إعادة قراءة الثورة: الطريق من 25 يناير إلى 30 يونيو (1-2)
لم يشهد العالم العربي ما بعد الاستقلال
– باستثناء الحالة الفلسطينية - حراكاً شعبياً واسعاً لدرجة يجوز فيها توصيفه
بالثورة الشعبية إلا ما جرى في دول الثورات العربية في عام 2010. فبعد شهر من خروج
الجماهير التونسية للشارع في مواجهة النظام هرب الرئيس زين العابدين بن علي من
البلاد وسقطت الحكومة وبدأت تونس عهداً جديداً من الإصلاحات، وفي مصر التي شهدت
إرهاصات الثورة والتمرد على النظام القائم منذ سنوات وتزايدت بعد الانتخابات
التشريعية الأخيرة في حكم مبارك، التي اعتبرتها المعارضة نهاية المراهنة على
التغيير من خلال النظام القائم، خرجت الجماهير المصرية في كافة محافظات الجمهورية
بمظاهرات تطالب برحيل الرئيس حسني مبارك وهو ما جرى يوم الحادي عشر من فبراير، حيث
تنحى الرئيس واستلم الجيش مسؤولية إدارة البلاد.
وليس من الصواب إزاء تحليل أسباب الثورة
الشعبية التي اجتاحت مصر الركون لوجهة النظر التي تنسب الثورات العربية عموماً وأسبابها
إلى تدخلات خارجية وإقليمية، ذلك أن مثل هذا النوع من التحليل يختزل الأمر في ثورة
خارجية وليست داخلية، ومع التسليم بصحة أو عدم صحة هذه الرؤية؛ فإن هذا لا يعني
عدم الانتباه بالتحليل والتفسير لكثير من المشكلات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية التي عانت منها مصر لسنوات طويلة.
لقد أكد كثير من الباحثين العرب
والأجانب عن عدم توقعهم لحدوث الثورات الديمقراطية العربية أو توقيتها، رغم أن
تاريخ الثورات العالمية يؤكد أنها لا تخضع دائماً للحتمية الآلية والتوقعات
الدقيقة، إن عامل المفاجأة، الذي توحى به هذه الثورات، ما هو إلا نتاج لتضاريس
تاريخية من الإحباط والفساد وعلاقات التسلط والهزائم القومية التي بقيت في حالة
كمون إلى أن توفر لها فتيل الإشتعال، فقد يكون انفجارها نتيجة لسلوك سلطوي متردد
لم يرتق إلى الإستجابة الفورية لأبسط المطالب الحيوية التي تنادي بها الجماهير، أو
استبداداً طال أمده لعقود من الزمن، أو حرمان الجماهير من الحقوق السياسية
والاقتصادية والاجتماعية الضرورية.
وتحاول الدراسة من خلال هذا الفصل تحليل
الثورتين الشعبيتين في مصر، سواء في الخامس والعشرين من يناير أو في الثلاثين من
يونيو، ووضعهما في سياقاتهما السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإعلامية وربطهما بالمحيط
العربي والإقليمي والدولي للمجتمع المصري.
حكم مبارك وعوامل قيام ثورة يناير:
من المستحيل تصور حدوث فعل ثورى،
وبالأحرى حدوث ثورة، فى أى مجتمع من المجتمعات دون أن تسبقها مسيرة طويلة من عوامل
القهر والتسلط والاستبداد، سواء كان هذا القهر أو التسلط أو الاستبداد، وما يقترن
به عادة من فساد سياسى ومالى وأخلاقى، من مصادر داخلية أو خارجية، أو من هذين
المصدرين معاً، ودون أن يسبقها تراكم نضالى شعبى. فالثورات لا تحدث طفرة أو فجأة،
ولكنها حكم التاريخ وقوانينه فى الشعوب. قد تتعدد الأسباب وقد تتباين فى تنوعها
ودرجاتها، ولكن يبقى الفعل الثورى مرتبطاً بشروط يصعب تجاوزها عندما يحدث اكتمال
التفاعل بين العوامل الضاغطة والعوامل المحفزة لتفجر الثورات التى قد تسبقها جولات
من الانتفاضات الناجحة وأخرى الفاشلة، وفى النهاية تحدث الثورة عندما تكتمل شروطها
(1).
وقد اتسمت الدولة المصرية في ظل حكم
الرئيس الأسبق حسني مبارك بأنها دولة رخوة تصدر قوانين ولا تقوم بتطبيقها ولا
تحترم هذه القوانين، وذلك بسبب امتلاك النخبة الحاكمة للمال والسلطة وغيرها من صور
الفساد (2).
وقد أكدت الثورة الشعبية في مصر في
الخامس والعشرين من يناير أن الحلول الأمنية لم تعد تجدي نفعاً مع المواطن، ولا
يمكن أن تستمر لفترة طويلة، دون أن تصاحبها تنازلات وإصلاحات حقيقية من قبل النظام
الحاكم (3).
وتقوم الدراسة فيما يلي بتحليل العوامل
والأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي دفعت إلى قيام ثورة الخامس
والعشرين من يناير وساهمت في تهيئة الأجواء المجتمعية وحشد الجماهير المختلفة إلى
المشاركة في الأحداث الثورية في 25 يناير.
ويشغل العامل السياسي على وجه الخصوص حيزاً
كبيراً في محاولات التفسير المختلفة الكامنة وراء اندلاع ثورة 25 يناير، فهو عامل
محوري لا يمكن إغفاله عند الإجابة عن التساؤل الخاص بأسباب ثورة ملايين المصريين
في كافة أنحاء الجمهورية على نظام حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. فمن المنظور
السياسي يمكن القول بأن الثورة تظهر عندما يحدث اختلال بين مدخلات النظام ومخرجاته،
حيث أنه مع تدهور الأوضاع السياسية، خاصة في ظل فشل النظام في القيام بوظائفه،
تتزايد الرغبة الشعبية في تغيير الأوضاع الراهنة.
