الإسلام السياسي في الصحافة العربية: اتجاهات الجمهور في مرحلة الثورات (1-2)
كانت الثورات العربية- ولا تزال- حدثًا مفصليًا في تاريخ
المنطقة، ليس فقط على المستوى السياسي، وإنما على المستوى الاجتماعي والثقافي في
الوقت ذاته، وإن بدت الأوجه السياسية هى الأكثر حضورًا في المشهد الراهن، سواء من
حيث التفاعل الجماهيري، أو حتى على مستوى البحث الأكاديمي، إلا أن حجم وعمق ما
شهدته المجتمعات العربية على مدى السنوات الست الأخيرة يبدو أكبر من اختزاله في
الجوانب السياسية، رغم أهميتها.
وقد أسفرت تلك الثورات عن كثير من التداعيات التي يبدو
أنها ما تزال مفتوحة على مزيدٍ من التطورات، وهذه التداعيات من التشعب والتنوع
بحيث لا يمكن قصر دراستها على مجال بحثي واحد؛ بل إن الدراسات الاجتماعية بما
تحتويه من تنوع في المجالات والمناهج والأدوات بحاجة إلى المزيد من العمل من أجل
فهم ماهية ما حدث، والوقوف على أسبابه العميقة، وتحديد قواه الفاعلة، ومسارات
تفاعلها بعضها مع البعض الآخر، ومع واقع الأحداث، ومآلاتها المتباينة، فضلاً عن
استشراف اتجاهات تلك المسارات مستقبلاً.
وعلاوة على ما سبق، فقد كانت الثورات العربية من الظواهر
السياسية والاجتماعية متشابكة الأسباب والنتائج، وقد لعب الإعلام على اختلاف
تنوعاته ووسائله، سواء التقليدي منها أو الجديد دورًا محوريًا، لا يزال بحاجة إلى مزيدٍ
من الدراسات المتعمقة، لفهم طبيعة ذلك الدور الذي قام به الإعلام في مسار الثورات
العربية، تأثيرًا وتأثرًا.
وكما
يشير أليكسس دو توكفيل في كتابه "الثورة والنظام القديم"، فإن أزمنة
التغيير من قبيل ما يحصل في أزمنة الثورات تكون مليئة بالمفاجآت، كما تكون محاصرة
بمعارك غير متوقعة فبعدما تنجز الثورة أفعال التحرير، تواجه إكراهات عديدة، بل
تواجه ضغوطًا قوية، من قبيل ركوب القوى المحافظة لدروبها، وسعيها لاختطاف المكاسب
التي حققتها الثورة.
وقد كان صعود قوى الإسلام السياسي في الدول
العربية التي شهدت موجة من الثورات والاحتجاجات الشعبية منذ عام 2011، فيما بات
يعرف بدول "الربيع العربي"- واحدًا من أبرز تلك التحولات المفاجئة،
فخلال تلك الثورات، وطوال الفترات الانتقالية التي أعقبتها، تصدرت قوى الإسلام
السياسية المشهد، ونجحت بالفعل في الوصول إلى قمة السلطة في عدد من تلك البلدان.
إلى الحد الذي دفع بعض الباحثين إلى القول إن الثورات العربية "سارت عكس
تاريخ الثورات في العالم".
وكما كانت فترات الثورات العربية منعطفًا تاريخيًا لصعود
القوى الإسلامية، فإن تلك المرحلة كانت تحمل في طياتها أيضًا تحولاتٍ جوهرية كبرى،
عصفت بالقوى الإسلامية، وفي غضون ست سنوات تبدل المشهد من صعود إلى هبوط، ومن
انتقال إلى مربع السلطة، إلى عودة لوضع أكثر صعوبة مما كانت عليه قبل انطلاق
الثورات التي لم تصنعها تلك القوى.
وبينما
يحمّل البعض قوى الإسلام السياسي المسئولية الأولى عن تعثر مسار الثورات العربية،
نتيجة أسباب عدة، من بينها غياب مشروعات حقيقية للتغيير، وضعف التعاون مع القوى
السياسية والأيديولوجية الأخرى، يرى آخرون أن النُخب السياسية بمختلف تياراتها
الليبرالية والإسلامية والقومية والاشتراكية لم ترق إلى مستوى الحدث الثوري، إذ
تصارعت تلك النخب في شأن الوصول إلى المكاسب الشخصية، وأخفقت في التوصل إلى توافق
وطني لعبور المرحلة الانتقالية.
