الناس والأمية والنمو: قراءة في نتائج التعداد العام للسكان 2017
تمنحنا إحصاءات
تعداد السكان، ومنها التعداد الأخير لعام 2017 (1) فرصة مناسبة لإعادة قراءة
الواقع. ويكون في استطاعة الباحث الوثوق في إحصاءات السكان بقدر صحة ودقة النهج
الذي تم اتباعه في جمع الإحصاءات. وفي حال عدم وجود إحصاءات مقابلة تكون الإحصاءات
الرسمية التي يقوم بها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصدر الأولى
للحصول على البيانات الخام على الأقل. وتغطي إحصاءات الجهاز كل نواحي الحياة
تقريباً القابلة للقياس الكمي مثل عدد السكان والمنشآت والدخل والإنتاج والإستهلاك
والأسعار والتجارة والصحة والعمل والسياحة وغيرها. ومع أن الإحصاءات تحتمل دائماً
هامشاً من الخطأ يضيق أو يتسع حسب المنهج والأسلوب المتبع في الحصول على البيانات
وتحليلها، فإن الإقتصاديين يجب أن يعتبروا الإحصاءات (مجرد مؤشرات) وإنها ليست
أرقاماَ تعاقدية يؤدي الخطأ فيها إلى فسخ عقد أو تثبيت دعوى. مثلاً قد تختلف
إحصاءات الفقر، قد يقول بعضها أن معدل الفقر في مصر يبلغ 27% مثلاً، وقد يقول
البعض الآخر إن معدل الفقر يزيد عن 30% وبإمكان الإقتصاديين حسم هذا الإختلاف
باستخدام مؤشرات أخرى مثل المقارنة مع بلدان أخرى، ومثل المقارنة عبر فترات زمنية
طويلة وليس من عام إلى آخر. وبإمكان الإقتصاديين أيضاً الإجتهاد في تعيين حدود
ومعايير لقياس الفقر تكون أكثر دقة. وعلى سبيل المثال، فإن التناقض أحياناً بين
اتجاهات إحصاءات الناتج المحلي والنمو وبين الحالة الحقيقية للسكان تدفع
الإقتصاديين الآن إلى ابتكار مؤشرات جديدة إضافية أو بديلة لقياس درجة الرضا
الإجتماعي أو الرفاهية أو السعادة، وذلك لغرض وضع أهداف جديدة للسياسات الإقتصادية
تتجاوز حدود زيادة الإنتاج المحلي. فنحن إذا اعتمدنا فقط على المتوسطات الإحصائية
الحسابية فسنجد أن هذه المتوسطات خادعة جداً. على سبيل المثال، إذا افترضنا لغرض
التبسيط النظري أن المجتمع يتكون من فردين فقط هما المواطن عبد العال الذي يبلغ
دخله اليومي ألف جنيه والمواطن عبد العال الذي يبلغ دخله اليومي مئة جنيه، فإن
مجموع دخلهما اليومي يبلغ 1100 جنيه ويكون متوسط الدخل لهما هو 550 جنيهاً يومياً!
وهذا المتوسط خادع تماماً لأنه يعادل أكثر من 5 أمثال الدخل اليومي للموطن عبد
الموجود وما يقرب من نصف دخل المواطن عبد العال!.
تحتل مسألة
تطوير مؤشرات إحصائية جديدة أهمية كبيرة في علوم الإقتصاد في الوقت الحاضر لغرض
سلامة التحليل الإقتصادي وإخضاع الظواهر القابلة للقياس الكمي للفحص الدقيق الذي
يساعد صانعي السياسة الإقتصادية ولا ينتهي إلى تضليل كل أطراف الظواهر الإقتصادية.
