صورة الإسلام السياسي في الصحافة العربية: اتجاهات الجمهور في مرحلة الثورات (2-2)
سعت الدراسة –كما ذكرنا في الجزء الأول
من هذا العرض - إلى رصد وتحليل صورة الإسلام السياسي في الصحافة العربية في مرحلة
الثورات التي انطلقت عام 2010-2011، وما بعدها، من خلال تحليل المحتوى الكمي
والكيفي لمضامين صحف العينة التي شملت "الشروق" المصرية، "الصباح"
التونسية، "عين ليبيا" الليبية، "الشرق الأوسط" اللندنية،
و"القدس العربي" اللندنية، خلال الفترة بين عامي 2011-2014 ، كما قامت
الدراسة بتحليل اتجاهات الجمهور العام المنتمي لثلاث دول عربية شهدت ثورات هي مصر
وتونس وليبيا، وذلك للوقوف على اتجاهات هذا الجمهور نحو قوى الإسلام السياسي،
والصورة الذهنية عن هذا التيار، ودور الصحافة في تشكيلها، وقد تم تطبيق استمارة
الاستبيان على 450 مفردة، موزعة بالتساوي على مواطني الدول الثلاث، بواقع 150
مفردة لكل دولة.
وقد خَلُصَت الدراسة إلى عديدٍ من
النتائج، سواء فيما يتعلق بتحليل المضامين الصحفية، أو اتجاهات الجمهور، نحو قوى
الإسلام السياسي، ودور الصحف العربية في تشكيل الصورة الذهنية واتجاهات الجمهور
إزاء تلك القوى. وقد عرضنا في الجزء الأول النتائج المتعلقة بتحليل مضمون الصحف
والذي عكس الصورة الإعلامية لتيار الإسلام السياسي بها، وفي الجزء الثاني من هذا
العرض نعرض لنتائج الدراسة الميدانية التي أجراها الباحث أسامة السعيد قرطام على
عينة عشوائية من الجمهور العربي قوامها 450 مبحوثًا بواقع 150 مبحوثًا من دول مصر
وتونس وليبيا، بغرض استجلاء الصورة الذهنية لتيار الإسلام السياسي لدى هؤلاء
المبحوثين، كما نعرض في هذا الجزء السيناريوهات المتوقعة لنيار الإسلام السياسي في
المنطقة العربية كما يتوقعها الباحث.
ثانيًا: نتائج الدراسة الميدانية على
الجمهور:
توصلت الدراسة لعديدٍ من النتائج فيما
يتعلق بتحليل صحف العينة، في ضوء أهداف الدراسة وتساؤلاتها، ويمكن استعراض أبرز
تلك النتائج على النحو التالي:
1- خصائص
الجمهور واستخدامه للصحف:
كشفت الدراسة ضعف الانتماء الحزبي والأيديولوجي لدى
الجمهور العام في كل من مصر وتونس وليبيا، إذ أشار 88.9% من الجمهور إلى عدم
انتمائه إلى أي حزب أو فصيل سياسي، فضلا عن أن (91.3%) من الجمهور لا ينتمي إلى
جمعيات أهلية، وحتى النسبة المتبقية كان النشاط الغالب على الجمعيات التي تنتمي
إليها هو العمل الاجتماعي (69.2%)، والمهني (28.2%)، وهو ما يتفق مع ما توصلت إليه
نتائج دراسات سابقة، منها دراسة سامي عبد العزيز (2015) التي خلصت إلى ارتفاع نسبة
الذين لا يعرفون أو لا يحددون لأنفسهم هوية أيديولوجية معينة، وبلغت النسبة 30%
بالإضافة إلى نسبة أخرى اختارت التصنيفات المطروحة في الاستبيان بدافع الحرج
الاجتماعي، وهو ما يؤكد أن النسبة الأكبر من الجمهور غير مؤدلجة، ولا تشغلها الصراعات
الأيديولوجية السائدة وبخاصة في فترة الانتخابات.