ويمكن استعراض نبذة
عن مختلف العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى قيام ثورة الخامس
والعشرين من يناير على النحو التالي:
الاستبداد السياسي:
على الرغم من مضي عدة عقود على الانتقال من صيغة التنظيم
السياسي الواحد إلى صيغة التعددية الحزبية المقيدة في مصر؛ لم تشهد مصر تحولاً
ديمقراطياً حقيقياً، حيث أفضت عملية الانتقال إلى مجرد هامش ديمقراطي يتسع أحياناً
ويضيق أحياناً أخرى طبقاً لإرادة السلطة الحاكمة، وبالتالي فهو لا يستند إلى أسس
دستورية وقانونية تجسّد ما يعرف "بالدستور الديمقراطي"، ولا إلى تعددية
سياسية حقيقية تشكل ركيزة لتحويل مبدأ التداول السلمي للسلطة إلى واقع ملموس، ولا
إلى مقومات اقتصادية واجتماعية وثقافية تعزز عملية التحول الديمقراطي وتسهم في
ترسيخ ثقافة الديمقراطية، ولذلك صنّفت العديد من أدبيات التحول الديمقراطي النظام
السياسي المصري خلال الفترة من 1976 إلى 2011 ضمن فئة النظم المسماة "شبة
التسلطية" أو "التسلطية التنافسية" أو "الديمقراطية
الشكلية"، ونتيجة لتعثر عملية التحول الديمقراطي فقد بدأت تتراكم مع مرور
الوقت ملامح ومؤشرات أزمة بنائية في النظام السياسي المصري (4).
لقد
سيطرت سمات ومعالم الدولة التسلطية على النظام السياسى فى مصر، لكن هذه المعالم
جاءت أيضاً فى ظل تطور هذا النظام باتجاه "الدولة المشخصنة"، وهى الدولة
التى يعرّفها المستشار طارق البشرى بأنها دولة الحكم المطلق الذى يتجاوز فى خطورته
كل مخاطر ومساوئ الحكم المستبد أو دولة الاستبداد، فالدولة المستبدة تعبّر فى معظم
الأحوال عن حكم جماعة مهما كانت هذه الجماعة ضيقة: قبيلة أو حزب سياسى أو طبقة
سياسية، وفى كل من هذه الأنماط للدولة المستبدة يشعر الحاكم بأنه ينتمى إلى تكوين
اجتماعى محدد ذى وجود مستقل عن الدولة، أما الدولة المتشخصنة فإن القائم عليها لا
تربطه عائلة ولا نقابة أو جماعة دينية ولا حزب سياسى أو طبقة اجتماعية، فهو يسيطر
بذاته على مقاليد السلطة، وتغير آلة الحكم وأجهزته كلها تحت إمرته، وهو يتغلب على
ضغط عمال الدولة عليه بأن يشخصن الفئة المحيطة به من العاملين معه بإبقائهم فى
وظائفهم أطول مدة ممكنة،
بحيث تحل العلاقات الشخصية محل علاقات العمل الموضوعية، والمهم أنه لا يقوم من
خارج إطار أجهزة الحكم ما يكون ذا تأثير عليه، ولا تقوم آلية ما للتبادل والتأثير
معه وهى خارج إطار السلطة والوظائف الرسمية. والدولة هنا فى آليات حركتها وتفاعلها
تكون منغلقة من دون أية آلية لعلاقة بينها وبين أى تكوين سياسى أو اجتماعى فى
الدولة (قبيلة، جماعة دينية، حزب سياسى). فالنظام المتشخصن نظام منغلق لا ينفتح
على خارج ذاته ولا تقوم آلية ما لإجراء أى تعديل أو تجديد أو تغيير (5).
على جانب آخر، استمر
النظام الحاكم في الحد من الممارسة السياسية للنخبة، والسماح بقيام أحزاب ذات
مرجعية أمنية، مما أدى إلى تقليص مهمة الأحزاب السياسية وإعاقة صنع النخب السياسية
وعزلها عن الشارع والتي بلغ عددها 24 حزباً قبل ثورة 25 يناير 2011 (6).
ونتيجة لشخصنة
السلطة واحتكار مقوماتها، غاب مبدأ التداول السلمي للسلطة، كما اعتبرت الانتخابات
نوعاً من آلية اختيار الأفراد الذين يسمح لهم بالاستفادة من الدولة في المستقبل،
لذلك خرجت العمليات الانتخابية وكأنها مزاد يتنافس فيه النخب الاقتصادية والعائلية
على حق الحصانة البرلمانية (7).
كما وجد خلل كبير في النظام الحزبي التعددي، فالحزب
الوطني الديمقراطي احتكر الأغلبية البرلمانية منذ تأسيسه، وإلى جواره وجد 24 حزباً
سياسياً (حتى يناير 2011)، كما أن أحزاب المعارضة المعروفة كانت غير قادرة على
القيام بدور سياسي فاعل ومؤثر. ومن المؤكد أن الحزب الوطني استمد قوته من عاملين،
أولهما أن رئيس الدولة هو رئيس الحزب، وثانيهما التداخل بين أجهزة الحزب وأجهزة
الدولة وتوظيف الأخيرة لصالح الحزب وبخاصة خلال الاستحقاقات الانتخابية، ولذلك فإن
النظام الحزبي التعددي في مصر كان أقرب إلى نظام الحزب المسيطر أو المهيمن، ويرتبط
ذلك بعملية تزوير الانتخبابات الممنهجة، حيث أنه لم تفاجيء الانتخابات التشريعية الأخيرة
في عام 2010 أحداً بسبب ما جرى فيها من تزوير وتجاوزات، فقد جرت سبعة انتخابات في
عهد مبارك امتلأت تزويراً، ولهذا كانت نسبة المشاركة السياسية للمواطنين ضئيلة
للغاية لعلمهم المسبق بنتائجها. وهو ما كان يصب في مصلحة النظام "حيث أن
البرلمانيين، خاصة الذين تورطوا في أنشطة غير قانونية، سيجدوا من الصعوبة الانقلاب
على السلطة" (8).
فكان
استمرار الحاكم يتم بطرق غير شرعية وفي مقدمتها تزوير الانتخابات، ففي مصر وضع
الحزب الوطني كل إمكانات الدولة لحصد أغلبية المقاعد في انتخابات مجلس الشعب لعام
2010، وكان التنفيذ بخطة أكدت ما يتمتع به من غباء سياسي حيث زورت الانتخابات بشكل
يدعو إلى السخرية والمزيد من الغضب في الوقت ذاته ليحصد مرشحو الحزب الوطني فوزاً
ساحقاً بكل المقاعد تقريباً دون وجود للأحزاب الأخرى، واغتصبت إرادة الجماهير
باستخدام البلطجية والأمن ومزوري النتائج من أجل تحقيق الهدف الأعظم وإعداد الأرض
لاستقبال نجل الرئيس السابق بلا معارضة أو مقاومة في الانتخابات المقبلة (9). ورغم
تواصل الاحتجاجات الشعبية في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، إلا أن النظام لم يدرك
أن هذه الاحتجاجات تعد علامة أو مؤشراً على رفض النسق القمعي لهذا النظام (10).
