أساطير الصمود من دير ياسين إلى أم الفحم إلى القدس
عندما تصبح الحقيقة مستحيلاً فإن اللجوء إلى "الأساطير" يصبح هو الحل الوحيد. وفي مثل هذه الأجواء اللعينة لمناخات الواقع العربي المتردي، الذي يشهد، في غفلة من التضليل المتعمد والمخطط، كيف يتحول العدو إلى حليف، وكيف يتحول الشقيق إلى عدو.. وكيف تختلط المعايير.. أن يتحول الحق إلى منكر، ويتحول المنكر إلى حق، وإلى مصلحة تجد من يدافع عنها.. كل شئ يتساقط، القيم والمبادئ قبل الأرض، الأرض تتآكل يقضمونها يوماً بعد يوم ببناء الجديد من المستعمرات التي يسمونها "مستوطنات" أحياناً بأدوات بناء عربية، وربما بعمالة عربية أيضاً، إلى أن وصل الاستعمار والتمدد الاستيطاني إلى جوهر القلب، للأمة كلها إلى الأقصى المبارك الذي يريدون هدمه لإقامة "الهيكل المزعوم" ليكون رمزاً لدولتهم اليهودية التي يريدونها ممتدة على كل الأراضي الفلسطينية الممتدة من النهر إلى البحر.
عندما يكون الأمر هكذا، ويتسابق الأشقاء للاستسلام وتحليل المحرمات، وتحريم كل ما هو حلال ومشروع، عندما يتحول الدفاع عن النفس ومقاومة العدو من أجل كرامة وطن وأمة إلى "إرهاب" و"اعتداء على أبرياء" يكون المستحيل عندها هو الحل الوحيد. هكذا قرروا أن يصنعوا المستحيل وينسجوا خيوط أسطورة قرروا أن يجعلوا أرواحهم الطاهرة ودماءهم الذكية ثمناً لها علّها تتحول، يوماً ما، إلى واقع وإلى حق وإلى قيم وأخلاقيات تجد من يؤمن ويتمسك بها.
كسروا تحصين امتلاك القدس
المشهد أسطوري بكل المعايير وسط الصمت والظلام، صمت الأفواه، وظلام الضمائر.. ثلاثة شبان من مدينة أم الفحم في فلسطين المحتلة عام 1948، وجميعهم من عائلة "جبارين" وثلاثتهم اسمهم محمد هم: محمد حامد جبارين (19 عاماً) ومحمد فضل جبارين (19 عاماً) ومحمد أحمد جبارين (29 عاماً) قرروا كسر جدار الصمت المريب بكل المعانى داخل فلسطين وداخل كل بلد عربي، صمت أخرس لم يعد يذكر اسم فلسطين ولا حتى اسم الأقصى تذرعاً بأن "هموم الجميع تكفيهم". الجبارون الثلاثة، كان قرارهم ثلاثي الأبعاد، بعدان من نصيبهم والبعد الثالث رحلوا وهم يأملون أن يلقى نصيبهم ويعلن نفسه. فهم قرروا أن يستشهدوا من أجل فلسطين وأهلها.. ماضيها وحاضرها ومستقبلها وقرروا أن يكون استشهادهم في قلب الأقصى، وكان لهم ما أرادوا على أجمل وأكمل وجه.
في الصباح الباكر من يوم الجمعة الماضي، وبينما كان المسجد الأقصى يستعد لاستقبال مئات الآلاف من المصلين لأداء صلاة الجمعة، دخل الأبطال الثلاثة إلى عمق الأقصى واشتبكوا مع حرس الحدود عند "باب الأسباط" فقتلوا اثنين منهم وأصابوا آخرين بجروح متفاوتة، ثم هرعوا إلى باحات الأقصى حيث طاردهم جنود الاحتلال وشرطته، واشتبكوا معهم حتى استشهدوا في صحن قبة الصخرة.