أوضحت الدراسة الميدانية تصدر الصحف العامة قائمة الصحف
الأكثر مقروئية من جانب الجمهور بنسبة 62.9%، وبفارق كبير عن الصحف المعبرة عن
تيار الإسلام السياسي التي جاءت بنسبة 33.8%، مقابل 3.3% للصحف الليبرالية واليسارية،
وتكشف هذه النتيجة مدى حاجة الجمهور إلى الحصول على المعرفة من مصادر غير منحازة،
سواء كانت مع أو ضد الإسلام السياسي، وهو ما يؤكد أن مصداقية الوسيلة تمثل أحد
أسباب رواجها، وانتشارها بين الجمهور، ويمكن الاستناد إلى النتيجتين السابقتين
لاستخلاص أن تيار الإسلام السياسي لا يمتلك تلك الأغلبية العددية التي كان قادته
يشيرون إليها، وأن الصعود السياسي اللافت في مرحلة ما بعد الثورات العربية، إنما
يرتبط بجملة من العوامل الأخرى كطبيعة المرحلة السياسية والرغبة الشعبية في
التغيير، وكذلك الصراع السياسي الاستقطابي الذي طغى على المنافسة السياسية في تلك
المرحلة.
2-
متابعة الجمهور
للمضامين الصحفية عن الإسلام السياسي وتقييمه لها
أظهرت الدراسة ارتفاع نسبة الحرص على متابعة المضامين
الصحفية المتعلقة بالإسلام السياسي، فقد أشار(90.4%) من عينة المبحوثين إلى حرصهم
"دائما" و"أحيانا" على متابعة ما ينشر عن الإسلام السياسي،
منهم (50.8%) يحرصون على تلك المتابعة بشكل دائم، وتصدرت أهداف اكتشاف حقيقة تيار
الإسلام السياسي والتعرف على أفكاره أبرز دوافع الجمهور لمتابعة ما ينشر عن هذا
التيار، وهو ما يشير إلى حجم الانغلاق المعرفي الذي اتسم به هذا التيار، سواء
لأسباب تتعلق بطبيعة العلاقة المتوترة بين مكوناته وبين الأنظمة السياسية الحاكمة
في مرحلة ما قبل الثورات العربية، أو لأسباب تتعلق بتغليب الجماعات الإسلامية
للاعتبارات الأمنية والتنظيمية على مسألة الانفتاح على المجتمع وبقية القوى
السياسية والفكرية الأخرى.
أشارت الدراسة إلى تراجع واضح في مكانة وترتيب الصحف
المطبوعة على قائمة المصادر التي يعتمد عليها الجمهور للحصول على المعلومات، وكذلك
تراجع دورها في تشكيل الاتجاهات مقارنة بوسائل إعلامية أخرى أبرزها الإعلام الجديد
(المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي)، والقنوات التلفزيونية، ودل
العديد من نتائج الدراسة على هذا التراجع، منها على سبيل المثال، تراجع حرص
الجمهور على قراءة الصحف بشكل دائم إلى (21.6%)، مقابل (78.4%) يقرأونها أحيانا أو
نادرا، كما تراجعت مكانة الصحف بين وسائل الإعلام التي يعتمد عليها الجمهور في
الحصول على معلوماته عن الإسلام السياسي، لتأتي في المرتبة الرابعة، بعد شبكات
التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية والمواقع الإخبارية.
أكد (88.7%) من جمهور العينة أن هناك تحولا في المعالجة
الصحفية للقضايا المتعلقة بتيار الإسلام السياسي في مرحلة ما بعد الثورات، واتفقت
عينة الدراسة على عمق هذا التحول كمًا (حجم الاهتمام)، وكيفًا (طبيعة المعالجة)،
وأرجع المبحوثون هذا التحول إلى عدة أسباب، جاء في مقدمتها زوال القيود التي كانت
تضعها الأنظمة القائمة قبل الثورات على تناول القضايا الخاصة بالإسلام السياسي،
والتي كانت تظهر عداءً واضحا للقوى الإسلامية لعقود طويلة – باستثناء فترات
محدودة، وجاء هذا السبب بنسبة (58.6%).