وتحفل الأدبيات الإقتصادية حالياً بعشرات الأمثلة لتطوير مثل هذه المؤشرات
الجديدة. ففي دراسات تحليل الإنفاق العسكري على سبيل المثال لا يتم الإكتفاء
بالأرقام المطلقة للإنفاق العسكري للدول، فهناك من يهتم بدراسة (إنتاجية الدولار)
في الإنفاق العسكري أو القيمة المضافة لزيادة الإنفاق، وهناك من يتجاوز قيمة
الإنفاق العسكري محسوباً على أساس سعر الصرف الرسمي في أسواق العملات واللجوء إلى
القيمة الشرائية المكافئة للدولار محلياً PPP وهناك من يقوم بتطوير مؤشرات تتجاوز ذلك تأخذ في اعتبارها سعر
الصرف والقوة الشرائية وتكلفة العوامل المحلية والمستوردة. وقد استنتجت إحدى
الدراسات التي أجريت بهدف قياس القدرات العسكرية للصين (2) تبايناً شديد في تقدير
نمو القدرات العسكرية للصين خلال العقد الأول من القرن الحالي بسبب اختلاف
المؤشرات المستخدمة في حساب الإنفاق، وترواح تباين معدل النمو بين 32% إلى 131%
وفي أحيان أخرى ترواح التباين بين 140% إلى 235%! وهذا التباين من شأنه أن يقود
إلى تشوهات شديدة في السياسات الخارجية والدفاعية.
ولذلك، فمن
الضروري تطوير معايير ومؤشرات إحصائية أكثر تقدماً تتجاوز الأرقام الخام للتعداد
العام للسكان بما يربط التعداد بحقائق وأولويات السياسة الإقتصادية. وليس من
المقبول الآن مجرد الإكتفاء بالمؤشرات التقليدية مثل معدلات النمو السنوي
وغيرها.
ويثير إحصاء
السكان لعام 2017 الكثير من الأسئلة بشأن المنهج والأسلوب methodology الذي تم
اتباعه، وبشأن طبيعة البيانات التي تم الحصول عليها. لكن الأهم من ذلك كله هو
كيفية التعامل مع البيانات النهائية بعد التعداد. ففي كثير من الأحوال يتم إجراء
التعداد، وتنقضي مناسبة إصداره أو إعلان نتائجه، فينتهي كل شيئ ويبدأ الإستعداد
للإنشغال بتعداد جديد، إلا فيما تيسر من بعض الندوت وحلقات النقاش. التعداد يموت
قبل أن يجف المداد الذي كتبت به النتائج إلا إذا جرت عليه دراسات
تالية له لتفسير ما جاء فيه!
وسوف نحاول في
هذه الدراسة أن نعيد قراءة النتائج الأولية للتعداد على ضوء العلاقة بين السكان
والتنمية من ناحيتين الأولى هي العلاقة بين نمو السكان والنمو الإقتصادي، والثانية
العلاقة بين النمو السكاني وبين الأمية.
ولا شك أن هناك
الكثير من النتائج التي يتوجب قراءتها بدقة في مجالات أخرى مهمة مثل الصحة والعمل
والتجارة. وأظن أن مؤسسات صنع القرار في مصر يجب أن تسعى إلى تكثيف دراسة نتائج ما
وصفه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بأنه "أول تعداد إليكتروني في
تاريخ التعدادات المصرية"، على أن يكون ذلك بغرص الإستنارة والمعرفة بطبيعة
الأوضاع ووضع سياسات ملائمة لتحقيق أهداف النمو المختلفة.
أولاً- نمو
السكان وعلاقته بالنمو الاقتصادي
بلغ عدد السكان
داخل حدود الدولة طبقاً لتعداد 2017 حتى 18 أبريل 2017 ما يقرب من 94.8 مليون شخص
(مصريون وغير مصريين) مقارنة بما يقرب من 72.6 مليون شخص في العام 2006 وما يقرب
من 59.2 شخص في 1996. وهو ما يعني أن عدد السكان زاد بنحو 35.6 مليون شخص خلال 20
عاما بمعدل زيادة سنوية تبلغ 1.78 مليون شخص تقريبا. لكن معدلات الزيادة في السكان
سجلت نمو أسرع في العقد الأخير عما كانت عليه في العقد السابق. ففي الفترة الزمنية
الممتدة من 1996 إلى 2006 زاد السكان في مصر بمعدل نمو سنوي بلغ 2.04% لكن هذا
المعدل ارتفع في الفترة الأخيرة إلى 2.56% أي أن معدل نمو السكان نفسه زاد بنسبة
25.5% تقريباً في العِقد الأخير عما كان عليه في العقد السابق. وهذا يعني أن عدد
السكان خلال العقد الأخير زاد بمقدار 22.2 مليون شخص تقريباً بمتوسط 2.2 مليون
سنوياً وهي زيادة تعكس فشلاً كبيراً في تحقيق أحد أهداف الألفية التنمية للأمم
المتحدة، وفشلاً في السياسات السكانية التي تم اتباعها سواء خلال الفترة الأولى أو
الفترة الثانية.
