ترامب في إسرائيل: من "بطة عرجاء" إلى "فارس الأحلام"
بكل المعاني كانت زيارة الرئيس الأمريكي
دونالد ترامب إلى إسرائيل "زيارة باهتة" من الناحية الشكلية، لكنها من
الناحية الموضوعية كانت على العكس من ذلك تماماً. كان من المستحيل مقارنة
الاستقبالات والحفاوات التي استقبل بها السعوديون الرئيس الأمريكي في عاصمتهم بالاستقبال
الإسرائيلي له، لكن موضوعياً، فإن البرود الشكلي في الاستقبال الإسرائيلي كان يخفي
حقيقة مهمة هي أن "الملفات الكبرى" لزيارته حسمت في الرياض، وأن الزيارة
بدأت وانتهت في الرياض، وأن زيارته للكيان الصهيوني ولقائه بعد ذلك مع الرئيس
الفلسطيني في بيت لحم وليس في عاصمة السلطة الفلسطينية "رام الله"، بكل
ما يتضمنه ذلك من مغزى، كانت أيضاً زيارة بروتوكولية لاستكمال الجوانب الشكلية
للزيارة.
كان الاستقبال الرسمي والشعبي للرئيس
الأمريكي في الكيان الصهيوني يعكس مزيجاً من مشاعر الثقة في العلاقة الفريدة التي
تجمع الولايات المتحدة بهذا الكيان مع أول رئيس أمريكي يختص دولتهم بأول زيارة
يقوم بها خارج بلاده، على العكس من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الذي زار
تركيا ومصر ولم يشأ أن يذهب إلى إسرائيل، لكن إلى جانب الثقة كانت هناك مشاعر
الحذر من كل ما هو قادم مع هذا الرئيس، أو بوضوح أكثر، الخوف على ما استطاع إنجازه
لإسرائيل من أهداف خلال الأيام القليلة التي قضاها في السعودية، الخوف من أن تضيع
هذه الفرحة وتتبدد مع احتمال أن يتعرض هذا الرئيس لإقالة مبكرة بسبب ما يدبر له
داخل الولايات المتحدة على خلفية إقالته المثيرة لرئيس جهاز التحقيقات الفيدرالي
"اف. بي. آي" جيمس كومي أحد أهم الأجهزة الأمنية الأمريكية، احتمال تعرض
ترامب لـ "إقالة" مشابهة على خلفية ما يمكن اعتباره قضية
"ووترجيت" جديدة في سياق محاولة ترامب إقناع كومي إلغاء التحقيق ضد
مايكل فلين مستشار ترامب السابق للأمن القومي بسبب اتصالاته مع روسيا ومدى العلاقة
بين هذه الاتصالات والانتخابات الرئاسية الأمريكية أي الانتخابات التي فاز بها
دونالد ترامب. هاجس شغل الإسرائيليين كثيراً ومازال يشغلهم.
ربما تكون هذه المشاعر المختلفة هي التي
دفعت بن كسبيت أحد أبرز المحللين السياسيين في صحيفة "معاريف" ليكتب
مقالاً يصف فيه دونالد ترامب بـ "البطة العرجاء" قبل يوم واحد من موعد
زيارته لإسرائيل قادماً مباشرة للمرة الأولى من المملكة العربية السعودية. فتحت
عنوان "لقاء القدس" كتب بن كسبيت يقول "في يوم الاثنين ستصل إلى
البلاد بطة عرجاء اسمها دونالد ترامب. في العادة البط الأعرج لا يشكل خطراً على
محيطه، لكن دونالد ترامب هو حالة استثنائية، فكلما زادت إصابته كلما كان خطره
أكبر. هذه البطة العرجاء لها أسنان حادة وفتيل قصير، ولها صلاحية قيادة القوة
الأكبر في العالم، وكلما زاد شعوره بالحصار كلما تلاشت الحدود بين الممكن
والمستحيل بالنسبة له".