كما حمّل الجمهور الصحفيين أنفسهم المسئولية عن تحول
اتجاهات المعالجة، إلا أن السبب جاء سلبيا، ويحمل نظرة متدنية من جانب الجمهور
لمصداقية القائم بالاتصال في الصحافة العربية، إذ أشار (36.3%)، من جمهور العينة
إلى أن نفاق الصحفيين كان السبب وراء تحول معالجة قضايا الإسلام السياسي، وهي
نتيجة تستوجب التوقف أمامها من جانب المؤسسات المهنية القائمة على المنظومة
الصحفية والإعلامية العربية، أما العامل الثالث الذي رأى (35.8%) من الجمهور أنه
ساهم في تحول المعالجة الصحفية، فكان الممارسات السياسية لتيار الإسلام السياسي،
فمع زوال القيود المفروضة من جانب الأنظمة الحاكمة على الصحف والقائمين بالاتصال
بها، فرض الأداء السياسي للقوى الإسلامية،
في ظل الصعود الكبير لها في مرحلة ما بعد الثورات، نفسه وحدد إلى مدى بعيد
اتجاه المعالجة الصحفية لقضايا هذا التيار.
3- صورة
الإسلام السياسي لدى الجمهور:
أكدت الدراسة غلبة الصورة السلبية لتيار الإسلام السياسي
لدى جمهور العينة من المواطنين المصريين والليبيين والتونسيين، إذ تصدرت السمات
السلبية المراكز الأولى في الترتيب لدى جمهور العينة، حيث أشار جمهور المبحوثين
إلى أن الإسلام السياسي، "يسعى للوصول إلى السلطة مستخدما الشعارات
الدينية"، وأنه "تيار لا يعتد بالوطن وحدوده"، وأنه "يتحالف
مع الجماعات المسلحة ويمارس العنف"، إضافة إلى أنه "يتحالف مع أطراف
دولية على حساب مجتمعه"، وأنه "لا يؤمن بالديمقراطية"، فضلا عن أنه
"تيار انغلاقي غير قادر على التواصل مع التيارات الأخرى".
لم تختلف السمات المتعلقة بقيادات تيار الإسلام السياسي
عن السمات الخاصة بالتيار ذاته، وإن جاءت أقل سلبية بما يعكس نوعا من التشوش في
الصورة الذهنية لدى قطاعات واسعة من الجمهور بشأن هذا التيار، والانقسام حول
الاتجاه نحوه ونحو قياداته، حيث أوضحت النتائج ترسخ النظرة "المثالية
الأخلاقية" لدى جمهور العينة لقيادات تيار الإسلام السياسي بوصفهم
"متدينين"، بغض النظر عن صلاحهم الشخصي أو كفاءتهم السياسية، ومجددا
اتضح تأثير التجربة السياسية لكل دولة على اتجاهات الجمهور، فبينما غلبت الاتجاهات
السلبية على الجمهوريين المصري والليبي، غلبت الاتجاهات الإيجابية على الجمهور
التونسي، وهو ما يعكس عمق تأثير الواقع السياسي، وممارسات تيار الإسلام السياسي
على اتجاهات الجمهور نحوه.
أظهرت الدراسة الميدانية أن الغالبية العظمى من الجمهور
(84%) تعتقد أن صورة الإسلام السياسي تغيرت بعد الثورات العربية، إلا أن اتجاهات
هذا التغير جاءت متباينة من دولة إلى أخرى، بل ومشوشة أحيانا، فقد أشار (33.1%) من
الجمهور إلى أن صورة جماعات الإسلام السياسي أصبحت مشوشة بعد الثورات، مقابل (31.5%) يرون أنها زادت سلبية، و(35.4%)
يعتقدون أنها تحسنت، وهو ما يعكس تلك الحالة الجدلية التي تثيرها صورة الإسلام
السياسي في المجتمعات العربية، وبخاصة في مرحلة ما بعد الثورات، لكن من بين
النتائج اللافتة في هذا الشأن تأكيد (56.9%) من جمهور العينة على أن ممارسات تيار
الإسلام السياسي وأفكاره كانت العامل الأهم في تشكيل صورته الذهنية لديهم، فيما
جاء العامل الثاني متمثلا في دور وسائل الإعلام بنسبة (3.4%)، وهو ما يكشف حجم
التباين بين تأثير أداء قوى الإسلام السياسي ودور وسائل الإعلام في تشكيل الصورة
الذهنية عنه، الأمر الذي ينفي بوضوح الطروحات المتكررة من جانب رموز وقيادات هذا
التيار حول دور الإعلام في تشويه صورتهم لدى المجتمع، وتؤكد تلك النتائج أن
ممارسات هذا التيار وسلوكيات عناصر وقياداته هي المحكم الأول في تشكيل الصورة
الذهنية عنهم، بينما تعمل وسائل الإعلام كمرآة عاكسة لتلك الممارسات.
