خسارة تريزا ماي، ومستقبل الأزمة السياسية في بريطانيا
في 18 أبريل الماضي تقدمت رئيسة وزراء بريطانيا
تيريزا ماي بطلب إلى المواطنين البريطانيين بمنحها تفويضاً سياسياً جديداً وتعزيز أغلبية
حزب المحافظين في مجلس العموم البريطاني، ودعت إلى انتخابات عامة مبكرة تجري في
يوم 8 يونيو. في واقع الأمر كانت ماي تبحث عن قوة إضافية تتسلح بها في مفاوضات
بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي بخصوص ترتيبات الانسحاب. ويبدو أن قرار ماي جاء بناء
على نصيحة من مستشاريها المقربين، وبعيداً بشكل أو بآخر عن الحكومة والحزب. وقد
اعتقدوا جميعاً، ماي ومستشاروها، أن حزب المحافظين سيكتسح العمال ويضاعف أغلبيته
في مجلس العموم.
وقد بدأ العد التنازلي للانتخابات المبكرة فور إعلان
ماي عزمها على إجراء تلك الانتخابات. وبدأت عجلات استطلاعات الرأي في الدوران،
وتحركت مكائن الدعاية والتعبئة السياسية في كل أركان المملكة المتحدة التي تضم
انجلترا اسكتلندا ويلز وأيرلندا الشمالية. وأظهرت استطلاعات الرأي منذ البداية
تفوقاً ساحقاً للمحافظين على العمال في الوقت الذي كانت فيه شخصية ماي هي الًقرب إلى
المواطنين من شخصية زعيم حزب العمال جيريمي كوربن. واستمر الحال هكذا حتى الأسبوع
الأخير قبل الانتخابات، حين تعرضت لندن لحادث إرهابي جديد كان الثالث من نوعه في
بريطانيا خلال ثلاثة أشهر.
ويبدو أن حادث لندن بريدج الإرهابي فتح عيون
الناخبين على جوانب من سياسات المحافظين، كان يتم تجاهلها أهمها سياسات الرعاية
الصحية التي تقود حالة من التدهور في نظام التأمين الصحي الوطني، وسياسات التي أدت
إلى تدهور النظام التعليمي، وسياسات الإسكان التي تهدد بتشريد آلاف الأسر من
مساكنها لمصلحة المطورين العقاريين، وسط تخاذل واضح من جانب الحكومة في بناء مساكن
جديدة عن طريق البلديات.
إن قضايا العدالة الاجتماعية وزيادة الوعي لدى
الناخبين بضرورة توفير شروط لتحقيق التكافؤ في فرص العلاج والتعليم والإسكان والرعاية
الاجتماعية بشكل عام، شكلت أساساً للحملات الانتخابية، وطرح حزب العمال بقوة إنشاء
شريحة ضريبية جديدة لذوي الدخل الأعلى بسعر ضريبي مرتفع. ومع أن زيادة أسعار
الضرائب القائمة أو فرض ضرائب أو شرائح ضريبية جديدة يتعارض مع الحكمة السياسية
التقليدية في البرامج الانتخابية، فقد أظهر الناخبون خلال تفاعلهم مع الحملات
الانتخابية للأحزاب تعاطفاً مع دعوة حزب العمال إلى فرض شريحة ضريبية جديدة بسعر
مرتفع على الفئة الأعلى دخلاً، وتفهماً واعياً لضرورة ذلك من أجل إنقاذ أنظمة
الحماية الإجتماعية وعلى رأسها نظام العلاج المجاني والرعاية الصحية الذي تتميز به
بريطانيا.
ولذلك، فإن السياسات الرديئة اجتماعياً التي تحابي
القطاع الخاص على حساب المواطنين العاديين بمن فيهم الطبقة الوسطى وغير القادرين،
مع فشل الحكومة في حماية البلاد من خطر الإرهاب، أدت جميعاً إلى رد فعل سريع ضد
المحافظين في الشارع. وقد انعكس ذلك بوضوح في استطلاعات الراي العام التي أظهرت
تراجعاً سريعاً في نسبة تفوق المحافظين على العمال إلى نقطة مئوية واحدة.
ومن المثير للدهشة أن استطلاعات الرأي العام وتوقعات
التصويت عادت بسرعة في الأيام القليلة السابقة للانتخابات لتميل لمصلحة المحافظين،
ولتظهر تفوقهم، فلقد أظهرت استطلاعات الرأي قبل يوم التصويت مباشرة تفوق
المحافظين على العمال بنسبة 12%، وتوقعت مؤسسات قياس الرأي العام أن
المحافظين سيحققون تقدماً وسيحصلون على أغلبية مريحة في مجلس العموم الجديد.
