تحولات خريطة التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط
تمر منطقة الشرق الأوسط بحالة من العصبية يسيطر عليها حالات صراع
طائفية ومذهبية وانتشار مخاطر التطرف والإرهاب في اغلب الدول العربية، علاوة على تصعيد
التنافس السياسي والعسكري بين القوى الإقليمية الكبرى في تغير معادلات التوازن
الاستراتيجي عبر الاشتباكات المباشرة أو الحروب بالوكالة. وتعد كل من إيران وتركيا
ومصر والسعودية وإسرائيل القوي الأساسية في المنطقة التي تسعى كل منهم بأن تكون هي
القوة العظمى في المنطقة دون غيرها.
مفهوم التوازن الاستراتيجي
ووفقا لمفهوم التوازن الاستراتيجي في الأدبيات العلوم السياسية يعرف بأنه
الحالة التي تتعادل وتتكافا عندها المقدرات البنيانية والسلوكية والقيمية لدولة ما
منفردة أو مجموعة من الدول المتحالفة فيما بينها، مع غيرها من الوحدات السياسية
المتنافسة معها، بحيث تضمن هذه الحالة للدولة أو مجموعة الدول المتحالفة، ردع أو
جبه التهديدات الموجهة ضدها من دولة أخرى أو أكثر، وبما يمكنها أيضا من التحرك
السريع وحرية العمل في جميع المجالات للعودة إلى هذه الحالة عند اختلالها لتحقيق
الاستقرار.
عناصر التوازن الاستراتيجي
يتكون التوازن الاستراتيجي من عدة عناصر أولها القوة القومية للدولة أي
العنصر الجيوبوليتيكي المعني بأن المساحة تهيء القوة والقوة تصون وتحافظ على
المساحة، والعنصر الثاني القوة الاقتصادية والعنصر الثالث القوة العسكرية، والعنصر
الرابع هو الإدارة السياسية، والعنصر الخامس توازن المكانة أي التوافق بين قوتها
ودورها حيث يؤدي فقدان المكانة إلى إضعاف قدرة الدولة على التأثير الفعال في
التفاعلات السياسية في النسق الإقليمي، والعنصر السادس توازن القوي أي توازن
السياسات الفاعلة في النسق الإقليمي والنسق الدولي وهو مفهوم ظهر بعد مؤتمر
وستفاليا 1648 اثر حرب الثلاثين عاما وتكرس في مؤتمر فيينا عام 1815.
وبتحليل بيئة الشرق الأوسط وفقا للعناصر السابقة نجد أنها تعاني من
فقدان حالة التوازن الاستراتيجي، حيث تسود حالة من اللا توازن بين القوى الإقليمية
الخمس إيران وتركيا ومصر والسعودية وإسرائيل، وترغب كل واحدة منهم التوسع على حساب
الآخرين والحفاظ على مكانتها، ويرجع السبب لانعدام حالة التوازن الاستراتيجي في
الشرق الأوسط سببين أساسين، الأول يتمثل في ضعف قوة العراق بعد الاحتلال الأمريكي
عام 2003، والسبب الآخر تراجع الوجود الأمريكي في المنطقة، الذي كان يمثل عامل
توازن وردع استراتيجي فيها.
تحليل بنية التوازن
الاستراتيجي في الشرق الأوسط
القوة المادية:
يشمل توزان القوي العوامل
المادية أي القدرة الحيوية في الإقليم واهمها عنصر السكان وفي هذا العنصر تتفوق
مصر بعدد سكان تخطي ال 94 مليون نسبة حسب تعداد 2017، فيما يأتي في المركز الثاني
تركيا بعدد سكان 80 مليونا و810 آلاف و525 نسمة، ثم إيران بعدد 80 مليون و280 ألف
نسمة، ثم السعودية بعدد 32 مليون 280 ألف نسمة.
القوة الاقتصادية:
ومن ناحية القوة
الاقتصادية تأتي تركيا في المركز الأول بإجمالي ناتج محلي قيمته 863,71 مليار
دولار، وفى المركز الثاني السعودية ب 646,44 مليار دولار، وفى المركز الثالث إيران
ب 818,98 مليار دولار، وفي المركز الرابع مصر ب 332,79 مليار دولار، والمركز
الخامس إسرائيل 317,75 مليار دولار.
