في سياق تبعات زيارة بابا الفاتيكان: العلاقات التاريخية بين الأقباط والمسلمين
لا
شك، كانت زيارة بابا الفاتيكان إلى مصر، حدثاً تاريخياً فريداً، جاءت في توقيت صعب
تمر به مصر في أعقاب عدد من الحوادث الارهابية التي استهدفت المصريين الاقباط، والمتأمل
في مشاركة قداسة البابا في العديد من الفعاليات مع الكنيسة المصرية والأزهر الشريف،
يتأكد من ميلاد علاقات دينية رفيعة المستوى تتجسد فيها المشاعر الصادقة التي تعكس
القيم الدينية الأصيلة للديانات التوحيدية. وانفعالاً بهذه الزيارة الميمونة نقدم
في هذا المقال عرضاً لتطور العلاقة بين الأقباط والمسلمين في مصر، وأهم المحطات
التاريخية التي جمعت بين أبناء الوطن الواحد.
أولاً- الشعب المصري يختار الديانة السماوية
في
العام 48م دخلت المسيحية مصر على يد القديس مرقس الرسول، فاستقبلها الحس
المشترك المصري بالقبول، رغم أن النظام الروماني الحاكم في ذلك الوقت كان
مناهضا للديانة الجديدة. ومع ذلك انتشرت المسيحية في مصر في وقت قياسي، بسبب عمق
التجربة الدينية للمصريين، وتفاعلها المدهش مع الديانة الجديدة، فالمصري القديم،
كما يذهب ميلاد حنا في كتابه (الأعمدة السبعة للشخصية المصرية) عرف مبدأ التثليث
قبل ظهور المسيحية واتخذه عقيدة لفترات طويلة كثالوثي: (آمون- موت- خنسو)، (أوزيريس-
ايزيس- حورس). المهم أن اقبال المصريين على الدين المسيحي الجديد المخالف لدين
حكامهم في ذلك الوقت يمثل في حد ذاته
ملحمة مصرية كبيرة، تحمل خلالها المصريون أقصى درجات البطش والاضطهاد طوال قرنين
ونصف من النظام الروماني.
وبحلول
العام 312م، أصدر الامبراطور قسطنطين مرسوم ميلانو، القاضي بإضفاء الشرعية على
المسيحية، وأصبحت الدين الرسمي للإمبراطورية. لكن معاناة المصريين لم تنته، لكنها
دخلت في طور جديد، فقد سعى الأباطرة الرومان إلى فرض المذهب (الخلقوني) على
المصريين. فسطر الشعب المصري في ذلك الوقت تاريخا من النضال والتمسك بالعقيدة
الأرثوذكسية (اليعقوبية)، رغم الاضطهاد الذي مورس ضدهم، ومصادرة كنائسهم وأديرتهم
وأملاكهم.
وفي
العام 642م، فُتحت مصر بعد معاهدة سلام بين الروم وعمرو بن العاص. ولم يُكْرِه
نظام الحكم الجديد المصريين على تغيير
ديانتهم، بل أمنهم على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم. على معنى أن تعايش الدين
الاسلامي مع الدين المسيحي على أرض مصر كان منذ البداية تعايشا سلميا، لم ترهق فيه
الدماء، ورحب المصريون بالحكم الاسلامي كبديل للنظام الروماني المتسلط. وتركت
مسألة العقيدة الدينية للحرية الفردية البحتة، ومن هنا يمكن أن نفهم أن مصر بقيت
مسيحية في ظل الحكم الاسلامي مدة تزيد عن قرنين من الزمن.
هذه
التجربة الدينية الفريدة، تبرهن على أن التاريخ الديني في مصر لم يشهد انقطاعات أو
صراعات حادة بين القديم والجديد، ولهذا الأمر دلالته وتأثيره على التدين الشعبي
بصورة خاصة، فقد حُسِمَت العلاقة بين الأنا والآخر بعيداً عن عالم السياسة
والتطرف، مانحة أهل مصر قيماً دينية أصيلة
تقوم على التسامح والصبر وتحمل قسوة الحياة أو ظلم الآخر. أتاحت
للمصري الحرية في توظيف طقوسه الدينية القديمة ضمن منظومة الطقوس المسيحية
والاسلامية مشكلا بذلك حالة روحية نسيج وحدها.
ثانياً- العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الأقباط والمسلمين
بناء
على ما سبق، فإن بنية العلاقة بين لأقباط والمسلمين، لم تشذ عن قاعدة التعايش
السمح. وتشير الوثائق التاريخية أن القبط كانوا يشركون المسلمين معهم في الشهادة
أمام المحاكم الرسمية أو العرفية، والتوقيع على عقود البيع والشراء، وحجج الوصايا،
وحتى عقود الزواج. واستعان بهم الولاة المسلمون في تسيير الأمور الإدارية للدولة،
ولكنهم ظلوا خارج المؤسسة العسكرية والتزموا بدفع الجزية.
