القبائل والإرهاب
ولقد تردد في الآونة الأخيرة أحداث ما جرى ما بين قبيلة الترابين وتنظيم ما يعرف بولاية سينا التابع لتنظيم داعش. وعبر البعض عن حماسهم الشديد لهذا التحول الملفت في العلاقة بين أهالي سيناء والتنظيم الإرهابي، باعتبار ذلك تعبيراً عن المقاومة الشعبية للأهالي المتأثرين من الأوضاع المتردية في منطقة منشأهم. فيما رأي البعض الآخر أن هذا منذر بآثار لن تتحمل القبائل عثراتها. من قبيل ذلك القول بأن هذا سيؤثر مستقبلاً على حجم قبيلة الترابين، تحت دعوى أن القبائل التي واجهت التنظيم في العراق وسوريا فقدت ما يقرب من سبعمائة من أبنائها، أو القول بأن ذلك ينذر بحرب أهلية لن تتحمل القبائل عندما تقوم الترابين بقتل أحد أبناء إحدى القبائل الأخرى فتشتعل الحرب تدريجياً بين القبائل، أو القول أخيرا بأن قوة القبائل أضعف من القدرة على مواجهة الإرهاب، وأن دحرهم للإرهاب سيكون على حساب الدولة.
ولكن قبل الدخول في الرد على الحجج والبراهين التي جرى طرحها مؤخراً ينبغي مبدئياً التعريف بما جرى مؤخراً على مسرح الأحداث.
مسرح الأحداث
وفي تطور غير معتاد لمسار الأحداث، أصدرت قبيلة الترابين بياناً نارياً تدين فيه مقاتلي داعش، وتتوعدهم بحرب مستعرة. والترابين كما هو معروف واحدة من أكبر القبائل وأكثرها شدة وقوة، ويغطي وجودها مناطق من جبل الحلال، الذي اعتادت العصابات الإجرامية الاختباء فيه عن أعين السلطات. ومن ثم، فإن القبيلة قادرة على امتلاك القدرة على مواجهة التنظيم بفضل ما لديها من القدرات البشرية من أبنائها الموجودين على أطراف جبل الحلال.
لم تكن العلاقة بين القبيلة والتنظيم قد انفصمت عراها منذ وقت قريب، بل هناك من الشواهد التي تؤكد على هذا الانفصام باكراً. إذ لم تسلم القبيلة من الاعتداءات التي مارسها التنظيم. فعلى مستوى قمة القبيلة ومشايخها وزعمائها، شن التنظيم هجوماً على أحد زعماء القبيلة وهو السيد إبراهيم العرجاني الذي يعتبر واحداً من رجال الأعمال الداعمين للحكومة المصرية. الرجل يعيش بالقاهرة، وتعرض على الرغم من ابتعاده عن مجرى الأحداث للأذى. فلطالما هدد التنظيم عائلته واستولى على إحدى سياراته، رداً على حديث له في المؤتمر الاقتصادي في مارس. كذلك قام أعضاء التنظيم بحرق منزله.
ولم يقف الأمر عند حد الاعتداء على أحد مشايخ الترابين بل امتد للأفراد العاديين. فعندما قام أحد أبناء القبيلة برفض توزيع منشور للتنظيم، وسار بسيارته مثيراً الرمال في وجوههم، سرعان ما ذهبوا إلى بيته وأردوه قتيلاً على الفور. وقد أثار هذا حفيظة الكثيرين، وتغير الأوضاع من حديث بالكلمات، من العنف الرمزي إلى عنف مادي وإثارة للدماء.
لقد اعتاد التنظيم استهداف المواطنين العزل الذين يعملون مع الجيش المصري كمرشدين له بالمعلومات. فما إن يعرف التنظيم أحدهم إلا ويقومون بإنزال العقوبة عليه بالقتل. وهو ما قد كان مع إحدى السيدات المنتميات لقبيلة الترابين. حيث قاموا باختطافها، واغتصابها، ثم فصلوا رأسها عن جسدها. وبطبيعة الحال فقد تركت هذه الفعلة الشنعاء أثرا سيئا لدى القبيلة وأبنائها، بل وبين أبناء القبائل السيناوية بشكل عام. فاستهداف امرأة هو عمل لا يدل على المروءة ولا تقره الأعراف والثقافة البدوية.