القوة العسكرية:
وعلى صعيد القوة العسكرية
فتشير قاعدة بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام لعام 2016 فان ترتيب
الجيوش للدول الخمس السابق ذكرها بحسب البيانات العددية لمكونات الجيش وعدد
الأسلحة يحتل الجيش التركي الترتيب الثامن على مستوى العالم والأول من بين الخمس
فيما يأتي ترتيب مصر في المركز العاشر عالميا والثاني بين الخمس دول وتقع إسرائيل
في المركز الخامس عشر عالميا والثالث بين الدول الخمس، ثم تأتي ايران بالترتيب
الواحد والعشرون على مستوى العالم والرابع بين الدول الخمس، فيما تحل في المركز
الأخير السعودية بالترتيب الرابع والعشرون على مستوى العالم.
توازن الرعب
وإلى جانب توازن القوي، يأتي
معيار توازن الرعب أي الردع المعلن إذا يعد اعتراف إسرائيل عام 1991 على لسان
إسحاق رابين بامتلاكها القوة النووية تكون قد انتقلت إلى الردع المعلن، ورغم
محاولات بعض البلدان العربية الحصول على حق الاستخدام السلمي للطاقة النووية فان
إسرائيل تقف عائق أمام أي محاولة عربية في مهدها للحصول على إنتاج قوة نووية وهو
ما ظهر في تدمير إسرائيل للمفاعل النووي العراقي عام 1981، واعترافها الأخير
بتدمير المفاعل النووي السوري في 6 سبتمبر 2007 بما عرف بعملية البستان.
القوة فوق التقليدية
أما فيما يتعلق
بالقوة فوق التقليدية أي الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية والصواريخ الاستراتيجية،
فقد أدي تفكيك البرنامج الكيماوي السوري منذ عامين إلى ضعف ميزان القوي فوق
التقليدية العربي في مواجهة إسرائيل وإيران حيث لم يتبقى سوى البرنامج المصري في
مواجهة القوتين، في ظل التطوير المستمر للصواريخ الإسرائيلية من ناحية المدي ودقة
التوجيه ووزن الرؤوس الحربية ومدي تأثيرها.
العوامل المعنوية في ميزان القوي
وعلى صعيد العوامل
المعنوية في ميزان القوي أي الإرادة القومية وتشمل الاستقرار السياسي والخبرة
التاريخية التراكمية وتماسك الوحدة الوطنية ثم البعد العقائدي والديني فوفقا لمؤشر
الدول الهشة لسنة 2017، الصادر عن صندوق السلام ومجلة فورين بوليسي في الولايات المتحدة،
فان ترتيب الدول الخمس كما يلي في المركز الأول حيث الأكثر تهديدا والتعرض للهشاشة
تأتي مصر في المركز 36 بمعدل 89.8، والمركز الثاني إيران في المركز 49 بمعدل 85.8،
والمركز الثالث تركيا في المركز 64 بمعدل 80.8، والمركز الرابع إسرائيل في المركز
69 بمعدل 78.9، والمركز الخامس والأخير السعودية في المركز 101 بمعدل 71.2.
توازن المكانة
أما فيما يخص توازن
المكانة فقد أثرت موجات ثورات الربيع العربي على مكانة وقوة تأثير القوي الأساسية
في الشرق الأوسط خاصة سوريا ومصر بعد استبعاد العراق بعد الاحتلال الأمريكي لها
على الجانب الأخر زادت مكانة وقوة تأثير إيران في ظل تمدد نفوذها عبر الفاعلين دون
الدولة في الصراعات في سوريا واليمن والعراق، فيما تأثرت القوة الاقتصادية لدول
الخليج العربي نتيجة حرب اليمن مما دافعها إلى إجراء إصلاحات في هياكل اقتصاداتها
الداخلية.
خريطة التحالفات والتوازنات
الإقليمية في الشرق الأوسط
أدى التراجع الاقتصادي الذي خلفه الاحتلال الأمريكي للعراق إلى تقليص
وجودها واهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي أدى إلى إخلال ميزان القوى
الاستراتيجي في المنطقة لصالح إيران وحلفائها الدوليين، كونها تحمل مشروعا توسعيا،
كما مثل الدخول التركي عاملا ديناميكيا للسياسة الإقليمية، جعل المنطقة تتجه
نحو المزيد من الأزمات والصراعات، مما أثرت بشكل كبير على توازن القوى في المنطقة،
الأمر الذي انعكس سلبا على الأوضاع الأمنية والسياسية، وخلق مناخ إقليمي متوتر
وغير مستقر يسوده الصراع على المكانة الإقليمية وسباق التسلح والإطاحة بالحلفاء
الإقليميين، لذلك لابد لنا أن نتطرق إلى رصد وتحليل محاور التحالفات الإقليمية في
المنطقة إلى جانب تحليل التوازن الاستراتيجي للدول الخمس في المنطقة، كما يلي:
1.
