الإرهاب العابر للقارات: المفهوم والظاهرة والعمليات
الإرهاب الذي نقصده في هذه الدراسة هو الإرهاب الذي
يرتكب باسم الدين الاسلامي تحديدا، وليس باسم دين آخر أو جماعات اثنية أخرى.
ونفترض أن ظاهرة الإرهاب العابر للقارات نشأت مع تأسيس حركة الاخوان المسلمين في
مصر عام 1928، ومرت الظاهرة بعدة تحولات منذ ذلك التاريخ حتى العمليات الإرهابية
التي طالت أسبانيا منذ أيام قليلة. ونفترض في هذه الدراسة أنه بمجرد ميلاد أي
تنظيم ارهابي تتشكل حوله مباشرة دوائر استغلال سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية
واجتماعية وثقافية، يمكن أن تسهم في توسيع دائرة التنظيم من المحلية إلى الاقليمية
ثم التوسع على المستوى الكوني. يترتب على
ذلك افتراض أن كل تنظيم يمارس الأعمال الإرهابية، يرتبط بشبكة مصالح وتحالفات واسعة
مع من يعتبرهم أعداءه وأهدافا لعملياته، وأن أي تحالف من هذا النوع يحمل في جوفه
عناصر فنائه. وظاهرة الجهاد في أفغانستان، ثم الحرب الدائرة في العراق وسوريا، والإرهاب
الذي يضرب أوربا مؤخرا، تمثل حالات مثالية لإثبات هذا الفرض. فكيف تطورت الظاهرة الإرهابية
من لحظة تأسيس جماعة الاخوان، حتى اللحظة الراهنة؟
الإرهاب المحلي- الاقليمي (1928-1970)
النشأة الحديثة للحركات الاسلامية
بتنظيماتها المتنوعة، ارتبطت من جهة بصراع حضاري، صاحب الاجتياح الاستعماري
الاوروبي للبلدان العربية والاسلامية، وظواهر أخرى صاحبت سقوط الخلافة العثمانية
في عام 1924م. فمن ناحية الاستعمار
الأوروبي اتخذت الثورات العربية المقاومة للاستعمار طابعا اسلاميا جهاديا إلى ما
قبل الحرب العالمية الاولى، كثورة القاهرة الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية،
وثورة الأمير عبدالقادر الجزائري في الجزائر (1832-1847) والثورة المهدية في
السودان (1881-1898) والثورة السنوسية في ليبيا (1912-1917)، وحتى حركة الحزب
الوطني في مصر ضد الاحتلال الانجليزي (1905-1908) غير أن هذه الثورات بعد الحرب
العالمية الأولى بدأت تتخذ طابعا عربيا ووطنيا محليا، ولربما بقي الاسلام عنصرا من
عناصرها، ولكنه لم يصبح طابعها الغالب والمميز.
في عام 1928 تتأسس "تنظيم
الاخوان المسلمين" مدعيا تقديم طرح مختلف، ذا طابع أيديولوجي، يعتمد نسقاً من
المعتقدات الدينية، التي تشكل رؤية خاصة للدولة، والثقافة والتعليم والتغيير بالقوة
العسكرية (الجهاد)، وبذل حسن البنا مؤسس التنظيم، كل جهده في تمييز ايديولوجية تنظيمه
عن كافة القوى القائمة، وكافة المحاولات الوطنية في ذلك الوقت.
وانتشرت الفكرة والحركة في
الثلاثينيات في القرى والمدن المصرية، وخلال الأربعينيات من القرن الماضي حرص
التنظيم على التشبيك مع كافة الأطياف والقوى، فكان تحالفه مع الاحتلال البريطاني
والقصر الملكي والقوى السياسية والنخب المثقفة وكبار رجال الدين. وفي ذات الوقت
انتشر خارج القطر المصري، وتأسست قواعد
اقليمية للتنظيم في عدد من الدول العربية المجاورة وعلى رأسها سوريا.