استباق الأحداث هو الحل
بسبب هذا كله توصل الإسرائيليون، وفي
مقدمتهم رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو إلى قناعة مفادها أن المبادأة ومحاصرة أفكار
دونالد ترامب قبل أن يبدأ زيارته يمكن أن تشكل حصانة من كل المخاوف، وأن بمقدور
إسرائيل استثمار وعود ترامب لها، سواء أثناء حملته الانتخابية أو بعدها، لتكون
الإطار الحاكم لزيارته الشرق أوسطية، أو بوضوح أكثر لتكون جدول أعمال هذه الزيارة
خاصة في العاصمة السعودية، ارتكازاً على خصوصية العلاقة الفريدة التي تربط
الولايات المتحدة بإسرائيل، وقراءة إسرائيل للمشهد العربي- الإقليمي، والاختلال
الفادح في موازين القوى، والتبدلات التي حدثت في مجريات الصراع الإقليمية، وأولوية
الصراع ضد إيران على الصراع ضد إسرائيل بالنسبة للعديد من الدول العربية الفاعلة
وحاجة هذه الدول إلى بدء عهد جديد من علاقات التحالف وليس الصراع بينها وبين
إسرائيل، دون أن يكون للقضية الفلسطينية وزناً مؤثراً في صياغة معالم هذه العلاقة
الجديدة.
فلأسباب كثيرة يعتقد الإسرائيليون أن هذا
الزمان الذي نعيشه هو زمانهم، ولذلك فإنهم حريصون على عدم تفويت أي فرصة تحقق لهم أحلاماً
من نسيج أساطيرهم التي يزعمون أنها أساطير توراتية، رغم أنها محض أكاذيب صهيونية. آخر
شئ يفاخرون به الآن، وهم يعيشون نشوة مشاعر انتصارات لم يحققوها بأنفسهم، هو تفوقهم
العسكري المطلق على كل الدول العربية مجتمعة، وهو الهدف الإستراتيجي الأساسي في ضمان
بقاء ووجود وأمن كيانهم الصهيوني الغاصب، هم يفاخرون الآن بما هو أكثر أهمية وهو حال
التردي العربي والفلسطيني.. تردي القوة، وتردي المكانة، وتردي الدور، ناهيك عن تداعي
التماسك والتوحد سواء على المستوى العربي العام أو على مستوى الداخل في معظم الدول
العربية التي دمرتها الصراعات والحروب والانقسامات الداخلية، وامتد هذا المرض المزمن
إلى الوضع الفلسطيني هو الآخر خاصة عندما سيطر صراع الهيمنة على القرار الوطني الفلسطيني
بين كل من حركتي "فتح" و"حماس" على أولوية التوحد لتحقيق الأهداف
الوطنية الفلسطينية. لكن هناك سبب آخر لا يقل أهمية هو عودة الحليف الإستراتيجي – التاريخي،
وأعني الولايات المتحدة الأمريكية إلى سابق عهدها قوة عالمية كبرى وفاعلة، على الأقل
في إقليم الشرق الأوسط، وعلى الأخص في العالم العربي بمجئ الرئيس الجديد دونالد ترامب
الذي أعطى كل الأولوية لإعادة فرض أمريكا قوة عظمى مسيطرة.
انشغل الإسرائيليون طيلة الأسابيع الأخيرة
بأمرين؛ أولهما: متابعة ما سوف يحققه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في قممه الثلاث
التي سيعقدها في العاصمة السعودية، مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، ومع
قادة دول مجلس التعاون الخليجي، ومع قادة عرب ومسلمين بحضور 37 رئيس دولة و6 رؤساء
حكومات عربية وإسلامية، هم يتابعون مدى النجاح الذي سيحققه ترامب وبالذات على صعيد
ما جرى الحديث عنه تحت عنوان "صفقة القرن" سواء في بعدها الإستراتيجي بتأسيس
تحالف يضم دولاً عربية مع إسرائيل لمحاربة الإرهاب ومصادر التهديد المشتركة وفي مقدمتها
إيران، أو على مستوى الاقتصاد وصفقاته، شرط ألا يمتد ذلك إلى مطالب عربية تخص الشأن
الفلسطيني ضمن احتمال طرح ترامب لـ "صفقة سلام بديلة" قد تضطر إسرائيل إلى
دفع بعض الأثمان في شكل تنازلات لا ترضى عنها للفلسطينيين.
فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
الذي كان سباقاً في رفع راية ما يسمى بـ "التسوية الإقليمية" كبديل عن اتفاق
فلسطيني – إسرائيلي بات يخشى أن يأخذ الرئيس الأمريكي هذا الأمر بجدية من جانبه أي
ما يخص تطبيع علاقات إسرائيل مع العرب من ناحية وما يخص الوضع الفلسطيني من الناحية
الأخرى. نتنياهو يريد التطبيع فقط ويراهن على الاعتدال العربي لقبول ذلك من منظور الحاجة
العربية إلى التحالف مع إسرائيل ضد إيران، لكن نتنياهو أخذ يتخوف الآن من العودة الأمريكية
القوية للشرق الأوسط وتجديد وتفعيل التحالفات الإستراتيجية الأمريكية مع دول الخليج
التي قد لا تكون في حاجة الآن إلى الحليف الإسرائيلي على نحو ما كانت الأوضاع في العامين
الماضيين عندما تراجعت العلاقات الأمريكية مع دول الخليج في عهد الرئيس باراك أوباما
الذي رفض أن يتحالف مع دول الخليج ضد إيران وهو ما اضطر هذه الدول إلى التفكير في
"البديل الإسرائيلي". لذلك يتابع الإسرائيليون نتائج زيارة ترامب للسعودية
ومتخوفون من أن يضطروا للصدام مع ترامب إذا ما انحاز إلى ضرورة الربط بين مطلب إسرائيل
في تطبيع العلاقات مع العرب، وبين ضرورة تحقيق تقدم على المسار الفلسطيني.
الأمر الثاني الذي ظل يشغل الإسرائيليين
طيلة الأسابيع الماضية هو جدول المطالب التي سوف يقدمونها للرئيس الأمريكي عندما يصل
إليهم قادماً من الرياض. فقد أعد الإسرائيليون قائمة بخمسة مطالب رئيسية عرضتها صحيفة
"جيروزاليم بوست" لتقديمها إلى ترامب، أولها، إبقاء الضغوط والعقوبات على
إيران، وثانيها يخص سوريا وينقسم إلى جزئين؛ الأول هو الاعتراف الأمريكي بالسيادة الإسرائيلية
على هضبة الجولان السورية المحتلة، والثاني التأكيد على ضرورة أخذ المطالب الأمنية
الإسرائيلية في الاعتبار في أي صفقة محتملة يجري التوصل إليها مع روسيا بخصوص سوريا،
وبالتحديد منع إيران وحزب الله من إبقاء أي وجود لهما في سوريا وعلى الأخص بالقرب من
هضبة الجولان، ثالث هذه المطالب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ورابعها تعزيز الاستيطان
الإسرائيلي بالضفة الغربية، وخامسها هو ضمان إبقاء التفوق العسكري الإسرائيلي النوعي
على كل الدول العربية وخصوصاً على ضوء صفقات السلاح الضخمة التي عقدتها الإدارة الأمريكية
مؤخراً مع السعودية.
اهتمام الإسرائيليين الشديد بزيارة ترامب
وثقتهم غير المحدودة فيه وإدراكهم أن هذه هي فرصتهم التاريخية وأن الزمان أضحى زمانهم
وأن السيادة ابتت لهم جعلتهم أكثر حرصاً على تحفيز الرئيس الأمريكي إلى أن يكون شجاعاً
في انحيازه المطلق لإسرائيل دون أن يخشى أي رفد فعل عربي أو فلسطيني. فقد انتهى زمان
كان في مقدور العرب أن يقولوا "لا" لذلك خاطب بنيامين نتنياهو الرئيس الأمريكي
قبل وصوله أمس إلى إسرائيل قائلاً "انقلوا السفارة.. ولا تداعيات"، أي لا
تضع أية حسابات لأي رد فعل عربي أو فلسطيني إذا ما قررت نقل السفارة، كما جعلهم يسابقون
الزمن ويقرون داخل اللجنة الوزارية بقانون ما يسمى بـ "قانون القومية" ثم
تقديمه إلى الكنيست "البرلمان" وهو القانون الذي ينص على أن إسرائيل هي
"البيت القومي للشعب اليهودي" وأن "الحق في تقرير المصير القومي في
دولة إسرائيل هو حق حصري للشعب اليهودي"، ما يعني إلغاء حق الشعب الفلسطيني بامتلاك
أرضه التاريخية، وسيحول الفلسطينيين داخل إسرائيل إلى مجرد أقلية من دون حقوق قومية
معترف بها، وينهي للأبد حق العودة. انطلاقاً من قناعتهم بأن هذا هو زمان تحقيق الأحلام
والانتصارات.