ولا
يعني ذلك أن العلاقة بين الأقباط والمسلمين كانت خالية من التوترات وأحيانا
الصراعات، فالخلاف بين الجماعتين ينشب بين الحين والحين، كما تذهب فاطمة عمر في
كتابها (تاريخ أهل الذمة في مصر) بسبب كراهية بعض الولاة والخلفاء لأهل الذمة
والقبط على نحو خاص، (الحاكم بأمر الله نموذجا)، أو بسبب الصراع على المناصب، خاصة
وأن الكثير من أعمال الدواوين وشئون الحكم والوظائف المالية كان يتولاها موظفون
مهرة من الأقباط، ما يثير في كل عصر حنق الطامعين في تولي هذه المناصب، كما كانت
عمليات تعمير الكنائس القديمة أو بناء كنائس جديدة، تثير التوتر والنزاع بين
المسلمين والأقباط.
وفيما
يتعلق بممارسات الحياة اليومية، فتذكر المصادر التاريخية أن الأوامر التي صدرت
مراراً وتكراراً في مختلف عصور الحكم الاسلامي من أجل تحريم لبس العمائم على
الأقباط والالتزام بلبس المنطق – حزام من الجلد يربط على البطن- والامساك بالصلبان الخشبية أثناء التجوال في
الأسواق، وغيرها من الالتزامات التمييزية. سرعان ما كان يبطل أثرها، وتعود الحياة
الاجتماعية إلى مجاريها الطبيعية. ما يعني أن هذه
الأوامر خالفت الحس المشترك العام، خاصة في الأوساط الشعبية في الحضر والريف، فلم
يسوغها الحس المشترك، ما دفع الولاة إلى عدم التشدد في تطبيقها. ومن هنا أطلق
المصريون المثل الشعبي الباقي حتى الآن (لكلِ غربالٍ جديدٍ شَدَّةٌ).
أما
لغة التفاعلات اليومية، فإن اللغة القبطية ذات الأصل الهيروغليفي بقيت مهيمنة على
السوق اللغوي المصري قرابة أربعة قرون بعد الفتح العربي، والثابت أن الأقباط
أقبلوا على تعلم العربية من قبل تحول غالبية المصريين للإسلام أملا في تولي المناصب، ومع تحول المصريين
إلى الإسلام اكتسبت العربية أرضا جديدة في السوق اللغوي على حساب القبطية، بدليل
قرار البطريرك غبـريـال بن تريك في القرن الثاني عشر الميلادي، القاضي باستخدام
اللغة العربية في صلاة القداس وكافة الخدمات الكنسية. ومنذ ذلك التاريخ أصبح لمصر
لغة واحدة وديانتين.
ثالثاً-
العلاقات الحديثة بين الأقباط والمسلمين
يمكن
تصنيف مراحل تطور العلاقة بين الأقباط والمسلمين في العصر الحديث إلى خمسة مراحل
تبدأ في عام 1805 بمرحلة الهوية الوطنية الكاملة، وتدخل بعد 2013 مرحلة استعادة الحقوق والعاطفة الوطنية.
(1) الهوية الوطنية الكاملة (1805-1951)
يذهب
جاك تاجر في كتابه (أقباط ومسلمون منذ الفتح العربي الى عام 1922) أن محمد علي هو
الذي قضى مبدئيا على التفرقة بين الأقباط والمسلمين، وزاد الوالي سعيد باشا بإزالة
معظم العقبات التي تحول دون الاندماج الكامل للأقباط في صلب الأمة، بقراراته غير
المسبوقة بقبول الأقباط في الجيش، وإلغاء الجزية المفروضة على الذميين بالفرمان
الصادر في 1855. وفي عصر الخديوي اسماعيل نال الأقباط حقوقهم السياسية والاعتبارية
بموجب قانون انشاء مجلس الشورى في 1866، الذي منحهم الحق في عضوية المجلس أسوة
بالمسلمين، بالإضافة إلى تعيين قضاة من الأقباط في المحاكم. والثابت تاريخيا أن
الجماعة المصرية القبطية تعاطت مع كافة الأحداث الكبيرة التي شهدتها هذه المرحلة بقدرٍ
كبيرٍ من المسئولية الوطنية، مشاركين في
ثورة عرابي، ومقاومة الاحتلال البريطاني منذ عام 1882، مرورا بالمشاركة في ثورة
1919 وحتى قيام ثورة يوليو1952.