تزاوج السلطة والثروة:
الحقيقة
أن الصعود السريع لسطوة رأس المال وسيطرته المتزايدة على السلطة يعود بصورة أساسية
إلى أن البيروقراطية المسيطرة في مصر منذ عقود قد تحولت جزئياً إلى رأسمالية
تقليدية، لأنه مع تراكم الثروات لدى أفرادها حدث تناقض بين مصالح الفرد منها وبين
المصلحة الجماعية للفئة، فبينما يكون من مصلحة هذه الفئة في مجموعها أن تظل مسيطرة
كفئة طبقية، فإن مصلحة الفرد منها تقتضي أن يتم إفساح المجال للرأسمالية الخاصة
حتى يستطيع استثمار التراكم الذي حققه بشكل شرعي أو غير شرعي. وقد أثبت التاريخ
القريب أن الغلبة تكون للمصالح الفردية التي تقود الرأسمالية البيروقراطية إلى
التحلل إلى رأسمالية خاصة (11).
لقد
حدث استقطاب حاد داخل الدولة المصرية لصالح رجال الأعمال, وكانت النتيجة أن زاد
نصيب الأغنى من الدخل علي حساب تدني نصيب الأفقر والفئات الوسطي, وأدى ذلك إلى تقوية
رأس المال علي العمل بحيث زاد نصيب الأرباح وقل نصيب الأجور وارتفع نصيب رجال
الأعمال علي حساب المنتجين (12).
فمنذ تشكيل حكومة أحمد نظيف اندفعت مصر إلي الاتجاه نحو
عصر الليبرالية الاقتصادية بشكل سريع للغاية، باعتبار أن المجموعة الاقتصادية
المكونة لها تؤمن بهذا التحول بإخلاص، كما تؤمن بأهمية إقامة نظام اقتصادي حر
وشراكة أمريكية مصرية إسرائيلية من خلال تطبيق نظام المناطق الصناعية المؤهلة.
وقاد هذا الاتجاه في الحكومة المصرية كل من يوسف بطرس غالى وزير المالية، ومحمود
محي الدين وزير الاستثمار، ورشيد محمد رشيد وزير التجارة الخارجية والصناعة، ودعم
هذا الاتجاه منظمات رجال الأعمال المستفيدة من دخول السوق الأمريكية (13).
والأكثر لفتاً للانتباه في تشكيل هذه الوزارة الطريقة
التى تم بها التشكيل الوزارى أو على الأقل فيما يتعلق بالمجموعة الاقتصادية فيه.
إذ تعد هذه هى المرة الأولى التى يكون كافة وزراء المجموعة الاقتصادية أعضاء فى
الحزب الوطنى الديمقراطى قبل اختيارهم للمنصب الوزارى وليس العكس، حيث كانت الحالة
الغالبة هى دخول الوزراء وربما رئيس الوزراء نفسه فى عضوية الحزب بعد اختياره
للمنصب. بل إن الأمر لا يقتصر على ذلك، إذ أن وزراء المجموعة الاقتصادية هم أبناء
جناح واحد فى الحزب وهو اللجنة العليا للسياسات، بل إنهم من صناع القرار فى الحزب
وخاصة داخل اللجنة العليا للسياسات التى أضحت أهم لجان الحزب (14).
وقد ترجمت حكومة أحمد نظيف المصالح السياسية والاقتصادية
والاجتماعية لرجال الأعمال ولاسيما الكبار منهم، حتي وظفت السياسة لخدمة مصالحهم،
وصارت هذه المصالح من أبرز محاور العمل السياسي والحزبي والتشريعي. لقد تمثلت
الإشكالية الأبرز لنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك في تكريس استفحال طبقة معينة من
رجال الأعمال، وصولاً إلي تشابك عميق للعلاقة بين السلطة والمال، فتح علي مصر
أبواباً شتي من الفساد وحرم شعبها من فرص حقيقية للتنمية والنهوض، ورغم أن هذه
الطبقة من أصحاب المصالح والأموال حظيت بسمعة غير طيبة علي مر التاريخ، فإنها في
عهد مبارك، تجاوزت ذلك بكثير وعجلت بلحظة الانفجار. ومع التسليم نظرياً بأن رجال الأعمال مواطنون
يتمتعون بحقوق المواطنة التي تتضمن الترشيح لعضوية المجالس النيابية وتولي المناصب
الوزارية مثلهم في ذلك مثل باقي المواطنين، إلا أن المعارضين لانخراط رجال الأعمال
في الدوائر العليا لصنع القرار ينطلقون من المبررات التالية (15):
-
يمثل رجال الأعمال نسبة ضئيلة من المواطنين، وإذا كان من حقهم الترشح
لعضوية المجالس النيابية، فإنه ليس من حقهم السيطرة على هذه المجالس من منطلق
قدراتهم الاقتصادية الأعلى مقارنة بأعداد كبيرة من المواطنين.
- إن التكاليف الضخمة للحملات الانتخابية تتيح لرجال الأعمال
فرصاً أفضل من غيرهم للإنفاق على الدعاية والمؤتمرات الجماهيرية وغيرها.
- إن انخفاض مستويات المعيشة لدى عدد من المواطنين يتيح
فرصاً للقادرين اقتصادياً للتأثير على الناخبين من خلال شراء الأصوات، وربما
التأثير على رجال الإدارة المشرفين على العملية الانتخابية.
- إن كثيراً من رجال الأعمال يسعون من خلال عضوية المجالس
النيابية للحصول على الحصانة البرلمانية التي تتيح لهم مزايا في تيسير أنشطتهم
الاقتصادية.
- إن زيادة نسبة رجال الأعمال داخل المجالس النيابية
والأحزاب الحاكمة يتيح لهم فرصاً لتوجيه النظام السياسي الوجهة التي تحقق مصالحهم
من خلال السيطرة على هيكل صنع القرار السياسي، أي الجمع بين المال والجاه، أو
السيطرة الاقتصادية والسيطرة السياسية.