ولأن التحالف مرتبط بمصلحة
كل طرف، فقد تحول الإخوان من التحالف مع الأطراف القوية (القصر وسلطة الاحتلال)
إلى التحالف مع القوى الشعبية والدينية في حرب فلسطين. فتوترت علاقتهم بالإنجليز
والقصر، نتج عنه أول الأعمال الإرهابية التي نفذها النظام الخاص لتنظيم الإخوان.
ثم دخل في حلف جديد مع
الضباط الأحرار قبيل ثورة 1952، لكن اختلاف الغايات بين الطرفين فض الحلف سريعا،
وبطريقة درامية كما هو معروف ابتداء من عام 1954 إلى أن بلغت الأحداث ذروتها في
عام 1965، وما ترتب عليها من حملات اعتقال وإعدام طالت العديد من قيادات تنظيم
الاخوان.
وفي تلك الفترة حدث أول انتقال فعلي للأفكار والأشخاص
الحاملة التي ستمثل فيما بعد قواعد لنمو الفكر المتطرف بكافة أشكاله، هذا الانتقال
تم عبر معبرين: الأول المعبر الأوروبي وخاصة بريطانيا التي استقبلت القيادات
الإخوانية المؤثرة، ما مهد الطريق لتأسيس التنظيم الدولي للإخوان. والمعبر
الخليجي، حيث مكنت السعودية والكويت القيادات الوسطى والكوادر الصغرى من العمل
والاقامة بشرط عدم نشر الفكر الإخواني. وبطبيعة الحال لم يلتزم الاخوان بالشرط.
يمكن القول أن البطل في هذه المرحلة بلا منازع، هو تنظيم
الإخوان المسلمين، الذي استطاع أن يفرض نفسه على الساحة المصرية، ويتمدد إلى سوريا
وفلسطين والأردن وليبيا. وبعد ان انفض حلف الضباط الأحرار والاخوان في عام 1954،
أتيح للتنظيم التواجد في أوروبا، كما اتيح له التواجد في منطقة الخليج العربي،
فتوفرت للتنظيم أسباب البقاء، وعلى المستوى الفكري كان خروج قيادات الاخوان الى
الجزيرة العربية فرصة لتفاعل أفكار سيد قطب مع الفكر السلفي الوهابي.
العمليات الإرهابية في مرحلة (1928-1965)
العمليات الإرهابية
في تلك المرحلة، لم تكن معقدة، واعتمدت على ثلاثة أساليب: الاغتيال، اشعال الحرائق،
التفجيرات الخفيفة. وفي كل الأحوال الخسائر البشرية لم تكن كبيرة في هذا النوع.
وهذه العمليات هي ناتج تدريب عسكري بسيط، كان يتم في سرية تامة داخل المنازل أو في
بعض المناطق غير الآهلة بالسكان، ولا يسمح هذا النمط إلا بالتدريب على الأسلحة
الشخصية، وكيفية استخدام المتفجرات الخفيفة، وعمليات فك وتركيب السلاح واستعماله
وصيانته. وفائدة هذا التدريب في الجرعة النظرية التي يتلقاها المتدرب عن فنون
القتال.
وكان التنظيم
محظوظا في مناسبتين لمقاومة الاحتلال أتاحتا له التدريب في معسكرات مفتوحة، بل
وامتلاك الأسلحة تحت سمع وبصر الدولة، المناسبة الأولى في فترة جمع التبرعات وشراء
الأسلحة والتدريب عليها من أجل الجهاد في فلسطين، والثانية خلال الفترة من
1952-1954، والتي اعتمد فيها الضباط الاحرار على الاخوان في تنفيذ عمليات مقاومة
للإنجليز في منطقة قناة السويس.