(2) التحجيم والتأطير (1952-1970)
انشغل
عبدالناصر على المستوى الداخلي بمشروع التنمية الأول وتحقيق العدالة الاجتماعية
على النهج الاشتراكي، وإعادة توزيع الثروة عبر قرارات التأميم المعروفة. ولم يسمح
بظهور النعرات الطائفية، وكانت تربطه بالبابا كيرلس علاقة صداقة وتفاهم عميقين.
ويذكر في هذا المقام تبرعه بالمساهمة في بناء الكاتدرائية الكبيرة بالعباسية، ورخص
للأقباط ببناء وترميم 25 كنيسة سنويا، ويذكر أنه لم تحدث أية حوادث طائفية كبيرة
في عهده. ومع ذلك فقد كان عبدالناصر مبالغا في عدم استفزاز القوى الدينية
المحافظة، فاقتصد في تعيين الأقباط في المناصب العليا.
(3) مأسسة الفتنة الطائفية (1971-1981)
شهدت
هذه المرحلة تدهوراً كبيراً في العلاقات بين الأقباط والمسلمين، فقد أضر السادات
بمسألة الاندماج الاجتماعي للأقباط، لأنه أراد حل مشاكله مع القوى السياسية باللعب
على وتر الدين، ومنذ بداية عهده قرر نقل مصر بالكامل من خانة اليسار إلى خانة
اليمين محلياً وعربياً ودولياً. فسعى إلى ضرب التواجد الناصري واليساري داخل
الجامعة، وذلك بتمكين الجماعات الاسلامية السلفية وجماعة الاخوان من الاتحادات
الطلابية، فتحول الحرم الجامعي في
سبعينيات القرن العشرين إلى مرتع لأمراء الجماعات والكوادر الاخوانية، وأضحت
مصدراً لإنتاج التطرف والتخلف والعنف، كظاهرة الفصل بين الطلاب والطالبات بالقوة
في حجرات الدراسة، إلغاء الاحتفال بالأعياد الوطنية، منع اقامة الحفلات الفنية
داخل الحرم الجامعي، وتسيير كوادر الجماعة في أروقة الجامعة للأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، النظرة الدونية للشباب القبطي وعدم تمكينه من ممارسة أدوار سياسية داخل
الجامعة.
(4) مرحلة العنف
الطائفي (1982-2013)
أحداث
وأحوال جرت خلال هذه الفترة الطويلة، فعقب اغتيال السادات على يد الفصيل المتطرف
الذي مكن له العمل في بداية السبعينيات. ومنذ ليلة اغتيال السادات، اتضح للجميع أن
الجماعات الجهادية، أكبر حجما وأعلى طموحاً مما ظنت الأجهزة الأمنية في مصر. وعرفت
مصر بعد اغتيال السادات موجة ضخمة من العنف بدأت بمعارك يومية ضارية بين الأمن
والجماعات الجهادية، ثم تحولت هذه الجماعات إلى أسلوب الاغتيالات، فمهاجمة السياح
وضرب الاقتصاد، ثم تأجيج العنف الطائفي بكل وحشية، من خلال منظومة من المعتقدات
الخاطئة المدعومة بفتاوى المتشددين من رموز الحركة الاسلامية. واستمرت موجات العنف
تزيد وتنقص، حتى قيام ثورة 25 يناير، ليتضح سريعا أن قوى الاسلام السياسي، تدشن
لمرحلة جديدة من الاقصاء للجماعة القبطية المصرية.
(5) مرحلة استعادة الحقوق والعاطفة الوطنية (2014- )
وتبدو
في الأفق ملامح وارهاصات مرحلة جديدة، يستعيد فيها الأقباط حقوقهم ويشعرون بهويتهم
الوطنية، خاصة بعد اقرار قانون بناء وتعمير الكنائس، وأصبحت العلاقة التي تربطهم
بالسلطة في مصر هي علاقة احترام وتقدير متبادل، ورغم تعرض الأقباط لموجات ارهابية
متتالية في هذه المرحلة الجديدة، إلا أنهم في كل حدث يثبتون للجميع أن مصر وطن
واحد يعيش فينا ولا نعيش فيه.
إن
زيارة بابا الفاتيكان في هذه المرحلة
التاريخية، وهي بالتأكيد زيارة محبة وسلام، تقدم دعماً معنوياً كبيراً للتوجهات
المصرية الجديدة في مواجهة كافة صور التطرف والارهاب، وترسخ لمرحلة جديدة للحوار
بين الدين الاسلامي والمسيحي لنشر السلام والاستقرار والأمن في ربوع الشرق الأوسط
والعالم بأسره.