مثل فرنسا نفسها مجبرة للتطرق لدور إيران في سوريا
واليمن ولبرنامجها الصاروخي الذي يهدد الأمن الإقليمي والاتفاق مع الأطراف الغربية
في آنٍ واحد.
هو موقف لا يحسد الأوروبيون عليه، ومع تزايد التباين بين الأطراف
المختلفة نشأت حاجة ملحة لإعادة تقييم الفوائد والمصالح وهي المرحلة التي نحسب أن
الفضاء الأوروبي يعيشها حالياً.
متغيرات وتحديات
حالة إعادة التقييم التي ذكرناها سوف تلفت الانتباه لعدد من
المتغيرات والتحديات الجديدة والمهمة التي يمكن حصرها
ضمن عنوانين كبيرين هما:
(1) الجانب الاقتصادي
بعد مرور قرابة الثلاثة أعوام على التوصل للاتفاق
النووي اكتشف كثير من الأوروبيين المدفوعين بالرغبة في تحسين الوضع المالي
لبلدانهم أن المزايا الاقتصادية التي توقعوها، والتي بشرت بها الدراسات والأبحاث،
لم تتحقق، لأسباب كثيرة، أهمها الموقف الأمريكي الذي استطاع إيقاف انسياب الأموال،
وعطل نسبة كبيرة من حركة التعامل التجاري مع إيران. صحيح أن الاتحاد الأوروبي ادعى
لوهلة قدرته على تجاوز عقبات واشنطن، إلا أنه بدا في الأخير محكوماً بالقواعد التي
تضعها الدولة ذات التأثير الأكبر.
(2) ما يتعلق بالسلوك الإيراني
يمكن للمتابع أن يرى بوضوح أن إيران بعيدة فعلاً عن
مساندة نفسها أو عن محاولة تحسين صورتها بحيث تظهر كدولة طبيعية وراغبة في العيش
بسلام ضمن جوارها وهو ما يحرج بشدة أي حليف مفترض لها. هذا يظهر من خلال عدد من
الإجراءات الإيرانية التي بدت لحلفائها غير مبررة والتي يمكننا أن نذكر منها هنا:
1-
التمادي في
مساندة التمرد الحوثي في اليمن ومده بالصواريخ الباليستية التي هددت أكثر من مرة الأمن
السعودي والإقليمي.
2-
إرسال إيران منتصف فبراير الماضي طائرة بدون طيار
داخل حدود ما يعتبره الغربيون «عمقاً اسرائيلياً»، ما أدى لاستهدافها والدخول في
اشتباك محدود سقطت إثره طائرة تابعة للكيان.
3-
أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إن إيران
أخبرتها بأنها تنوي بناء مفاعلات نووية بحرية. حتى الآن تتوفر معلومات قليلة حول
ذلك، ما يجعل من الصعب الجزم بما إذا ما كان ذلك مجرد مناورة سياسية، أم أنه أمر
جاد يستوجب قلق المجتمع الدولي بما فيه الحليف الأوروبي.
4-
كشفت المخابرات
الألمانية مؤخراً عن أنشطة لخلايا جهاز الاستخبارات التابع للحرس الثوري الإيراني
داخل ألمانيا. المفارقة هي أننا نتحدث هنا عن إحدى أهم الدول الأوروبية
الداعمة لإيران ضد محاولات إفشال الاتفاق النووي. تقول الأخبار التي تداولتها
وسائل الإعلام بهذا الصدد أنه قد تم إلقاء القبض على ما لا يقل عن عشر أفراد كانوا
منخرطين في نشاطات مكثفة للتجسس على مسؤولين ومنظمات في ألمانيا.(5)
هذه مجرد أمثلة على خطأ المراهنة المطلقة على نظام الولي الفقيه الذي
يتصرف في كثير من الأحيان برعونة تفتقر إلى المنطق. لن تكون مثل هذه الأخبار مدهشة
لنا نحن الذين جربنا "الانخراط البناء" على الطريقة الإيرانية في العالم
العربي ورأينا كيف تتصرف إيران مع الدول التي تفتح لها أبواب التعاون وتقدم لها
أطواق النجاة الاقتصادية والسياسية. اليوم تتكرر ذات المشاهد أوروبياً، ففي الوقت
الذي يحتاج فيه النظام الإيراني لدعم الجانب الأوروبي، وخاصة ألمانيا ذات الثقل
الكبير فيه، تجده يجبر الأخيرة على استدعاء السفير الإيراني لديها ونقل احتجاج
رسمي إليه.