وسوف نلاحظ أن
هذا الفشل في السياسات السكانية قد أسهم بقوة في تشغيل محركات الفشل في السياسات
العامة سواء في الصحة أو في التعليم أو في الإسكان أو في توفير فرص العمل كما ألقى
بظلاله القاتمة على بنيان الأسرة في مصر وأسفر عن اتساع نطاق ظواهر التفكك
الإجتماعي ومنها الطلاق. ومن المعروف أن زيادة السكان الآن بنسبة 2.56% يتطلب فورا
زيادة معدل النمو الحقيقي بنسبة مماثلة لتحقيق هدف مجرد المحافظة على مستوى الحياة
بدون تدهور، كما تتضمن الإحتياجات المستقبلة توفير دور حضانة كافية لاستيعاب
الإطفال بين سن 3 إلى 4 سنوات، ومقاعد كافية في المدارس لمرحلة التعليم الأساسي
(الإبتدائي والإعدادي) ثم في التعليم التأهيلي (إلى سوق العمل مباشرة أو إلى
التعليم الجامعي) وتوفير فرص العمل الكافية لاستيعاب الثروة الجديدة في قطاعات
إنتاج القيمة، ثم توفير المساكن الملائمة الكافية لأفراد قوة العمل الجديدة
(الذكور والإناث) للزوج وتكوين أسر ناشئة، إضافة إلى كل ما يحيط بكل ذلك من خدمات
ضرورية في مجالات العلاج والرعاية الإجتماعية والمواصلات والبيئة وغيرها.
ويتردد دائماً
في خطط وبرامج التنمية الإقتصادية أن الإنسان هو أغلى ثروة وطنية، وأن الإنسان هو
الهدف الأول للتنمية وما إلى ذلك، لكن فحص الواقع يثبت أن هذه المقولات هي أبعد ما
تكون عن الحقيقة وإنها الأدنى في ترتيب الأولويات عن غيرها من الأهداف المادية
للتنمية خصوصاً تلك التي تخفي التباين الإجتماعي والإقتصادي بين الأفراد الذين
يكونون الثروة البشرية للمجمع.
ويبين الجدول التالي معدلات نمو السكان خلال السنوات
العشر الأخيرة مقارنة بمعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي:
جدول (1): مقارنة بين
معدلات نمو السكان ومعدلات نمو الناتج
البيان |
2006 |
2007 |
2008 |
2009 |
2010 |
2011 |
2012 |
2013 |
2014 |
2015 |
2016 |
2017 |
عدد السكان |
76.2 |
77.6 |
78.9 |
80.4 |
82.4 |
83.7 |
85.6 |
87.6 |
89.5 |
91.5 |
93.4 |
95.2 |
معدل النمو% |
1.8 |
1.7 |
1.8 |
1.8 |
2.0 |
2.1 |
2.2 |
2.3 |
2.2 |
2.1 |
2.0 |
1.9 |
معدل نمو الناتج% |
6.8 |
7.1 |
7.2 |
4.7 |
5.1 |
1.8 |
2.2 |
2.2 |
2.9 |
4.4 |
4.3 |
4.1 |
معدل النمو الحقيقي% |
5 |
5.4 |
5.4 |
2.9 |
3.1 |
(-) 0.3 |
0.0 |
(-) 0.1 |
0.7 |
2.3 |
2.3 |
2.2 |
المصدر(3): بيانات معدل نمو الناتج لكل الأعوام مأخوذة عن البنك
الدولي، بيان عام 2017 مأخوذ عن وزارة التخطيط في مصر. أما بيانات السكان فمأخوذة
عن إحصاءات الأمم المتحدة الخاصة بالسكان في الأعوام المبينة. تم حساب معدل النمو
الحقيقي بطرح معدل نمو السكان من معدل نمو الناتج بواسطة المؤلف.
