ثلاثية القيم، المعتقدات، والسلوك الاجتماعي في شهر رمضان
عالم
المواصلات العامة في مصر (القطار، الأتوبيس، المترو)، عالم جدير بالبحث والتأمل
الدائمين، فهو قطعة من الحياة اليومية في المحروسة، فيه تظهر بجلاء منظومة القيم
التي تتحكم في سلوك المصريين، ومن خلال الملاحظة العفوية يمكن استقراء عديد
الظواهر التي ربما تستعصي على الفهم من خلال البحوث الاجتماعية المعمقة. سمة هذا
العالم أنه حيوي ومتغير يرتبط ويتأثر بالأحداث والمناسبات الوطنية والدينية
والاجتماعية والسياسية التي يعيشها المصريين، كما يرتبط بأحوال المعيشة والظرف
الاقتصادي. وفي هذا المقال نحاول أن نتأمل عالم المواصلات العامة في شهر رمضان
الكريم، متخذين من موضوع القيم أساس للعرض والتحليل.
العلاقة بين القيم والمعتقدات والسلوك الاجتماعي
المعتقدات:
عبارة عن مثل عليا ومبادئ حاكمة للسلوك ومحددة للقيم الانسانية. ولكل انسان مجموعة
من المعتقدات التي يكتسبها من مصدرين: المصدر الأول هو الدين (السماوي أو
الوضعي) بما يتضمنه من مجموعة أوامر ونواهي ومبادئ ينشأ عليها الإنسان من الصغر،
ويؤمن بها حين يكبر، وبمجرد حدوث هذا الإيمان يتصرف الفرد وفقاً لما يمليه عليه
الدين الذي يعتنقه. أما المصدر الثاني، فهو العقل والتفكير، ويمكن الإشارة إلى هذا
المصدر اختصاراً بمجموعة المعتقدات العلمانية من نظريات كبرى وأفكار فلسفية
خالدة التي يعتقد الفرد في صحتها، وبمجرد
حدوث الاقتناع، تصبح هذه المعتقدات موجهة لسلوك الإنسان وعلاقاته وتفاعلاته مع
الآخرين. مع التنبيه على أن الغالبية من البشر، يتمتعون بالقدرة على المزاوجة بين
المعتقدات الدينية والعلمانية في نسق واحد، فتكون وسيلتهم في فهم العالم وإدراكه القلب
والعقل معاً. والبعض من البشر يتطرف فيلتزم بنوع واحد من المعتقدات: إما
الدينية أو العلمانية، فتحدث جفوة بين القلب والعقل، وأحياناً تتحول الجفوة إلى
صراع كبير وحروب معنوية ومادية بين كلا الفريقين. ولا يمكن فهم القيم الانسانية
الكبرى إلا من خلال فهم منظومة المعتقدات لمجتمع ما في زمان ما.
أما
الشعور بالقيمة فينتج
من تفاعل عنصرين: الأول المعتقدات أو المثل العليا التي أشرنا إليها، والعنصر
الثاني الحاجات المادية اللازمة لبقاء وتطور الإنسان، على معنى أن كل مجتمع يؤمن
بحزمة من المعتقدات الدينية والعلمانية، ويواجه ظروف بيئية واقتصادية وسياسية
واجتماعية معينة، ومن خلال هذا التفاعل تنشأ قيمة الأشياء والأفعال والأفكار
والعلاقات والتفاعلات بين البشر، فيصبح لدى هذا المجتمع قيماً خاصة بالسلوك الديني
والاقتصادي والسياسي والجمالي والاجتماعي والثقافي، ...إلخ.
مع
لفت الانتباه الى أن حزم القيم تمارس على بعضها البعض تأثيراً متبادلاً. فالقيم الدينية
يمكن أن تؤثر في القيم الاقتصادية أو السياسية والعكس صحيح. والإنسان يفهم ويدرك
أهمية القيمة وتقديرها عن طريق الشعور، والأداة الأساسية لذلك هو العاطفة
الإنسانية. مثل عواطف
الغضب، الخوف، الابتهاج، الحزن، القلق، الاندهاش، الشفقة، الشوق، الحنين للماضي،
الولاء، الثناء، الإيثار، التعاطف.
