المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

ملاحظات ومقترحات: السياسة التربوية والدينية والوقاية من التطرف

الثلاثاء 18/أبريل/2017 - 04:06 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
نبيل عبد الفتاح

مدخل

الخطابات البحثية حول التطرف، لا تزال محدودة في بُعدها الإمبيريقي – الحقلي والميداني – سواء في تحديدها وضبطها للموضوع، أو في استخدام المقاربات والأدوات البحثية الملائمة في وصفه وتحليله، ولا تزال تعتمد على المقاربات السوسيو – نفسية، أو تركيزها على الجوانب التي تمسُ البنية النفسية للمتطرف أو بعضها، وغالباً ما يتم إعادة إنتاج بعض المقولات العامة التي لا تسوغها الحالات المدروسة على قلتها.

من ناحية أخرى نادرة أو محدودة الدراسات الميدانية حول العلاقة بين التطرف ونمط أو أنماط التربية السائدة في مؤسسات التنشئة الاجتماعية وذهنية وسلوك التطرف، وغالبُ ما كُتب يدور في المدارات النظرية وقليلة هي الدراسات حول الفكر المتطرف، وبعض أنماطه الإرهابية والسلوكية، ومن ثم يعتمد بعضها على بعضُ ملفات القضايا الجنائية وتحقيقاتها التي تقوم بها النيابة العامة من تحقيقات تستصحب تقارير الأجهزة الأمنية المختصة بمواجهة الإرهاب في المنظور الاتهامي والتحقيقاتي، ومعها التحقيقات القضائية التي تجريها المحاكم إذا ما تراءت لها وجود ثغرات في التحقيقات الأمنية والأدلة التي تسوقها على اتهاماتها ومعها تحقيقات النيابة العامة. هذا النمط من البحوث يبدو مهماً لاعتماده على مادة معلوماتية هامة، إلا أنها في الغالب الأعم لا تتطرق إلى خلفيات المتهمين من منظور التربية، أو الفكر الديني الإسلامي على نحو ما يسود في المنطقة العربية في الغالب، ناهيك عن أن المعلومات التي تساق، يحوطها بعض الشكوك التي تثار حول بعض الحالات بالنظر إلى شيوع أشكال من القسر والإرغام والتهديد والتعذيب الذي قد يُفسد المعلومات المستحصلة من المتهمين في هذا الصدد، وتقيدُ من نتائج البحث حولها.

يبدو صحيحاً أيضاً أن عديد المقاربات السابقة – وليس كلها – كانت تدور في بعضً الحالات في ضوء المنظورات التي تعتمد عليها السياسات الأمنية في دول المنطقة لمواجهة الإرهاب، سواء أكانت رسمية، أو تلك التي اعتمد عليها بعض الباحثين، أو المفكرين في مقاربة السلوك المتطرف وكأنه متمايزُ عن الإرهاب، على الرغم من التداخل والتمايز بين كليهما. من هنا يبدو مهماً الانتقال من الرؤية الأمنية على أهميتها، ورغماً عن عديد الاختلالات التي انطوت عليها في أكثر من بلد عربي، إلى رؤية أكثر اتساعًا وتستصحب معها بعضُا من الجدة في الأفكار والمعالجات والمقترحات.

يبدو لي وأرجو ألا أكون مخطئاً أن وضع «برنامج للوقاية من التطرف» عنوان لموضوع والأحرى موضوعات إشكالية ومركبة، ومن ثم يُعد واسعا وفضفاضا، ويفتح الأبواب عن سعة لخطاب الماينبغيات الذى يتسم بالعمومية، والممتحل بالغموض والسيولة، ومن ثم يؤدى على إنتاج المقاربات والمقولات العامة التي تصلح لمعالجة كل الظواهر الاجتماعية والسياسية، ومن ثم قد لا تعالج أياً منها.

من ثم لابد من التحفظ ابتداءً لأننا نحتاج إلى تخصيص الموضوعات على حالات محددة تسمح بتقصي أسباب التطرف في منابتها الاجتماعية والدينية والتربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية .. إلخ، وفي ضوء ذلك يمكن وضع بعض البرامج الملائمة من خلال أنظمة التربية والدين – أياً كان – وأن يساهما في سياسة وقائية إزاء الفكر المتطرف أو احتواء الآثار السلوكية السلبية فور وقوعها، أو الحد من تمدد محفزاته والأفكار التي تحضُ على انتهاجه.

في هذا الإطار أود أن أشير إلى ما يلي:-

أن ثمة تداخلاً بين الدين والتربية داخل مؤسسات التنشئة الاجتماعية على تعددها – الأسرة، والعائلة، والقبيلة، والعشيرة، والطائفة والمسجد والكنيسة ودور العبادة، والحزب السياسي، والمدرسة، وجماعات الرفاق – ومن ثم لابد من استصحاب هذا الواقع الفعلي في أنماط التنشئة الاجتماعية والدينية، في درس وتحليل هذين الموضوعين المتداخلين والمركبين، لاسيما في ظل عديد من المتغيرات والتحولات الجديدة في التنشئة، ومنها مواقع التواصل الاجتماعي، والشبكات الافتراضية، والتنشئة الرقمية – إذا جاز التعبير – عبر خطاب التغريدات، والفيس بوك، والانستجرام، والخطاب الرقمي المرئي.

أن تقديم مقترحات فعالة، لابد أن تضع في اعتبارها عديد المتغيرات على النحو التالي:

أولها: أن النفقات السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية لأعمال هذه المقترحات لابد أن تكون ممكنة وعملية.
ثانيها: أن تتوافق هذه المقترحات، وكل حالة وفق أسبابها، وتغيراتها، وواقعها داخل كل بلد أو نظام سياسى وطبيعته، وكذلك الفئة الاجتماعية المستهدفة بهذه المقترحات.

ثالثها: واقعية المقترحات وطابعها العملي القابل للتنفيذ أو الاستعارة. في ضوء الاعتبارات والتحفظات السابقة يمكن تناول موضوع الوقاية من التطرف ودور التربية والدين فيما يلي:-

 

أولاً: تعريف التطرف وأسبابه في ضوء الحالة المصرية.

ثانياً: دور التربية في الوقاية من التطرف.

ثالثاً: دور الدين في الوقاية من التطرف.