- لدى صناع القرار السياسي من المغريات ما يدفع رجال
الأعمال نحو تعميق التحالف بين الفئتين لتحقيق مكاسب مشتركة قد لا يتسق كثيراً
منها مع المصلحة العامة أو لا تكون على الأقل في صالح كثير من الفئات الأخرى غير
القادرة على إيصال ممثليها إلى المجالس النيابية بنفس القدر المتاح لرجال الأعمال.
- كثير من القوانين والقرارات الحكومية المتعلقة بالقضايا
الاقتصادية في مراحل التحول تصب في اتجاه تدعيم مصالح الفئات القادرة، وهو أمر
يتسق مع توجيهات المؤسسات الاقتصادية الدولية، الأمر الذي يثير الشكوك حول علاقات
رجال الأعمال الوطنيين مع هذه المؤسسات الدولية.
- لا يبدو أن رجال الأعمال الطامحين إلى المناصب السياسية
يتبنون اتجاهات سياسية واضحة، الأمر الذي يجعلهم، بغض النظر عن الأحزاب التي
ينتمون إليها، يشكلون كتلة ذات مصالح متشابهة في مواجهة الفئات الأخرى.
- إن كثيراً من أبناء المسئولين وأقاربهم قد انخرطوا في
العمل الخاص وأصبح بعضهم مدافعاً بقوة، ولو بصورة مستترة وغير مباشرة، عن مصالح
رجال الأعمال التي تتسق مع مصالحهم.
- إن استمرار سيطرة جهاز الدولة على الأجهزة الرسمية
واحتكار القرارات المهمة وغياب الشفافية يتيح للمسئولين السياسيين قدرة غير محدودة
على مقايضة القرارات السياسية بالمصالح الاقتصادية. لكن تحول الاقتصاد من سيطرة
الدولة إلى اقتصاد السوق يعني تحولاً في التوازن لصالح رجال الأعمال على حساب نفوذ
المسئولين السياسيين، وربما كان هذا سبباً في تحول أبناء المسئولين إلى أعضاء
فاعلين في جماعات رجال الأعمال.
-
إذا كان التنافس بين فئات المجتمع ظاهرة صحية بصفة عامة؛ فإن قدرة فئة
معينة على فرض وجهة نظرها، لعوامل تتعلق بقدرتها على التأثير وليس لأسباب موضوعية،
لا تتسق مع فكرة السوق المفتوح لمختلف الرؤى والآراء وصولاً إلى المنافسة للوصول
إلى أفضل القرارات.
وبذلك فإن نظام
مبارك كما اعتمد على الولاءات الشخصية والقبلية لتثبيت حكمه (16)؛ كان رجال الأعمال والرأسماليون أحد العناصر التي تم
الحصول على ولاءها.
لكن الملاحظ أن
علاقة رجال الأعمال بمجلس الشعب أو الحكومة لا تمثل كل علاقتهم بالسياسة، فالسياسة
الحقيقية التي يمارسها رجال الأعمال تتم عبر مؤسسات متعددة، بعضها تنفيذي مثل
المجلس الرئاسي المصري الأمريكي، وغرفة التجارة الأمريكية، وغرفة التجارة
الألمانية، واتحاد الصناعات، واتحاد الغرف التجارية، وبعضها استشاري مثل المجلس
الأعلى للتصدير، ويتولى بعض رجال الأعمال مهام في السياسة الخارجية. ويكاد يحتكر
هذه الأدوار التنفيذية والاستشارية من يطلق عليهم "مجموعة السبع والعشرين
الكبار" وهم المجموعة الأكثر قرباً من السلطة العليا. فالممارسة السياسية
لرجال الأعمال تتجلى أكثر على الصعيد التنفيذي، حيث تستخدم الدولة رجال الأعمال
كأداة دبلوماسية، وقد أدى اعتماد الدولة على رجال الأعمال في إدارة التفاعلات
الاقتصادية الدولية إلى ظهور ما يسمى "بدبلوماسية رجال الأعمال"، وهو
نوع من إشراكهم في المهام الدبلوماسية التنموية اعتماداً على حافز الربح الموجود
لديهم، ويقبله رجال الأعمال لأنه يحقق لهم أرباحاً بالفعل ويدعم ارتباطهم بالدولة.
من ذلك محاولة الدبلوماسية العربية تعديل أولويات إسرائيل باتجاه التسوية من خلال
الإغراء بمزايا التعاون الاقتصادي عن طريق رجال الأعمال الذين ينشطون في المؤتمرات
الاقتصادية الإقليمية، وبعثات "طرق الأبواب" التي تتوجه سنوياً إلى
الولايات المتحدة ولا تتكون إلا من رجال الأعمال المصريين (17).
والخلاصة أن نفوذ رجال الأعمال في كافة المؤسسات السياسية
للدولة في عصر مبارك رسخ لسيطرة متعمقة لرأس المال على مصادر اتخاذ القرار بشكل
يصعب معه إبعاد هذا النفوذ الرأسمالي عن الساحة سريعاً إذا ما حدث تحول سياسي، فقد
طرحت بعض وجهات النظر تصوراً للمعادلة السياسية في مصر، والتي ارتأت أنها سوف تظل
مستقرة لعدة سنوات ولن يغيرها كثيراً غياب مبارك عن الساحة، فالتحالف الحاكم
القائم سيستمر تحالفاً بيروقراطياً رأسمالياً بغض النظر عمن له اليد العليا في
التحالف، وبغض النظر عمن يجلس على قمة الدولة (18).