في هذا الإطار، نوقشت الأحد 22 أكتوبر بكلية الإعلام
جامعة القاهرة رسالة الدكتوراه المقدمة من الباحث أسامة السعيد السعيد قرطام رئيس
قسم التحقيقات بصحيفة "الأخبار" وعنوانها: "صورة الإسلام السياسي
في الصحافة العربية وانعكاسها على اتجاهات الجمهور في مرحلة الثورات
العربية"، أشرف على الرسالة د. نجوى كامل عبد الرحيم و د. محمد حسام الدين
اسماعيل الأستاذان بقسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وناقشها د. ليلى عبد
المجيد عميد كلية الإعلام الاسبق و د. محمد شومان عميد كلية الإعلام بالجامعة
البريطانية، وحصل الباحث بها على درجة الدكتوراه في الإعلام من قسم الصحافة بتقدير
مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بتبادل الرسالة مع الجامعات الأخرى.
وقد سعت الدراسة إلى رصد وتحليل صورة
الإسلام السياسي في الصحافة العربية في مرحلة الثورات التي انطلقت عام 2010-2011،
وما بعدها، من خلال تحليل المحتوى الكمي والكيفي لمضامين صحف العينة التي شملت "الشروق"
المصرية، "الصباح" التونسية، "عين ليبيا" الليبية، "الشرق
الأوسط" اللندنية، و"القدس العربي" اللندنية، خلال الفترة بين عامي
2011-2014 ، كما قامت الدراسة بتحليل اتجاهات الجمهور العام المنتمي لثلاث دول
عربية شهدت ثورات هي مصر وتونس وليبيا، وذلك للوقوف على اتجاهات هذا الجمهور نحو
قوى الإسلام السياسي، والصورة الذهنية عن هذا التيار، ودور الصحافة في تشكيلها،
وقد تم تطبيق استمارة الاستبيان على 450 مفردة، موزعة بالتساوي على مواطني الدول
الثلاث، بواقع 150 مفردة لكل دولة.
وقد خَلُصَت الدراسة إلى عديدٍ من
النتائج، سواء فيما يتعلق بتحليل المضامين الصحفية، أو اتجاهات الجمهور، نحو قوى
الإسلام السياسي، ودور الصحف العربية في تشكيل الصورة الذهنية واتجاهات الجمهور
إزاء تلك القوى، ويمكن استعراض أبرز النتائج العامة التي توصلت إليها الدراسة على
النحو التالي:
أولاً- نتائج الدراسة التحليلية على مضامين
الصحف العربية
توصلت الدراسة لعديدٍ من النتائج فيما
يتعلق بتحليل صحف العينة، في ضوء أهداف الدراسة وتساؤلاتها، ويمكن استعراض أبرز
تلك النتائج على النحو التالي:
1-
أولويات القضايا المثارة:
تباينت أولويات القضايا التي عكستها صحف
عينة الدراسة، وبرز بوضوح التأثير الكبير للواقع المحلي وتجربة كل دولة في مرحلة
الثورات وما بعدها، على اتجاهات المعالجة الصحفية لقضايا الإسلام السياسي، فركزت
صحيفة "الشروق" المصرية على قضايا الانفراد بالسلطة، والانتخابات
البرلمانية والرئاسية، والمخاوف من صعود التيارات الإسلامية، وكذلك دور الإعلام في
الصراع السياسي، وهو ما يعكس طبيعة التجربة التي عاشتها مصر مع الإسلام السياسي في
مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير 2011، ورغبة هذا التيار، وبخاصة "جماعة الإخوان"
في الاستحواذ على السلطة، والسيطرة على مفاصل الدولة، وحالة الانقسام السياسي
والمجتمعي إزاء تلك الممارسات في هذه الفترة.
في
المقابل ركزت صحيفة "الصباح" التونسية على مشاركة الأحزاب الإسلامية في
تشكيل الحكومات الجديدة، والمخاوف من العنف الطائفي والإرهاب، وهو ما يعكس ذلك
التباين الواضح في التجربة التونسية بين أدوار القوى الإسلامية السياسية ومشاركتها
في العملية الديمقراطية، وما بين نشاط القوى السلفية والراديكالية (الجهادية)،
وانضمام الآلاف من عناصر تلك التنظيمات إلى جماعات العنف المسلح، أما صحيفة
"عين ليبيا" الليبية فركزت من جانبها على البعد المتعلق بدور المؤامرات
الخارجية والتمويلات الأجنبية، وتداعيات ذلك التدخل الخارجي على الساحة الداخلية
الليبية التي تعاني صراعات مسلحة دامية، وعدم استقرار للمؤسسات السياسية.