4-
اتجاهات
الجمهور نحو الإسلام السياسي ودور الصحف في تشكيلها:
كشفت الدراسة التأثير الكبير للثورات العربية في زيادة
حجم الاهتمام الإعلامي والجماهيري بتيار الإسلام السياسي، إذ أشارت نتائج الدراسة
الميدانية إلى أن (88%) من عينة المبحوثين بالدول الثلاث محل الدراسة يعتقدون أن
اهتمام الصحف بمعالجة قضايا الإسلام السياسي زاد بعد الثورات العربية، فيما أكد
(78.4%) منهم أن متابعتهم لقضايا الإسلام السياسي في الصحف زادت بعد الثورات.
كما غلب الاتجاه السلبي على اتجاهات جمهور العينة، سواء
نحو تيار الإسلام السياسي نفسه أو نحو قياداته، إذ عارضت غالبية جمهور العينة بشدة
وصف تيار الإسلام السياسي بأنه "وطني"، أو أنه "يخدم مصالح
بلده"، أو "يكافح الفساد"، وهو ما يعكس أزمة ثقة حقيقية من جانب
الجمهور في هذا التيار، الذي طالما ارتبط
بمشاريع خارجية للمنطقة، سواء في مراحله التأسيسية، أو في مراحل صعوده،
وبخاصة بعد الثورات العربية.
وعكست النتائج رؤية غالبية الجمهور للإسلام السياسي
كتيار مراوغ تطغى عليه صفات الازدواجية والانتهازية السياسية، إذ تصدرت صورته
كتيار يستخدم الديمقراطية وسيلة للوصول إلى الحكم، كما رأى الجمهور أن سلوك
قياداته يتنافى مع أقوالهم، إضافة إلى استخدامه العنف كإحدى الوسائل للوصول إلى
الحكم ، وجاءت تلك المقولات في المراتب الأولى على سلم المقولات الرئيسية التي
تعبر عن اتجاه الجمهور نحو الإسلام السياسي، إلا أن النتائج كشفت أيضا غلبة
الاتجاه المعارض لمقولة أن هذا التيار "يكفر معارضيه"، وهو ما يشير إلى
تفرقة الجمهور بين جماعات الإسلام السياسي وبين الجماعات التكفيرية، على الرغم من
تداخل كثير من الأحداث والممارسات التي أدت إلى تشوش الصورة وعدم وضوح الفارق بين
الجانبين.
وتكشف النتائج المتعلقة بتصويت جمهور العينة في
الاستحقاقات الانتخابية التي أجريت بعد الثورة، عدم صحة الصورة التي حاول
الإسلاميون ترويجها حول امتلاكهم الأغلبية المطلقة داخل المجتمعات العربية، إذ
أشار (28.4%) فقط إلى أنهم صوتوا لصالح تيار الإسلام السياسي، مقابل (35.6%)
اختاروا التصويت لقوى غير إسلامية، فيما اختار (25.3%) عدم المشاركة، وتعزز
الأسباب التي رأى جمهور العينة أنها تقف وراء صعود تيارات الإسلام السياسي بعد
الثورات تلك النتائج، فالأسباب الأربعة التي احتلت الصدارة لدى الجمهور، لا تتعلق
بشعبية أو قوة تيار الإسلام السياسي، إنما تمثل انعكاسًا سياسيًا ومجتمعيًا
لتحولات ما بعد الثورة، ويأتي في مقدمتها، زوال القيود التي كانت مفروضة على القوى
الإسلامية قبل الثورات، ثم الرغبة في التغيير لصالح تيار لم يصل إلى الحكم من قبل،
وهي رغبة مفهومة في أطوار الانتقال الكبرى في حياة الدول والشعوب، ثم تأتي أسباب
مثل ضعف القوى والأحزاب غير الإسلامية، ودور الإعلام في التركيز على أفكار الإسلام
السياسي، بينما تأتي قوة تنظيم تيار الإسلام السياسي كخامس الأسباب وراء صعوده في
مرحلة ما بعد الثورات من وجهة نظر الجمهور.