الفساد المالي والإداري وتبعاته الاقتصادية والاجتماعية:
شهد الاقتصاد المصري تغيرات هيكلية جذرية من خلال تبني
برامج المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) للتكيف الهيكلي. وتعد
برامج الخصخصة أحد عناصر ومكونات سياسة التكيف الهيكلي، والتي تبدأ بعلاج قضايا
نقدية ومالية وتنتهي ببرامج تحويل ملكية الدولة في الشركات والهيئات إلى الملكية
الخاصة. وقد أفرزت تجربة الانفتاح الاقتصادي وما تلاها من برامج الخصخصة رافداً
للرأسمالية الطفيلية نتيجة للسماح للقطاع الخاص بالاستيراد والتصدير وتمثيل
الشركات الأجنبية، وقد ساهمت الدولة في ظهور الطفيلية، فقد أتاح الانفتاح مجالاً
لاتجاه كثير من رجال الأعمال إلى الاتجار والاستيراد والتصدير والعزوف عن الأنشطة
الصناعية والإنتاجية والدخول في مجالات تحقق عائداً أسرع، وفي نفس الوقت يمكن
تسييلها بسهولة ويمكن جمعها والهروب بها، وتساعد الطفيلية على انتشار التهريب
والسوق السوداء والتهرب من الضرائب والرشوة، وتنفق هذه الأموال بشكل فيه بذخ
وتباهي مما قضى على قيم الأمانة والصدق والوفاء في المجتمع وساعد على انتشار
الفساد والغش والاحتيال والسرقة، وتتمثل أهم خصائص الظاهرة الطفيلية في التركيز
على الأنشطة الخدمية وعدم ربط رأس المال بأجور ثابتة إنتاجية مثل المضاربة والسمسرة
والعمل في الأنشطة الطفيلية والهامشية بعيداً عن العملية الإنتاجية مثل عمليات
الشحن والتفريغ والتخليص الجمركي والمقاولات والمضاربات العقارية والمضاربات في
البورصة والحصول على التوكيلات التجارية والاحتكار والوساطة والسمسرة وغيرها من
الأنشطة (19).
وفي
ظل برامج الخصخصة عملت الرأسمالية البيروقراطية على الأصول العامة للدولة وكأنها
ملك لها، فلم تتورع عن إهداره بالبيع إذا كانت هناك مصلحة كبرى لها في ذلك، حتى لو
كان على حساب مصالح الوطن، مثلما حدث مع إهدار شركة النصر للغلايات (المراجل
البخارية)، رغم كونها أحد قلوب الصناعة، ومثل إهدار شركات الأسمنت ببيعها للأجانب
ليتحكموا في هذه الصناعة الاستراتيجية وفي القطاعات المعتمدة على إنتاجها، وغيرها
من الشركات المهمة، فضلاً عن الفساد المروّع الذي اكتنف عمليات بيع الغالبية
الساحقة من شركات القطاع العام التي تم بيعها مثل شركات المياه الغازية والمشروبات
الروحية والزجاج المسطح وحصص المال العام في البنوك وشركة حديد الدخيلة. وانتقلت
الطبقة الرأسمالية من الوجود القوي قريباً من دوائر الحكم، إلى السيطرة المباشرة
على مواقع صنع القرار الاقتصادي في الحكم في مصر بعد وجود عدد من رجال الأعمال على
كراسي وزارات الإسكان والنقل والسياحة والتجارة والصناعة، إضافة إلى فريقهم
الأيديولوجي الموجود في وزارات المالية والاستثمار (20).
وهو ما فتح الباب واسعاً أمام الفساد لكى ينتشر ويتغلغل
ويضرب مفاصل الدولة، فالملف الأكثر خطورة كان ملف الفساد وخاصة علاقة الخصخصة
بالفساد وتربح ممثلوا جهاز الدولة من تلك العمليات، فقد ارتبطت فترة الانفتاح
بميول تلك الطبقة للعودة للملكية الخاصة القابلة للتوريث والمطلقة العنان لحريتها
فى الاستهلاك. وفى ظل التحولات الحادثة للاقتصاد الحر بعد عام 1974، وبالذات فى
العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، وفى ظل نظام استبدادى، ظهرت نتائج تزاوج
الليبرالية مع الاستبداد فى شكل استفادة القطاع الخاص من الطبقة المرتبطة بجهاز
الدولة من مزايا شراء القطاع العام بالبخس عن طريق الرشاوى، كما برز استخدام جهاز
الدولة فى حفز التراكم الرأسمالى وضخه لطبقة القطاع الخاص، فى إطار من التزاوج بين
كبار الموظفين القادمين من جهاز الدولة مع رموز الطبقة الجديدة. وتظهر تركيبة لجنة
السياسات بالحزب الوطنى وغلبة رجال الأعمال عليها طابع ذلك التزاوج. وعلى هذا فإن
ما سمى بالفساد فى عمليات الخصخصة وفساد جهاز الدولة لم يكن مجرد الفساد المرتبط
بأى نظام اجتماعى كنسبة تتواجد دائماً، ولكنه كان فساداً مؤسسياً ووسيلة ضرورية
لتشكيل الطبقة الجديدة بالاستيلاء على التراكم السابق إنجازه فى جهاز الدولة، وكل
هذا بالطبع فى إطار دخول رأس المال العربى والعالمى مشاركاً فى تملك الأصول الإنتاجية
من أراضى وشركات ومصانع بثمن بخس. وقد أطلق على هذا الاتجاه وهؤلاء الرجال
القادمين من مجال البزنس لدفع عجلة الخصخصة بسرعة، أطلق عليه قدوم المحافظين
المصريين الجدد، أعضاء لجنة السياسات، لخصخصة مصر (21).
وتعد قضية نواب القروض من أضخم قضايا المال في الشرق الأوسط
لما حوته من أرقام كانت ذات خصوصية شديدة من حيث عدد المتهمين الذين بلغ 32 متهماً
وعدد الدوائر القضائية التي باشرت القضية وبلغت 12 دائرة وعدد أوراق التحقيقات
التي بلغت 100 ألف ورقة، وحجم الأموال التي اتهم المتهمون بالاستيلاء عليها وبلغت
800 مليون جنيه، وقد شهدت هذه القضية هروب عدد كبير من المتهمين من نواب مجلس
الشعب والمسئولين ورجال الأعمال (22).
وكانت إحدى أهم نتائج الفساد إضعاف التنمية الاقتصادية
والاستثمار، حيث أن انتشار الرشوة المطلوبة بواسطة المسئولين الحكوميين يقلل من
حوافز الاستثمار، ويسمح بإرساء الأعمال على الأقل كفاءة. إن انتشار الفساد
الاقتصادى، خاصة الفساد الكبير منه والذى ينخرط فيه كبار المسئولين في الدولة، سوف
يؤدى إلى أن تتخذ القرارات الاقتصادية ليس على أساس ما يدفع بالنمو الاقتصادى إلى
تحقيق رفاهية المواطنين وإنما على أساس المكاسب التى تعود على كبار المسئولين
أنفسهم وعلى عائلاتهم وحلفائهم من السياسيين ورجال الأعمال مما يؤدى إلى فقدان
النظام السياسى للشرعية، أى القبول الاختيارى من جانب المواطنين لمؤسساته وقيادته،
ويشعر المواطنون بالاغتراب عنه والعزوف عن المشاركة في منظماته وأنشطته ومع أول
شراره سخط يتهاوى النظام (23).