برز في هذا الإطار التأثير الواضح أيضا
لنمط الملكية على اتجاهات المعالجة الصحفية، وتحديد أولويات القضايا في تلك
المعالجة، وقد تجسد ذلك بوضوح في معالجة الصحف العربية الدولية لقضايا الإسلام
السياسي في مرحلة ما بعد الثورات العربية، إذ تأثرت تلك المعالجة بمواقف ممولي أو
مالكي الصحيفة من تطورات الأحداث في دول ما بات يعرف بـ"الربيع العربي"،
فاهتمت على سبيل المثال صحيفة "الشرق الأوسط" المملوكة لإحدى الشركات
السعودية بقضايا المال السياسي، ومستقبل الأحزاب الإسلامية، وأخطاء "جماعة
الإخوان" في مصر، وركزت الصحيفة على إبراز 7 سمات أساسية في الصورة التي
قدمتها عن الإسلام السياسي، 5 منها سلبية هي: "لا يعترفون بحدود الأوطان"،
"يستخدمون الدين لأهداف سياسية"، "مشروعاتهم استهلاكية"، "فاشلون"،
و"فاسدون"، وتتوافق تلك الصورة مع الموقف السعودي الذي ساد عقب الثورات
العربية، كما كانت المملكة العربية السعودية من أشد الداعمين للإطاحة بحكم "جماعة
الإخوان" في مصر، كما كانت أول مَن أيد ثورة 30 يونيو 2013.
بينما
كانت مواقف صحيفة "القدس العربي" التي اشتراها مستثمرون قطريون، أكثر
وضوحًا في الدفاع عن القوى الإسلامية وتبرير صعودها في أعقاب الثورات العربية،
فضلاً عن الهجوم على الأنظمة السابقة، وقدمت الصحيفة صورة عن الإسلام السياسي تضمنت في مجملها عديدًا
من السمات الإيجابية، وأبرز تلك السمات أن هذا التيار "إصلاحي"، "يناصر
القضايا العربية والإسلامية"، وهو ما يتفق مع الصورة التي سعى الدعم القطري
الرسمي والإعلامي إلى تكريسه عن قوى الإسلام السياسي عقب الثورات.
وتتفق النتائج التي توصلت إليها الدراسة
في هذا الشأن مع ما انتهت إليه دراسات سابقة، منها دراسة سحر غريب (2014)، والتي
أكدت التأثير الملموس للتجربة السياسية، وطبيعة الأدوار التي تقوم بها القوى
الإسلامية على تأطير المعالجة الصحفية لتلك القوى. كما تتفق تلك النتائج مع ما
خلصت إليه دراسة عائشة الحداد (2013)، والتي أشارت إلى اختلاف نمط المعالجة
الصحفية لقضايا تيار الإسلام السياسي باختلاف نمط الملكية في مرحلة ما بعد ثورة 25
يناير، وتتفق الدراسة كذلك مع استخلاصات عزة أبو العز (2012)، والتي أشارت إلى
تناص الأطر التي تقدمها المجلات المصرية والأمريكية لقضايا "جماعة الإخوان"
مع موقف كل من مصر والولايات المتحدة إزاء الجماعة، وبما يكرس لمصلحة النظام
السياسي في ذلك الشأن.
كما تتفق الدراسة أيضا مع نتائج دراسة مارك لينش
Lynch
(٢٠٠٨)، والتي أوضحت أن من
بين أبرز الأسباب التي أسهمت في سلبية التغطية الصحفية تجاه "جماعة الإخوان"
كانت امتلاك الدولة للصحف القومية، ما يجعلها تتبنى بشكل مطلق سياسات الدولة تجاه
مختلف القضايا والأحداث والقوى السياسية، وأن تلك الصحف ساهمت على مدى سنوات طويلة
في تبني وجهة النظر الحكومية في اعتبار
“الإخوان” جماعة متطرفة وغير قانونية وتمارس الإرهاب، فضلاً عن وصفها بأنها معادية
للديمقراطية.
2-
طبيعة القضايا المثارة:
جاءت القضايا الفكرية في صدارة القضايا
التي برزت في المضامين الصحفية المتعلقة بالإسلام السياسي في صحف العينة، واحتلت
تلك القضايا نحو 97% من جملة القضايا المطروحة في تلك المضامين، وهو ما يكشف بشكل
جلي ذلك الإدراك العميق من جانب الصحافة العربية لكون الإسلام السياسي ظاهرة فكرية
في المقام الأول، وأن الممارسات السياسية ما هى إلا انعكاس لتلك البنية الفكرية في
الأساس، ومن النتائج التي كشفتها الدراسة، وتستحق الوقوف أمامها بمزيدٍ من التحليل
تصدر قضية "ازدواجية الخطاب السياسي والديني للإسلاميين" قائمة القضايا
الفكرية التي طرحتها صحف العينة، وقد جاءت في المركز الأول بين جملة القضايا
الفكرية، وهو ما يعيد طرح تلك الإشكالية التاريخية التي يثيرها خطاب الإسلام
السياسي، وما يطرحه من فكر ومنهج منذ ظهوره على الساحة العربية قبل قُرابة تسعة
عقود، وهي تلك الازدواجية بين الديني الدعوي والسياسي النفعي، والتي كانت ولا تزال
أخطر ما يطرحه هذا التيار من إشكاليات، لا تزال تثير جدلاً فكريًا وسياسيًا بل حتى
فقهيًا، فضلاً عن كثيرٍ من التحديات التي يثيرها هذا الطرح الذي يسعى إلى
"عصرنة الماضي" وإحياء "دولة الخلافة"، دون الالتفات إلى ما
أحرز من تطور على مدى 14 قرنًا من الزمان.