المحور الإيراني
السوري:
يضم هذا المحور جميع القوى
التي تعارض السياسات الأمريكية في المنطقة ويضم في طياته أحزاب وجماعات غير نظامية
أو ما يطلق عليها الفاعلين من غير الدولة مثل حزب الله اللبناني وغيره من القوى
الشيعية وبالتالي يغلب على هذا التحالف الطابع البراغماتي وتستفيد إيران من هذا
التحالف للتمدد في بعض المناطق من إقليم الخليج وشرق المتوسط.
2.
التحالف العربي ضد
الحوثيين في اليمن:
شكل التحالف العربي ردا على سيطرة قوات أنصار الله الحوثي على مقاليد
الدولة في اليمن، مما مثل تهديد صريح لخطوط إمداد النفط والغاز في باب المندب،
فضلا عن تعرض الأمن القومي السعودي وهو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي إلى
مخاطر الإرهاب من الجنوب اليمني، لذلك شكل هذا التحالف الأمني الذي شكل نقلة نوعية
في ميزان القوى الاستراتيجي لصالح القوى الخليجية وعلى رأسها السعودية ضد إيران
الصاعدة في المنطقة.
3.
المحور التركي القطري:
يشكل التحالف التركي القطري أحد اهم الصراعات الإقليمية في المنطقة
حيث يضم هذا التحالف قوى الجماعات الإسلامية المتطرفة وعلى راسها جماعة الإخوان
المسلمين وغيرها من الجماعات المسلحة في سوريا والعراق، والتي اتسعت سيطرتها في
المنطقة عقب ثورات الربيع العربي حيث سيطرت جماعة الإخوان على مقاليد الحكم في
مصر، وسيطرة الجماعات الإرهابية على ليبيا وأجزاء من سوريا والعراق، الأمر الذي
شكل تهديدا فعليا للأنظمة الحاكمة في الخليج ومصر خاصة بعد الإطاحة بحكم الإخوان
المسلمين في مصر.
4.
المحور التركي الخليجي:
يشكل المحور التركي الخليجي ثاني أهم المواجهات ضد إيران في المنطقة،
بالرغم من الخرافات الاستراتيجية لدى تركيا مع دول مجلس التعاون الخليجي خاصة
الإمارات والسعودية، إلا أنها تؤيد توجهاتهم خاصة السعودية لصد صعود النفوذ
الإيراني وشمل هذا التعاون أساليب لوجستية واستخباراتية ودبلوماسية دون خوض مواجهة
مباشرة، وظهر ذلك في موقف تركيا المؤيد لعمليات عاصفة الحزم ضد الحوثيين في اليمن،
وفي الوقت نفسه ترفض الاصطدام المباشر بإيران لاعتبارات استراتيجية واقتصادية.
5.
محور الرباعي العربي
لمكافحة الإرهاب:
شكلت الدول الداعية لمكافحة الإرهاب السعودية والأمارات والبحرين ومصر،
تحالفا عربيا بعدما قررت قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر في 5 يونيو 2017، على
خلفية اتهام قطر بدعم الإرهاب والإضرار بالأمن والاستقرار الإقليمي العربي وطرح
هذا التحالف سيناريوهين بشأن مستقبل مجلس التعاون الخليجي الأول يتعلق بحجم
المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية الخاصة بدول الخليج والمرتبطة باستمرار
المجلس والسيناريو الأخر يتعلق بكيفية تعامل دول المجلس مع قطر وإدارة الخلاف
معها.
مستقبل المنطقة وخيارات
إعادة التوازن الاستراتيجي
بالرغم ما شكله الإخلال بتوازن القوى الاستراتيجي للمنطقة من منعطفات كبيرة في شكل التحالفات الإقليمية وأطرفها، إلا انه لا يوجد تغير كبير في شكل وطبيعة خريطة التحالفات الإقليمية في المنطقة حيث تبنى جميع التحالفات في المنطقة على أساس هدفين استراتيجيين، أولهما الهاجس الأمني المتبادل بين الحلفاء، وثانيهما المصالح المشتركة بكافة أشكالها، وأخيرا يمكن القول إن إعادة التوازن الاستراتيجي لصالح الأطراف العربية يكمن في احتمالين، الأول يتمثل في إعادة الوجود القوي والمؤثر للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، أما الخيار الثاني فيتمثل في تشكيل منظومة أمنية عربية سواء أخذت شكل تحالفات أو غيرها، تأخذ على عاتقها إعادة التوازن الاستراتيجي في المنطقة. كما يجب أن تتخطى الدول الخمس استراتيجية “القوة الإقليمية” وتتحرك نحو استراتيجية “منطقة أكثر قوة”.