رابعاً: خاتمة

أولاً- تعريف التطرف وأسبابه في ضوء الحالة المصرية

ثمة تعريفات كثيرة للتطرف، وتختلف بحسب النظرة لظواهره، والتخصص الذى ينطلق منه بعض الباحثين، ناهيك عن بعض العمومية والغموض الذى يعترى غالبُ هذه التعريفات على تعددها. ثمة نزعة شائعة إعلامياً ورسمياً تركز على المنظمات السياسية الدينية ذات الخطابات الأيديولوجية الراديكالية والسلوكيات العنيفة الإرهابية، وبعض أيديولوجيا التكفير الديني، والتفسيق ... إلخ. ويشيع هذا الفهم للتطرف، وسط بعض النخب السياسية الحاكمة، وأجهزة الدولة الأيديولوجية والأمنية والحزبية إلا أنه اتجاه لا يتسم نسبيًا بالدقة والانضباط الإصلاحي. في هذا الإطار التطرف «هو مجموعة الأفكار التي تمثل خروجاً على التيار السائد mainstream المقبول في المجتمع وعلى النظام المنصوص عليه في الدستور، على نحو يترتب على تنفيذه تغير جذرى في الأوضاع (د. إيمان رجب، التطرف: التعريف والسياق الحاكم، مجلة أحوال مصرية، العدد رقم (60)، ربيع 2016، السنة الرابعة عشر، ص 3، الناشر مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، القاهرة) هذا التعريف السابق عن التطرف بمعنى extremism يختلف عن التطرف بمعنى radicalism الذى يشير إليه المفهوم السابق. في هذا الإطار لابد من الإشارة إلى نسبية هذا المفهوم وتعريفه من حالة إلى أخري، ومن واقع تاريخي وسياسي وديني إلى آخر، لأن التيار السائد متغير في ضوء مجموعة من المتغيرات التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. ناهيك عن اختلاف التيار الرئيس من دولة ونظام سياسي واجتماعي إلى آخر، ومن ثم يصعب التعميم على كافة الحالات.

ثمة تعريف آخر للتطرف وهو «تبنى الفرد لمواقف متشددة في مواجهة بعض القضايا الاجتماعية التي يهتم بها المتطرف، كما يعرف التطرف (أيضاً) بأنه خروج على القواعد الفكرية والقيم والمعايير والأساليب السلوكية الشائعة في المجتمع. بحيث نجد أن التطرف يعبر عن نفسه من خلال العزلة أو السلبية أو الانسحاب في مرحلته الأولي. وحينما تتعمق هذه الحالة، فإن المتطرف ينتقل إلى المرحلة الثانية، حيث ممارسة العنف استناداً إلى مخزون التوترات التي تراكمت في المرحلة الأولي، فشكلت الطاقة الدافعة لسلوكياته» (د. على ليلة، التطرف على خلفية عملية تحول وانتقال المجتمع، المرجع السابق، ص 58).

التطرف لا يقتصر فقط على أشكاله السياسية والسلوكية العنيفة، بل ثمة تطرف اجتماعي يتسم بالتغير في بعض أشكاله ومضامينه التي قد تتصادم مع أنماط السلوك والقيم وأساليب التفكير السائدة في المجتمع في مرحلة تاريخية محددة. بعض هذا الفكر والسلوك المتطرف قد يتصادم مع موروث جماعة ما، أو مكون ما من مكونات المجتمع العرقية والدينية والمذهبية أو القومية أو اللغوية أو المناطقية .. إلخ، من هنا نحن أمام مفهوم فضفاض ومفرط في غموضه، وفي تحديده إزاء ما يطلق عليه التيار السائد على المستويات القيمية والمعيارية والفكرية والمعتقدية والسلوكية.

أياً ما كان أمر هذا الغموض المفاهيمي، يمكن القول مع بعض الباحثين – د. على ليلة- «أن المتطرف فرداً أو مجموعة، لديه قناعة ببعض المعتقدات التي تشكل طاقته الدافعة للتطرف والعنف والإرهاب، (وهي) مجموعة المبادئ والقيم والأفكار التي استوعبها المتطرف، وتنحرف عن التوجه العام لمضامين الثقافة ومنظومات القيم في المجتمع» (على ليلة المرجع السابق، ص 58).

بعض أشكال التطرف الظاهري قد يتمثل في نظام الزى الذى يُعبر عن الاختلاف بين الأجيال، ويبدو مغايراً لأنماط الزي، وشكل تصفيف الشعر، وهو ما يبدو لدى الأجيال الأكبر سناً، يمثل تطرفاً أو أمرا غرائبيا .. إلخ. وبعضه قد يشكل مظهراً وسلوكاً ينطوى على تهديد بقطع النظر عما إذا كان ذلك صحيحاً أم لا. خذ على سبيل المثال بعضُ الرقصات الجماعية، والموسيقى الصاخبة المستعارة من بعضُ الطرق والجماعات الغربية كموسيقى الميتاليك، أو القرع على البراميل أو الرابَّ، وقد يطلق بعض الأعلام عليهم أنهم عبدة الشيطان، من خلال ارتداء زي ذي لون موحد أسود مثلاً، ويختارون مكانا ما، كما حدث في مصر مراراً، وأدى إلى القبض عليهم، ثم الإفراج عنهم.

بعض أشكال التطرف السياسي، يحددها طبيعة النظام السياسي ونخبته الحاكمة لاسيما في ظل نمط الدولة والحكم الشمولي أو التسلطي، حيث يُعد كل طلب سياسي واجتماعي – أن وُجدَّ على التغيير – خارج أطر النظام وحدوده وقواعده – الدستور والقوانين، والأحزاب إن وجدت أو الحزب الواحد – يُعد تطرفاً أو إرهاباً. وتتسع دائرة مفهوم التطرف لتشمل مجموعات من الأفكار والسلوكيات والمنظمات والجماعات السياسية والدينية.

التطرف الديني يشمل أياً من منظومات الأفكار والمعتقدات المذهبية والتفسيرات والتأويلات الدينية الوضعية، والتي تتسم بالحدية، والتي تستصحب بأنماط التشدد والتزمت في الخطاب الديني، وفي السلوك والزي، بل وفي اللغة اليومية التي تستخدم في التخاطب والتفاعل مع الآخرين، أو بين بعضهم بعضاً، وغالباً ما تكون لغة ذات موارد دينية، ومستمدة من مصادر لغوية أصولية قديمة، وذات مفردات وعبارات نمطية وتناصات – تضمينات- مع نصوص دينية مقدسة أو سَّنوية أو من لغة وشروح مؤسسي المذهب وبعضُ التابعين في الدائرة الإسلامية السنية أو الشيعية أو الأباضية. هذا النمط من الخطاب الديني المكتوب أو الملفوظ في الخطاب اليومي ومصادره، يرمى إلى الاستعلاء على أنماط التدين الشعبي ومروياته، وعلى نمط الخطابات الدينية الأصولية الرسمية، من فقهاء ودعاة ووعاظ المؤسسة الدينية الرسمية. هذا النمط نجده لدى بعض المنتمين للجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، والجماعات السلفية الجهادية، وغيرها، ودعاة الطرق، وسلعهم الخطابية والرمزية ونظم الزى – للرجال والنساء كالجلباب والنقاب والحجاب والإسدال للنساء، وتربية الذقون للرجال والجلباب القصير لدى بعض السلفيين-، والرؤى والأفكار التي يطرحونها في الأسواق الدينية الوطنية أو الإقليمية أو الكونية.

الأنماط الدينية والفكرية والسلوكية ذات الوجوه والأسانيد الدينية الوضعية هي الأكثر بروزاً وتمدداً منذ أكثر من أربعة عقود في مصر، وغالبُ الدول العربية.