وباطلالة
سريعة على منطقة الشرق الأوسط في هذا الوقت، سوف نلاحظ أن خلطة جديدة من الفكر
الديني المتطرف بدأت في الانتشار السريع في المنطقة، تتكون هذه الخلطة من الفكر الإخواني،
والمنهج الذي أسسه سيد قطب، وفقه ابن تيمية والمدرسة السلفية، وفقه العقائد الذي
أسسه محمد بن عبدالوهاب. وبتكون هذا الأساس الفكري الحركي الجديد، ظهرت تنظيمات
متعددة بطول العالم العربي والاسلامي نذكر منها أربعة حركات: (1) تأسيس حركة الشبيبة
المغربية في مراكش عام 1963 بقيادة عبد الكريم مطيع. (2) بواكير حركة
الجهاد المصرية بقيادة سيد قطب. (3) حركة مروان حديد ضد
حكم البعث في سوريا في عام 1965. (4) حركات
الجهاد ضد الأنظمة الشيوعية في أفغانستان قبل الاحتلال السوفيتي، بداية من
عام 1965.
تطور التنظيمات الجهادية برعاية الدول (1970-1986)
بعيداً عن الحركات الدينية الاصلاحية أو التربوية، فقد
نشأ بالتوازي عدد كبير من الحركات الجهادية الراديكالية بتأثير من هذه الحركة
الجهادية التأسيسية، وتناسلت العديد من الحركات الجهادية في بقاع الشرق الأوسط، مثل
تنظيم الطليعة في تركيا الذي تأسس في عام 1972، وحركة الدولة الاسلامية في الجزائر
بقيادة مصطفى بويعلي، عام 1973، وحركة الثورة الاسلامية الجهادية في سوريا عام
1975، جماعة الجهاد والجماعة الاسلامية في مصر، حركة الاتجاه الاسلامي في تونس.
فهل تستطيع هذه التنظيمات أن تمارس أنشطتها دون مساعدة
وتحالف مع قوى مناوئة للدول التي ولدت فيها هذه التنظيمات؟ والاجابة بالنفي
القاطع، فلا يمكن لهذه التنظيمات أن تتواجد على الأرض دون تحالف مع هذه القوى. فهي
في حاجة ماسة للتمويل والدعم والتدريب.
وعليه فقد
تمكنت كثير من التنظيمات الجهادية الاستفادة من هوامش التناقضات السياسية ومحاور
الصراع الإقليمية والدولية، وأقامت لها معسكرات علنية في دول معارضة لأنظمة الحكم
التي خرجت عليها هذه التنظيمات. ومن تلك التجارب تجربة الحركة الجهادية في سوريا. التي
تلقت من الحكومة العراقية خلال الفترة (1980-1983) دعما كبيرا تمثل في توفير معسكرات
تدريب متطورة للجهاديين القادمين من سوريا، فضلا عن التمويل والدعم المالي اللازم.
وهو نفس الدعم الذي تلقته هذه المجموعات الجهادية من الأردن.
وبهذا المنطق
والتعاون الإقليمي برعاية بعض دول المنطقة والقوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا
وبريطانيا، وبطبيعة الحال المخابرات الاسرائيلية حاضرة بقوة في مثل هذه التحالفات
الخفية. نقول بهذا المنطق نشطت هذه التنظيمات وانصهرت رغم اختلافها في الفكر
والعقيدة في بوتقة واحدة، فحدث تعاون بين التنظيمات الجهادية السنية، والتنظيمات
الشيعية في سوريا وايران ولبنان، كما ارتبطت التنظيمات الجهادية الفلسطينية بعدد
من التنظيمات في الشام والسودان، وارتبطت المجموعات الجهادية من الجزائر والمغرب
وتونس وليبيا ببعض دول وسط إفريقيا والعكس. وارتبطت جماعة مجاهدي خلق الايرانية
بالعراق. الخ
أفغانستان حجر الزاوية
في نشأة الإرهاب العابر للقارات (1986- 2001):
المنطقة
العربية والاسلامية تموج في هذه اللحظة التاريخية بموجات المد الجهادي الراديكالي،
التي دخلت في معركة تكسير العظام مع النظم الحاكمة، وفجأة دخل الاتحاد السوفيتي
أفغانستان لحماية السلطة الحاكمة الموالية، فكانت اللحظة التاريخية المواتية التي
يدفع العالم ثمنها الباهظ حتى اللحظة الراهنة.