لم يحلموا أن تصعد أرواحهم من صحن قبة الصخرة الشريفة، لكنها إرادة الله ورضوانه، لكنهم حلموا أن يكتمل البُعد الثالث لقرارهم بأن تستيقظ الضمائر وتعود للغضب من أجل كل ما يتعرض له الأقصى من تدنيس من العصابات اليهودية المتطرفة التي تقصد هدمه، وما يتعرض له من مخططات ومؤامرات من جانب سلطات الكيان التي أحست بالذعر من قرارات تصدر من منظمة اليونسكو مرة بحق الأقصى الشريف وأخرى بحق الحرم الإبراهيمي في الخليل تؤكد الهوية العربية الإسلامية وتدافع عن الحرمات والتاريخ.
حُلم أبناء الجبارين كان حلماً بسيطاً وهو أن تحرك دمائهم الذكية وأرواحهم الطاهرة ركام الصدأ الذي اعتلى المعنويات العربية بحق القدس الشريف والأقصى المبارك، وأن تكون البداية من قلب فلسطين، بأن يتجدد الأمل في انتفاضة أقصى جديدة، تلقي بكل مخططات الكيان وطموحاته في تحالفات مستحيلة مع من يعتبروهم شركاء في أهداف جديدة تجاوزت الإطار الفلسطيني الذي ظل عائقاً أمام تحقيق طموحات تعايش وسلام من نسج خيالهم.
قد لا تتجدد الانتفاضة بالسرعة التي كان يحلم بها الشهداء الثلاثة، لكن المعنى الذي نجحوا في تأكيده لن يرحم كل المتواطئين الصامتين، الذين يتعمدون تجاهل حقيقة ردود الفعل "الإسرائيلية" المباشرة على الحدث ويحاولون حصرها في الحدود الضيقة لمطالب سدنة الأقصى ورواده وهو إلغاء البوابات الإلكترونية التي أقامتها سلطات الاحتلال، وفرضت على المصلين العبور من خلالها للصلاة داخل الأقصى من البوابات التي يسمحون بها فقط دون غيرها من البوابات التي أغلقوها واحتفظوا بمفاتيحها وخاصة "باب الرحمة" الذي يفتح على المنطقة التي تدعى جماعات يهودية أنها مقامة على أنقاض "الهيكل" المزعوم، في حين أن ما هو أهم هو ما يدبر داخل الكيان لإنهاء علاقة الأقصى بالوطن الفلسطيني، وجعل القدس كلها شرقها وغربها عاصمة موحدة للكيان الصهيوني.
القدس هي الهدف وفلسطين كلها هي الهدف وليست هناك أي نية لا لمفاوضات ولا لأرض تقام عليها دولة فلسطين، وهم يعتقدون أنهم ليسوا مضطرين للتنازل عن أرض يزعمون أنهم حرروها من المحتلين العرب، وأن الأرض كلها من النهر إلى البحر هي الأرض الموعودة لدولة "إسرائيل" لذلك تزامن مع إجراءات التضييق على دخول المصلين إلى الأقصى لجوء الكنيست إلى فرض ما يسمونه بـ "تحصين امتلاك القدس".
البوابات الإلكترونية هي مجرد إجراءات رمزية وتكتيكية تومئ بأنهم "أصحاب السيادة عليه" للتمهيد لما هو أهم وهو إغلاق الأقصى نهائياً وإعلان تهويده وهدمه لإقامة "الهيكل المزعوم" ليكون عنواناً لانتصار الدولة اليهودية، لذلك فإن الخطوة الأهم التي تزامنت مع الإجراءات الانتقامية من الأقصى والمصلين بعد عملية استشهاد أبناء الجبارين الثلاثة هي تقديم اليمين المتطرف داخل الكنيست مشروع قانون تحت اسم "القدس الموحدة" أقرته اللجنة الوزارية للتشريع بإجماع أعضائها للتصويت داخل الكنيست، وينص على أن "أي انسحاب من القدس أو قرار يتعلق بالسيادة الإسرائيلية عليها أو على أي جزء منها يتطلب تصديق غالبية مطلقة من 80 نائباً في الكنيست على الأقل (من مجموعة الـ 120 عضواً الذين يضمهم الكنيست)"، المقصود من هذا التشريع، وعلى نحو ما كشف زعيم المستوطنين وزير التعليم نفتالي بينيت، والذي يصفه بأنه "تعديل تاريخي" هو منع أي احتمال في المستقبل لتقسيم القدس (أي منع أي انسحاب إسرائيلي من القدس الشرقية أو أجزاء منها)، متباهياً بأن "القدس عاصمتنا نجت في الماضي من كارثة تقسيم القدس من رئيسي الحكومة السابقين: إيهود باراك، وإيهود أولمرت، والآن جاء التعديل ليضع حداً لأي محاولة مماثلة في المستقبل".