إن أشكال التطرف المظهري وجدت تمظهراتها في عديد الاستعارات في ثورات الشباب الأوروبي 1968، وفي تمرد جيل السبعينيات، وسياسياً في بعض الجماعات الأيديولوجية الماركسية، من الماوية إلى التروتسكية، وقبل وبعد 25 يناير 2011، في أفكار وخطابات وسلوكيات بعض الفوضويين. التطرف الدينى ظهر بطيئاً منذ هزيمة يونيو 1967، ثم تمدد في أعقاب حرب أكتوبر 1973، وتوظيف النظام الساداتي المكثف للإسلام في بناء شرعيته السياسية كأحد أبرز مصادرها، وفي التعبئة والحشد والتبرير، وفي بعض توجهات نظام السياسة الخارجية المصرية، وفي تحالفاته مع الإخوان المسلمين، ثم دعمه للجماعات السلفية بعد توتر علاقاته مع الإخوان، وفي توظيفه للمؤسسة الدينية الرسمية، وذلك في سياسته الدينية التي رمت إلى تهميش اليسار الماركسي والناصريين والليبراليين الأقحاح الأرثوذكس -إذا جاز التعبير وساغ- وتكريس قيم محافظة سياسياً ودينياً.

أدت البيئة المحافظة دينياً، وحركة القوى الإسلامية السياسية، والمؤسسة الدينية الرسمية ونزوعها المحافظ، والنزاعات الطائفية وتوتراتها مع المؤسسة القبطية الأرثوذكسية، إلى بروز الجماعات الإسلامية الراديكالية العنيفة والمتزمتة، كحزب التحرير الإسلامي –المشهور بجماعة الفنية العسكرية- في بدايات حكم السادات – قبل حرب أكتوبر 1973- وجماعة المسلمون المشهورة إعلامياً بالتكفير والهجرة، والتوقف والتبين، والقطبيون، والجماعة الإسلامية، والجهاد واستخدام هؤلاء العنف ذا الوجوه والسند الديني التأويلي الوضعي لتغيير طبيعة الدولة وتحويلها إلى دولة إسلامية، وتحويل النظام التسلطي إلى حكم إسلامي انتهى باغتيال السادات في 6 أكتوبر 1981 يوم شرعيته السياسية. استمرت ظواهر العنف طيلة حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، حتى 25 يناير 2011 في ظل وصول جماعة الإخوان والسلفيين إلى السلطة في المرحلة الانتقالية الأولى والثانية، ثم انفتح الباب عن سعة لأشكال التطرف الديني المظهري والسلوكي والعنف الاجتماعي ذي المحمول الطائفي، من خلال توظيف الإخوان المسلمين والسلفيين للإسلام في التعبئة الدينية والسياسية ضد الأطراف السياسية الأخرى، والإفراج عن المحكوم عليهم من الجماعات الإسلامية في قضايا العنف والإرهاب، ووضع دستور 2012 الذى تضمن نصوصاً تمنح رئيس الجمهورية وجماعة الإخوان والسلفيين إصدار قوانين ذات محمولات دينية تؤثر سلبًا على طبيعة الدولة الحديثة في مصر.

من ناحية أخرى أدت ممارسات الإخوان والجماعات السلفية ذات الطابع الطائفي والتمييزي ومحاولة بعض السلفيين القيام بأعمال الحسبة والقضاء العرفي في المجال العام، وفشلهم في إدارة الدولة وأجهزتها والانقلاب الدستوري الذى شكله إعلان 22 نوفمبر 2012 الدستوري المكمل. مما أدى إلى انفجار أحداث 30 يونيو 2013 الجماهيرية واسعة النطاق، وما بعد ... إلخ.

في إطار هذا التغير السياسي، برز دور المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية الرسمية والسلفيين وقوى أخرى في دعم عملية عزل رئيس الجمهورية الأسبق محمد مرسى ووضع دستور جديد للبلاد 2014.

ترتب على التغير السياسي وانتخاب رئيس جمهورية جديد للبلاد – الرئيس عبد الفتاح السيسي – استمرارية بعض أشكال العنف السياسي ذي الوجوه الدينية من الإخوان، وأنصار بيت المقدس في سيناء ولاية سيناء بعد تبعيتها لداعش، وواجهته بصرامة أجهزة الدولة الأمنية والقوات المسلحة، واستعادت الدولة هيبتها، وانخفضت نسبياً معدلات العنف الإرهابي، عن ذي قبل.

ثانياً- دور التربية في الوقاية من التطرف

§        تحديد دور التربية في الوقاية من التطرف بأشكاله المختلفة، يتطلب أولاً تحديد دور نظام التربية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية في خلق بعضُ محفزات التطرف Triggers أو منشطات الفكر والسلوكيات المتطرفة.

§         التربية تتم عبر مراحل زمنية لتطور الأشخاص العمري، ومن ثم دورها وتأثيرها في تشكيل شخصية «المواطن»-، أو الشخص في ظل عدم استكمال حالة المواطنية في هذا البلد أو ذاك – تتقيد بهذا القيد الزمني، ومن ثم نحن إزاء نظام تربوى لا تتحقق نتائجه سريعاً في الأجلين القصير والمتوسط، ومن ثم يؤتى ثماره في حالة إعادة تأهيله عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية، على المدى البعيد.

في هذا الإطار يمكن لنا تحديد دور التربية في إنتاج بعض منشطات التطرف فيما يلي:-

§        أنظمة التنشئة الاجتماعية السائدة، تعتمد في تربية الشخص منذ ميلاده على عديد القيم البطريركية التقليدية، والمحدثة، وبعض القيم الحداثية المهجنة بالتقليدية والدينية التي سوغتها كجزء من الاستعارات الحداثية المبتسرة والمخلطة بالقيم التقليدية والأعراف على نحو ما ساد تاريخياً ولا يزال في مصر وعديد من البلدان العربية.

§         القيم التي يتم تلقينها للطفل منذ بداياته وفي تطوره العمري، تعتمد على الطاعة والقبول والامتثال لما يتلقاه داخل الأسرة، ويتكرس من خلال رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والإعدادية وصولاً إلى مرحلة الصبا في التعليم الثانوي ومن ثم على هيمنة الكبار على الصغار، والنزعة الاعتمادية عليهم، ومن ثم يؤدى ذلك إلى تضاؤل عملية تكوين ثقافة المسئولية، وتشكيل الإرادة والمشيئة المستقلة التي تعوق عملية إنتاج الفرد والفردانية.

§        تداخل القيم التقليدية – لاسيما في الأرياف أو المدن المريفة – مع القيم الدينية التقليدية، وبعض المرويات والأمثولات والسرديات الدينية الوضعية حول الدين، والعقيدة والطقوس، وإقامة حواجز إزاء الآخر الديني يتم تقديمها وتعليمها للطفل والصبى من خلال تصورات الذات الجماعية التقليدية الموروثة حوله، وليس كما هو في ديانته وعقيدته وقيمه وطقوسه وسلوكه. وهو ما يؤدى إلى بناء صور نمطية سلبية حوله، على نحو يشجع ويحفز بعضهم نحو التطرف الإدراكي إزاء الآخر، ونبذه وقدحه.