لقد
كانت الدول العربية والاسلامية على استعداد تام للسماح للشباب الجهادي بالسفر إلى
أفغانستان، وهو ما حدث فعلا تحت أكبر مظلة تحالف قادتها الولايات المتحدة. وبدأت منابر المساجد في الدول العربية تدعو لنصرة الشعب
الأفغاني المسلم، وتحض على الجهاد باعتباره
فرض عين في أفغانستان، وأطلقت هذه الدول العنان للأئمة والدعاة في هذا
التحريض.
وقد
تولت السعودية وباكستان وأجهزة المخابرات الأمريكية مهمة نقل واستقبال الالاف من
الشباب العرب، ووفرت لهم معسكرات التدريب والرواتب والعتاد اللازم للانخراط في
الجهاد الأفغاني. حالة الكل فيها رابح: مافيا السلاح، الدول التي تخلصت من المتطرفين،
وأمريكا في حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي. حتى الجماعات المتطرفة، لم تذهب
إلى أفغانستان من أجل نصرة الشعب الافغاني فقط، ولكن كان هدفها عولمة التيار الجهادي فكريا
وحركيا، وترتيب الصفوف, وجمع الكوادر, وتجنيد
العناصر, وإقامة العلاقات العامة, واستقطاب أموال التبرعات, وتدريب أفراد التنظيم,
من أجل قضيتهم الذاتية في بلادهم, وهو الهدف الذي سيطر على تفكير معظم إن لم يكن
كل التنظيمات الجهادية العربية. وهو: إسقاط حكومات الردة القائمة في بلادها وإقامة
حكومات إسلامية تحكم بشرع الله. الهدف الذي تحاول تحقيقه الآن في منطقة الشرق
الأوسط.
ظاهرة الأفغان العرب قنبلة الإرهاب الموقوتة:
التأريخ
للجهاد العربي في أفغانستان يبدأ عمليا, منذ (1984) عندما تفرغ عبد الله عزام كليا
للجهاد الأفغاني ميدانيا, بعد أن عمل مدة مدرسا في كلية الشريعة في الجامعة
الإسلامية في إسلام أباد
وعمل
عزام بمعاونة أجهزة المخابرات الأمريكية والباكستانية وبعض الدول العربية على: (1)
تأسيس (مكتب الخدمات) الذي تولى تقديم
ونقل المعونات والتبرعات للمجاهدين والمهاجرين العرب إلى أفغانستان. (2) تأسيس
مجلة الجهاد التي كانت منبره الرئيسي للدعاية للجهاد الأفغاني، والتي انتشرت في
ربوع العالم الإسلامي انتشارا واسعا. (3) تأسيس أول معسكر للتدريب داخل الأراضي
الباكستانية في منطقة القبائل من أجل تدريب الشباب العربي الذي بدأت طلائعه تصل
بأعداد قليلة منذ (1984). (4) القيام
بأسفار ورحلات دعائية ألقى خلالها عشرات الخطب في دول عديدة من أجل الحشد للجهاد
الأفغاني, وحث الشباب على الرحيل إليه والاستفادة منه وأداء فريضة الجهاد. واستطاع
الحصول على أكثر من (80) توقيعا من كبار العلماء والدعاة في العالم الإسلامي وعلى
رأسهم كبار العلماء في السعودية. وكذلك من بعض مشايخ الأزهر، ومن بعض الكبار من
علماء ودعاة الإخوان المسلمين من أقطار عديدة. وكذلك من بعض علماء الباكستان
وسواهم، وقد لعب عزام دورا محوريا في
عملية تحريض الشباب العربي نحو الجهاد في أفغانستان.