وكشفت نتائج الدراسة التحليلية كذلك
حضور قضايا الصراع الثقافي في مرتبة متقدمة بين القضايا الفكرية التي ركزت عليها
صحف العينة، إذ جاءت بنسبة 17.5% من جملة القضايا الفكرية، مقابل قضية "تطبيق
الشريعة"، التي جاءت في مرتبة لاحقة بنسبة 9.6%، وهو ما يعكس تشككًا واضحًا
لدى الصحافة العربية في الشعارات المرفوعة من جانب تيار الإسلام السياسي بشأن
تطبيق الشريعة الإسلامية، كهدف مركزي لوجود تلك الجماعات بالأساس، فضلاً عن أن تلك
النتائج تكشف أيضًا تصاعد الإدراك بأن الصراع الثقافي، ومحاولات "أسلمة
الدولة" تحتل مرتبة متقدمة في أولويات قوى الإسلام السياسي، على اختلاف
تبايناتها الفكرية والتنظيمية، وأن الصراع بين تلك التنظيمات الإسلامية، وبين
خصومها من القوى والتيارات الأخرى هو في جوهره صراع ثقافي هوياتي، وأن الصراع
السياسي ليس سوى أحد تجليات هذا الصراع الأكثر عمقاً وأهمية، وهو ما ينسجم مع ما ذهب إليه كثيرٌ من الباحثين
من أن "موضوع الدولة لدى الإسلاميين شكل جوهرا يكاد يكون ثابتًا، بل إن
أيديولوجيا الإسلام السياسي قامت على فكرة الدولة الإسلامية منذ سبعينيات القرن
الماضي، أكثر مما قامت على أي مفهوم سياسي أو اجتماعي آخر".
وتتفق النتائج التي انتهت إليها الدراسة
في هذا الشأن مع ما توصلت إليه دراسات سابقة، منها دراسة إيناس أبو يوسف (2013)،
والتي أشارت إلى أن التباين الواضح في الخطاب الصحفي الذي قدمته الصحف المصرية
بشأن هوية الدولة المصرية بعد ثورة 25 يناير، حيث ركزت الصحف المعبرة عن الأحزاب
الدينية عن مركزية قضية الدولة الدينية في خطابها، مقابل تركيز الصحف الحزبية غير
الإسلامية على مدنية وعلمانية الدولة، وهو في جوهره صراعٌ فكري ثقافي قبل أن يكون
صراعًا سياسيًا، وأن خطاب صحيفة "الحرية والعدالة" التي كان يصدرها حزب "جماعة
الإخوان" بوصفه يمثل "المسلمين الملتزمين مطبقي الشريعة"، كما تتفق الدراسة مع ما انتهت إليه دراسة آمال
كمال طه (2015)، والتي خَلُصَت إلى أن الخطابات الصحفية حول قضية تجديد الخطاب
الديني، كانت في مجملها خطابات أيديولوجية، عبرت عن طبيعة الصراع الثقافي بين
منتجي تلك الخطابات من المنتمين لتيار الإسلام السياسي، وبين منتجي الخطابات من
المنتمين لتيارات أيديولوجية وسياسية أخرى.
كما تعكس نتائج الدراسة عدم الاقتناع من
جانب صحف العينة بتوجهات قوى الإسلام السياسي لإنشاء أحزاب سياسية لتكون أداتها في
الصراع السياسي في مرحلة ما بعد الثورات العربية، إذ تشير تلك النتائج إلى أن الازدواجية
في الخطاب يرتبط بالجماعات الأم وبأحزابها السياسية على حد سواء، وهو ما يعكس رؤية
الصحافة العربية لأن تجذر الارتباط بين السياسي والديني في فكر وخطاب جماعات
الإسلام السياسي، لم يشهد تغيرًا يُذكر في مرحلة ما بعد الثورات العربية، وأن
الخلط بين الديني والسياسي في أيديولوجيا الإسلام السياسي أكثر عمقًا وتجذرًا، وأن
تأسيس تلك الأحزاب لم يكن سوى تكتيك أداتي لمواكبة تحولات مرحلة ما بعد الثورات،
دون أن يمثل ذلك مراجعة منهجية أو تخليًا عن النهج الأساسي الذي شكل جوهر أيديولوجيا
الإسلام السياسي، وهو خلط الدين بالسياسة.