المخاوف المنضبطة
هذه المطالب الاستباقية وجدت أصداؤها
عند الرئيس الأمريكي، لكنه، ربما، وعلى العكس من بعض الرؤساء الأمريكيين، كان
حريصاً أيضاً على المصالح الأمريكية. فقد حصل على الكثير من المكاسب للأمريكيين،
حصل على ما يقرب من 480 مليار دور سعودي في شكل مشتروات عسكرية وفي شكل استثمارات
حتماً ستحل جزءاً كبيراً من أزمة التوظيف التي يعطيها ترامب أولوية كبرى، لكنه وإن
كان لم يف بمطلبين شكليين لإسرائيل الأول يخص نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب
إلى القدس، كما سبق أن وعد في حملته الانتخابية، كما أنه لم يصطحب معه نتنياهو في
زيارته إلى حائط البراق الذي يعطونه اسماً توراتياً هو "حائط المبكى"
ويكتسب عندهم قدسية عالية، فإنه حقق الكثير من المكاسب الأهم والجوهرية
للإسرائيليين فهو من الناحية الرمزية ذهب إلى حائط البراق دون أن يصطحب نتنياهو
لعدم استفزاز العرب أكثر مما يجب لأنه إذا ما اصطحب نتنياهو في هذه الزيارة سيكون
قد اعترف بان القدس الشرقية ليست أرضاً محتلة وأنها جزء من أرض إسرائيل، وهذه خطوة
تعد بمثابة قفزة غير حميدة في مشروعه الأهم للتسوية كما يعتقد.
ترامب لم يكتف بزيارة حائط البراق
(المبكى) فقط ولكنه تعمد أن يرتدي القلنسوة اليهودية وصلى أمام الحائط قبل أن يضع
قصاصة ورق صغيرة في أحد شقوقه، وسبقته في ذلك ابنته ايفانكا التي اعتنقت اليهودية
فكانت شديدة الالتزام والحرص على أن تكون في ملابسها يهودية ملتزمة.
أما موضوعياً فقد حسم ترامب ما هو أهم
من وجهة نظره. حسم أولاً تحول العرب نحو إسرائيل وحرصهم على السلام معها، وثانياً حسم
العداء المشترك نحو إيران، وهذا ما تمت صياغته سواء في "إعلان الرياض"
الصادر عن القمة الأمريكية- العربية والإسلامية، أو الإعلان المشترك الأمريكي –
السعودي الصادر عن القمة الأمريكية- السعودية. وكان ترامب حريصاً على أن ينقل هذه
البشرى لحظة وصوله إلى إسرائيل حيث قال رداً على كلمات الاستقبال التي تحدث بها كل
من بنيامين نتنياهو ورؤوبين ريفلين رئيس إسرائيل. فقد صرح ترامب بأن "هناك
شعوراً واسعاً في العالم الإسلامي بأن لديهم قضية مشتركة معكم، في التهديد الذي
تشكله إيران، وهي بالتأكيد تهديد ولاشك في ذلك"، وزاد بقوله أن "ما حدث
مع إيران قرّب الكثير من المناطق في الشرق الأوسط باتجاه إسرائيل. وإذا ما تحدثتم
عن فوائد فإن هذه هي الفائدة، لأنني لمست شعوراً مختلفاً تجاه إسرائيل من دول كانت
لا تُكن شعوراً جيداً تجاهها حتى وقت قريب، وهذا أمر إيجابي حقاً ونحن
سعداء".
ختام الزيارة كان هو الأهم. فعقب لقائه
مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) في بيت لحم كان ترامب حريصاً على تأكيد
أنه "ملتزم في محاولة التوصل إلى اتفاق سلام بين الإسرائيليين
والفلسطينيين"، وقال "اعتزم فعل كل ما بوسعي لمساعدتهم على تحقيق هذا
الهدف". رغم ذلك لم يكتف الإسرائيليون على نحو ما تعمد يسرائيل كاتس وزير
الاستخبارات الذي أكد على أن "المقاربة الإقليمية (يقصد التحالف الإقليمي
الذي أعلن عنه في الرياض) يجب أن يشمل التعاون الأمني والمبادرات الاقتصادية، كذلك
فإن لهذه الشراكات يمكن أن تتقدم إلى جانب المفاوضات غير المشروطة مع
الفلسطينيين". أي أنهم يحاولون القفز السريع دون دفع أية أثمان: تطبيع أمني
واقتصادي مع العرب ضمن التحالف الإقليمي ومفاوضات غير مشروطة مع الفلسطينيين أي
مفاوضات للمفاوضات دون شروط ودون أفق زمني لا تؤدي إلى شئ، أي سلام بدون ثمن.
هذا هو التحدي الذي يواجه ترامب وإذا
نجح فيه سيكون قد تحول في نظر الإسرائيليين من "بطة عرجاء" إلى
"فارس الأحلام" الذي حقق لإسرائيل أسطورة ظلت تحلم بها منذ تأسيسها:
الأمن والتوسع والسلام مع العرب دون أية تنازلات.