في المقابل، فإن الخطاب السياسي لحزب العمال ركز
منذ اليوم الأول للحملة الانتخابية على قضايا التفاوت الاجتماعي، خصوصاً في مجالات
الصحة والتعليم والإسكان. واستفاد في الأيام الأخيرة بعد حادث لندن الإرهابي في الأسبوع
الأول من يونيو في توجيه اتهامات إلى حكومة تيريزا ماي لأنها مسؤولة بسبب تخفيض
مخصصات الشرطة، والانصراف عن اتخاذ خطوات فعلية للتصدي للإرهاب. واستطاع زعيم
الحزب جيريمي كوربن أن يتفوق على منافسته في مناظرة نظمتها هيئة الاذاعة
البريطانية على شبكاتها المرئية والمسموعة. وخلال تلك المناظرة فقدت تيربزا ماي
الكثير من مصداقيتها وشعبيتها والكثير من التأييد لسياساتها. وقد أسهمت تلك
المناظرة إلى حد كبير في تغيير اتجاهات التصويت لدى الناخبين، وتحول الكثير من
الناخبين غير الملتزمين بالتصويت لحزب معين إلى تفضيل العمال على المحافظين.
وعلى الرغم من أن تيريزا ماي زارت خلال حملتها
الانتخابية البلدان الأربعة التي تتشكل منها المملكة المتحدة، إنجلترا، واسكتلندا،
وويلز، وأيرلندا الشمالية واستهدفت بشراسة مواقع ودوائر مؤيدة لحزب العمال، فإنها
فشلت في الحصول على النتائج التي كانت ترجوها.
نتائج الانتخابات
جاءت نتائج الانتخابات بمثابة صدمة ثقيلة لرئيسة
الوزراء، ولقيادات حزب المحافظين، فقد خسر الحزب أغلبيته بدلاً من أن يزيدها، وحصد
حزب العمال مقاعد إضافية لم يكن أحد يتوقع له الفوز بها، ومنها مقاعد آمنة تقليدياً
وتاريخياً لحزب المحافظين مثل مقعد كينزنجنتون وهو الحي الملكي في وسط لندن.
وجاءت النتائج على الوجه التالي:
المحافظون
318 مقعداً بخسارة 13مقعداً
العمال
262 مقعداً مكاسب 32 مقعداً
الأحرار الديمقراطيون
12 مقعداً بزيادة 3 مقاعد
الحزب القومي الاسكتلندي
35 مقعداً بخسارة 19 مقعداً
الحزب الاتحادي الديمقراطي في أيرلندا الشمالية 10 مقاعد بزيادة 2 مقعد
حزب الخضر البريطاني مقعد
واحد كما في البرلمان السابق.
وكان من أكثر النتائج التي تبعث على السعادة ان
الناخبين البريطانيين أسقطوا كل مرشحي الحزب اليميني المتطرف UKIP وأخرجوه من مجلس العموم تماماً وهو ما يعبر عن
تنامي وعي من شأنه أن يبعد شبح الشعبوية والسياسات القومية المتطرفة عن بريطانيا.
كذلك كان من أهم النتائج ذات الدلالة تمكن حزب
العمال من انتزاع مقعد كينسنجنتون من المحافظين للمرة الأولى منذ عام 1974. كان
ذلك في حقيقة الأمر هو مسك الختام في نتائج الانتخابات العامة البريطانية. مقعد
كينزنجتون من المقاعد المضمونة تاريخياً لحزب المحافظين. بذلك ارتفعت خسائر
المحافظين إلى 13 مقعداً وزادت مكاسب العمال إلى 32 مقعداً.
الذي أسقط المحافظين في كنزنجنتون هذه المرة سياسة
غبية تقترح هدم أبراج سكنية كانت مملوكة للبلدية وبناء أبراج خاصة مكانها بوسطة
المطورين العقاريين.
مساكن البلديات أقيمت في الخمسينات والستينات
بواسطة حكومات عمالية متتالية لإسكان غير القادرين. وعندما جاءت تاتشر قررت
تمليكها للمستأجرين مع خصم كل مبالغ الإيجار التي سددوها للبلديات من قبل من قيمة
المساكن، وإضافة نسبة خصم أخرى لتشجيع التملك. هذا الاقتراح من جانب المحافظين أثار
غضب كتلة كبيرة من الناخبين في الدائرة الانتخابية فصوتوا للعمال.
وبعد إعلان نتائج الانتخابات ثارت تكهنات داخل حزب
المحافظين وخارجه بشأن مستقبل تيريزا ماي. وتراوحت هذه التكهنات بين أن تتقدم
باستقالتها إلى الملكة اليزابيث، وبين أن تستمر وتطلب من الملكة الموافقة على
تشكيل حكومة "أقلية" باعتبارها صاحبة الحزب صاحب أكبر عدد من المقاعد في
مجلس العموم، وبين أن تتعرض لسحب الثقة منها بواسطة قيادات من الحزب، وبذلك يتم
تجريدها من فرصة تشكيل الحكومة، وبين أن يتقدم زعيم حزب العمال بسرعة إلى الملكة
لطلب تشكيل حكومة ائتلافية في حال نجاحه في عقد اتفاقات تحالف مع أحزاب أخرى يضمن
لهذا التحالف أغلبية في مجلس العموم.