ولأن لكل مجتمع
ظروفه وتاريخه المختلف، ومعتقداته الدينية والعلمانية والأسطورية المختلفة، فإننا نستنتج
من ذلك أن لكل شعب منظومة قيمية تميزه،
وبالتالي تسود لديه مجموعة من العواطف تختلف عن الشعوب الأخرى. ومن هنا يمكن أن
نفهم كيف يتميز الشعب الألماني عن الفرنسي، أو الشعب المصري عن الإنجليزي، وهكذا.
إذاً فكيف تؤثر القيم والمعتقدات في السلوك البشري؟ إن
أفعالنا التي نمارسها في كافة ميادين الحياة، تعتمد على العقل والأداة الأساسية للسلوك
هي الإرادة أو الرغبة في الفعل على نحو ما. لكن السلوك البشري لا يمكن أن يصدر
خالياً من أية قيم أو معتقدات سواء كانت صحيحة أو خاطئة، أو كانت معتقدات حقيقية
أو خرافية أو أسطورية لكن من خلال التنشئة الإجتماعية والتجربة التي يمر بها الإنسان
طوال مشوار حياته، تتولد لديه استجابات وأنماط سلوك تصدر تلقائياً وتتكرر بصورة
روتينية مُحَمَّلَةً بمنظومة المعتقدات التي يؤمن بها والقيم التي يفضلها في
حياته.
والمخزون
القيمي لدى كل إنسان مخزون مرن يزيد وينقص، يتغير في كل مرحلة عمرية، أحياناً
يتدهور المخزون وأحياناً يرتقي ويزيد، ومن هنا تكتسب عملية ارتقاء القيم أهمية
خاصة في حياة الفرد والمجتمع على حد سواء (تقبل، ثم تفضيل، ثم التزام بالقيمة)
ولنأخذ قيمة التسامح مع الآخر الديني كمثال: لا يمكن للمسلم المصري مثلاً أن يدعي
أنه متسامح مع أخيه المصري المسيحي، إلا إذا قبل أولاً بقيمة التسامح كمبدأ
واعتقاد، ثم في مرحلة تالية يفضل في تفاعلاته وعلاقته بأخيه المسيحي، الانطلاق من
قيمة التسامح والمجاملة والعفو واللين، ويمتنع عن القيم السلبية كالتعنت والتزمت والتشدد
والتعصب. بعد مرحلة التفضيل تأتي اللحظة الحاسمة في سلوك الإنسان وهي لحظة
الالتزام بتطبيق القيمة في كل أفعاله وتصرفاته مع الآخر الديني. ومن هذه الزاوية،
فإن الذي يزعم اتصافه بالتسامح، ولا يُقَدم التهنئة لأخوته المسيحيين في أعيادهم،
فهو لا يقبل هذه القيمة الأخلاقية وإن ادَّعى ذلك. مثل هؤلاء الأشخاص تتحكم فيهم
معتقدات دينية متزمتة، أثرت على قيمة التسامح لديهم، هذه المعتقدات تحول بين الفرد
وبين حب الآخر والتعايش السمح بين أبناء الوطن الواحد. وفي المقابل، فإن الشخص
الذي يؤمن بقيمة التسامح ويفضلها ثم يلتزم بها، يشعر بمتعة الفضيلة، لما تجلبه من
راحة نفسية وتشيع الحب بين كافة أفراد المجتمع.
الارتقاء بالقيم داخل المواصلات العامة
إن
كنت من مستخدمي خدمة المواصلات العامة، في هذا الشهر الفضيل، فلابد أنك تمر بمواقف
تستحق التأمل في رحلة الذهاب والإياب داخل الوسيلة التي تركبها. أحياناً يلفت
انتباهك بين الجلوس على المقاعد: شاب أو رجل يمسك بالمصحف قارئاً بصوت عال أو
منخفض، وعدد كبير من الركاب يحركون أصابعهم على شاشات الهواتف المحمولة في تواصل
افتراضي عبر الفيسبوك وغيرها من الوسائل. وطائفة أخرى تحدق في سقف العربة تبدو عليها
أمارات التعب والإرهاق من الصيام.