§         تؤدى التربية الذكورية في الأسرة إلى تشكيل نظرة للمرأة تتسم بعدم المساواة مع الرجل، من خلال التربية والتنشئة التمييزية للذكور عن الإناث، وبناءُ صور للمرأة تعتمد على دورها الوظيفي في نظام الأسرة، وتتداخل هذه الصور النمطية المحافظة مع بعض المقولات والأسانيد الدينية التي تسوغها لدى الذكور. هذا النمط من التربية لا يزال مستمراً في الأرياف وبعض الأوساط الاجتماعية المعسورة، وذلك على الرغم من تعليم الإناث، ودور المرأة المعيلة للأسرة، وهو ما يعود إلى شيوع الأمية وسط هذه الفئات الاجتماعية التي تعيش عند خطوط الفقر، وما وراءها.

§        تساهم المدرسة – كإحدى مؤسسات التنشئة الاجتماعية – من خلال بعضُ أو غالبُ المدرسين والمدرسات في إشاعة القيم المحافظة من خلال فرض نظام للزى محمول على الدين كالحجاب والزى الطويل، وإجبار الأطفال والفتيات على الالتزام به. من ناحية أخرى لوحظ أن الغالبية العظمى من المدرسين والمدرسات، يقومون بتقديم درس حول الدرس، يتمثل في تقديم القيم الدينية المحافظة ومعها القيم التقليدية والعرفية، بالإضافة إلى تديين الشروح والتفسيرات للمناهج المقررة رسمياً من خلال الأمثلة والإيضاحات الدينية. هذه النزعة الشائعة في الدرس حول الدرس تعود إلى تمدد الثقافة الدينية والتقليدية الوضعية بين المدرسين والمدرسات، وإلى تغلغل الثقافة الدينية السلفية والإخوانية بينهم، سواء طوعاً، أو التزاماً يعود إلى انتماء بعضهم وبعضهن إلى الجماعات السلفية والإخوان المسلمين التي تركز استراتيجياتها في التجنيد على المدرسين والمدرسات سواء داخل الأزهر – 30% من هيكل عضوية جماعة الإخوان من الأزهريين خريجون وطلاب، وأيضاً تمدد السلفيين داخل طلاب الأزهر-، أو في كليات التربية أو الآداب.

§        المناهج التعليمية المقررة في العلوم الاجتماعية تتداخل مقرراتها مع بعضُ النقول والاستعارات لأمثولات، ومرويات، وحكم دينية المصدر، ووضعية الإنتاج، مع بعضُ من النصوص الدينية القرآنية، والسّنوية وشروح وتأويلات وضعية ومذهبية لها، على نحو يضفي عليها طابعا دينيا سنداً وترويجاً، مما يضفي سطوة شبه دينية على المدني ويُشرعنها، مما يكرس نمط التربية والتكوين التعليمي شبه الديني في المدارس المدنية. من ناحية أخرى يعتمد التعليم الديني الأزهري على التلقين والحفظ والاستظهار كنمط في التلقي والتعليم على قيم محافظة وبعضها متشدد ومتزمت يعتمد على الثنائيات الضدية حول الحلال والحرام، وإنتاج ذهنية نقلية، لا ترى سوى ذاتها كمركز، والآخرون منبوذوين على هامشها.

§        التربية في المدارس المدنية تستند إلى تداخل بين القيم المحافظة وبين التعليم الذى يعتمد على الاستظهار والحفظ، والنزعة النقلية، والتكرار، والخطأ والصواب وليس على تنمية العقل الناقد، والنزعة التحليلية والتفكيكية النقدية، وعلى نسبية الحقيقة، وإنما على الحقائق الدينية المطلقة حول الوضعيات الفقهية، والتأويلية البشرية.

§        مع الثورة الرقمية وتطوراتها المذهلة دخل هذا المتغير الجديد ذو التأثير الضاغط كأحد مصادر التنشئة الاجتماعية للأطفال والصبيان والشباب، بحيث نستطيع القول إن مواقع التواصل الاجتماعي، والشبكات، والمواقع الإباحية، والثقافية ودوائر وشبكات الهوايات على تعددها واختلافها وتباينها، أصبحت تشكل مؤسسة تربوية رقمية مؤثرة على أنماط التربية السائدة في مجتمعات العالم على اختلافها لاسيما العربية المحافظة والتي يختلط فيها الديني بالتربوي القمعي وشبه القمعي، والذى يتساند مع ثقافة سياسية تلقينية وشمولية، أو تسلطية في أجهزة الدولة الأيديولوجية أو الحزب الواحد ومعهم المدرسة وبعض دور العبادة والمؤسسات الدينية الرسمية التي تكرس قيم الطاعة والولاء لأولى الأمر، وثقافة القيود على حرية «الفرد» أو الأحرى الشخص والنزعة الجبرية الميتاوضعية. الثقافة الرقمية -التي تنتجها المشاركات الواسعة في ديمقراطية كونية افتراضية- باتت مؤثرة على الواقع الفعلي، وعلى أنماط التربية التقليدية السائدة، إلا أنها في ذات الوقت تحملُ مخاطر النزعات التطرفية والإرهابية، من خلال المواقع الإرهابية وغيرها التي تدعو إلى أشكال من التطرف الديني والمذهبي والعرقي والقومي والإباحي الجنسي لاسيما إزاء الأطفال ... إلخ.

§        إن نظرة تحليلية على بعض الدراسات التي تمت على بعض مواقع التطرف الديني وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية تشير إلى أنها تقدم من خلال اللغة الرقمية والمرئية الفيلمية بتقديم مثيرات وإغواءات لبعض العناصر المستهدفة أوروبياً وعربياً من الشباب والشابات صغار وصغيرات السن للانخراط في التنظيم من خلال عمليات التجنيد الافتراضي، لاسيما من بين أبناء الجيل الثالث من ذوى الأصول العربية والإسلامية الذين فشلت سياسات الاندماج الأوروبي لاسيما في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا في دمجهم في النظام الاجتماعي، ويعانون من الإحباط والعزلة في ضواحي المدن الفرنسية والبلجيكية وبعضهم الآخر من الأوروبيين، وبعض من ذوى الأصول الأجنبية المتمردين على النظام الاجتماعي الرأسمالي، ويعانون من الاغتراب، وبعضهم يحملون رؤى وأفكارا ومشاعر فوضوية ووجدوا في أيديولوجيا التوحش ملاذاً نفسياً وأيديولوجيا يمكنهم من الثأر من الرأسمالية المتوحشة.

§        الشباب هم الفئات الجيلية المستهدفة من أفكار وأيديولوجيات التطرف الديني، وبعض أنماط التطرف الفكري والسلوكي أياً كانت مصادرها ومراجعها ودعواها -، من سن الثامنة عشرة إلى منتصف العشرينيات من العمر-، وامتد التجنيد والغواية لبعض الصبية وأطفال في بعض الواقعات في سوريا، وفي المناطق التي يسيطر عليها تنظيم بوكوحرام، وفي الصومال، وفي بعض المناطق في سوريا والعراق التي لا تزال واقعة تحت سيطرة داعش.