https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.MKTP.KD.ZG?locations=EG
http://worldpopulationreview.com/countries/egypt-population/
Population Data via United Nations
WPP (2015 Revision,
Medium Variant)
http://www.worldometers.info/world-population/egypt-population/
وتظهر المقارنة بين إحصاءات الأمم المتحدة وإحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة
العامة والإحصاء وجود اختلاف واضح في معدلات النمو السنوي، بالرغم من تقارب أعداد
السكان. ويبلغ متوسط معدل نمو السكان حسب إحصاءات الأمم المتحدة خلال الفترة من
2006 إلى 2017 حوالي 1.99% سنوياً مقابل نسبة أكبر بكثير في الإحصاءات المحلية
2.56%. وهذا ربما يعني أن الأرقام المحلية تميل إلى تضخيم المعدل السنوي للزيادة
السكانية لأسباب سياسية، وربما تكون هناك أسباب أخرى يتعين على الجهاز المركزي
للإحصاء إيضاحها.
وقد نتج عن انخفاض معدلات نمو السكان المحسوبة بواسطة الأمم المتحدة إلى انخفاض
معدل النمو الحقيقي للناتج عن معدل النمو الإسمي بنسبة أقل كما يبين الجدول. ويوضح
الجدول ما يلي:
§
أن معدل النمو الحقيقي ارتفع إلى أقصاه خلال تلك الفترة
في السنوات من 2006 إلى 2008 ليصل إلى 5.3% في المتوسط تقريباً. لكنه هبط فجأة إلى
النصف تقريباً في العام التالي مسجلاً 2.9% في العام التالي (2009). وهو ما يعكس
أثر الأزمة الإقتصادية العالمية، وذلك على الرغم من تأكيدات الحكومة في بياناتها
المختلفة على أن مصر لم تتأثر بالأزمة الإقتصادية العالمية.
§
أن معدل النمو الحقيقي قد سجل قيما سالبة (وهو ما يعني
حدوث انكماش إقتصادي) في الأعوام من 2011 إلى 2013 (لم يسجل تغيراً في العام 2012)
ثم أخذ في التقدم ببطء في الأعوام التالية حتى تجاوز 2% في السنوات الثلاث الأخيرة
إلى نهاية يونيو 2017. وتتوقع الحكومة أن يصل معدل النمو الإقتصادي في السنة
المالية 2017/2018 إلى 5% أو أكثر، وبافتراض بقاء معدل نمو السكان على حاله عند 2%
سنوياً تقريباً فإن معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي سيبلغ في العام
المقبل 3%. وهذه النسبة لا تزال نسبة ضئيلة جدا لا تتناسب مع طموحات التنمية
المستدامة.
§
تثير معدلات النمو في السنوات الثلاث الأخيرة تساؤلات عن
طريقة حساب النمو وتلقي بشكوك كثيرة على هذه الطريقة، كما إنها تقلل كثيراً من
مصداقية معدل نمو الناتج الإجمالي والإعتماد عليه كمؤشر لقياس قوة الإقتصاد؛
فزيادة الناتج المحلي تعود إلى زيادة في قيمة الخصوم المستحقة على الإقتصاد ككل
مثل القروض الخارجية والقروض المحلية وتأثير خدمة هذه القروض على إمكانات التنمية
المستقبلية وتوفير فرص عمل ملائمة وكافية للداخلين الجدد إلى سوق العمل والمتعطلين
فعلاً الواقفين في طوابير البطالة.