تتفق هذه
النتائج مع ما انتهت إليه دراسة يسرا عبد الخالق (2012)، والتي أشارت إلى تشابه
الخطاب البرلماني لكل من حزب "الحرية والعدالة" في مصر وحزب "حركة
النهضة" في تونس خلال الانتخابات البرلمانية التي أُجريت عقب ثورات 2011، وأن
ذلك الخطاب لم يكن سوى إعادة تدوير للمبادئ نفسها التي يقوم عليها فكر "جماعة
الإخوان" على امتداد تاريخها.
لم تحظ القضايا الاقتصادية والاجتماعية
باهتمامٍ كبير من جانب صحف الدراسة، وربما يرجع ذلك إلى التركيز على القضايا
الفكرية والأمنية في المضامين المقدمة عن الإسلام السياسي التي تعكس رؤية متعمقة
لجوهر وطبيعة القوى الإسلامية، إلا أنه ورغم ذلك تبرز بعض النتائج ذات الدلالة
التي تستحق مزيدًا من التحليل، ومن بين تلك النتائج تصدر موقف قوى الإسلام السياسي
من المرأة لقائمة القضايا الاجتماعية التي تم تناولها من جانب صحف العينة، فركزت
تلك المضامين على موقف تيار الإسلام السياسي وجماعاته المختلفة من المرأة، وأشارت
بعض تلك المضامين إلى أن "المرأة كانت المتضرر الأول من وصول الإسلاميين إلى
سدة الحكم"، وتجسد هذه النتيجة رؤية الصحافة العربية لجانب من المنظومة
الفكرية والاجتماعية لتيار الإسلام السياسي، ليس فقط على الساحة العربية، بل إن
هذا الموقف من المرأة وحدود دورها في المجتمع يمثل مشتركًا فكريًا لدى معظم
الأصوليات الدينية، وهو ما يطلق عليه بعض المفكرين "التمركز حول الأنثى".
يتفق ما
انتهت إليه الدراسة في هذا الصدد مع ما توصل إليه عديدٌ من الباحثين المتخصصين في
شئون الإسلام السياسي، من اتجاه رؤية الإسلام السياسي نحو المرأة إلى مزيدٍ من
التشدد خلال العقود الماضية، حتى تلاشت الفوارق في هذا الشأن بين ما كان يوصف بأنه
جماعات "معتدلة" وأخرى "متشددة"، فرغم أن "جماعة الإخوان"، لم تقدم منذ نشأتها
إطارًا متشددًا في هذا الصدد، إلا أن المتغيرات التي شهدتها جماعات الإسلام
السياسي طيلة العقود الأخيرة، وبخاصة تأثيرات الفكر الوهابي، دفعت بأفكارها إلى
مزيدٍ من التشدد الاجتماعي، ما دفع بعض الباحثين إلى الإشارة إلى "تسلف
الإخوان"، وتجذر الأفكار الوهابية في الرؤية الاجتماعية لتلك الجماعات، وبات
التشدد إزاء المرأة وفرض أنماط من الملبس والسلوك وأنماط التعامل وحدود الدور، ليس
جزءًا من رؤية اجتماعية بقدر ما صار مكونًا فقهيًا وشرعيًا، بل إن التشدد من جانب
قوى الإسلام السياسي تجاه المرأة لم يقتصر فقط على حدود دورها ووجودها الإنساني،
بل امتد حتى طال مجرد حضورها الرمزي، ولو كان متجسدًا في أعمال فنية.
وتتفق نتائج الدراسة في هذا الشأن مع ما انتهت
إليه دراسة عبير نجار وأيهم العجوي Allagui & Najjar
(2011) ، والتي انتهت إلى غلبة السلبية على أطر
تقديم الإسلام السياسي في الأفلام السينمائية الشعبية في مصر، حيث يتم تقديم
الإسلاميين بشكل عام في تلك الأفلام في قوالب ثابتة، مثل الإرهاب، ومناهضة
الحداثة، واحتقار المرأة، ورفض الديمقراطية، بالإضافة إلى استخدام العنف ضد مؤسسات
الدولة، واضطهاد المخالفين لهم في الدين وتحريم الأنشطة الفنية والموسيقى.