ثم بدأ
دوره في الخفوت بعد الاقامة الدائمة لأسامة بن لادن وتأسيس تنظيم القاعدة في مطلع
عام 1986، بعد أن قام هو الآخر بجولة
تحريضية ضخمة في السعودية, أدت إلى تقاطر
المجاهدين العرب بأعداد كبير ليصل عددهم مطلع (1987) إلى عدة آلاف كان أكثرهم من
السعودية واليمن. ثم تزايد العدد ليصل ذروته أواخر(1989-1990 ) ويتجاوز(40) ألفا
من المجاهدين معظمهم قادم من البلاد العربية فيما عرف بعد ذلك بظاهرة الأفغان
العرب.
عودة الأفغان العرب- وتأسيس قاعدة اليمن:
حركة
الجهاد ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وتورط الأنظمة العربية في هذه الحرب من
الأخطاء الفادحة المتكررة في التاريخ العربي. فلم تكن سوى حربا بالوكالة، استخدم
فيها الشباب العربي، بأموال عربية، وقودا في الصراع البارد بين الولايات المتحدة
الامريكية والاتحاد السوفيتي.
بعد
انسحاب السوفييت، وانتهاء الحرب الباردة، دخل الأفغان في طور جديد من الصراع على
السلطة لا محل فيه للمجاهدين العرب. آلاف من العرب المتشبعين بفكرة الجهاد، أصحاب
الخبرة والعدة والعتاد والتمويل، يبحثون الآن عن ساحة جديدة للمعركة، التواقين
لتحقيق هدفهم من الذهاب لأفغانستان وهو: إسقاط حكومات
الردة القائمة في بلادهم وإقامة حكومات إسلامية تحكم بشرع الله.
كانت
اليمن المحطة الاولي للعائدين من أفغانستان، لأسباب عدة منها: (1) أن عددا كبيراً
من اليمنيين وخاصة من الجنوب، كانوا ضمن المجاهدين في أفغانستان، ويحلمون بالعودة
إلى موطنهم للجهاد ضد الحكم الاشتراكي (قبل توحيد شطري اليمن). (2) سهولة الانتقال
إلى الأراضي اليمنية عبر البحر. (3) امكانية الاحتماء والاختفاء في التضاريس
الوعرة لليمن، التي تعد فعليا خارج سيطرة الدولة اليمنية.
وقد
نجح أسامة بن لادن في تأسيس قاعدة اليمن لاستقبال آلاف المجاهدين العرب، عبر
مفاوضات مثمرة مع القبائل اليمنية، وأموال ضخمة ضخت لكل الأطراف من أجل انفاذ
التوطين، وأصبحت اليمن الجنوبي القاعدة الجديدة للعرب الأفغان، كما أنها بدأت تستقطب كوادر جديدة من داخل
التيار السلفي اليمني. وطوال الوقت حرصت القاعدة على توثيق علاقتها بالفضاء
القبلي- السني المحيط. ولم يطل الوقت حتى بدأت القاعدة في ممارسة أعمالها ضد
المصالح الغربية والأمريكية في المنطقة.
ظلت
القاعدة في اليمن، تمتلك أدوات البقاء، ولكنها لا تمتلك أدوات الهيمنة على المجتمع
اليمني، لعدة أسباب: (1) المكون العقائدي الشافعي-الزيدي في اليمن لا يسمح بظهور
وغلبة تنظيم القاعدة ذي المرجعية الوهابية الجهادية. (2) أن التطور في الحركة
السلفية اليمنية، وانفتاح بعض فصائلها على الحداثة السياسية، يقوض انتشار التنظيم،
ويخفض من شعبيته. (3) انعدام الاستقرار في اليمن، بسبب وجودها ضمن مرمى الحرب العالمية
على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر2001. في مثل هذه الظروف يصبح رحيل الأفغان العرب غير
اليمنيين أمراً حتميا، والبحث جاري عن ملاذات آمنة لهذه العناصر الإرهابية شديدة
الخطورة.