وقد احتلت مصر
في تقرير منظمة الشفافية الدولية السنوي لعام 2010 عن الفساد في دول العالم،
المركز 98 للدول الفاسدة في التقرير الذي ضم 178، وكانت تحتل المركز الـ111 بين
دول العالم عام 2009 (24).
بل إن الحكومة المصرية (آنذاك) عرقلت أية جهود للقضاء على الفساد، فلم توجد
فى مصر هيئات لمكافحة الفساد تستحق أن توصف بأنها مستقله، وتحتج الحكومة المصرية،
فى معرض رفضها لإنشاء هيئة مستقله، وفاءاً بالتزامات المادة السادسة من اتفاقية الأمم
المتحدة، بتعدد الجهات التى تعتقد الحكومة أنها تقوم بدور محدد ومنها الجهاز
المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية ومباحث الأموال العامة، والمفارقة أن
الحكومة المصرية قيدت عمل هذه الأجهزة، وبالقانون، فقد صدر قرار رئيس
الوزراء رقم 1684 لسنة 2004 الذى أنهى دور الجهاز المركزى للمحاسبات فى مراجعة
تقارير تقييم التشريعات الداخلة فى برنامج الخصخصة وجعل المراجعة عن طريق لجنة
يمثل فيها الجهاز بعضو واحد فقط يحظر عليه الرجوع لرئاسة الجهاز مما جعل رأى العضو
شخصياً ولا يعبر عن رأي الجهاز، أما هيئة الرقابة الإدارية ومباحث الأموال العامة
فتستأذن السلطة التنفيذية قبل إتخاذ إجراءات قضائية، وخاصة فى الحالات المتعلقة
بأشخاص يحتلون مناصب سياسية، كما أن تقارير هذه الجهات لا تقدم إلى أي جهه أخرى أو
يتم إعلام الرأى العام بها إلا بعد موافقة رأس السلطة التنفيذية (25).
لقد تحول الفساد من ظاهرة تتخفى لتأدية أعمالها وإنهاء
مصالحها إلى فساد مقنن ومعلن برعاية عدد من السلطات في الدولة، وكان ذلك هو مكمن
الخطورة أن يتحول الفساد من حوادث فردية إلى ظاهرة ووضع مقنن والأمثلة على ذلك
كثيرة ومتعددة.
ويعد قانون منع الاحتكار واحداً من أكثر
القوانين التي استغرقت وقتاً طويلاً قبل إصدارها، حيث عملت قوى الاحتكار على عرقلة
صدوره لسنوات طويلة تقارب العقد من الزمن، وعملت على أن يقدم في النهاية بالصورة التي قدم
عليها، والتي لا تلبي احتياجات منع الاحتكار وحماية صغار المنتجين وجموع
المستهلكين من كبار المحتكرين، فضلاً عن أنه يفتح بوابات جديدة للفساد. وينص
القانون على أنه عندما يتأكد تمتع أي منتج بوضع احتكاري، وتتأكد ممارسته لسلوكيات
احتكارية ضارة، فإنه لا يجوز رفع الدعوى الجنائية أو اتخاذ أي إجراءات لمواجهة
ذلك، إلا بطلب كتابي من الوزير المختص أو من يفوضه، والذين يجوز لهما التصالح في
أي من تلك المخالفات قبل صدور حكم بشأنها. وقد أصدرت حكومة أحمد نظيف قرارات تخفيض الرسوم الجمركية، وهذا التخفيض كان
ضرورياً لحماية المستهلكين من انفراد المنتجين بهم وفرض أسعار احتكارية استغلالية
عليهم، لكن ذلك التخفيض للرسوم الجمركية تم دون تحديد لمعدل الربح الذي يجب ألا
يتجاوزه المستورد، مما مكن الرأسمالية العاملة في مجال الاستيراد من الاستحواذ على
القسم الأعظم من فائدة تخفيض الرسوم الجمركية، دون أن يستفيد المستهلكون والاقتصاد
إجمالاً بصورة جدية. كما قامت الحكومة نفسها بإعداد قانون جديد للضرائب في عام
2005، وتم إقراره من مجلس الشعب، وقد وحّد معدل الضريبة على من
تصل أرباحهم التجارية والصناعية إلى 40 ألف جنيه في العام فأكثر، بما يساوي في العبء الضريبي بين صغار
المستثمرين من أصحاب المشروعات الصغيرة، وبين الرأسمالية الكبيرة المحلية
والأجنبية من مالكي المشروعات الضخمة والذين يمكن أن تصل أرباحهم إلى عشرات أو حتى
مئات الملايين من الجنيهات أو أكثر، وهو أمر غير عادل على الإطلاق (26).
لقد بدا واضحاً أن القاسم المشترك بين السلطة والثروة هو
الفساد، فقد ازداد التداخل والتشابك بين (رجال البيزنس) والفئات البيروقراطية عن
طريق الصفقات المشتركة والتزاوج والتي تصل إلى أعلى المستويات الحكومية. فقد شهد هذا
العصر ميلاد من يمكن وصفهم بالمليارديرات، وهكذا بدأ تصاعد النهب لثورات مصر، كان
النهب منظماً ومتتالياً ومبالغه مذهلة، ضاع معه مدخرات المصريين التي تكونت في
غربتهم الطويلة في بلاد النفط. فمن شركات توظيف الأموال الوهمية في مجالات العملة
إلى شركات السمسرة المحتالة في البورصة، وضياع الأموال على شركات المقاولات
المنحرفة التي استغلت حاجة الناس إلى السكن. أما أخطر ما جرى فهو نهب أموال البنوك
وضياع نحو 150 مليار منها أخذت بلا حساب وبلا ضوابط (27).