تعكس تلك النتائج واقع التحول الذي طرأ على تيار الإسلام
السياسي في مرحلة ما بعد الثورات العربية، فمع الصعود الكبير والرغبة الواضحة في
التغيير لدى الجماهير العربية، صارت الثورات العربية "منحة" غير مسبوقة
للإسلام السياسي، إلا أن الإخفاق الواضح في التحول من نمط قيادة الجماعة إلى فكر
إدارة الدولة، والتورط في العديد من الصراعات مع القوى السياسية الأخرى، ومع
العديد من مؤسسات المجتمع كالإعلام والقضاء، ولاحقا المؤسسة العسكرية، وعدم القدرة
على تقديم بديل حقيقي للسياسات التي كانت سائدة قبل الثورات، أدى إلى انكشاف خطير
في الطرح السياسي والفكري لتلك القوى، وخسارتها للصورة التي سعت على مدى سنوات
لبنائها، لتقدم نفسها كبديل إسلامي لأنظمة الحكم العربية في مرحلة ما بعد
الاستقلال، وكان ذلك الانكشاف أحد الأسباب الأساسية التي أسهمت في تنامي الرفض
الشعبي لاستمرار هذا التيار في الحكم.
كشفت الدراسة أن الغالبية العظمى من جمهور العينة ترى أن
للصحافة دورًا في تعبئة الجمهور سياسيًا بشأن تيار الإسلام السياسي، فقد أجاب
(88.4%) من جمهور العينة بـ"نعم" على سؤال إذا كان يرى أن للصحافة دورًا
في تعبئة الجمهور بشأن الإسلام السياسي، مقابل تباين آراء الجمهور بشأن اتجاه هذه
التعبئة السياسية، وجاءت النتائج متقاربة لتعكس حجم الانقسام الذي يعانيه الجمهور،
وانعكاس تجربة كل دولة على رؤية جمهورها للدول الذي تلعبه الصحافة في مرحلة ما بعد
الثورات، وبخاصة تجاه قوى الإسلام السياسي.
أشار (35.7%) من الجمهور إلى أن الصحافة عملت
على تعبئة الجمهور ضد الإسلام السياسي، مقابل (29.4%) رأوا أنها عملت على تعبئته
لصالح هذا التيار، فيما أشار (34.9%) إلى أن الصحف أعلت من مصالح المجتمع دون
انحياز لتيار محدد، إلا أن هذا الانقسام يتلاشى
فيما يتعلق برأي الجمهور في دور الصحافة في إسقاط حكم الإسلام السياسي، فقد
رأى (69.8%) منهم أن الصحف لعبت دورا في إسقاط حكم الإسلاميين، مقابل (30.2%) رأوا
أن الصحافة لم يكن لها دور في هذا الشأن، وتكشف هذه النتيجة أنه رغم تراجع مكانة
الصحافة لدى الجمهور كمصدر للمعلومات، إلا أنها لا تزال تحظى بقدرة واسعة على
تشكيل الاتجاهات والتأثير على سلوك الجمهور بشكل عام.
5-
سيناريوهات
مستقبل الإسلام السياسي في المنطقة العربية:
تكشف نتائج الدراسة وجود أزمة بنيوية حقيقية فيما يوصف
بـ"مشروع الإسلام السياسي"، فقد بنت القوى الإسلامية العربية شرعية
وجودها في المرحلة التي سبقت الثورات، واستطاعت تصدر المشهد السياسي عقب الثورات،
من خلال تأكيدها امتلاك مشروع إسلامي بديل على كافة المستويات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن نسق الأداء الذي قدمته تلك القوى بتنوعاتها
المختلفة كشف – إضافة إلى العديد من الأبعاد الأخرى- عن غياب واضح لهذا المشروع، وأن ما قدمته تلك
القوى لم يكن سوى رؤية خطابية لا تعتمد على تأصيل فكري أو ثقافي أو سياسي حقيقي،
فتيارات الإسلام السياسي لا تتردد في إبداء براجماتية سياسية واضحة، وعندما تعلن
مرجعيتها الدينية، لا تفصل القول في كيفيات بناء هذه المرجعيات وتأويلها، في
علاقتها بواقع المجتمعات المعاصرة، ولم يزد المشروع الذي قدمته تلك القوى عن كونه
"مشروع سلطة" دون أن يتجاوز إلى أن يكون "مشروع تغيير"، وهو
ما عكسته نتائج الدراسة التحليلية والميدانية، من تكريس تلك السمات التي ارتبطت
منذ فترة طويلة بصورة القوى الإسلامية، لا سيما ما يتعلق بالسمات الفكرية الخاصة
بالانغلاق والتشدد واستغلال الدين لخدمة المصلحة السياسية، ورفض التيارات
المعارضة، واللجوء إلى العنف والارتباط بقوى غير وطنية ومشاريع خارجية للمنطقة،
وكلها سمات سلبية، لم يفلح أداء القوى الإسلامية في تغييرها، بل ربما ساهم في
تكريسها وترسيخها.