علاوة على التهديدات السابقة، تهديد الأمن الشخصي لأبناء القبيلة، وتهديد القيم الأخلاقية المحافظة للقبيلة، فإن التنظيم كان مهددا للمصلحة الاقتصادية. حيث أشار مثلاً تقرير لمسئولين في وزارة المالية لغزة بأن حوالي تسعة مليون علبة سجائر يتم تهريبها إلى قطاع غزة. والقيام بقطع هذا النوع من الإمدادات المقدمة بطريق غير شرعي لغزة يقدم عدداً من الدلائل: أولها أن التنظيم يواصل حربه ضد التنظيم وهي حرب قديمة وليست وليدة اللحظة، كما يتصور البعض، وثانيها أن هذا الحرب الاقتصادية تقع بالخسارة على طرفين: من جانب المتاجرين من أبناء القبائل، فالعائد المقدر يصل لمليارات الجنيهات شهرياً، ومن الجانب الفلسطيني حيث تفرض حركة حماس ضرائب على السلع المهربة، وهو ما يعني أيضا خسارة كبيرة من الجانب الحمساوي. ويشار هنا إلى أن ما تقوم به داعش تسبب في رفع سعر السجائر خمسة أضعاف سعرها الأصلي حيث ارتفع سعرها من أربعة شيكل إلى 24 شيكل أو ما يعادل سبعة دولارات. وهو ما يمثل عبئاً على حركة حماس من ناحية أخرى حيث يقبل على التدخين نسبة كبيرة من الشباب الذي يعاني من البطالة، إذ تصل نسبة البطالة في قطاع غزة إلى ما يعادل 70% من السكان بشكل عام، ويقدر عدد المدخنين إلى ما يعادل شخص واحد من كل أربعة أشخاص.
فاعلية الرموز الثقافية
إن تنظيم داعش عمل في المناطق المختلفة التي تواجد فيها على ممارسة الأعمال الإجرامية من قبيل الخطف (لطلب الفدية)، وبيع الآثار والنفط، وتجارة الأعضاء، والنخاسة. وفي الآن ذاته يتبنى التنظيم ثقافة يبرر بها أفعاله الإجرامية. ثقافية تحدد بعناية ما ينبغي القيام به لبناء الدولة الإسلامية وما لا ينبغي العمل فيه. إنها أيديولوجيا التنظيم التي يسعى لفرضها، أيديولوجياً تعيد تقسيم الفضاء الاجتماعي، وتعيد بناء شروط العمل وطريقة تقسيمه، وتوزيع المنافع. ولذلك يحدد التنظيم عدداً من الأعمال باعتبارها أعمالاً محرمة، ولا ينبغي للمسلم العمل فيها. وهنا تجد الأيديولوجية المتطرفة نفسها في مأزق.
والناظر للثقافة البدوية سوف يلحظ تأثير الطبيعة في وجدان وسلوك ورؤية الفرد والجماعة. فأنت تستطيع أن تبني علاقة إنسانية متينة من خلال كوب ماء، ويمكنك أن تفضها وتهلك أي وسيلة اتصال عميق ومؤثر إن قطعت هذه المياه عنه. ولعلنا نلحظ أن كل ما يتصل بالطبيعة (ما يعتبر بنظر البدو خير السماء) لا ينبغي تدنيسه، وليس من الحكمة رفضه أو الاعتراض عليه. ولذلك يعتبر البدو كما تؤكده الدراسات الأنثربولوجية أن كل ما تنتجه الأرض حلال، لأنه خير صنعته يد الخالق. ومن ثم فكل ما يدخل الجوف وله أصل طبيعي هو حلال، ومسموح للإنسان تناوله واستهلاكه، وأنه غير ضار. بينما على الطرف الآخر، فإن أبناء الحواضر لا ينظرون لكل ما تنتجه الطبيعة بعين التقدير. فالحضري ينظر بقلق لما هو طبيعي لأنه اعتاد أن يعتمد على ذاته، يكتسب وجوده مما ينتجه هو، لا مما تقدمه له الحقيقة.