الإرهاب العابر داعش في العراق وسوريا:
بعد اجتياح القوات الأمريكية العراق، وتسريح الجيش
العراقي، وتأسيس دستور محاصصة، ونمو مشاعر العداء والكراهية بين مكونات الشعب
العراقي، والفراغات الأمنية المنتشرة بطول البلاد وعرضها، ولد الملاذ الآمن
للجماعات الجهادية على المسرح العراقي، وأصبحت داعش في صدارة المشهد على أنقاض
تنظيم القاعدة.
داعش فصيل مارق عن القاعدة،
نشأ في العراق عام 2004، بعد خلاف طويل مع أبو مصعب الزرقاوي. استغل التنظيم
المسألة الطائفية والاثنية التي أججها الاحتلال الأمريكي للعراق في كسب الكوادر
والأتباع، وفي السيطرة على عدد من المناطق السنية داخل العراق، وبعد انفتاح الجبهة
السورية على مصراعيها، تمدد التنظيم في الداخل السوري، محققا نجاحات في الهيمنة
على مواقع استراتيجية، وفرت له مصادر تمويل ذاتية ضخمة.
ومع أن داعش والقاعدة يسعيان إلى تحقيق
غاية واحدة، وهي تأسيس الخلافة الاسلامية، فإن الخلاف بينهما قائم على مراحل تحقيق
هذه الغاية. فقد حسمت القاعدة أمرها بمواجهة العدو البعيد أميركا والغرب واسرائيل، مع الاحتفاظ بدفع ضرر
الاعتداء عليها في حالة العدو القريب الأنظمة العربية. وفي المقابل، ينطلق تنظيم
داعش من استراتيجية تقوم على أن الخلافة لن تقوم إلا بمواجهة كل الأنظمة العربية وغير العربية، حيث
يعتبرهم التنظيم كفرة يجب قتالهم وممارسة العنف المفرط معهم لتحقيق تلك الغاية.
وبعيداً
عن هذا الجدل الفكري المتطرف، فإن الحالة العراقية ثم بعدها الحالة السورية، تشير
بكل وضوح إلى نشأة تحالف خفي بين أطراف متناقضة، الكل يلقي بسهم في الصراع الدائر.
ايران وتركيا واسرائيل وروسيا وأمريكا وأوروبا، دول الخليج، خاصة الدور القطري
المشبوه. الجميع يسعى للتأثير في معادلة الصراع ليكون الرابح أو على الأقل يتجنب
الخسارة.
ومثلما
سهلت الدول العربية والاسلامية بمعاونة أجهزة المخابرات الأمريكية ذهاب العرب إلى
أفغانستان، فإن الدول العربية والأوروبية، أعادت الكرة في العراق وسوريا، فسمحت بالتواطؤ
مع أجهزة المخابرات التركية والأموال القطرية والدعم الأمريكي، نقول سمحت بانتقال الراغبين
في القتال مع داعش من كل بقاع العالم، عبر الأراضي التركية، أملا في التخلص منهم،
حتى أصبحت الساحتين العراقية والسورية، تمتلئ بالجهاديين من أكثر 80 جنسية بحسب
بعض التقارير.
باختصار
من الممكن أن تخسر بعض الأطراف أو تربح سياسيا في صراع القوى الاقليمية والدولية،
لكن الكل رابح اقتصاديا، ماعدا الشعوب المقهورة في العراق وسوريا، مافيا السلاح
والعتاد، مافيا الهجرات غير الشرعية، مافيا الآثار، ومافيا سرقة النفط العراقي، إلى
مافيا المواد الغذائية والطبية، الأرباح الطائلة التي تجنيها الدول المجاورة
والشركات متعددة الجنسيات يوميا.
استطاع داعش أن يمتلك أسرار القوة في فترة زمنية
قصيرة، باللعب بحرية داخل هذا التحالف الشيطاني الخفي، وبعد احتلال الموصل أصبح
يملك مساحة على الأرض يحكم من خلالها
مثلما كانت حركة طالبان تملك ذات يوم في أفغانستان. ساعده على ذلك عدد من الأسباب
نجملها فيما يلي: يتسم تنظيم داعش بأنه (1)
متسامي النشأة: فلم يمر بالمرحلة الجنينية في التأسيس، ولكنه انسلخ بكوادره عن
تنظيم فاعل على الارض هو القاعدة. وهذه السمة تمنحه امدادا بشريا مستمرا من مخازن
التطرف، فئات من الشباب المؤمنين بفكر الجهاد والتكفير المنتشرين في كل أنحاء
العالم، وبمجرد توافر الفرصة للالتحاق
بدولة الخلافة المزعومة، يزحفون إليها، وأياً كانت نقطة الانطلاق، سيجدون
وكلاء وتسهيلات، تمكنهم من الوصول إلى العراق أو سوريا. (2) أنه تنظيم ولد في لحظة
صراع حادة، تتشكل فيها خريطة النظام العالمي الجديد متعدد القطبية، فباتت الساحتين
العراقية والسورية، ميدانين لحروب الوكالة، تستخدم فيهما كل ما هو متاح من أساليب.
ومن بينها التوظيف المباشر وغير المباشر لتنظيم داعش. (3) تنظيم متماسك العقيدة في
مقابل عقائد قتالية متشرذمة أو محبطة ويائسة. (4) امتلك على نحو مثير للريبة
والشكوك، مصادر تمويل ذاتية، بأسرع وقت وأقل قدر من التكلفة. تنوعت ما بين سيطرة
على ثروات مائية و نفطية، ومناطق انتاج الحبوب، وحصيلة فديات المخطوفين، وحصيلة
بيع الآثار، ورسوم عبور البضائع والأفراد من وإلى المناطق التي يسيطرون عليها. (4)
الوحشية في إدارة الحياة اليومية: حيث تقدم مشاهد التقتيل وطرقه الوحشية، رسالة
للمجتمع المحلي وللعالم، معناها لكي تتجنب التعرض لمثل هذه البشاعة في القتل، ليس
أمامك من طريق آخر سوى أن تعلن ولائك التام للتنظيم. وبهذا الأسلوب اضطرت أعداد
كبيرة من الفقراء العراقيين والسوريين من الانخراط في صفوف هذا التنظيم.
النجاح المؤقت الذي حققه تنظيم داعش، أتاح له قيادة
العمل الإرهابي العالمي – ان صح التعبير-
على حساب القاعدة التي تموت موتاً بطيئًا. وتوالت عليه المبايعات من اليمن،
ومن أنصار الشريعة في ليبيا، وأنصار بيت
المقدس في مصر، وأنصار الشريعة في تونس، وجند الخلافة في الجزائر. ثم تنظيم
القاعدة في بلاد المغرب، وقيادات من تنظيم بوكو حرام المتمركز في نيجيريا والممتد
شمالاً في كل من تشاد ومالي والنيجر. ومن باكستان وإندونيسيا وأماكن أخرى.
الإرهاب العابر يضرب أوروبا:
من الطبيعي أن ينفض التحالف بعد أن ظهرت أنياب داعش
الوحشية، والتدخل الروسي الحاسم في الأزمة السورية، واستمرار ايران في جني المكاسب
السياسية واللوجستية، وتغير دفة السياسة الأوروبية، بفشل رهانها على الاسلام
السياسي في انتفاضات الربيع العربي، وعدم قدرتها على وقف تدفق الهجرات غير الشرعية
على سواحلها. فضلا عن ظهور الاتجاهات الشعبوية كمحرك للسياسة الأوروبية، وعلى صعيد
الدول العربية، أسهم انكشاف الأسافين التي وضعتها قطر في منطقة الخليج العربي، في
إعادة التفكير في الأزمتين العراقية والسورية على نحو مختلف. كل هذه العوامل
وغيرها، أجبرت الجميع على فض التحالفات الخفية مع تنظيم داعش وكافة التنظيمات
المتطرفة العاملة على الأرض العراقية والسورية.
انفض التحالف تقريبا، ولكن أهداف التنظيمات الإرهابية
وعلى رأسها داعش، لم تمت ولن تختفي باختفاء هذا التحالف لأنها تتبنى استراتيجية
الصراع من أجل الهيمنة التامة على الآخر أو نفيه من الوجود، فقد نشأت على أُسُسٍ
عقائدية، لا تقبل بالتعايش مع كل النظم القائمة على كوكب الأرض، وإنما تريد
تغييرها تغييرا تاما.
أوربا والذئاب الإرهابية المنفردة:
لم يعد ممكنا في حال هزيمة التنظيم، والاستحكامات
الأمنية التي تضعها الدول، أن تمارس التنظيمات الإرهابية أنشطتها في القتل
والترويع إلا من خلال أساليب ارهابية جديدة، يصعب التنبؤ بها، واستغلال أي ثغرة
تتيح لهم استخدام وسائل القتل والتفجير لا حداث أكبر قدر من الخسائر. وعلى ذلك فقد
دشنت هذه التنظيمات أسلوب الهجوم باستخدام الذئاب المنفردة، أو باستخدام مجموعات
صغيرة العدد لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة. وبهذا الأسلوب تكررت الحوادث الإرهابية
في أوروبا.
تفكيك
الإرهاب العابر للقارات:
نحن بإزاء تنظيمات ارهابية في
حالة تمدد، تعتبر نفسها في حرب مع العالم بأسره، لتأسيس الدولة الاسلامية، ومع
التطور التكنولوجي المذهل أصبح في إمكان هذه التنظيمات أن تصل لكل عميل لها في أي
مكان في العالم، وأصبح بإمكانها أن تدخل كل بيت وتحوله إلى معسكر صغير أو مصنع
للمتفجرات أو مأوى لكل ارهابي. ولن نستطرد كثيرا، لكن لابد من التذكير بأن فكر هذه
التنظيمات بني على أسس معرفية مشوهة، وعلى خلطة فقهية، مزيج من فقه الردة
والمودودية والقطبية، مستغلا التزمت الوهابي. وما يوفره من كوادر مستعدة للعمل في
مثل هذه التنظيمات. يمارس على ارض أبشع أنواع الممارسات الوحشية التي لا تمت بصلة
لأي نظام اخلاقي او ديني معروف. إن هذه التنظيمات باختصار تهدد الحضارة الانسانية،
وتخلف من وراء عملياتها مآسي اجتماعية ضخمة، تحتاج الى عشرات السنين من اجل التخلص
من أعراضها.
وبطبيعة
الحال، توجد لائحة طويلة من السياسات الدولية والمحلية واجبة التنفيذ من أجل
القضاء على ظاهرة الإرهاب العابر للقارات. في مجالات التنمية والعدالة الاجتماعية
والتعليم، والتحول الديمقراطي، وتمكين الشباب والفئات الاجتماعية المهمشة، والقضاء
على النعرات الطائفية والمذهبية، الخ. لكن كل ذلك مع ضرورته الجوهرية، يحتاج إلى
اجراءات عاجلة أهمها:
·
ايجاد الوسائل
الناجزة للسيطرة على الفضاء الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي.
·
محاسبة الدول
والشركات والمؤسسات الراعية للإرهاب.
·
ايجاد حلول
دولية ناجزة لمناطق الفوضى الحاضنة للإرهاب، في اليمن، سوريا، العراق، ليبيا، باكستان،
أفغانستان، نيجيريا ووسط أفريقيا.