يرى الباحث أن الصورة الذهنية تمثل أحد أهم مكونات
"رأس المال السياسي" الذي يمتلكه أي تيار أو قوة سياسية، وبالتالي فإن
سلبية تلك الصورة تمثل تحديا حقيقيا أمام قوى الإسلام السياسي، تستوجب منها
مراجعات عميقة، لا تقتصر فقط على إعادة النظر في منهجها ومنظومتها السياسية فقط،
بل تتطلب مراجعات أعمق لمرتكزاتها الفكرية بالأساس، وقد يذهب الباحث إلى أبعد من
ذلك ليشير إلى الحاجة إلى مراجعة شاملة لما يوصف بأنه "مشروع إسلامي"،
فهناك حاجة ماسة لمراجعات إصلاحية متعمقة لـ"الفقه السياسي الإسلامي"،
وإعادة بنائه على أسس جديدة تواكب العصر، بعدما تعرض لتشوهات عميقة ليس فقط على
مدى العقود الأخيرة، بل ربما منذ عدة قرون.
ويبدو الأفق المستقبلي للإسلام السياسي في المنطقة
العربية محكوما بالعديد من المحددات السياسية والفكرية والجماهيرية والتنظيمية،
التي تصوغ إلى حد كبير مسارات ومآلات القوى الإسلامية على تباين اتجاهاتها، وتنوع
تنظيماتها، وهو التنوع الذي يصل إلى مرحلة التضارب والتناقض في أحيان بين ألوان
الطيف الإسلامي عموماً، من زاوية، ومن زاوية ثانية أنّ هنالك خصوصية كبيرة لكل
تجربة سياسية إسلامية عربية، مرتبطة بجملة من السياقات، وفي كل الأحوال لا يمكن
فصل الحديث عن مستقبل الإسلام السياسي، بمعزل عن مستقبل السياسة في المنطقة
العربية بشكل عام، في ظل معادلات داخلية وإقليمية شديدة التعقيد، ربما تتطلب عدة
سنوات لتتضح معالمها المستقبلية.
ويبدو أبرز المحددات التي تشكل مسارات الإسلام السياسي
في المنطقة العربية مستقبلا على النحو التالي:
1-
محدد بنيوي
يتعلق بقيادة هذه الحركة وحراكها الداخلي.
2-
العلاقة مع النظام القائم ومؤسساته.
3-
السياسات الإقليمية مع بروز أدوار الدول الراعية
لتلك الحركات في المنطقة وأخرى معادية لها.
4-
السياسات الدولية والغربية المتذبذبة منذ
"الربيع العربي" تجاه تلك الحركات.
5-
طبيعة الحراك
السياسي والديمقراطي في المنطقة العربية، وما يمكن أن يتيحه من فرص لعودة القوى
الإسلامية مجددا إلى ساحة الفعل السياسي.
ويرى الباحث في ضوء تلك المحددات أن ذلك المستقبل ربما
يتخذ واحدا أو أكثر من مسارات خمسة يمكن إجمالها على النحو التالي:
أولاً: مسار استمرار الصدام:
ويعتمد هذا
المسار على استمرار السياسات الحالية، سواء من جانب القوى الإسلامية التي اختارت
طريق الصدام مع الأنظمة القائمة، وبخاصة في مصر عقب ثورة 30 يونيو 2013، أو من
جانب الأنظمة القائمة، وعدم حدوث تحول جوهري في سياسات الطرفين، وقد يتحول هذا
المسار، مع استمرار وتطور آليات الصراع، إلى مزيد من العنف، سيما مع وجود مؤشرات
على أزمات داخلية في بنية التنظيمات الإسلامية، ربما تدفع لقطاعات مع الأجيال
الأصغر سنا إلى منزلق العنف، ويشير عدد من الباحثين في هذا السياق إلى التجربة
الجزائرية في هذا الشأن، والتي باتت تشتهر في العديد من الأدبيات السياسية
بـ"العشرية السوداء".