والقضية الأكثر شهرة ومفارقة في نفس الوقت كانت قضية
الصكوك، حيث ابتدعت الحكومة المكتظة برجال الأعمال وأصدقائهم الأيديولوجيين
مشروعاً جديداً لإدارة أصول الدولة وهو الإسم الخفي لبرنامج الخصخصة. واستحضرت
الحكومة بعض التجارب الفاسدة في بعض دول شرق أوروبا وبالذات في روسيا، عندما جرت
عمليات شديدة السرعة لتدمير الهياكل الاقتصادية للدولة القديمة لضمان ألاّ تقوم
لها قائمة، فتم نقل ملكية القطاع العام إلى المواطنين عبر "الكوبونات"،
وتلخص مشروع الحكومة لخصخصة القطاع العام في تقسيم شركات القطاع العام الباقية في
حوزة الدولة إلى ثلاثة أقسام: الأول هو الشركات التي سيتم خصخصة 70% منها، والثاني
49% منها، والثالث 33% منها. ليتم توزيع صكوك على المواطنين الذين تجاوزت أعمارهم
21 سنة بقيمة أشارت التقديرات الحكومية إلى أنها ستكون في حدود 400 جنيه للفرد مرة
واحدة ونهائية، وهذه الصكوك لا تخص شركة معينة يملك فيها المواطن سهماً أو عدة
أسهم، بل هي صكوك لملكية الحصص المطروحة للخصخصة. وبذلك ففي التوقيت البالغ
الحساسية في مواجهة تغول الأزمة المالية والاقتصادية الأمريكية والعالمية، تتخذ
الإدارة الاقتصادية المصرية موقفاً أيديولوجياً يمينياً متشدداً بالاستكمال السريع
لخصخصة القطاع العام، بهدف تقليص دور الدولة لأقصى حد وإنهاء الأساس الاقتصادي لها
ولأحد أسس قوتها الشاملة ونفوذها السياسي أي قطاعها العام (28).
وفي ظل سياسات التشغيل التي اتبعتها الحكومة المصرية في
عهد مبارك، ارتفعت معدلات البطالة بصورة هائلة، فقد وصل معدل البطالة في عام 2010
(9%) (29).
ونتجية لهذه السياسات ارتفع معدل الفقر بشكل كبير، حتى
أنه وصل إلى 25%، ووصل عدد الفقراء إلى أعلى مستوياته في محافظات الصعيد، خاصة
محافظة أسيوط حيث بلغت نسبة الفقراء بها 69% عام 2010، ووجدت 762 قرية من أفقر
1000 قرية في المنيا وسوهاج وأسيوط أي ما يعادل 51% من سكان ريف الوجه القبلي لا
يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية (30).
وفي ظل هذه المؤشرات، كان من المنطقي أن يمثل الفقر
وحرمان قطاعات كبيرة من الجماهير من الحاجات الأساسية والضرورية، التي يجب أن تتاح
لكل مواطن، أحد أسباب قيام ثورة يناير (31).
توريث الحكم:
بدا
واضحاً أن طبقة رجال الأعمال الجدد، خاصة أولئك الذين ترتبط مصالحهم ارتباطاً
عضوياً بالدولة، كانوا أول من اكتشف جمال مبارك وزين له طريق السلطة، لذا كان لابد
أن يكونوا هم أحرص الناس على مشروع التوريث وأكثرهم استعداداً لتحمل تبعاته، وفى
هذا السياق كان من الطبيعى أن تتحول هذه الشريحة من رجال الأعمال من سند داعم إلى
عبء فى نظر الشعب، بعد أن تبين أن مشروع التوريث هو ذاته مشروع لعودة رأس المال
للهيمنة على الحكم، فلأن الوريث ينتمى إلى مجموعة من "رجال الأعمال
الجدد" تؤمن بالحرية الاقتصادية وتعادى الليبرالية السياسية فى الوقت نفسه،
فقد تخوف كثيرون أن تزداد سطوة رأس المال فى عهده، وأن تتسع الهوة القائمة بين
الأغنياء والفقراء على نحو قد يشكل تهديداً خطيراً للسلم والأمن الاجتماعيين (32).
إن
صعود لجنة سياسات الحزب الوطني ومعها رجال الأعمال القريبين من جمال مبارك تتعدى
قضية ابن رئيس دولة يحاول أن يخلف أبيه في الحكم، فالقضية تكشف عن تغيرات عميقة في
الاقتصاد السياسي المصري وأزمة شاملة في المجال السياسي تجعل من انقلاب القصر
خياراً مريحاً لرجال الأعمال الجدد ويجسد تسوية بين البيروقراطية الحاكمة والرأسمالية
الصاعدة، لقد كان مشروع جمال مبارك امتداد للممارسة السياسية التي تغلب على
الرأسمالية المصرية وهى العلاقات الشخصية المباشرة بالبيروقراطية العليا من أجل
التأثير عليها، فالمشروع عبارة عن صفقة علوية بين بعض قطاعات البيروقراطية وبعض
المجموعات الرأسمالية (33).
إنتهاكات حقوق الإنسان:
احتلت
مصر الترتيب رقم 143 في مجال الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في عام 2004 من
بين 192 دولة، أي تقع في الثلث الأخير (34)، كما وصل إجمالي ضحايا
العنف من جانب الشرطة المصرية وانتهاك حقوق الإنسان في آخر ثلاث سنوات من حكم
مبارك 350 فرد(35).
وقد
شهدت مصر تجاوزات عديدة لرجال الشرطة والمؤسسة الأمنية من خلال الانتهاكات
الحقوقية المتعددة تجاه المواطنين العاديين وزيادة حالات القبض والحبس والتعذيب
والقتل والتلفيق، وبرزت في هذا الشأن عدة قضايا هزت الرأي العام المصري منها قضية
مقتل الشاب خالد سعيد وحادثة تفجير كنيسة القديسين ووفاة الشاب سيد بلال في أعقاب
هذا التفجير، وغيرها من التجاوزات في حق المواطن المصري والتي زاد معها حالة
الاحتقان والسخط الشعبي (36).
* رئيس وحدة الدراسات
الإعلامية بالمركز، ووكيل كلية الإعلام جامعة القاهرة
** أستاذ الإعلام المساعد
بمعهد الإدارة العليا بالرياض
المراجع:
1) محمد
السعيد إدريس (2011)، مقدمات الثورة، في: عمرو هاشم ربيع (محرر)، ثورة 25
يناير: قراءة أولية ورؤية مستقبلية، (القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية
والاستراتيجية)، ص 7.
2) أنور
محمود زناتي (2013)، مصر 2013، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة
السياسات)، ص 3.
3)
Toby Manhire (Editor) (2012), The Arab Spring: Rebellion, Revolution,
and a New World Order, (New York: Random House), P. 42.
4) ياسمين
أحمد منصور (2016)، مداخل تفسير الظاهرة الثورية.. دراسة حالة ثورة 25 يناير 2011
في مصر، رسالة ماجستير غير منشورة، (جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم
السياسية)، ص 99.