§        أحد محفزات ومحركات بعض الشباب لأشكال التطرف تتمثل في ديكتاتورية السن الكبير «الشيوخ في إدارة شئون البلاد ومؤسساتها، وبروز الفجوات الجيلية وانعكاساتها، وهيمنة الأجيال الأكبر سناً على كافة المواقع القيادية، وعلى هيكل الفرص المتاحة والتي تؤدى في بعض الدول والمجتمعات – كما في المثال المصرى – إلى إشاعة الشعور بالإحباط، وغياب الأمل على نحو يدفع بعضهم لأشكال من التطرف أو اللامبالاة السلبية بما يجرى داخل مجتمعاتهم.

 دور السياسة التربوية في الوقاية من التطرف:

السؤال الذى نطرحه هنا ما هو دور التربية في الوقاية من التطرف بأشكاله المختلفة؟

ذكرنا سلفاً أن دور التربية في الوقاية من التطرف يحتاج إلى ميزانية زمنية – إذا جاز التعبير وساغ- تستطال إلى الأجل الطويل حتى يمكن أن تحقق بعض النتائج الإيجابية في الحد من الحوافز المثيرة والدافعة إلى النزعات التطرفية، في ظل مرحلة تفكك بعض الأنظمة التربوية الأبوية التقليدية، والمحدثة لمصلحة تغيرات رقمية مؤثرة على الواقع الفعلي بالإضافة إلى بعض التحولات في هذه الأنظمة وتفككها واهتراء بعضها وتراجع تأثيره.

يمكن القول إنها مرحلة ما بعدية إذا جاز التعبير فيها من أنظمة التنشئة الاجتماعية والسياسية التسلطية والاجتماعية والإكراهية السابقة، وفيها تشكلات جديدة تدور حول قيم الحرية والنقد والنزعة العولمية وحقوق الإنسان، وحرية التدين والاعتقاد، ومجال عام رقمي يتسم بحريات بلا حدود، وعمليات تشكل سريع ومكثف للفردانية والفرد في مصر وبعض الدول العربية الأخرى. وفي ذات الوقت إحباطات متعددة من إخفاق وإجهاض الآمال التي صاحبت الانتفاضات الجماهيرية ذات النفس الثوري في بعض البلدان العربية – مصر وتونس-، وتحول نوعى في المشكلات الهيكلية لاقتصادات بعض البدان، وانهيار الدولة في بلدان أخرى كاليمن، وليبيا، وحروب أهلية مستعرة في العراق وسوريا، واليمن، وليبيا. ومن ثم ظهور محفزات ومثيرات للتطرف والإرهاب في بلدان الحروب الأهلية في المنطقة العربية. من ناحية أخرى موجات الهجرة القسرية من دول الحروب الأهلية إلى دول الجوار الجغرافي العربي في تركيا وإيران وبعض الدول الأوروبية، فضلاً عن الهجرة إلى دول عربية مجاورة. من ثم تشكل معسكرات وأماكن الهجرة، بيئة ملائمة لأشكال من التطرف الاجتماعي المتعددة، في ظل غياب الأمل لدى بعض شباب المهاجرين، وبروز بعض مشكلات الاندماج في هذه المجتمعات، لاسيما الأوروبية والغربية.

في ظل هذه البيئات السياسية والاجتماعية المضطربة هل يوجد ثمة إمكانية لتلعب التربية دوراً في الوقاية من التطرف؟

ثمة تحفظ يتمثل في خطورة الوقوع في هوى الأمنيات الفكرية، والتفكير الرغائبى وخطاب الماينبغيات، ناهيك أولاً: أن دور التربية ومؤسسات التنشئة يخضع بعضها إلى سيطرة الدولة الوطنية في العالم العربي، وهى لا تزال لم تستكمل مقوماتها وشرائطها الاجتماعية والتاريخية كى تغدو دولة / أمة باستثناء المثالين المصري، والمغربي المخزني. من ناحية ثانية: المتغيرات الرقمية وأثرها وإنتاجها لمجال عام افتراضي فعال ومؤثر على أنماط التنشئة للأجيال الجديدة الأكثر قرباً نفسياً وذهنياً من العوالم الرقمية تفكيراً واستخداما. من ناحية ثالثة: ثمة مشكلة تواجه أية مقترحات عملية في دول العسر العربي وهى الكلفة الاقتصادية لها، في ظل الأزمات الهيكلية التي تواجه اقتصاداتها، وسياسة التحرير الاقتصادي، وآليات السوق، وتخفيض العملة الوطنية، والتراجع عن سياسات الدعم العيني، بكل انعكاسات ذلك السلبية على الفئات الاجتماعية الأكثر فقراً، وتفكك الفئات الوسطى وتراجع مستويات معيشة بعضها. يترتب على ذلك صعوبة تنفيذ مقترحات تحتاج إلى نفقات اقتصادية، وسياسية ودينية من أجل تحقيق هذه المقترحات.

دور التربية والسياسة التربوية في الوقاية من التطرف

في ضوء التحفظات سالفة الذكر، ما هو دور التربية في الوقاية من التطرف؟

والسؤال حول السؤال أي نمط من التربية يؤدى إلى الوقاية من التطرف؟

التربية والتنشئة الاجتماعية البطريركية والبطريركية المحدثة – بتعبير هشام شرابي – تشكل في نسقها القيمي، وفي نظامها التعليمي ومناهجه، أحد محفزات غواية وجاذبية بعض الشباب نحو التطرف الفكري الديني والسياسي والاجتماعي على نحو ما أشرنا في وصفه سلفاً، لاسيما في ظل التداخل بين هذه القيم والوعاء الديني الحامل والمشرعن لها.

التربية ودورها يبدأ منذ مرحلة الطفولة حيث يربى الطفل وفق نسق التنشئة السائد، ويتطور مع مراحله العمرية وصولاً إلى مرحلتي الصبا والشباب، ودورها هو إعداد الطفل والصبى والشاب كي يكون عضواً فاعلاً في مجتمعه، وتشكيل شخصيته، وإمداده بمجموعة من القيم والسلوك الاجتماعي الذى يجعله قادراً على التكيف مع أقرانه ووسطه الاجتماعي، وبناء شخصيته، وتوازنها السوسيو – نفسي، الذى يسمح بالتكيف الاجتماعي والتكامل النفسي، وإنماء الشعور بالمسئولية الشخصية، والغيرية، واحترام القواعد والضوابط الاجتماعية، وقيم الجماعة، والاعتدال والانضباط السلوكي.