3-
صورة الإسلام السياسي :
اتسمت الصور المنسوبة لتيار الإسلام
السياسي في صحف العينة بالسلبية الشديدة، ورغم تنوع الصور المنسوبة لتيار الإسلام
السياسي في معالجات صحف الدراسة، ووجود توازن بين الصور السلبية التي بلغ عددها ١٤
صورة، والصور الإيجابية التي بلغ عددها ١٢، إلا أن الصور السلبية احتلت مواقع متقدمة في ترتيب
الصور المقدمة في المضامين الصحفية عن مثيلاتها الإيجابية، وهو ما يعني تركيز هذه
الصحف على الصور السلبية، كما كانت تلك الصور الأكثر كثافة في التناول، بنسبة بلغت
68.6% من جملة الصفات الواردة حول الإسلام السياسي، مقابل 34.4% للصفات الإيجابية.
جاءت الصور المتعلقة بالرؤية الفكرية
لقوى الإسلام السياسي، والموقف من الآخر، هى الأكثر سلبية حيث احتلت صفة
"رجعيون ومتعصبون" على سبيل المثال المرتبة الأولى بين الصفات الواردة
عن تلك القوى في مضامين صحف العينة، بنسبة تجاوزت 50% من جملة الصفات، إضافة إلى
الصفات السلبية المتعلقة بالسلوك السياسي تجاه الآخر المختلف معهم في الرأي، فجاءت
صورة "يستخدمون العنف" في المرتبة الثانية، و"يكرهون
معارضيهم" في المرتبة الثالثة، وجاءت الصور المتعلقة بـ "الخلط بين
الدين والسياسة"، و"الفشل في إدارة شئون البلاد في مرحلة ما بعد الثورات"
لتحتل كذلك مرتبة متقدمة بين الصور المقدمة عن تيار الإسلام السياسي، فجاءت صورة
هذا التيار على أنه "يستخدم الدين لخدمة أهداف سياسية" في المرتبة
الخامسة، تلتها صورة قياداته وعناصره بوصفهم "متآمرين"
و"فاشلين"، و"يسعون للسيطرة على مؤسسات الدولة"،
و"يحاولون تقليص الحريات"، في المراتب الخامسة والسابعة والثامنة
والتاسعة على الترتيب، وهو ما يعزز الصورة السلبية المقدمة عن تيار الإسلام
السياسي وقياداته في الصحافة العربية.
في المقابل كانت هناك مجموعة من الصور
الإيجابية عن القوى الإسلامية، وقد ارتبطت تلك الصور بالمرحلة المبكرة التي أعقبت
اندلاع الثورات العربية، وقبل وصول تلك القوى إلى الحكم في عدد من دول المنطقة في
مقدمتها مصر وتونس، وخوضها العديد من الصراعات السياسية في العديد من البلدان
الأخرى، وقد امتزجت تلك الصورة الإيجابية بالرغبة العميقة في التغيير التي أعقبت
الثورات العربية، وطرح الإسلام السياسي كبديل للأنظمة القائمة قبل الثورات، وبالرهان
على القدرات التنظيمية لتلك الجماعات في إدارة المرحلة الانتقالية، فجاءت صفة
قيادات هذا التيار بوصفهم "إصلاحيين" في المرتبة الرابعة بين الصفات
المنسوبة لرموز الإسلام السياسي كما جاءت صورتهم كـ"منظمين وناجحين"، في
المرتبة السادسة، إلا أن تلك الصورة شهدت تحولاً جوهريًا، مع تصاعد حدة الانتقادات
لأداء الإسلاميين في السلطة، وفي مرحلة ما بعد الإطاحة بحكم "جماعة
الإخوان" من الحكم في مصر في أعقاب ثورة 30 يونيو 2013، وهو ما يعكس حجم
التحدي الذي فرضته تجربة الحكم على القوى الإسلامية، والتي أعادت تلك القوى إلى
مواقع أكثر تراجعًا مما كانت عليه قبل الثورات.