وفوق كل ذلك، فإن زيادة السكان تستلزم تنمية الموارد المحدودة أو الثابتة
خصوصاً الأرض الزراعية والمياه بمعدل يفوق معدل نمو السكان لتلبية احتياجات
الإستهلاك المتزايدة. لقد حاربت مصر في يونيو 1967 حين كان عدد سكانها 32 مليون
نسمة تقريباً، وفي حرب أكتوبر 1973 بلغ عدد السكان 37 مليون نسمة، وبعدها بعشر
سنوات زاد عدد السكان بما يقرب من 10 مليون نسمة! وفي الوقت الحالي يبلغ عدد سكان
مصر تقريباً ضعف ما كان عليه في العام 1984. وما زلنا في كل تلك الفترة نعتمد
تقريباً منذ عشرينات القرن الماضي على حصة مصر السنوية من مياه النيل البالغة 55
مليار متر مكعب. فهل فكر صناع القرار طوال هذه العقود في برامج أو خطط لتغطية
احتياجات السكان من المياه؟ لم يحدث، وكانت النتيجة أن سكان مصر حالياً يعيشون تحت
خط الفقر المائي. إن زيادة السنوية ليست حدثاً طارئاً أو مفاجئاً، وإنما هي
متوالية زيادة مستمرة بمعدلات مرتفعة، لا تجد من يتعامل معها باستراتيجية تنموية
متكاملة، حيث يقتصر التعامل على استراتيجيات وقائية تقضي بتطبيق معايير للحد من
زيادة السكان، وهي استراتيجيات على ضآلة أهدافها قد فشلت في تحقيق تلك الأهداف.
وينعكس هذا الخلل في في العلاقة بين السكان والتنمية في مكانة مصر النسبية
على مستوى العالم سكانياً واقتصادياً؛ فعلى المستوى السكاني يبلغ نصيب مصر من
العدد الكلي للسكان في العالم 1.3% تقريباً في حين يبلغ نصيبها من الناتج العالمي
الإجمالي حوالى 0.38% فقط. (4) وهو ما يعكس الفجوة بين الحجم والإنتاجية.
ثانياً- الأمية وجهود تنمية الثروة البشرية
تعتبر ظاهرة
الأمية، بتعريفها التقليدي المحدود (عدم القدرة على القراءة والكتابة)، عنواناً
كبيراً لفشل الدولة في تنمية الإنسان الذي تعتبره خطط التنمية الرسمية قديمها
وحديثها هدف التنمية وأغلى ثروة تمتلكها الأمة. ويتم قياس الأمية بواسطة الجهاز
المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بعدد الأفراد الذكور والإناث داخل الشريحة
العمرية 10 سنوات فاكثر، ونسبتهم المئوية داخل هذه الشريحة. وهذا التعريف يعني أن
عدم الملتحقين بالمدراس من سن 6 سنوات إلى 10 سنوات لا يتم إدراجهم في عداد من
تشملهم الأمية، وهذا عيب إحصائي خطير يجب التنبه له. كذلك، فإن الجهاز المركزي
للتعبئة العامة والإحصاء لم يهتم بتطوير تعريف مصطلح ومفهوم الأمية لمسايرة التطور
في الحضارة البشرية خلال الفترة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن. ونظراً
لأن المعرفة البشرية في عصر العولمة باتت تعتمد إلى حد كبير على الأجهزة
الإليكترونية الذكية (الكمبيوتر) وعلى أدوات المعرفة الرقمية digital
knowledge فقد تجاوز مفهوم ومصطلح الأمية
illiteracy ما كنا نذهب إليه قبل قرن من الزمان.