يختلف النظام التربوي، بحسب طبيعة المجتمع والدولة والنظام السياسي والقيم الاجتماعية والسياسية التي يتبناها ويفرضها على مؤسسات التنشئة في المدرسة، والحزب، والإعلام. إذا كان النظام تسلطياً فهو يفرض القيم التسلطية في هذه المؤسسات، ومناهج التنشئة فيها، وفي السياسة التعليمية والمواد المقررة على التلاميذ والتلميذات والطلبة والطالبات، وعلى المدرسين والمدرسات، وتميل التربية إلى إنتاج العقل النقلي والتابع والممتثل. في النظم الديمقراطية والليبرالية الراسخة أياً كانت نماذجها، تعتمد التربية فيها على تنشئة الأطفال والصبيان والصبايا والشباب والشابات، على بناء الشخصية الفردية، وتوازنها النفسي، وعلى إنماء الإرادة الحرة والمستقلة، والمسئولية الفردية، والاعتماد على الذات، واستقلالية السلوك الفردي في إطار الجماعة، وقيم المنافسة، والتفوق والإنجاز كمعيار في الترقي والحراك الاجتماعي لأعلي، وفي الحصول على الفرص الاجتماعية والاقتصادية والمهنية، المتاحة أو النادرة. يركز النظام التربوي – وأنظمة التنشئة الاجتماعية والسياسية – على قيم الحرية والمساواة والإخاء والتدين والاعتقاد الحر للفرد أو عدم الاعتقاد في الأديان أو المذاهب، وحقه في تغيير دينه إلى دين آخر أو مذهب لآخر، أو الحق في اللاتدين أو في ممارسة الشعائر الدينية أو عدم ممارستها، بوصفه حق فردى / شخصي يدور حول الضمير الفردي.

يكرس النظام التربوي في الشخص منذ الطفولة على معصومية جسده وسلطته عليه، وعدم مساس الآخرين به وتكامله الذاتي. يربى الفرد منذ ميلاده وتطوره العمرى على أساس أنه مواطن حر وله حقوق شخصية، وعامة وعليه واجبات والتزامات ينهض بها، وعلى احترام الدستور والقوانين ولوائح وقرارات الضبط الإداري أياً كانت، وعلى السلوك السلمى في التعامل مع الآخرين في المجال العام، ويحترم حرياتهم وحقوقهم في إطار القانون، وألا ينتهك خصوصية الآخرين الذين يحترمون خصوصيته ومجاله الخاص. يربى الشخص في تطوره على قيم المعرفة والتعلم كآليات للنمو الذاتي والترقي الموضوعي، ونبذ العنف أياً كانت أسبابه ومسوغاته، وأنه في حال اللجوء إليه سيخضع للقانون.

من هنا التربية على الحرية في ضوء القانون والأخلاق المدنية، والمواطنة، والثقافة المدنية هي أحد أبرز المداخل لتكوين الطفلة والطفل والصبى والصبية والشاب والشابة المتوازنين نفسياً وفي بناء شخصيتهم.

السؤال الذى نطرحه هنا هل هناك إمكانية لإعمال وتطبيق هذا النظام التربوي في بعض البلدان العربية التي تشهد حروب أهليه، وانهيار للدولة، ونمو التطرف والجماعات الإرهابية أو الجماعات الدينية المتشددة والمحافظة السلفية والسلفية الجهادية ونظائرها وأشباهها؟

يبدو من الصعوبة بمكان في ظل انهيار الدولة الوطنية في عديد البلدان العربية، ومع موجات الهجرة القسرية داخل هذه البلدان من منطقة لأخري، وإلى البلدان المجاورة، أو بلدان أوروبية أو أخري، القيام بالتربية على أساس المواطنة والحريات المدنية ... إلخ، وذلك لعديد الأسباب، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:-

§        تكالبُ الأزمات التي تواجه الأسرة، من انقسام بعضها وتشتتها، ناهيك عن أزمات التكيف مع عسر الحياة في المناطق الذين نقلوا إليها داخل البلاد أو خارجها في دول الجوار العربي، أو دول الجوار الجغرافي للبلدان العربية، على الاختلاف بين كلا الحالين، من المشكلات الاقتصادية، والحاجة إلى المعونات الغذائية، والملبس والمأوي، ناهيك عن مشكلة تعليم الأبناء أياً كانت مستوياتهم العمرية.

§        غالبًا ما تستمر ذهنية وتنشئة الآباء والأمهات على النظام التربوي السائد والاستثناءات محدودة.

§        حضور الدولة والنظام السياسي – أياً كانت طبيعته واختياراته السياسية والتربوية - يكون مؤثرا على عمليات التنشئة لاسيما السياسية، ومن ثم يشكل دورها أو تفككها -أو التهديدات التي توجه لها وللنظام- أحد العوائق إزاء اهتمامها النظام التربوي، وتقتصر على المعالجات الأمنية والعسكرية لجماعات العنف ذو الطبيعية الإرهابية، وجماعات الغلو والتطرف الديني، خاصة إذا كان بعض السلفيين وأحزابهم هم جزء من التركيبة السياسية الرسمية، على نحو ما نشهد في مصر.

§         بعض مجموعات المهاجرين قسرياً إلى البلدان العربية المجاورة للدول التي انهارت فيها الدولة، واشتعلت الحرب الأهلية داخلها، هؤلاء انتقلوا إلى بيئات عربية تعانى بعض الجماعات المتطرفة، وتفتقر إلى سياسات تربوية في التعليم ومؤسسات تنشئة قادرة على التنبه والتكيف، ومراجعة هذه السياسات وتعديلها لتكون أحد أدوات الوقاية من التطرف، بل إنها تلجأ إلى الإدارة الأمنية والاستخبارية لمتابعة مجموعات المهاجرين من البلدان المجاورة خشية تغلغل إرهابيين داخلهم من الخلايا النائمة أو الذئاب المنفردة.

§        المهاجرون إلى الدول والمجتمعات المجاورة غير العربية، سيتأثرون إلى حد ما بنظم التربية السائد فيها ومشاكله أياً كانت.

§         المجموعات المهاجرة إلى بعض الدول الغربية، هؤلاء هم الذين سوف يتأثرون نسبيًا بالنظام التربوي المؤسس على المواطنة وثقافة الحرية والمشاركة والمسئولية والفردية، والإرادة الحرة والثقافة المدنية، وبعض الاستثناءات سوف يميلون إلى التمسك بالدين ومنظوماته الوضعية، وذلك تحت مظلة الهوية ومتخيلاتها في بناء تماسكهم النفسي إزاء واقع مختلف اجتماعياً وثقافياً وسياسياً وغير مألوف لهم. بعضهم الآخر قد يكون موضوعاً للتجنيد السياسي والتنظيمي من بعض الجماعات الإرهابية ذات السند التأويلي الديني كداعش وأشباهها ونظائرها من السلفيات الجهادية.

§        الحالات التي يمكن من خلالها إدخال بعض التعديلات الجزئية المتدرجة ثم الكلية في نظامها التربوي، وأنظمة التنشئة الاجتماعية، التي يمكن أن تتكيف مع سياسات تربوية جديدة، هي التي لا تزال الدولة فيها متماسكة، ونظامها السياسي يتسم بالتسلط لا الشمولية / الكليانية السياسية، لأن الأولى رغم أجهزتها القمعية لا تسمح ببعض المساحات والهوامش للتحرك في المجال العام، وببعض التنفيس عن الرأي، وترك بعض المنظمات الطوعية الدفاعية للحركة النسبية التي تسمح ببعض التسريب للغضب المتراكم، وتوزيع بعضه على قنوات سلمية، من خلال أجهزة الإعلام المرئية، والبرامج الحوارية، والصحف المعارضة والمستقلة.