وأعتقد أن صعوبة تشكيل ائتلاف حكومي يضمن للعمال
قيادة حكومة ائتلافية قللت من فرص كوربن في التقدم خطوة واحدة على هذا الطريق، وهو
ما ترك الطريق خالياً أمام تيريزا ماي لطلب لقاء الملكة اليزابيث ظهر يوم الجمعة
التي عقبت ظهور النتائج، حيث حصلت على موافقة بالمضي قدماً في تشكيل حكومة أقلية،
تضمن البقاء في مقاعد المسؤولية بأغلبية صوتين فقط في مجلس العموم، وذلك بعد أن
حصلت ماي على تأييد الحزب الديمقراطي الاتحادي الأيرلندي- (DUP))
أيرلندا الشمالية) الذي استحوذ على عشرة مقاعد في
الانتخابات. ويعتبر ذلك الحزب الركيزة الرئيسية التي تعتمد عليها بريطانيا لتأكيد
نفوذها في أيرلندا الشمالية في مواجهة الأحزاب التي تدعو إلى وحدة أيرلندا تحت علم
جمهورية أيرلندا بعيداً عن بريطانيا.
حكومة ضعيفة تواجه مهاما صعبة
الآن تدخل بريطانيا إلى
أزمة سياسية قد تؤدي إلى انتخابات جديدة بعد عدة أشهر أو سنتين على أكثر تقدير.
وطبقاً للتعديلات التي تمت على النظام الانتخابي، فإن الانتخابات العامة المقبلة
من المفترض أن تتم بعد 5 سنوات أي في العام 2022. ولا أظن أن حكومة تتمتع في
البرلمان بأغلبية صوتين سوف تتمكن من إدارة البلاد بكفاءة، وإنجاز المهام الصعبة
التي تواجه بريطانيا حالياً. ولذلك، فإن الأرجح هو أن تتعرض حكومة تيريزا ماي
الجديدة لسلسلة من الإخفاقات تؤدي بالضرورة إلى إجراء انتخابات مبكرة مرة ثانية.
المهام العاجلة
تحتاج بريطانيا إلى حكومة قوية تقوم بالمهام
التالية:
1- تتفاوض مع الاتحاد
الاوروبي على شروط انسحاب بريطانيا من الاتحاد.
2- إعادة بناء الاستراتيجية
الأمنية، خصوصاً بعد تكرار الأحداث الإرهابية في الأشهر الأخيرة.
3- إعادة بناء السياسة
الاجتماعية بغرض تحقيق المزيد من التكافؤ وتوفير شروط أفضل للعدالة الاجتماعية في
كل ميادين الرعاية الاجتماعية وعلى رأسها الرعاية الصحية، والتعليم، والاسكان.
4- إعادة بناء الاستراتيجية
الدفاعية على ضوء التطورات الجاربة الآن في حلف الاطلنطي، وزيادة ميل الشركاء الأوروبيين
إلى انتهاج سياسة دفاعية مستقلة.
لقد نجح حزب العمال في
هذه الانتخابات إلى الدرجة التي أصبح فيها هو الفائز الفعلي. ولكن هذا الفوز الذي توقف
عند مسافة تبعد عن تحقيق الأغلبية البرلمانية التي تؤهله لتشكيل الحكومة يطرح
الكثير من التساؤلات عن قدرة الحزب وقيادته الحالية على تحقيق الفوز المطلوب. إن
قيادة جيريمي كوربن للحزب تبدو أضعف من أن تحقق الغرض المطلوب، ولم يتمكن الحزب في
الأيام القليلة السابقة للتصويت من استثمار فشل السياسة الأمنية للمحافظين، وعجزهم
الفعلى عن حماية أرواح الأبرياء ضحايا الإرهاب.
لكن ذلك لا يعني فتح جبهة
صراع داخل الحزب على منصب الزعيم، بقدر ما يطرح ضرورة إعادة النظر في البرنامج
السياسي للحزب، وتقديم تصورات أو رؤى قوية بشأن المهام الرئيسية الأربعة التي تواجه
بريطانيا بالترتيب الذي ذكرته. مع المحافظة على وحدة الحزب وتماسكه. ومثل هذه
الوحدة مطلوبة إلى أقصى حد في الوقت الذي أتوقع فيه أن تزيد حدة الخلافات داخل حزب
المحافظين، واحتمالات انفجار صراع على زعامة الحزب والإطاحة برئيسة الوزراء تيريزا
ماي.
النتيجة التي نخلص إليها بعد الانتخابات، أن بريطانيا ستواجه أزمة سياسية في الأسابيع المقبلة، وأن احتمالات الدعوة إلى انتخابات مبكرة جديدة ستتردد كلما تعرضت الحكومة للفشل، خصوصاً وأن مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ستكون مليئة بالمطبات. إن قيادة الاتحاد الأوروبي نفسها لن يكون في مصلحتها على الإطلاق أن تتفاوض مع حكومة ضعيفة قد تذروها الرياح خلال عدة أسابيع أو عدة أشهر. ببساطة شديدة، تيريزا ماي خسرت الرهان، وربما تخسر موقعها في قيادة حزب المحافظين، أما بريطانيا فإنها في طريقها إلى أزمة سياسية حتى إشعار آخر.