وأستطيع أن
أقرر بأن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ووزارة التربية والتعليم
وغيرهما من الأجهزة المعنية بصناعة المعرفة وبقياس ظاهرة الأمية يتعين عليها أن
تعيد النظر في تعريف مفهوم (الأمية) على ضوء التغيرات الحضارية السريعة التي تجتاح
العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وذلك حتى يستقيم مفهوم (الأمية) مع الطفرة
الحضارية التي شهدها العالم خلال القرن الأخير. كما أن إعادة النظر في مفهوم
(الأمية) تستقيم أيضاً مع التطور في المفاهيم الأخرى المصاحبة للأمية مثل مفهوم
الفقر؛ فمفهوم الفقر هو الآخر قد شهد إعادة نظر على ضوء التطور في إنجازات الحضارة
البشرية، فأصبحنا نتحدث عن (الققر المدقع) على أنه يعني الإحتياجات المادية الأساسية
للإنسان الفرد التي يجب أن تتوفر حتى يستطيع إعادة إنتاج نفسه في صورة زيادة
سكانية وقوة عمل، وأصبحنا نتحدث عن (الفقر) بمعناه النسبي الذي يشمل احتياجات
الإنسان الأساسية المادية والإجتماعية والثقافية. ولذلك، فإن البنك الدولي وأجهزة
الإحصاءات في الدول المختلفة تميز الآن بين معدلين مختلفين للفقر، أحدهما هو
(الفقر المدقع) والثاني هو (الفقر العام أو الفقر). وبينما نجد في مصر مثلاً أن
معدل الفقر المدقع (حسب الإحصاءات الرسمية) يدور حول 5% من عدد السكان، فإن معدل
الفقر بمعناه العام يرتفع ليدور حول معدل 25% من عدد السكان ويقترب حالياً من 30%
باستخدام الإحصاءات الرسمية.
وفي هذا السياق،
فإننا في عصر المعرفة الرقمية يجب أن نعتبر أسس هذه المعرفة الرقمية لدى الأفراد
مقياساً للقدرة على التعامل البسيط مع منتجات العصر واحتياجاته الرئيسية. على سبيل
المثال لم تصبح مصادر المعرفة المطبوعة هي المصادر الوحيدة للحصول على المعرفة،
وإنما زادت عليها الآن وتتطور أهميتها كل يوم مصادر المعرفة الرقمية المتاحة عن
طريق أجهزة الكمبيوتر والأجهزة والمعدات الإليكترونية، ابتداءً من الأرقام
المسلسلة للإنتظار في البنوك ومكاتب الخدمات، إلى استخدام بطاقات الدفع البنكي
الإليكتروني وغيرها. ومن ثم فقد أصبحت المعرفة بالتعامل مع أجهزة الكمبيوتر
(الحاسوب) شرطاً ضرورياً من شروط الحصول على المعرفة، وليس مجرد القدرة على
القراءة المكتبة فقط. كذلك، فإن المعاملات العادية بين الناس تتجه أكثر وأكثر
للإنتقال من عصر المعاملات وجهاً لوجه إلى عصر المعاملات الإليكترونية، مثال ذلك
التعامل مع البنوك. ولست أدري كيف يفهم المسؤولون ظاهرة (الشمول المالي) في بلد
تقترب فيه نسبة الأمية من ثلث عدد الناس الذين يجوز لهم فتح حسابات مع البنوك!
وعندما يتحدث وزير التعليم عن إلغاء الكتب الدراسية والإنتقال لتحصيل المعلومات
والمعرفة عن طريق بنوك المعلومات والمعرفة، فإنني أجد نفسي عاجزاً عن فهم ذلك
بينما أمية الحاسوب تسيطر على المعلمين أنفسهم ولا تقتصر على الطلاب والتلاميذ!