§        بعض النخب السياسية الحاكمة التي لديها بعضُ المهارات السياسية، والدينامية، تسمح لها بأداء بعض من سياسة التكيف لمواجهة مخاطر التطرف الفكري والسلوكي – أياً كانت مصادرها – والتي تشكل تهديداً حالاً أو محتملاً على أمنها واستقرارها، وهذه النخبة على قلتها هي التي يمكن أن تستجيب وتحدث بعض التغييرات الجزئية في أنظمة التنشئة والسياسة التربوية.

§        في هذا الإطار يمكننا تقديم بعض المقترحات التي تتصف بالطابع الجزئي والعملي، لأن طبيعة الدولة والنظام السياسي والنخب الحاكمة في ظل التسلطية السياسية، لا تأخذ غالباً بالحلول والسياسات والبرامج الشاملة. ويبدو أن السياسة التربوية التي يمكن إعادة تأهيلها، تتم على نحو متدرج ومتصاعد، ومن ثم نقترح ما يلي:

(1) إعادة تأهيل الأمهات والآباء، وذلك من خلال الآليات التالية:

أ‌-     جلسات حوارية مع الأمهات الحوامل قبل الولادة، مع كل جلسة للمتابعة الطبية، لاسيما في المستوصفات المخصصة لرعاية الأمهات الحوامل ورعاية الأطفال، حيث تقدم لهم بعض الإرشادات التربوية في التعامل مع أطفالهم، والربط الإدراكى بين هذا النمط الحوارى في التربية، وبين تكوين شخصية الطفل والطفلة، ومسارها التعليمى ومستقبلها. ويتم تقسيم هذه المجموعات بحسب التعليم والسن، وبين الأميات. ويمكن الجمع بينهن للتفاعل والحوار. هذه البرامج لابد أن تتسم بالبساطة، والربط بينها وبين نتائج هذا النوع من التربية على الحوار والفردية والحرية والمشاركة وبين التغيرات التي تتم في مستقبل الطفل والطفلة في عالم جديد ومتغير عن عالم الأمهات والآباء، وبين هذا النمط التربوى وبين العمل في المستقبل، وبيان مساوئ التربية التقليدية. من ناحية أخري، التركيز على مبادئ المساواة بين الأطفال كمواطنين، وبين مجموعة القيم الدينية المشتركة العابرة للأديان والمذاهب جميعاً.

ب‌- يقوم بهذه الجلسات وإدارتها الأطباء والطبيبات والقابلات، والأخصائيين الاجتماعيين، وهؤلاء لابد لهم من الانخراط ابتداءً في ورش عمل تدريبية لهم، ويكون إنجازها جزءا من شروط ارتقائهم وحراكهم الوظيفي في المستشفيات العامة والخاصة. يتم الإعداد لهذه الدورات المختلفة بين وزارتى الصحة، والمرأة والطفولة ومعهم مجالس السكان شبه الرسمية، وذلك بالشراكة مع نقابات الأطباء، والممرضين والممرضات، وبعض المنظمات والجمعيات الأهلية العاملة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة والطفولة، والجمعيات الدفاعية في مجال المواطنة وحقوق الإنسان، والحريات الدينية.

(2) دورات تدريبية وورش عمل وحوار للمدرسين والمدرسات في رياض الأطفال، والمدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، حول التربية على المواطنة والحوار والتعايش الديني والمذهبي والاجتماعي مع الآخر، والتعليم على النقد والتفكيك والتحليل والحوار في التعليم والتدريب حول المناهج التعليمية المقررة.

 (3) إعداد كتب مبسطة للأطفال حول الحوار والمواطنة، وقيم الحرية المسئولة والمساواة، والقيم الدينية المشتركة كجزء من المقررات وتتدرج المادة المؤلفة في هذه الكتب مع تدرج أعمار التلاميذ والتلميذات، والطلبة والطالبات في المدارس الإعدادية والثانوية وتكون جزءاً من الاختبارات الدورية، وفي نهاية العام الدراسي.

 (4) استخدام الرسوم الكاريكاتورية، والرسوم في كتب الأطفال، ومن الممكن عمل تدريبات لهم، وأسئلة مبسطة ومتدرجة بحسب السن للرسم والكتابة حول قيم المساواة والمواطنة، وكذلك القيم الروحية والأخلاقية والمدنية المشتركة بين المواطنين جميعاً أياً كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية.

 (5) إعداد أفلام قصيرة كارتونية أو سينمائية حول المواد المطلوبة للمشاهدة ثم إجراء حوارات، وإعطاء شروح لبعضها ومشاركة التلاميذ والتلميذات والطلبة والطالبات في الحوار والنقاش حولها.

 (6) من الممكن تدريب الطلاب والطالبات، بل والتلاميذ والتلميذات على عمل أفلام قصيرة جداً من خلال سينما الموبايل فون التي تستخدم الموبايل فون في تصوير بعض الأفلام، وهى آلية تتوافق مع التطور الكبير في أجيال الموبايل فون، ومواكبة الصغار والصبيان والشباب لها والتعامل مع تقنيات الموبايل فون المتطورة جداً. وهذا الاستخدام ممكن وغير مكلف لأنه يعتمد على أجيال الهواتف المتعددة حتى الجيل الرابع، والتي شاع استخدامها في الحياة اليومية للمواطنين، ولا تتطلب إنفاقا على إنتاج هذه الأفلام، وتساهم في نمط من التربية والتعلم والإبداع بالمشاركة. هناك مهرجان سينمائي أهلي مصري لسينما الموبايل فون يعقد سنوياً بالقاهرة يمكن إقرار جوائز في هذه المسابقات، وإعطاء تقديرات للطلاب على هذه الأعمال سواء على مستوى المدرسة، والمناطق، والمحافظات، والوطن.

(7) ضرورة إدخال ودمج المكون الثقافي في برامج ومناهج التعليم في عديد من البلدان العربية في ظل تدهور مستوى ونوعية هذه المواد المقررة، والتي تعتمد على الحفظ والتكرار والنزعة النقلية، وهو ما يتطلب إدخال مواد تعتمد على نحو متدرج – تعلم وتربى الطلاب على العمل البدوي، والذهني-، على التفكيك والتحليل والتركيب والاستخلاص، وعلى نسبية الحقيقة.. من ناحية أخرى بعضُ المواد الثقافية العربية والأجنبية الغربية ومن ثقافات الجنوب، وآسيا الناهضة، وذلك لاستزراع مفاهيم التعدد الثقافي الكوني والنسبية الثقافية، والتعايش فيما بين ثقافات العالم.. من ناحية أخرى التعدد الثقافي الداخلي في المكونات المختلفة لكل مجتمع، والمشتركات فيما بين هذه الثقافات الرئيسة إلى جانب الثقافة المركزية، ونمط الحياة المشترك.