إقرار اللجنة الوزارية للتشريع لهذا المشروع بإجماع الأصوات يحمل دلالات مهمة أبرزها أن النخب الحاكمة في الكيان موحدة على أن القدس الموحدة هي عاصمة أبدية لهم، وهذه هي رسالة الكيان التي أرادوها للرد على عملية استشهاد الجبارين الثلاثة، الذين راهنوا والذين مازالت أرواحهم تأمل بأن يتحقق حلمهم ويتحرك من هم قادرون على كسر جدران الصمت العربية وكسر قوانين تحصين القدس.
دماء على جدران الصمت
مازال الرهان قائماً ليس فقط من عمق الصمت العربي بل من داخل الكيان الصهيوني نفسه. أبناء الجبارين الشهداء الثلاثة جاءوا من داخل الكيان من أم الفحم، ومن هنا أطل شهداء مذبحة "دير ياسين" بعد صمت سبعين عاماً تفجر لحظة صعود أرواح هؤلاء الشهداء الطاهرة.
شهادة من نوع آخر، روتها صحيفة "هآرتس" وبعض أبناء "اليسار الإسرائيلي" ممن يرفضون إرهاب وتطرف اليمين ورواياته التوراتية الكاذبة التي تيسر لهم استحلال أملاك الغير والتنكيل والتدمير بكل ما هو عربي- فلسطيني، قدم مشاهد الرواية الكاتب "عوفر أدبرت" من خلال استعراض بعض اللقطات "الكاشفة" و"الفاضحة" في آن لجرائم ما يسمونه بـ "حرب التحرير" ويقصدون حرب عام 1948، التي تضمنتها مادة فيلم وثائقي جديد باسم "وُلد في دير ياسين" للمخرجة الإسرائيلية "نيتع شوشاني" التي كرست السنوات الأخيرة لتحقيق تاريخي شامل عن مذبحة دير ياسين، التي تعد، بحق، واحدة من الأحداث التأسيسية لما يسمونه "حرب الاستقلال" أو "حرب التحرير" والتي بقيت وستبقى "وصمة" عار على إسرائيل وحربها التحريرية. الفيلم استقت مخرجته مادته من نبش في الأرشيفات، إلى جانب مقابلات عميقة مع من بقى من آخر المشاركين في المذبحة ممن لا يزالون على قيد الحياة، اختاروا، قبل أن يرحلوا إلى خالقهم أن يكسروا بإرادتهم صمتاً على الجريمة امتد سبعين عاماً، وهناك فعلاً منهم من رحلوا قبل أن تستكمل المخرجة إنهاء فيلمها وقبل عرضه للمشاهدين.
يروي الكاتب "عوفر أديرت" في صحيفة "هآرتس" بعض المشاهد التي يعرضها هذا الفيلم التسجيلي وينقل لنا بعضاً منها له تماس مباشر بكل ما يحدث الآن وما يحدث هو سطوة "الرواية اليهودية" بكل أكاذيبها وتراجع وخفوت الرواية العربية، لدرجة أن رد فعل بعض العرب من سياسيين وإعلاميين كان إدانة لعملية استشهاد أبناء "أم الفحم" في عمق الأقصى دفاعاً عن ثالث الحرمين ومسرى رسولنا الكريم، واعتبارها "عملاً إرهابياً ضد أبرياء"!!
يقول الراوي: "ركضوا كالقطط.. لن أقول لك أننا كنا هناك بقفازات من حرير، منزل إثر منزل.. ندخل مع مادة متفجرة، فيما هم يهربون.. تفجير وإلى الأمام، ثم تفجير وإلى الأمام، في غضون ساعات.. نصف القرية لم تعد موجودة".