5) محمد
السعيد إدريس (2011)، مقدمات الثورة، مرجع سابق، ص 10.
6) نهى
محمد الدسوقي (2016)، تأثير الفساد السياسي على استقرار النظام السياسي المصري
(1990- 2011)، رسالة ماجستير غير منشورة، (جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد
والعلوم السياسية)، ص 113.
7) خالد
كاظم أبو دوح (2011)، ثورة 25 كانون الثاني/ يناير في بر مصر.. محاولة للفهم
السوسيولوجي، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد
(387)، مايو، ص 118.
8) ليزا
بليدز (2009)، حالة التنافسية السياسية في مصر، مجلة الديمقراطية، العدد
(36)، أكتوبر، ص 29.
9)
محمد أحمد
خميس، ابراهيم مختار (2011)، ثورة بلا قائد.. أسرار ووقائع ثورة 25 يناير 2011،
(القاهرة: دار الطباعة الحديثة)، ص 13.
10) Maged Mandour (2014), Political
Violence and State Repression in Egypt, Open Democracy, 26 February.
11) أحمد السيد النجار (2009)، سيطرة رأس المال على الحكم وأثرها على الشفافية والاقتصاد على ضوء معطيات
الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، ورقة مقدمة لورشة عمل (الشفافية والإفصاح
في الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وتأثيرها على مصر)، (القاهرة: مركز
الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 26 يناير)، ص 9.
12) مهدي محمد القصاص (2003)، آليات إفقار
الطبقة الوسطى المصرية، مجلة كلية الآداب، جامعة المنصورة، العدد 33،
أغسطس، ص 12.
13) سامي عفيفي حاتم (2005)، الاتجاهات الحديثة في
الاقتصاد الدولي والتجارة الدولية، (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية)، ص 73.
14) مجدي صبحي
(2004)، كيف تفكر المجموعة الاقتصادية الجديدة في مصر؟، ملف الأهرام
الاستراتيجي، المجلد العاشر، العدد 120، ديسمبر، ص 25.
15) كمال المنوفي،
علي الصاوي (محرران) (2004)، ماذا يفعل رجال الأعمال في البرلمان: دراسة سياسية
تحليلية لأداء رجال الأعمال في مجلس الشعب، (جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد
والعلوم السياسية، برنامج الدراسات البرلمانية)، ص ص 7-8.
16) Daniel Brumberg (2002), Democratization
in the Arab, the Trap of Liberalization
Autocracy, Journal of Democracy, Vol. 13, No. 4, P. 56.
17) عادل هاشم، دور رجال الأعمال في السياسة المصرية
في العصر الحالي، Available at:http://www.f-law.net.
18) سامر
سليمان (2006)، النظام القوي والدولة الضعيفة: إدارة الأزمة المالية والتغيير
السياسي في عهد مبارك، (القاهرة: الدار للنشر والتوزيع)، ص 420.
19) محمد عادل
العجمي (2010)، دولة رجال الأعمال: مصر في أحضان البيزنس، (القاهرة:
مكتبة جزيرة الورد)، ص 45.
20) أحمد
السيد النجار، سيطرة رأس المال على الحكم وأثرها على الشفافية
والاقتصاد على ضوء معطيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، مرجع سابق، ص 10.
21) محمد حسن خليل (2011)، ثورة 25
يناير.. الواقع وآفاق المستقبل، (القاهرة: الحزب الاشتراكي المصري)، ص 12.
22) محمد عادل محمد العجمي (2008)، صورة
رجل الأعمال في الصحف المصرية: دراسة تحليلية خلال الفترة من 1991 الى 2006، رسالة ماجستير، (جامعة عين شمس: كلية البنات،
قسم الاجتماع، شعبة الاعلام)، ص 124.
23) محمد عبد الحليم عمر (2000)، الإجراءات العملية
الإسلامية لعلاج الفساد الاقتصادي، بحث مقدم لندوة (الفساد الاقتصادي.. الواقع
المعاصر والعلاج الإسلامي)، (القاهرة: جامعة الأزهر، 22- 23 مارس)، ص 14.
24) السيد عبد الفتاح (2011)، أباطرة الفساد:
وزراء ورجال أعمال نهبوا ثروات مصر، (القاهرة: دار الحياة)، ص 14.
25) ائتلاف النزاهة والشفافية (2008)، تقرير
الفساد عام 2008، (القاهرة: ائتلاف النزاهة والشفافية من أجل إنفاذ الاتفاقية
الدولية لمكافحة الفساد)، ص 10.
26) أحمد السيد النجار (2009)، سيطرة رأس المال على الحكم وأثرها على الشفافية والاقتصاد على ضوء معطيات
الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، مرجع سابق، ص ص 13-15.
27) منير الحمش (2006)، الاقتصاد
السياسي: الفساد- الإصلاح- التنمية، (دمشق: اتحاد الكتاب
العرب)،
ص 32.
28) أحمد السيد النجار (2009)، سيطرة
رأس المال على الحكم وأثرها على الشفافية والاقتصاد على ضوء معطيات الأزمة المالية
والاقتصادية العالمية، مرجع سابق، ص 22.
29) الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2012)، الكتاب الإحصائي السنوي 2012، (القاهرة: الجهاز المركزي للتعبئة العامة
والإحصاء).
30) فاطمة سيد خليل وآخرون (2011)، خصائص الفقراء في مصر، (القاهرة:
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء).
31) Hazem Fahmy (2012), An Initial
Perspective on the Winter of Discontent: the Root Causes of the Egyptian
Revolution, Social Research, Vol. 79, P. 350.
32) حسن نافعة (2009)، مستقبل نظام الحكم في مصر،
(القاهرة: د.ن)، ص 20.
33) سامر سليمان (2005)، من الاقتصاد في خدمة
السياسة إلى السياسة في خدمة الاقتصاد: الدور السياسي الغائب للرأسمالية المصرية، Available at:www.pidegypt.org.
34) محمد السعيد إدريس (2011)، مقدمات الثورة، مرجع
سابق، ص 11.
35) وحيد عبد المجيد (2011)، نهاية الإهانة: ثورة 25
يناير ضد النظام الهش في مصر، مجلة السياسة الدولية، العدد 184، أبريل، ص 62.
36) ياسمين أحمد منصور (2016)،
مداخل تفسير الظاهرة الثورية.. دراسة حالة ثورة 25 يناير 2011 في مصر، مرجع
سابق، ص 142.