تتفق هذه النتائج في مجملها مع ما انتهت
إليه عديدٌ من الدراسات السابقة في هذا الشأن، ومنها دراسة عائشة الحداد (2014)
التي توصلت إلى أن من أبرز الصور الإعلامية التي يتم تقديم القوى الإسلامية من
خلالها هى أنها "مضادة للديمقراطية"، "تمارس العنف"، "تستغل
الدين"، "تتآمر مع جهات خارجية ضد مصلحة مصر"، و"تهدد الهوية
المصرية وتسعى إلى الاستيلاء على كل مفاصل الدولة وإقصاء الآخرين"، كما تتفق
نتائج الدراسة مع ما خلصت إليه دراسة آمال كمال طه (2014)، والتي توصلت إلى أن
خطاب الصحف المصرية قدم صورة شديدة السلبية لتيار الإسلام السياسي، وبخاصة التيار
السلفي، الذي تم وصفه بالتشدد والتطرف والمتاجرة بالدين، كما تتفق كذلك مع ما
انتهت إليه دراسة ريهام سامي (2015)، والتي أشارت إلى أن أطر السمات التي تقدم من
خلالها القنوات التلفزيونية المصرية "جماعة "الإخوان"، ركزت على
"التظاهر بالقوة"، "التغييب عن الواقع"، "الصدام وتكفير
المجتمع"، "التواطؤ مع جماعات إرهابية في سيناء"، "الفشل في
إدارة البلاد"، "التحالف مع الغرب"، و"عدم الوفاء بالعهد"،
كما تتفق تلك النتائج مع ما توصلت إليه دراسة حنان بدر (٢٠٠٥)، والتي انتهت إلى
وجود مجموعة من التصورات الإيجابية والسلبية عن الجماعات الإسلامية المصرية في
الصحف الألمانية، وأشارت الدراسة إلى غلبة التصورات السلبية، والتي جاء في مقدمتها
عدم تقبلهم للقيم الغربية، وعدم قبولهم بالرأي الآخر، وكراهيتهم وعداؤهم لمن
يختلفون عنهم في الدين، إضافة إلى لجوئهم للعنف، وأنهم يستخدمون الدين وسيلة
للوصول إلى الحكم، فضلا عن أنهم يمثلون خطرًا ليس فقط على الأنظمة العربية الحاكمة،
بل على الحضارة الغربية أيضًا.
ساد الاتجاه المعارض نحو الإسلام
السياسي المضامين التي قدمتها صحف الدراسة، واحتل هذا الاتجاه الترتيب الأول بنسبة
(56%)، بينما جاء الاتجاه غير الواضح في المرتبة الثانية بنسبة (26.5%)، يليه
الاتجاه المؤيد في الترتيب الثالث والأخير بنسبة (17.5%)، وجاءت معظم تلك المضامين
المؤيدة في صحيفة "القدس العربي"، كما تتفق هذه النتائج مع دراسة احمد
متولي (2013) التي أشارت إلى أن اتجاه مضمون المواد الصحفية التي تناولت جماعة
الإخوان المسلمين جاء سلبياً، كما تتفق مع نتائج دراسة سحر أحمد غريب (2014)،
والتي أكدت وجود مناخ إعلامي عام معارض لجماعة "الإخوان" في مواقع الصحف
المصرية عينة الدراسة رغم اختلاف نمط ملكيتها وأيديولوجياتها ، وبخاصة فيما بعد 30
يونيو 2013، وأن الصور الإيجابية التي قدمتها الصحف عن الجماعة جاءت في فترة ثورة
25 يناير2011 والمرحلة الانتقالية.
4-
أبرز القوى الفاعلة والصفات والأدوار
المنسوبة لها:
أبرزت المضامين المتعلقة بالإسلام
السياسي في صحف العينة عديدًا من القوى الفاعلة الرئيسة والفرعية، وبلغ عددها 34
قوى فاعلة، وجاءت أحزاب وجماعات الإسلام السياسي في المقدمة باعتبارها القوى
الفاعلة المركزية، وبنسبة 38.4%، فيما جاءت قيادات "جماعة الإخوان" في
المرتبة الثانية بنسبة 16.3%، وهو ما يعكس حجم وطبيعة الحضور الذي تحظى به تلك
الجماعة في سياق المعالجة الصحفية الخاصة بقضايا الإسلام السياسي.
يرى
الباحث أن تصدر "جماعة الإخوان"
للقوى الفاعلة الإسلامية يرجع إلى عاملين أساسيين، أولهما يتعلق بالصعود اللافت
للجماعة في مرحلة ما بعد الثورات العربية، وبخاصة في مصر، ونجاحها في الوصول إلى
الحكم، بعد الفوز في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ثم سقوط حكم الجماعة تحت
الضغط الشعبي الذي شهدته ثورة 30 يونيو 2013، وهو ما جعل الجماعة في بؤرة الاهتمام
الصحفي حضورًا وغيابًا، بينما يتعلق
العامل الثاني بحجم وعمق التأثير الأيديولوجي والتنظيمي والمرجعي للجماعة
في عديدٍ من التنظيمات الإسلامية الأخرى، حتى تلك التي لا تنضوي تنظيميًا تحت مظلة
الجماعة، فالإخوان هى الجماعة الأم لتيار الإسلام السياسي، وقد قدمت على مدى
العقود التسعة الماضية إطارًا فكريًا ومرجعيًا لمختلف التنظيمات الإسلامية التي
ظهرت لاحقًا على الساحة العربية، وليس المصرية فقط، بل إن تأثيرها الفكري امتد إلى
جماعات خارج منظومة العمل السياسي، فعلى سبيل المثال كانت أفكار مُنَظِر الجماعة
سيد قطب، الأساس الأول الذي قامت عليه البنى الفكرية لجماعات التكفير والعمل
المسلح.