الراوي لهذه اللقطة هو "يهوشع زتلر" قائد عملية دير ياسين من منظمة "ليحى" الصهيونية، واصفاً تنفيذه المهمة التي أوكلت إليه قبل تسعة وستين عاماً. ينفي زتلر أن يكون رجاله قد ارتكبوا مجزرة في القرية الواقعة غربي القدس، برغم الوصف الذي تقدم به. لكنه يضيف مستدركاً "كانت هناك بضعة أخطاء من جماعتنا.. وأنا غضبت مما فعلوه. فقد أخذوا جثث القتلى وجعلوها فوق بعضها البعض، وأحرقوها، كانت الراحة كريهة. هذا ليس بسيطاً".
ويعرض الفيلم رسالة عثر عليها في أرشيف "منظمة ليحى" كتبها أحد مقاتليها جاء فيها: "منظمتنا نفذت يوم الجمعة 9 أبريل 1948 (العملية الاستشهادية لأبناء الجبارين أبناء قرية أم الفحم تمت هي الأخرى يوم الجمعة، ولكن بعد 69 عاماً من جريمة جمعة دير ياسين)، وذلك بالتعاون مع "منظمة إيتسل". كانت عملية احتلال ضخمة لقرية عربية على طريق القدس- تل أبيب- دير ياسين. أنا شاركت في هذه العملية بشكل نشط جداً". ويصف عضو "ليحى" دوره في المجزرة كاتباً: "قتلت في القرية مسلحاً أطلق النار عليَّ، وفتاتين ابنتي 16 و17 عاماً ساعدتا مطلق النار. أوقتهما إلى الحائط وأطلقت عليهما صليّتي تومي" (الرشاش توميجان).
هكذا وصف كيف نفذ إعداماً للفتى والفتاتين برشاش توميجان. إلى جانب ذلك يروي عن سلب ونهب نفذه مع رفاقه "الكثير من المال صادرنا، ومجوهرات وأموال وقعت في أيدينا". وينهي الرسالة بكلمات "كانت هذه عملية هائلة حقاً، وليس صدفة أنهم يشهرون بنا في اليسار (الإسرائيلي) مرة أخرى".
المشاهد كثيرة حاولت مخرجة الفيلم تلخيصها في مقدمتها له عندما روت أن الهجوم على قرية دير ياسين الذي تم صباح الجمعة 9 أبريل 1948، كجزء من "حملة نحشون" لاقتحام الطريق إلى القدس، وشارك فيها نحو 130 مقاتل من منظمتي ايتسل" و"ليحى" ممن تلقوا مساعدة من منظمة "الهاجاناه". واصطدم المقاتلون (الإرهابيون الصهاينة) بمقاومة شديدة وبنار القناصة، وتقدموا بين منازل القرية ببطء مع إلقاء القنابل وتفجير المنازل. قُتل أربعة من المقاتلين (الإرهابيين الصهاينة المهاجمين للقرية) وأصيب العشرات. وعن عدد السكان (المواطنين العرب أبناء القرية) الذين قتلوا هناك، تشير المخرجة، إلى أنه يوجد جدال طويل، إلا أن معظم الباحثين يشيرون إلى أن 110 من سكان القرية (أبناء دير ياسين) بينهم نساء وأطفال وشيوخ قتلوا فيها".
هذه هي بعض مشاهد ما يعتبرونه "حرب الاستقلال" أو "حرب التحرير" وكان ما يسمونه "إسرائيل" أو "أرض إسرائيل" كانت محتلة من العرب قبل حرب 1948، وأن هذه الحرب هي التي حققت الاستقلال للشعب "الإسرائيلي".
أساطير الكذب هذه.. هل رأى أبطال أم الفحم الشهداء الثلاثة الفيلم قبل أن يقرروا أن يقوموا بعمليتهم الفدائية؟
لا أتصور ذلك، فالفيلم عُرض بعد أيام قليلة من عمليتهم الفدائية، لكن ما تضمنه هذا الفيلم التسجيلي المنصف يحفظه الفلسطينيون عن ظهر قلب، هو محفور في القلب قبل العقل وهو الذي سيظل يصنع الأساطير بعد الأساطير ليحطم أصنام الصمت والخزي بحق فلسطين وشرف أمة كاملة يريدون تدنيسه، وخطر دائم يتهدد الأقصى الذي سيبقى شامخاً وإلى الأبد تحت رعاية الله وأبناء الجبارين على كل الأرض العربية.