ولذلك، فإن
تعريف (الأمية) في عصر العولمة وأدوات المعلومات الرقمية وأجهزة الذكاء الإصطناعي Artificial Intelligence المعرفة
إختصاراً بالحرفين AI واتساع نطاق المعاملات الإليكترونية في الحياة اليومية
يجب أن يتضمن توفر شروط المعرفة التالية:
- القدرة على القراءة
والكتابة وفهم الجمل اللغوية القصيرة
- القدرة على الحساب والعدد
- القدرة على استخدام
الكمبيوتر (الحاسوب)
وأظن أن الشروط
الثلاثة السابقة تقيم الأساس لمفهوم جديد لظاهرة الأمية، وهو ما يتطلب ابتكار طرق
ووسائل مختلفة لقياس الأمية. وربما نلجأ في هذه الحالة إلى التفرقة بين نوعين من
الأمية، النوع الأول هو (الأمية المطلقة) وتشمل عدم القدرة على القراءة والكتابة
والحساب وفهم الجمل اللغوية القصيرة. أما النوع الثاني من الأمية فهو ما نطلق عليه
(الأمية الرقمية) التي تشمل عدم القدرة على القراءة والكتابة والحساب وفهم الجمل
القصيرة واستخدام الحاسوب. إن الحديث في مشروع استراتيجية 2030 عن إقامة اقتصاد
المعرفة أو مجتمع المعرفة يفقد أي معنى له مع استمرار ظاهرة الأمية التقليدية ومع
العجز عن تطوير مفهوم جديد لتلك الظاهرة يأخذ في اعتباره التطور الذي أحرزته
البشرية خلال القرن الأخير.
من المفهوم
بداءةً أن الأمية بين المواطنين في الشرائح العمرية المختلفة تزيد لأسباب أولية
أهمها عدم الإلتحاق بالتعليم أو التسرب من النظام التعليمي في مرحلة التعليم
الإلزامي الذي يفترض فيه تأهيل الأفراد بالقدرات الأولية على التواصل والتفاعل
والعمل وسط أقرانهم ووسط المجتمع ككل. وعلى ذلك، فإن ارتفاع نسبة عدم الإلتحاق
بالتعليم أو التسرب منه تغذي ظاهرة انتشار الأمية في المجتمع. كذلك يتسع نطاق
ظاهرة الأمية بسبب ارتفاع معدل زيادة السكان خصوصاً في الريف والأحياء الحضرية
الفقيرة، كما تتسع ظاهرة الأمية بسبب الخلل في توزيع الإنفاق على التعليم، وأيضاً
بسبب انخفاض الإنفاق على العملية التعليمية خصوصا في مرحلة التعليم الأساسي.
وقد سجل
الإحصاء الأخير استمرار ظاهرتي عدم الإلتحاق بالتعليم الأساسي وما يعلوه وظاهرة
التسرب. وبلغت نسبة عدم الملتحقين بالتعليم والمتسربين منه 38,5% من عدد السكان في
الفئات العمرية من 4 سنوات فأكثر. ويبلغ إجمالي عدد السكان في هذه الفئات العمرية
(تعداد 2017) حوالي 86.4% من إجمالي عدد السكان أي حوالي 82 مليوناً، وهو ما يعني
أن عدد غير الملتحقين بمراحل التعليم المختلفة وعدد المتسربين معا يبلغ حوالي 31,6
مليون شخص. وهذا الرقم يطرح تساؤلات خطيرة عن دور جهاز محو الأمية الذي أنشئ في
العام 1993 ودور وزارة التعليم ودور منظمات المجتمع المدني المعنية بالمشاركة في
محو الأمية. لدينا إذن مشكلة تتقاقم سنة بعد سنة؛ فمعدل انخفاض الأمية بين عامي
2006 و2017 بلغ 2.1% على مدار الفترة ككل أي بمعدل يبلغ 0.2% سنوياً في حين أن
معدل زيادة السكان سجل زيادة سنوية بنسبة 2,56% أي أن معدل سرعة الزيادة السكانية
يزيد 12 مرة عن معدل سرعة الإنخفاض في الأمية. فماذا يعني ذلك؟
إن هذا
الإستنتاج بشأن اتساع نطاق ظاهرة الأمية بمعناها التقليدي إلى حد أن سرعة الزيادة
في السكان تفوق سرعة الإنجاز في مجال تخفيض الأمية بمقدار 12 مرة تقريباً يعني فشل
الحكومات المتعاقبة في التصدي للظاهرة وتقديم الحلول الصحيحة لها. ومن المثير
للدهشة والسخرية في آن واحد أن ظاهرة الأمية تتفشى بينما يجاهر المسؤولون بأنهم
يمتلكون استراتيجية قومية للتعليم والقضاء على الأمية! وقد تم إعداد الوثيقة تحت
عنوان: "الخطة الإستراتيجية للتعليم قبل الجامعي (2014-2013): التعليم،
المشروع القومي لمصر" (5).