وأنت
تتأمل هذا المشهد، كثيراً ما يتصادف وقوف سيدة تحمل طفلها أو فتاة تعاني من
اعتداءات الملامسة المتحرشة أو العفوية غير المقصودة، أو رجل مسن يتألم من مشقة
الوقوف في زحام المواصلات العامة، كل هؤلاء يستحقون المقعد الذي يجلس عليه قارئ
القرآن أو المتصفح في الفيسبوك، وغيرهم من الجلوس، وإذا أمعنت النظر أكثر، تجد
الغالبية يحولون نظرهم بعيداً عن الحالة المستحقة للجلوس، وكأنهم بذلك يهربون من
قيمة الرحمة والحنو على الضعيف أو قيمة المروءة. إنهم يدَّعون الانشغال البصري أو
التفكير العميق الذي يعزلهم عن المحيطين بهم، والحقيقة أنهم جميعاً على وعي بأن
هناك سيدة أو رجل مسن أو فتاة تحتاج إلى الجلوس، ولا يحركون ساكناً. فكيف تحلل هذا
الموقف باعتبار ما سبق من تمهيد عن علاقة القيم والمعتقدات بالسلوك؟
يمكن
فهم غياب أو حضور هذه القيم من عدة جوانب: (1) فربما يتبادر إلى ذهن أحد هؤلاء الجالسين
أنه اكتسب أحقية البقاء على المقعد بأسبقية الركوب ولن يتنازل عنه مهما حدث، هذا
الصنف لا يرى إلا نفسه، أناني النزعة لا يقبل قيمة الرحمة أو الحنو على الضعيف أو
المروءة التي ذكرناها. (2) لكن ربما يكون أحدهم متعباً، أو يجد نفسه في تحدي صامت
مع آخرين من المفترض أن يقوموا بدلاً منه بهذا الالتزام الأخلاقي، كأن يكون من
بجواره في المقعد شاب صغير السن هو الأولى بالمبادرة. في هذه الحالة فإن الإنسان
الذي يجد نفسه في هذا الموقف، يشعر بتأنيب أو وخز في الضمير وتتملكه مشاعر الغضب طوال
مدة بقاء السيدة أو الرجل المسن واقفاً دون أن يتطوع أحد بدعوته للجلوس. سبب
الشعور بالغضب أو وخز الضمير أنه يقبل
القيم المذكورة ولكنه لا يلتزم بتطبيقها لسبب من الأسباب.
(3)
وأحياناً يصر الإنسان على البقاء في المقعد المخصص لكبار السن دون أن يحرك ساكناً،
وهو في هذه الحالة يضرب عرض الحائط بالقيمة الأخلاقية وبالقاعدة القانونية، فهو
هنا لا يردعه الضمير ولا القانون في آن واحد. (4) وفي أحيان أخرى يصر الجالس على
عدم مساعدة فتاة تتعرض للمضايقة، بدافع انتقامي، يلقي باللائمة على الضحية، كأن
ينصرف عن القيام بالواجب الأخلاقي، محدثاً نفسه، بأنها تستحق ذلك الإحراج والإيذاء
بسبب ملابسها التي يعتقد أنها غير ملائمة ومستفزة للصائمين، وأشياء من هذا القبيل.
إنه في هذه اللحظة لا يتنكر فقط للالتزام
الأخلاقي، ولكنه يمارس الوصاية على الآخرين منتهكاً حرياتهم الشخصية من خلال ادِّعاء
مزيف بالطهارة، لأننا لو افترضنا جدلاً بأن الفتاة ترتدي ملابس مثيرة، ونادراً ما
يحدث ذلك، فإن جلوسها أفضل من تعرضها للتحرش المعنوي والبصري والمادي. (5) وربما
يقوم أحد الجالسين بالمبادرة الفورية بدعوة من يستحق إلى الجلوس، فهو بذلك عرف القيمة
وقبلها والتزم بها، وزاد على ذلك بأن أصبح الالتزام بها مصدر سعادة ومتعة للفرد.
إن
الملاحظ لعالم المواصلات العامة يتأكد أن سلوك المصريين داخل المواصلات يتغير في
شهر رمضان، فيحدث فيضان لمخزون القيم، دافعا سلوك المصريين نحو النمط الخامس الذي
ذكرناه. لكن بمجرد استطلاع دار الافتاء لشهر شوال، يحدث انحسار شديد، وتبدأ الأنماط
الأربع الأخرى في الظهور المتكرر خاصة في أيام العيد وأوقات الذروة والزحام،
وكأننا لم نكن في حالة صيام، وكأننا لا نعرف شهر رمضان، لأننا لم نتعلم ولم نعلم أولادنا
كيفية الارتقاء بالقيم.