ثانيًا:
مسار
التغيير الداخلي والحراك الجيلي:
ويبدو هذا
المسار مرتبطا بما تسفر عنه النقاشات العاصفة في أوساط النخب الإسلاموية والانقسام
في داخل جماعة الإخوان المسلمين الأم بين
تيار يفكّر في المصالحة (وهي القيادة التاريخية)، عبر وساطات إقليمية، لإنهاء
الصراع الحالي، وتيار شبابي يدفع إلى تغيير وسائل المواجهة مع الدولة باتجاه يختلف
على المنهج الإخواني الكلاسيكي.
وهذا المسار
يقود بدوره إلى مسارين فرعيين:
أ- مسار
الجمود وترقب التغيير:
وينتج هذا المسار مع استمرار الأزمة
الداخلية التي تعيشها جماعة "الإخوان" الأم، وغياب تغيير تنظيمي واسع
المجال، أو حدوث جديد على مستوى العودة إلى المشهد السياسي مجددًا، فضلا عن
استمرار تغليب الاعتبارات الأمنية والتنظيمية على أولويات المراجعة الفكرية، وهو
ما يدفع باتجاه استمرار مأزق تلك الجماعة الأم وما يتبعها من جماعات وقوى أقل حضورًا
وتأثيرًا، ويبدو هذا المسار الأكثر احتمالا في ظل احتفاظ القيادات القطبية
بالجماعة على مقاليد الأمور، وعدم رغبتها في تقديم تنازلات واضحة، لا على المستوى
التنظيمي الداخلي، أو على مستوى التعامل مع متغيرات ما بعد 30 يونيو 2013، وتزداد
احتمالات هذا المسار، مع بقاء الأوضاع على ما هي عليه في مصر، واستمرار المحددات
الأساسية لتعامل الدولة مع القوى الإسلامية، ومحدودية فرص وجود أية تغيرات جوهرية
في رؤيتها لتلك التنظيمات كتهديد للأمن الداخلي، وارتباطه بمشروعات خارجية معادية
للدولة وقيادتها.
ب- مسار
التصدع والانقسام والتلاشي:
ويمثل هذا المسار الفرعي انعكاسا لما
ستسفر عنه حالة الصراع الداخلي، ليس فقط
على المستوى الجيلي داخل قوى الإسلام السياسي، ولكن أيضا على مستوى الرؤى السياسية
والفكرية لبعض المجموعات التنظيمية، وإذا كان التيار السلفي في مصر قد تعرض لهذا
المسار في مرحلة سابقة، بخروج عدد من قياداته من حزب "النور" الممثل
الأبرز للقوى السلفية، وتأسيس عدد من الأحزاب الأخرى التي بدت أقل فاعلية وقدرة
على التأثير، إلا أن التنظيم السياسي لجماعة "الإخوان" في مصر لا يزال
محتفظًا بهيكله، حتى ولو كان شكليًا على الأقل، رغم ما تموج به الجماعة من صراعات
داخلية محتدمة، لا سيما في أعقاب ثورة 30 يونيو، واختلاف الرؤى حول الخيارات التي
انتهجتها الجماعة، سواء من جانب مجموعات شبابية، أو مجموعات إقليمية مرتبطة بقيادات
بعينها إلا أن ذلك لا يحول دون إمكانية وقوع تغييرات كبيرة مستقبلا، وبخاصة مع
استمرار الصراع الجيلي والفكري، وتراجع قبضة القيادات القديمة على التحكم في
مجريات الأمور، وقد شهدت الجماعة فعليًا محاولات ملموسة في هذا الشأن تبدت في قيام
مجموعات شبابية بتنظيم انتخابات داخلية، وتبادل قيادات الجماعة وتلك المجموعات
للإقالات، وهو ما يشير إلى أن استمرار حدة
الصراع، وتناميها مستقبلا قد يؤدي إلى انقسامات داخلية عميقة وتشرذم للقوى
المهيمنة على الجماعة، في ظل تعدد المراكز والرؤوس التي تسعى لسد الفراغ الذي
تركته قيادات الجماعة، سواء التي تخضع لمحاكمات، أو الهاربة بالخارج.