وبما إن
الحكومات المتعاقبة تعيد إنتاج الفشل في مجال مكافحة الأمية التي تعتبر بحق سُبة
في جبين أي أمة، خصوصاً إذا كنا نتحدث عن الأمية الخام أو الأمية المطلقة أو
الأمية السابقة للعصر الي نعيش فيه، فإننا نعيد التأكيد على حقيقتين:
- الحقيقة الأولى، إن القضاء على الأمية
يتطلب الخروج من عباءة السياسات السابقة الفاشلة وابتكار سياسات جديدة تؤدي فعلاً
للقضاء على الأمية بمعدل سنوي يفوق معدل نمو السكان. فإذا افترضنا أننا نستهدف
القضاء على الأمية في خمس سنوات، فهذا يعني أننا يجب أن نخفض معدل انتشار الأمية
بنسبة 5% سنوياً على الأقل، وبذلك فإننا نمنع انتشار الأمية في الزيادة السنوية
للسكان (2.5%) ونقضي على الأمية بين 2.5% من المخزون الحالي للأميين في كل الفئات
العمرية. ويجب التأكيد هنا على ضرورة تضافر جهود الدولة مع جهود المجتمع المدني
والقطاع الخاص والتعاونيات وغيرها للقضاء على ظاهرة الأمة. القضاء على الأمية هو
في نهاية الأمر إختبار لقدرة المجتمع على مواجهة التحدي في مجال يستحق بذل جهد
كبير، لأن استمرار ظاهرة الأمية هو سبة في جبين هذه الأمة.
- الحقيقة الثانية، إن القضاء على الأمية بالمعني
العصري وليس بالمعني التقليدي المتخلف يتطلب أن نطور مفهوم الأمية ليشمل القراءة
والكتابة والحساب والفهم البسيط والحاسوب. ولهذا، فربما نحتاج إلى تطوير مؤشر جديد
إلى جانب مؤشر قياس ظاهرة (الأمية الأساسية أو الأمية المطلقة)، على أن يغطي
المؤشر الجديد المجالات التي تمت الإشارة إليها. لكننا قبل أي شيء يجب أن ننجح
أيضاً في تخفيض معدل الأمية المطلقة إلى ما دون 10% من السكان قبل القضاء عليه تماماً.
خاتمة
الهوامش
(1)
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. "تعداد مصر 2017".
القاهرة.
(2)
الدراسة أجراها باحثان من جامعة غرب أستراليا عام 2013 لقياس القدرات
العسكرية للصين بعد أن لاحظا تباينا في نتائج تقديرات القوة العسكرية الصينية بسبب
اختلاف طريق حساب الإنفاق العسكري. انظر:
Peter E. Robertson, Adrian Sin. “Measuring Hard Power: China’s Economic
Growth and Military Capacity”. Discussion Paper No. 13.32. University of
Western Australia. 22 September 2013. p.20
(3)
راجع:
https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.MKTP.KD.ZG?locations=EG
http://worldpopulationreview.com/countries/egypt-population/
Population Data via United Nations WPP (2015 Revision, Medium Variant)
http://www.worldometers.info/world-population/egypt-population/
(4)
تم احتساب بيانات الناتج على اساس القيمة الإسمية للناتج
المتوقع عام 2017 أما أرقام السكان فهي على اساس عام 2016: بالنسبة لحساب نصيب مصر
من الناتج العالمي إنظر المرجع التالي:
http://statisticstimes.com/economy/countries-by-projected-gdp.php
(5)
وزارة التربية والتعليم. "الخطة الإستراتيجية للتعليم قبل الجامعي
(2014-2013): التعليم، المشروع القومي لمصر". ويمكن الإطلاع عليها على الرابط
التالي: