رسالة إلى المجلس القومي لمكافحة الإرهاب: صناعة التطرف الديني وأدوات تفكيكه
النظر العلمي في مشكلات الإرهاب والتطرف، في أوطاننا
العربية وعلى رأسها مصر، له تاريخ طويل محبط غاية الإحباط، لا بسبب أن الدراسات
العلمية في هذا الميدان نادرة ندرة المياه في الصحراء, ولا بسبب أنها عديمة
الأهمية من الناحية التطبيقية، وإنما بسبب الصمت والإهمال الذي يتعامل بهما صانع
القرار العربي مع هذه الدراسات، ولعل مناسبة تأسيس المجلس القومي لمكافحة الإرهاب
والتطرف، تحفزنا – بحذر- نحو مواصلة الكتابة تجاه تنبيه صناع القرار إلى أهمية
إزالة الغبار عن مئات البحوث في العلوم الاجتماعية التي استهدفت وما تزال تستهدف
ظواهر التطرف والإرهاب من كافة الجوانب. ونركز في هذه الدراسة على توضيح العلاقة
بين البنية المعرفية المشوهة والتطرف الديني. وهي علاقة بعيدة عن اهتمامات
صانع القرار، لكنها ليست بعيدة عن الحركات المتطرفة فبها تمكنت من تجنيد الكوادر
وارتكاب الجرائم. فكيف نفهم هذه العلاقة، وكيف نوظفها بطريقة عكسية في تفكيك
التطرف.
مفهوم البنية المعرفية وتحولاتها
تتكون البنية المعرفية من مجموعة المفاهيم
التي يكتسبها الفرد منذ ولادته في شتى المجالات، وتمثل الاطار العام للمعلومات
التي يملكها الفرد وتوجه سلوكه. وهذه البنية دائمة التغير بسبب التدفق المستمر
للمعلومات الجديدة التي يتعين على العقل التعامل معها طوال الوقت. بمعنى أن العقل
في حالة نشاط مستمر من أجل ربط المعلومات الجديدة بالمعلومات القديمة عن طريق ثلاث
عمليات ذهنية: (1) التفكير
المقارن، وبها يستطيع الانسان التفريق بين الأشياء وتصنيفها، وحفظ دلالات
اللغة، والتعرف على الأماكن والاحساس بالزمن، والحفاظ على الثوابت والمعتقدات. (2)
التمثيل الرمزي: ونعني به القدرة على تحويل المعلومات التي تعرض على العقل
إلى رموز مقبولة ثقافيا واجتماعيا، والانسان الذي يملك قدرة عالية على التمثيل
الرمزي، يمكن أن يتفوق في الرياضيات أو الفنون أو الآداب. (3) التفكير المنطقي،
وتتضمن القدرة على الاستقراء والاستنباط، والتحليل والتقييم والتعليل والتعميم وحل
المشكلات. ويمثل التكامل
والتوازن بين عمليات التفكير الثلاثة، أهمية قصوى في تحديد نمط السلوك المتوقع من
الفرد. والخلل الذي يصيب هذا التوازن، يؤدي تلقائيا إلى أخطاء في معالجة
المعلومات، بما يؤثر سلبا على البنية المعرفية للإنسان.
مع العلم أن الانسان السوي يملك القدرة
على إدارة عمليات التفكير ثلاثية الأبعاد (المقارن، الرمزي، المنطقي)، متى نجحت
عملية التنشئة الاجتماعية العفوية (الأسرة) والمنظمة (مؤسسات التعليم) في اكساب
الفرد مهارات التفكير الثلاثي. وبطبيعة الحال توجد فروق فردية في ذلك، فالنحات
المصري محمود مختار، والموسيقار العالمي عمر خيرت، والأديب العالمي نجيب محفوظ،
بارعون في التمثيل الرمزي، والعالم المصري أحمد زويل بارع في التفكير المنطقي. إذن
كيف يحدث التشويه في البنية المعرفية؟
البنية المعرفية المشوهة
البنية المعرفية للإنسان تضم كما ذكرنا خريطة المفاهيم
التي استخلصها الفرد في كافة المجالات الدينية، أو السياسية أو الاقتصادية، الخ.
وللأسرة والمدرسة دور فاعل في تشكيل هذه البنية المعرفية. نستأذن القارئ أن نترك علم النفس المعرفي قليلا، ونحمل
البنية المعرفية لندخل بها ميدان علم الاجتماع، وسوف نكتشف أن تفشي الأمية بين
السكان أكبر من 15 سنة، وضعف المستوى التعليمي لطائفة كبيرة من المصريين، فضلا عن
النمو السكاني المضطرد، وارتفاع عدد الأبناء داخل الأسرة الواحدة، وتدهور مستويات
المعيشة، كلها عوامل تجعل من عملية التنشئة التي تتولاها الأسرة، تتم بشكل عشوائي
وتقليدي ولا تراع – الا نادرا- الأساليب العلمية في التنشئة. في مثل هذه الظروف،
ترتفع احتمالات اصابة البنية المعرفية للفرد بالتشوه منذ نعومة أظافره، والذي يفلت
من هذا التشوه إنما يفلت بقدرة قادر.
وإذا حملنا هذه
البنية المعرفية المشوهة الناتجة من عمليات التنشئة الأولية، ودخلنا عالم التربية
والتعليم في مصر، فإن الدراسات وثيقة الصلة تشير إلى أن المؤسسات التعليمية في مصر، غير قادرة على تشكيل
البنية المعرفية للأفراد تشكيلا يصنع الإبداع والتقدم في شتى المجالات، ويرى كثير
من خبراء التعليم أن المدارس والجامعات المصرية، تكرس نمطا وحيدا من التفكير،
وهو التفكير المقارن القائم على الحفظ والتلقين، على حساب التفكير المنطقي والرمزي.
فهل معنى ذلك أن البنية المعرفية لكل المصريين مشوهة؟ بالطبع لا فالإنسان العادي
يستطيع مع تراكم الخبرات المعرفية والمواقف والأحداث التي يمر بها والمعلومات التي
يتعامل معها، أن ينظم نشاطه الذهني ويعيد تشكيل خريطة المفاهيم الخاصة به فيستبعد
الأفكار الخاطئة ويستبدلها بأفكار ومفاهيم صحيحة. والبعض فقط لأسباب شتى، نفسية أو
اجتماعية يستسلم لهذا التشوه.
ارتباط التعصب الديني بالبنية المعرفية المشوهة
تشير العديد من الدراسات النفسية إلى وجود ارتباط قوي
بين التشويه المعرفي cognitive
distortion والتعصب بكافة أنواعه. (انظر
دراسة: أحمد محمد أبوزيد، مجلة علم النفس، عدد113، 2017، ص 38-117). وسوف نركز في
الجزء المتبقي من الدراسة على المعرفة الدينية بالتحديد. حيث نجد أن تشوه البنية
المعرفية الدينية، مرتبط بخلل في أدوات التفكير الرئيسية الثلاثة (المقارن،
الرمزي، المنطقي) التي ذكرناها، هذا الخلل ينتج عنه اعتناق الفرد لمجموعة متكاملة
من الأفكار الدينية الخاطئة.
والمصاب بهذا الداء الخفي، يعاني بصفة دائمة من اضطرابات
في المزاج النفسي ومن سيطرة المشاعر السلبية على نظرته للحياة والمجتمع، بما يؤثر
تأثيراً بالغا على أفعاله وأحكامه وتصرفاته في المواقف والعلاقات الاجتماعية
الدينية. وتكون المحصلة ميل الفرد المصاب بهذا التشوه نحو التعصب والتطرف في سلوكه.
وقد توصل البحث العلمي إلى وجود سمات عامة مشتركة بين المصابين بالتعصب الديني،
يمكن تلخيصها فيما يلي:
يميل الأفراد المتعصبون إلى: (1)
التفكير الثنائي الاستقطابي، بمعنى الحكم على الأمور بأحد النقيضين،
الصواب أو الخطأ، الجنة أو النار، مجتمع الايمان أو مجتمع الكفر. ويضع الفرد نفسه
في جانب الحق دائما والآخرين في المقابل.
(2) الانتقاء والتصفية، وارتباطا بسمة التعصب السابقة، فإن الفرد لكي يريح
نفسه، ويؤكد صحة موقفه، فإنه يتعامل مع كل المواقف والأحداث الدينية، بطريقة الاستبعاد
والانتقاء والتصفية، بمعنى التركيز على الجوانب السلبية وانكار الجوانب الايجابية
أو العكس، فإن أصدرت الحكومة قراراَ يتعلق بالمساجد، مثل قَصْر تشغيل مكبرات الصوت
الخارجية على الآذان فقط، مع تقديم المبررات الكافية لإصدار هذا القرار، فإن
المتعصب لا ينظر إلى الجوانب الايجابية في هذا القرار، ولكنه ينظر فقط إلى سلبيات
القرار، وعبر هذا الانتقاء يرفض القرار رفضا تاما، ويعمل على تأليب الناس عليه زاعماً
أن الحكومة تحارب الدين.
(3) المبالغة في تقييم الأفعال، على معنى ميل المتعصب دينيا نحو تضخيم الأحداث
والمواقف التي تتوافق مع معتقداته وأفكاره واتجاهاته، والتهوين التام لما عداها،
وقد شاهدنا ذلك من المتعصبين لفكر الاخوان وأشياعهم، في سياق أحداث ثورة 30 يونيه،
فقد اشتغلت وسائل الاعلام الاخوانية على التهوين من حجم الجماهير التي خرجت في ذلك
اليوم ولم تعترف مطلقا بخروج الملايين إلى الشوارع. ومن قبل في ثورة 25 يناير،
لجأت إلى التضخيم، والادعاء بأن جمهور الاخوان هو الذي يملئ الميادين مع التهوين
من حجم القوى الأخرى أو حتى الجماهير العادية المتواجدة على الأرض.
(4) التعميم المنفلت، على معنى الاستناد إلى حالة خاصة أو جزئية واعتبارها
دليلا كافياً على اصدار الأحكام العامة الكلية، ومرة أخرى نعود لميدان ثورة 25
يناير، حين استغل الاخوان خروج نفر من ضباط الجيش واعلانهم تأييد الثورة، وإشاعة
تعميم منفلت بأن القيادات الصغرى والجنود في الجيش، يريدون الخروج عن الحيادية
التي فرضتها القيادات العليا للجيش. وأنهم يرغبون في الانضمام للثوار، وهي نفس
الحيلة التي تمت بها عسكرة الثورة السورية باستخدام نعيق قناة الجزيرة في ذلك
الوقت.
(5) شخصنة الأمور: يميل المتعصب إلى ترجمة تصرفات الآخرين العادية، على
أنها موجهة إليه شخصيا أو موجهة للجماعة التي ينتمي إليها. على معنى التسفيه من أي
نقد بناء أو أفكار معارضة لفكر المتعصب، وصرف الانتباه بتحويل المسألة إلى معركة
شخصية. ومن هذه الزاوية يعمد المتعصب إلى التفتيش في حياة المعارضين الخاصة، بل
واستحلال اغتيالهم معنويا بإشاعة الأكاذيب عنهم، واتهامهم زورا وبهتانا. والأكثر
غرابة من ذلك أن يستند المتعصب وجماعته على مبررات دينية واهية بطبيعة الحال.
(6) الاسقاط على الآخرين: بمعنى ميل المتعصب إلى اتهام الآخرين وتبرئة نفسه أو من
ينتمي إليه من كل ذنب أو فعل خاطئ أو فشل متوقع. وقد لا حظنا هذا الاسقاط مع
الاستفتاء على الاعلان الدستوري الأول في ابريل2011، الذي سمي بغزوة الصناديق.
واتهم فيها الأقباط بمحاولة عرقلة ظهور الدولة الاسلامية في مصر، كما طالت الاتهامات
الجماعة الصوفية المصرية، والليبراليين واليساريين، وتكرر نفس الاسقاط في تبرير نسبة
الرفض المرتفعة لدستور 2012.
(7) الانفعال الدائم: بمعنى ميل المتعصب إلى تكريس موقفه بناء على ثنائية
الحب والكراهية وفقا للمزاج النفسي، وليس بناء على المعلومات والحقائق. ومن ثم فإن
المتعصب دائم الشعور بكراهية الآخر (فرداً كان أو طائفة أو مؤسسات دولة) ولا يعترف
للآخر بأي انجاز مهما ظهر جليا واضحا، وحتى إن ثبت هذا الإنجاز بالدليل الدامغ،
فإنهم يؤولون ذلك على أسباب بعيدة تصرف أذهان الناس عن الحقيقة.
(8) الميل إلى العنف المعنوي والمادي: والمحصلة المنطقية لكل هذا التشوه المعرفي بسماته المذكورة،
أن يتجه المتعصب أو المتطرف، نحو العنف الرمزي في البداية، كمحاولات فرض الرأي على
الدائرة الضيقة التي يعيش في كنفها: الأسرة، جماعة القرابة، جماعة الاصدقاء، ثم في
بعض الأحيان يتحول العنف المعنوي إلى عنف مادي خشن، يمتد لدائرة أوسع، حين يتجرأ
الفرد على فرض الرأي أو السلوك بالقوة، أو حين يبحث عن ملاذ داخل الحركات
والجماعات المتطرفة التي تستوعب اتجاهاته التعصبية.
وبنظرة خاطفة على سمات التعصب، يجد القارئ أن كل سمة من
السمات ترتبط بنمط مشوه من التفكير، حيث يظهر بوضوح هنا سيادة التفكير المقارن،
الذي يكرس الحفظ والتلقين والطاعة والولاء، وغياب التفكير المنطقي الذي يعلي من
قيمة الحق، وغياب تام للتمثيل الرمزي، الذي يعلي من قيم الخير والجمال والصالح
العام.
ربما يدور في ذهن القارئ أسئلة تعارض العبارة السابقة من
قبيل: لماذا نجد الطبيب والمهندس والمحامي وأستاذ الجامعة، ضمن طائفة المتعصبين
دينيا؟ أليس هؤلاء جميعا ممن لديهم براعة في التفكير المنطقي؟ ولماذا نجد بعض
الفنانين والأدباء ممن برعوا في التمثيل الرمزي، ضمن طائفة المتعصبين دينيا؟
والإجابة الفورية عن هذه الأسئلة: أن براعة هؤلاء في أحد
عمليات التفكير الثلاثي، لا تمنع من اصابتهم بالتشوه المعرفي المفضي إلى التعصب.
ولو افترضنا أن هذه الفئات كانت تتمتع
فعلا ببنية معرفية سوية، فإن الجماعة أو التنظيم قد أوجد آلية لتشويه هذه
البنية وهي آلية التعطيل العمدي لأدوات التفكير
الأساسية وحصرها في مسار انتاج التعصب للفكرة أو الجماعة أو التنظيم.
والمتتبع لسيرة المنشقين عن هذه الجماعات كالدكتور ثروت
الخرباوي، يعرف كيف احتدم الصراع بين بنية معرفية سوية، وبين عمليات تعطيل هذه
البنية وتشويها، وكيف انتصرت البنية المعرفية المتزنة على محاولات استعمارها
واستبدالها ببنية مشوهة. كما أن المتتبع لسير المتورطين من أصحاب المهن العليا،
كالبلتاجي أو العريان، ومن قبلهم سيد قطب، سوف يكتشف كيف أن صناعة التعصب تمكنت
منهم لدرجة الهزيمة المنكرة. ما نريد تلخيصه هنا أن الجماعة المتطرفة أولا ثم
الارهابية بعد ذلك، تستلب عقول وقلوب الناس من خلال عمليات تشويه بنيتهم المعرفية.
ولن استطرد كثيراً ولكن يجب ألا ننسى أنهم يبنون على نظم تنشئة اجتماعية ونظام
تعليم ضعيف، ما يسهل عملية صناعة التعصب الديني.
كيف يصنعون التطرف؟
للإجابة على هذا السؤال، نفرق بين فترتين في حياة الفرد
المتطرف، الأولى قصيرة مؤقتة تنتهي لحظة قبوله الانضمام للجماعة أو التنظيم، بينما
تمتد الفترة الثانية طيلة وجودة داخل هذا الكيان المتطرف.
الفترة المؤقتة: في هذه الفترة يتعرض العضو لعملية تحول مترابطة
ومتسلسلة. تعتمد أساسا على الجانب النفسي، يتعود فيها على التفكير الثنائي
الاستقطابي، والتفكير الانتقائي والانفعالي، ويهجر التفكير المنطقي والرمزي. حيث تشير
الدراسات السوسيولوجية للتطرف، أن كادر الجماعة المكلف باكتشاف العناصر الجديدة
وضمها للجماعة، يختار من الشباب الذين يتمتعون بعاطفة دينية قوية، وغالبية هؤلاء
الشباب متدينون تدينا عاديا وطبيعيا، واستغلالا لهذه العاطفة القوية، تجري عملية
تجنيد أو ضم الأعضاء الجدد، والتي تمر بعدة مراحل، تبدأ بمرحلة الألفة حيث يقوم
كشاف الجماعة، بتأسيس علاقة بالشخص المستهدف بطريقة ما، تقوم على التعاون
والمساندة والثقة المتبادلة، تليها مرحلة نقد الأحوال، ثم مرحلة العزل،
حين يطلب من العضو المرشح الاعراض عن الجاهلين، حتى لو كانوا من الوالدين
والأقربين، ثم مرحلة خلق البدائل وفيها يستخدم الكشاف التفكير المقارن
المتحيز فيقدم فكر الجماعة كأفضل الحلول، فإن
قَبِلَهُ المرشح يعرض عليه السؤال الحاسم:
إما أن تقبل مشروع الجماعة الإيماني أو ترفض فتظل تبعا للمجتمع الجاهلي؟ وغالبا
ما يتحمس الفرد للانضمام، وقليل من يفلت من هذا المصير المظلم. مع لفت الانتباه
إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي، أحدثت طفرة في حشد وتجنيد الكوادر، وأصبح الكشاف
الافتراضي قادرا على القيام بهذه الخطوات مع عشرات الأشخاص في نفس الوقت.
الفترة الدائمة: لكن الآليات التالية بعد الانضمام هي الأكثر ترسيخا
للتشوه المعرفي لدى الأعضاء الجدد، وبالتالي هي الأكثر ترسيخا للتعصب والتطرف،
لأنها مبنية على الالتزام والطاعة المطلقة، ويمكن ترتيب هذه الآليات بالاستفادة من
النظرية البنائية الوظيفية على النحو التالي:
(1) آلية المحاكاة: هي عملية التمثل والاقتداء بالرموز والشخصيات الدينية التي ترتضيها الجماعة
كمرجعية فكرية، وعن طريق هذه الآلية يكتسب العضو الجديد عناصر الثقافة الخاصة بهذه
الجماعة، بما تتضمنه من قيم ومعايير
وأهداف قصيرة وطويلة الأمد. وتتم هذه المحاكاة عبر عمليات مقصودة من تأسيس البناء
الفكري (المشوه) القائم على الانتقاء والتصفية والاستبعاد، والشخصنة، والانفعال،
والتفكير الثنائي الاستقطابي، اعتماداً على التفكير المقارن من أجل ترسيخ الانتماء
للجماعة، واضعاف الانتماء بأي هويات أخرى. وتأخذ هذه الآلية الأولوية في التفعيل
حتى ينسلخ العضو من الفضاء العام انسلاخا باتا وتصبح الجماعة عالمه الوحيد.
(2) آلية الكف: تهدف هذه الآلية الى تدريب العضو الجديد على الابتعاد والكف عن التعاطي مع
أي معرفة دينية خارج المعرفة المعتمدة داخل الجماعة، ولهم في ذلك أساليب شتى. كمنع
الصلاة في بعض المساجد، وتحريم قراءة بعض الكتب الدينية، والأمر بحفظ كتب أخرى، وتحريم
مشاهدة بعض القنوات الفضائية، والأمر بمتابعة قنوات بعينها، وتمتد القائمة، لتشمل
الزواج الداخلي، ومعاملات البيع والشراء والخدمات إلى تحريم القاء السلام على بعض
المخالفين لهم في الرأي، وهكذا. المهم أن هذه الآلية تعمل على تعطيل التفكير
المنطقي تعطيلا تاما، لأنها تقوم على الطاعة العمياء، ممهدة لهيمنة التعميم
المنفلت، والاسقاط على الآخرين، وتكريس وتفضيل خيار القوة والعنف المعنوي والمادي
في التعامل مع المخالفين للجماعة.
(3) آلية التدعيم: وتقوم هذه الآلية على منح العضو الجديد دعماً مُشْبِعاً يزداد كلما أبدى
العضو درجة عالية من الانتماء. وتأتي هذه الآلية تابعة وتالية لفرض آلية الكف، أي
أن قادة الجماعة يضعون التدعيم وفيه اشباع بعد الكف وفيه حرمان، وتتنوع وسائل
التدعيم ما بين مكانة اجتماعية داخل الجماعة أو عوائد مادية مغرية أو كلاهما. على
معنى أن العضو الملتزم يتوقع في أي لحظة جائزة على هذا الالتزام. وهذه الآلية تكرس
التعصب للجماعة من زاوية الانفعال الدائم، فالتدعيم يلعب على وتر الاحتياجات
المادية والاجتماعية والروحية، إنها باختصار آلية سرقة عواطف ومشاعر الأعضاء، فتمسي
المحبة من نصيب الجماعة والكراهية لمن يخالفها.
(4) آلية الابدال: العمل على توجيه مسار الانفعال بأحد الموضوعات المستجدة التي تؤدي إلى خلل
في توازن التنظيم الى الانفعال بموضوع آخر يحافظ على النسق ويدعمه. فإذا تجرأ عضو
على الخروج من الجماعة مع ابداء الأسباب المنطقية، فإنهم لا يتورعون عن قلب
الحقائق وابدالها، والعمل على اغتيال العضو الخارج اغتيالا معنويا. ومن الصور
الشهيرة لآلية الإبدال، ترسيخ فكرة الانتصار والفوز المنتظر، بطرق خارج حدود
المنطق والمعقول، فلم يتورع قيادات جماعة الإخوان وفقاً لهذه الآلية عن اشاعة
الأساطير والكرامات في اعتصامي النهضة ورابعة العدوية، وأشهرها أسطورة صلاة الرسول
عليه الصلاة والسلام خلف محمد مرسي، وصناعة الكرامات، مثل فوحان رائحة
المسك من الأماكن التي قتل فيها بعض المعتصمين.
(5) آلية التوحد: تعمل هذه الآلية الخبيثة على ترسيخ التلازم اللاشعوري، بين الأمن الوجودي
للعضو، والأمن الوجودي للتنظيم، تلازم الوجود و العدم، والايحاء الدائم بأن الجماعة
تواجه المخاطر والعداوة من خارجها. هذا التوحد يولد لدى العضو نوعين من الاستعداد:
استعداد عام ودائم لخدمة الجماعة
والالتزام بمبادئها وأهدافها. أما الثاني والأخطر فهو الاستعداد المخصوص،
ويحتاج إلى قدر أكبر وأعمق من التنشئة الخفية، بحيث يرغب العضو ويطمح إلى التضحية
بالنفس، من أجل ضمان بقاء الجماعة والفكرة. هنا يبلغ التشوه المعرفي منتهاه وتتملك
العضو حالة من التعصب يصعب البراء منها. ومن هذه الفئة تشكل النظام الخاص لجماعة
الإخوان، والمجموعات الاستشهادية في التنظيمات الأخرى.
رسالة إلى المجلس القومي لمكافحة الارهاب
والتطرف
مما سبق يتضح أن تشويه البنية المعرفية للمصريين، مسألة
خطيرة وتأثيرها على حياة الناس والمجتمع كبير، وأن هذا التشوه يرتبط بأساليب
التنشئة الاجتماعية التقليدية، وبنظم التعليم الضعيفة، كما يتضح أن الجماعات
المتطرفة نجحت في فهم أسرار النفس البشرية، فاستغلت هذه المعرفة في صناعة التطرف
والتعصب الديني عبر آليات عرفت مفاتيح تشغيلها.
ونؤكد أنه ما دامت توجد آليات لصناعة التطرف، فحتما توجد
آليات لتفكيكه، وذلك بإزالة التشوه المعرفي وخفض درجات التعصب لدى المصريين عامة
والشباب منهم خاصة. وهذه المهمة ليست مستحيلة، ولكنها تحتاج إلى جهد مؤسسي كبير،
تحت اشراف المختصين في العلوم الاجتماعية والانسانية، وأن يكون العمل جماعيا
تكامليا بين هذه التخصصات، هذا المجلس باختصار لا يحتاج إلى جيش من القيادات
التنفيذية، وإنما يحتاج إلى جيش من العلماء، إن أردنا أن تكون له ثمرة حقيقية. فهل
أنتم فاعلون؟