ثالثًا: مسار المراجعات الفكرية
والتنظيمية العميقة:
ويبدو هذا
المسار أكثر ارتباطا بقوى الإسلام السياسي خارج مصر، وقد بدأت إرهاصاته ممثلة بوجود اتجاه متصاعد في الحركات الإسلامية في
المشرق والمغرب، بالاستقلال عن الجماعة الأم لـ"الإخوان"، والتحول نحو
أحزاب سياسية مدنية، بفصل الجانب الدعوي عن السياسي، وهو ما يبدو في إقرار حزب
النهضة التونسي الفصل بين الدعوي والسياسي، ووثيقة حركة حماس الجديدة، والتعديلات
على النظام الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين وحزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن،
وكذلك الحال في التوجهات الجديدة للجماعة الإسلامية في لبنان.
وتتجلى الملامح
الأساسية لتلك المراجعات في فصل الدعوي عن السياسي والتحول إلى أحزاب سياسية مدنية
محترفة، والتحول عن شعار "الإسلام هو الحل"، والاتجاه بصورة أكبر نحو التسييس
والبرامجية، والانفصال عن التراث التنظيمي للجماعة الأم في مصر، والارتباط أكثر
بالواقع المحلي، ومحاولة بناء تحالفات جديدة على أرضية وطنية، وليس على أسس دينية
أو طائفية.
ورغم أن هذا التوجه مشجع ومحفز للتحولات الديمقراطية وتفكيك إشكاليات مرتبطة
بالإسلام السياسي في العالم العربي، إلا في الوقت نفسه يطرح إشكاليات أكثر عمقاً،
ولعل أبرزها يتمثل في هوية الأحزاب الجديدة التي تخلت عن شعاراتها الإسلامية وجزء
كبير من أيديولوجيتها الإسلامية، واستبدال الدولة الديمقراطية التعددية بحلم
يوتوبيا "الدولة الإسلامية"، الذي حكم الإسلاميين خلال العقود السابقة.
ويطرح هذا التحول – في حالة حدوثه-
أسئلة مهمة حول الفرق بين الأحزاب الجديدة، التي أخذت تعيد تعريف نفسها من أحزاب
إسلامية إلى وطنية ذات مرجعية إسلامية (أو حتى من دون الإشارة إلى المرجعية
الإسلامية)، وإذا فقد الإسلاميون الأدوات التقليدية في الخطاب، التي كانت تحشد
الشارع خلفهم، في شعارات الإسلام هو الحل والهوية الإسلامية والطوباوية الإسلامية
لحل المشكلات الراهنة، فبماذا سيكتسبون المؤيدين ويجمعون الأنصار ويخوضون
الانتخابات في ظل التزامهم ببرامج اقتصادية شبيهة بما هو قائم، مرتبطة بمنظومة
الأدوات الاقتصادية المتاحة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، وهو ما يدفع
باتجاه تجربة حزب "العدالة والتنمية" في تركيا التي تعد نموذجا أقرب إلى
"العلمانية المحافظة".
ويحتاج هذا المسار إلى بيئة داخلية وخارجية ملائمة
لإنتاج مثل تلك المراجعات العميقة لفقه العمل السياسي وأدواته، فعلى المستوى
الداخلي لقوى الإسلام السياسي، يتطلب الأمر تصعيدا لجيل من المنظرين والمفكرين
القادرين على إعادة صياغة الرؤية النظرية والسياسية والأطر التنظيمية لتلك القوى،
وهو ما افتقرت إليه تلك القوى على مدى سنوات طويلة ماضية، نظرا لتغليبها الاعتبارات التنظيمية على
الأولويات الفكرية النظرية.
ومن جانب آخر،
يتطلب إنتاج هذا التحول العميق، والمراجعات الفكرية سياقا أقل صخبا مما تواجهه
القوى الإسلامية في المرحلة الراهنة، فتحت ضغط المواجهات والصراعات التي تخوضها
سواء بين مجموعات التأثير الداخلية، أو في مواجهة الأنظمة السياسية والأمنية للدول
التي توجد بها، لا يعلو صوت فوق صوت المواجهة والصراع والحفاظ على تماسك التنظيم،
بينما تبدو الدعوة إلى المراجعات – وهي باعتقاد الباحث الطريق الأقوم للقوى
الإسلامية- نوعا من الترف الفكري والسياسي، فضلا عن تمسك الجيل الحالي من قيادات
القوى الإسلامية باستبعاده، لأنه قد يمثل إضرارًا بمراكزهم ومصادر قوتهم
التنظيمية.