كما
يتجاوز تأثير الجماعة بكثير حدود الارتباطات التنظيمية في مصر، رغم وجود تلك
الروابط مع عديدٍ من الجماعات الإخوانية في تونس والمغرب والجزائر وفلسطين والأردن
والعراق وسوريا واليمن والسودان والخليج العربي، فضلاً عما بات يُعرف بـ"التنظيم
الدولي للإخوان"، وقد كانت تلك الجماعات امتداداتٍ للجماعة الأم في مصر، حتى
وإن تباينت السمات الفرعية المتأثرة بطبيعة كل دولة واختلاف السياقات الثقافية
والاجتماعية والسياسية السائدة في كلٍ منها، فقد حددت "جماعة الإخوان"
النمط الذي يجب أن يُحتذى للحركات الإسلامية الأخرى، كما أن عديدًا من الحركات
التي ظهرت في بلدان أخرى تحت مسميات مختلفة تواصل الإشارة إلى المنظمة المصرية
الأصلية على أنها الحركة الأم.
ولم تقتصر القوى الفاعلة ذات الصبغة
الإسلامية على هاتين الفئتين، بل ضمت كذلك قوى أخرى مثل قيادات التيار السلفي،
وقيادات أحزاب ذات مرجعية إسلامية، وإسلاميين متشددين، وهو ما يعكس حجم الدور
المحوري والحضور الكبير للقوى الإسلامية على اختلاف تنوعاتها وتنظيماتها على
الساحة العربية في مرحلة الثورات العربية وما بعدها.
كما أبرزت المضامين الصحفية في صحف
العينة في إطار تناولها لقضايا الإسلام السياسي عديدًا من القوى الفاعلة الأخرى
ذات الصلة، وفي مقدمة تلك القوى التي جاءت في ترتيبٍ متقدم، الحكومات الغربية،
والولايات المتحدة الأمريكية التي جاءت في المرتبة الثالثة بين أكثر القوى الفاعلة
حضورًا في المضامين الصحفية، تليها الأنظمة العربية والإسلامية، وهو ما يجسد حجم
ما تثيره قضايا الإسلام السياسي من اهتمام على المستويين الإقليمي والدولي،
والترقب الواسع لمواقف القوى الدولية أو الإقليمية، وتفاعلها مع الأحداث بالمنطقة،
بما لديها من شبكات للنفوذ والمصالح، وارتباطها بتطورات الأحداث العربية.
وتتفق
نتائج الدراسة في هذا الصدد مع ما توصل إليه عديدٌ من الدراسات السابقة، ومن بينها
دراسة دعاء محمود (٢٠١٦)، والتي أشارت إلى الحضور الواسع للقوى الفاعلة الإسلامية،
وبخاصة جماعة الإخوان والرئيس (الأسبق) محمد مرسي في خطاب المواقع الإلكترونية
ومواقع التواصل الاجتماعي بشأن القضايا الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن هذا الحضور
جاء سلبيًا، بوصفها مسئولة عن الفشل في إدارة الدولة والتسبب في عديدٍ من الأزمات
المجتمعية، وكذلك دراسة إيناس سرج (٢٠١٤)، والتي رصدت الدور الواضح للقوى الفاعلة
الرئيسة في أحداث ثورة 25 يناير 2011، ومن بينها عديدٌ من الشخصيات الإسلامية،
ووجود ارتباط قوي بين السمات البارزة في التدوينات التي تقوم بها تلك القوى، وبين
السمات البارزة لدى الجمهور المتفاعل معها، وتتفق أيضًا مع نتائج دراسة هند بشندي
(٢٠١٢)، والتي أكدت أن الشخصيات والتيارات الإسلامية حظيت بأعلى نسبة بين القوى
الفاعلة المركزية في خطابات تعليقات رواد المواقع الإخبارية المصرية، وجاءت أغلب
اتجاهات التعليقات سلبية، حيث جاء وصف السلفيين بأنهم "متعصبون
وإرهابيون"، بينما وصفت ٦٤.٨٪ من التعليقات "جماعة الإخوان" بأنهم
"متعصبون"، فيما حصلت "الجماعة الإسلامية" على ٧٠٪ من
التعليقات السلبية.