وعلى عكس ما يتم تصوره عن الدواعش، فإنهم بحكم العادات الذهنية والإدراكات المحلية ينطلقون من ذهنية الحواضر، ومن نمط تدين شكلاني، يؤثر شكل الدين وطقوسه على محتواه، أو كما تصور باسكال من أن الصلاة تؤسس المعاني في جسد المصلي من خلال تكرارها الطقوسي. فالطقوس المكررة والمتتابعة تغرس المعاني في الوعي، بل ويمكن القول مجازاً وفي الجسد. ولذلك ليس غريباً هذا الحرص من جانب أنصار الإسلام السياسي على ضرورة أن تقترن الدروس الدينية بالصلاة، حتى يتسنى تهيئة الوعي لتلقى المحتوى الفكري المراد، بعدما تم تهيئة الروح والجسد.
ولذلك ليست المسألة كما يتخيل البعض هو صراع بين طرفين على المصالح الاقتصادية، ولكنه صراع رؤيتين للتدين: التدين في صيغة الانطلاق الحر المبنى على الطبيعة وقوتها وسحرها الخاص دون تدخل البشر وصناعاتهم، والتدين بصيغة التقييد وفق حيز الشكل والطقوس والأوامر القسرية. فليس الأمر هو اقتطاع رزق بدو الترابين، وفقط، ولكنه يتعلق بامتهان الكرامة، والسجال الثقافي.
يمكن باختصار القول إنه سجال بين رؤيتين، بدأ رمزياً بهجوم أحد المشايخ على المتشددين هجوماً يقف عند حدد الاختلاف الثقافي وداخل سياجه، وينتهي على الأرض بممارسة القتل، الذي بحد ذاته التمثيل المادي لفعل الاختلاف غير المحتمل بين نقيضين. فإما أن تقبل القبيلة بالثقافة الجديدة، وتقوض بنيانها الثقافي، أو أن تقاوم هذا الغريب.
الدواعش كغرباء
يعتبر مفهوم الغريب مفهوماً أساسياً ضمن شبكة المفاهيم الحاكمة للعقل البدوي. فالبدوي ينظر للغريب كفرد له وجود مؤقت، وجود مرهون بالرحيل. وهو أقرب إلى العدو المحتمل. والواقع أن هذا التصور للغريب هو النقيض لتصور الحضر. ذلك أن الفضاء الحضري هو فضاء يضم غرباء حولوا علاقاتهم الطارئة إلى علاقات طارئة محكومة بعلاقات قرابة متخيلة. ولعلنا نلاحظ ذلك في حياتنا اليومية فنحن نوصف أشخاصا بصفات قرابية كأن نقول العم فلان ..إلخ. إن ما نقوم به من اصطناع قرابة غير موجودة إنما يكون بغرض تقريب المسافات وبناء صلات تشبه صلات الرحم، أو تفوقها.
وفي القبيلة يعتبر ابن القبيلة غير الطبيعي أهم بكثير من الغريب، وتزداد الجفوة أكثر إن نشب صراع على الأصول الطبيعية: الأرض والماء. ولذلك حرص بعض زعماء العشائر والقبائل الذين ظهروا على شاشات التلفزيون على وصف الدواعش بالغرباء. فهؤلاء القتلة لا ينتمون لهم، ومن ينتمي منهم إليهم فهو يعد كالخليع مهدر دمه. ولذلك حرص المشايخ على إدعاء أن تكون المواجهة متضافرة بين أكثر من قبيلة، حتى لا يتحول الأمر إلى حرب أهلية.