خلاصة: كيف يمكن رؤية مستقبل العلاقة بين الطرفين؟
الموقف الأوروبي الحالي ما يزال يبدو قريباً من الشركاء الإيرانيين،
إلا أن من المستبعد أن يظل الحال كما هو عليه لوقت طويل وذلك لعدة أسباب تتعلق
بواقعية تحقيق هذا الاتفاق للمصالح الأوروبية:
أولاً: صحيح أن أوروبا الآن في أضعف حالاتها الاقتصادية وهو ما
يجعلها مجبرة، لحد كبير، على عدم التفريط في المكاسب الاقتصادية التي يقدمها لها
هذا الاتفاق، إلا أنه يجب مع التطورات الحالية إعادة تقييم هذه المكاسب، ففي ظل
العقوبات الأمريكية التي تعوق دون تدفق المليارات الموعودة لإيران كما تحول دون
انفتاح سوقها بالشكل الذي كان متوقعاً يكون من المبالغة الرهان على الدولة التي
تعاني من أزمة اقتصادية خانقة كادت تودي باستقرارها السياسي.
ثانياً: طالما أن المسألة هي ربح وخسارة منفصلة عن أي شيء آخر، فإنه
يجب تقييم الخسائر التي تترتب على الانخراط السياسي والاقتصادي مع نظام الولي
الفقيه الذي يدخل في حرب مباشرة أو بالوكالة مع أطراف خليجية يرتبط بها الاقتصاد
الأوروبي ويخلق معها شراكات ثابتة.
ثالثاً: حتى وإن اقتنعنا بأن التهديدات الإيرانية الموجهة بشكل مباشر
إلى الأمن الأوروبي هي قليلة أو منعدمة (رغم أن ذلك غير صحيح بدليل مسألة جواسيس
ألمانيا)، فإن تهديدات إيران الإقليمية ليست بعيدة، وإشعالها لنيران الحروب
وتسببها بعدم الاستقرار في الجوار يؤدي في المحصلة لموجات هجرة ونزوح باتجاه
أوروبا التي بات تدفق المهاجرين يشكل لها هاجساً أمنياً واقتصادياً.
رابعاً: نعيش حالياً فترة تشتت الرؤية
الأوروبية بشكل يجعل من الصعب الحديث عن إجماع أوروبي حول معظم القضايا، بما فيها
الاتفاق النووي، حيث تعمل كل دولة على التعاطي مع الملفات والقضايا وفق منظور
مصلحتها الوطنية وهو ما يؤدي إلى ظهور الاختلاف في وجهات النظر. الأمر الذي بدأت
ملامحه تتشكل الآن.
خامساً: مع التغيرات الراديكالية على مستوى هرم السلطة في واشنطن يصبح من غير المستبعد أن تلجأ الإدارة الأمريكية من أجل حسم الموقف إلى اتباع طريقة "إما معنا أو ضدنا" التي سبق أن استعملها الرئيس جورج بوش من أجل التحشيد وتوحيد الصف العالمي خلف أهدافه. في هذه الحالة سيكون من الخطر جداً على الدول الأوروبية أن تتابع لعبة التحدي وتقاسم النفوذ مع الولايات المتحدة أو أن تلعبها لصالح طرف لم يكن في أي يوم من الأيام بمثابة الشريك الجاد أو الحليف الذي يمكن الاعتماد عليه أو الوثوق الكامل به.
الهوامش
(1) نشر هذا الجزء في مقال تحت عنوان: أوروبا ودبلوماسية المصلحة.
صحيفة القدس العربي بتاريخ 21/3/2018.
(2) هذا التصريح متكرر خاصة على
لسان السيد فريدريكا موغيريني مسؤولة الأمن والعلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي
أنظر على سبيل
المثال الخبر المنشور على موقع قناة الجزيرة بتاريخ 11/1/2018 تحت عنوان: أوروبا:
لا بديل عن الاتفاق النووي مع إيران.
(3) أنظر مقالنا: هل يصمد التحالف
بين الاتحاد الأوروبي وإيران، صحيفة القدس العربي، بتاريخ 7/3/2018
(4) الحالة السورية تقدم درساً مهماً في هذا الإطار حيث توضح إلى أي
مدى يكون حساب المصلحة المجرد خاطئاً،
فالنتيجة التي يراها الأوروبيون قبل غيرهم هي فشل سياسة النأي بالنفس عن أي تحيز
أخلاقي، حيث يتضح أن الجحيم السوري ليس مجرد فخار يكسّر بعضه وفوضى غير مهمة طالما
أنها خارج الحدود الأوروبية مثلما كان يصرّح بلا خجل بعض الساسة الأوروبيين، بل
مأساة تتجاوز تداعياتها الإقليم، لتصل حد التهديد الأمني لأوروبا نفسها.
(5) الخبر في موقع دويتش فيله الألماني وموقع بي
بي سي.
http://www.dw.com/en/raids-across-germany-target-suspected-iranian-spies/a-42165145