(8) المزج في المناهج التعليمية بين الفعلي / الورقي، وبين الرقمي، في تحديد بعض المقررات أو بعض البرامج العلمية أو التسجيلية، أو السينمائية العالمية، والعربية التي تبث على الواقع الرقمي، واختيار بعضها موضوعاً للدرس والحوار والنقاش والنقد، مع الموضوعات الورقية المقررة على التلاميذ والتلميذات والطلبة والطالبات في المراحل التعليمية المختلفة، خاصة البرامج والوثائقيات والأفلام التسجيلية ذات المنحى التربوي والثقافي.

(9) ضرورة مراعاة العودة في بعض المدارس إلى الاختلاط كما كان الوضع قبل صعود الحركات الإسلامية السياسية والسلفيات على تعددها، وهو اختلاط يبدأ تدريجياً في بعض المدارس، لتحقيق مبدأ المساواة بين الجنسين، وتضمين المناهج مواد جنوسية، -»جندرية»-، حول النوع الاجتماعي.

(10) إعداد معسكرات عمل وحوار ومناقشة مشتركة بين تلاميذ وتلميذات من أديان ومذاهب متعددة، مع تنشيط القيم الدينية والمذهبية المشتركة العابرة لحدود وخصوصيات الأديان والمذاهب.

(11) وضع برامج تحفز على الفنون وإنماء الحس والذائقة الفنية للفئات الطلابية والتلاميذ والتلميذات المستهدفين من هكذا نمط من البرامج في الموسيقي، والفنون التشكيلية، والبصرية / السينمائية، وفي التمثيل والمسرح، وفنون الحكي، وفي ورش الكتابة القصصية، أو كتابة الشعر، أو تذوقه وتحليله.

(12) السعي إلى إنتاج ألعاب رقمية وبلاستيكية للأطفال تدور حول مفاهيم الفردية، والصداقة، والحب، والمساواة، والحرية، ومعصومية الجسد – الطفل والإنسان- ضد الانتهاك، لأثر هذا النوع من الألعاب تربويًا في بناء شخصية الطفل وتوازنه النفسي.

الأفكار السابقة بعضها لا يحتاج إلى نفقات مالية كثيفة ترهق الدول وسياساتها التربوية والتعليمية في دول يجب أن تربط في بعض وزاراتها بين التربية والتعليم مثل مصر على سبيل المثال، وبعض هذه المقترحات يمكن التعاون فيها أو الشراكة بين المنظمات والمبادرات الطوعية، وبين بعض أجهزة الدولة، والقطاع الخاص ورجال الأعمال، الذين بمكنتهم إمكانية تقديم مبادرات تمويلية، أو إنتاج بعض هذه البرامج، وهو ما يسهم في تبنى وتحريك الحوكمة / المحكومية الحسنة والرشيدة.

ثالثاً- دور الدين في الوقاية من التطرف الفكرى والسلوكي

النظام الديني، ومحمولاته من العقائد والطقوس والقيم والتاريخ والشروح الفقهية واللاهوتية والتفسيرات والتأويلات يعتمد على بنيته المؤسسة على الحقائق المطلقة، وعلى صوابية وصحة المنظومة الدينية ومواريثها وشارحيها ورجال الدين والمؤسسة غالباً. كل نظام ديني تميلُ سلطاته ومؤسساته إلى امتلاك اليقينيات والحقائق المطلقة، وبناء الحدود النفسية والإدراكية بينها، وبين الأنظمة الدينية الأخرى، وتقديم صور لها من منظورها في النص المؤسس، أو في الفقه أو اللاهوت أو تعاليم الآباء، وليس على الصورة والشكل والمضامين التي هي عليها فعلاً نصاً وتاريخاً وشروحاً وممارسة.

من هنا تبدو السلطات الأصولية وتعاليمها وشروحها الوضعية هي المهيمنة على جماعة المؤمنين بهذه الديانة أو تلك، وجزء رئيس من تعريف الذات الدينية الجماعية والشخصية تقوم على تحديد الذات وبناء الحدود إزاء الآخر الديني والمذهبي داخل ذات الدين. كما أسلفنا، مع احتكارها الحقيقة الدينية الصحيحة من منظورها المذهبي أو اللاهوتى المسيطر.

من هنا نستطيع القول ان بناء الحواجز النفسية يعود أيضاً إلى عديد الاعتبارات وعلى رأسها ما يلي:

·        حماية المعتقدات والإيمان بالدين من الاختلاط أو المقارنات إلا من ذوى الاختصاص والخبرة في مقارنات الأديان على محدودية أعدادهم.

·         الخطابات حول الدين وشروحه وتأويلاته وفقهه ولاهوته وتعاليمه تقدم في بعض الأديان كمطلق فوق التاريخ وسياقاته وظروفه وفاعليه ومصالحه الوضعية.

·        مكانة رجال الدين الاجتماعية تعتمد على النظرة الإطلاقية والمثالية الميتاوضعية حول المعتقد والإيمان وصوابية وسرمدية وتعالى الشروح الوضعية لهذه المعتقدات والقيم وخصوصياتها، والتركيز على أنها تختلف عن الأديان الأخرى أياً كانت.

·         إن عملية بناء الحواجز النفسية، هى إحدى آليات الهيمنة على الحقل الديني من رجال الدين الذين ينتمون إليه، ويتولون شرحه، ورعاية شئون اتباعه، والدفاع عنه.

·        في بعض الحالات لعبت بعض الأديان عبر بعض رجالها ومؤسساتها وسلطاتها الدينية والمذهبية دوراً سلبياً في إشاعة التعصب الديني، والتطرف، والتزمت، ومن ثم نفي الآخر حيناً أو الحض على كراهيته في عديد الأحيان، أو إشاعة الحذر من التعامل معه، وفي بناء صور نمطية سلبية حوله، وهو الأمر الذى ساهم، ولا يزال مع عوامل أخرى – مناهج تعليم الدين، أزمات وتوترات اجتماعية، ونزعة الاستعلاء الديني، والتوظيف السلطوي والمؤسسي للأديان والعقائد والتأويلات الوضعية في العمليات السياسية والتعبئة والشحن النفسي – على الحث والتحفيز على تطرف بعض الغلاة من المنتمين لهذا الدين، وهو ما بدى واضحاً في عديد العقود منذ هزيمة يونيو 1967، والعقود الثلاثة بعد حرب أكتوبر، وحتى العشريتين الأولى والثانية الحالية من القرن الحادي والعشرين، مع الظهور العنيف الذى صاحب صعود الحركة الإسلامية السياسية الراديكالية من مثيل الجهاد والجماعة الإسلامية، والقاعدة وداعش، والإخوان المسلمين والسلفيين، لاسيما السلفية الجهادية في شمال إفريقيا، وبوكوحرام ... إلخ.

·        هذه البيئة المترعة بخطابات العنف اللفظي والرمزي، وأنماط العنف السياسي، والاجتماعي، أدت إلى توظيفات سياسية واجتماعية لأنماط من التأويلات الدينية الوضعية المتطرفة والعنيفة والإرهابية في بعضها على نحو ما تم في مصر وغالبُ بُلدان الإقليم.

إن أخطر ما حملته هذه الجماعات الإسلامية الراديكالية، تمثل فيما يلي:

·        إشاعة تصورات وتأويلات وضعية تمامية ومغالية في فهم الدين اعتماداً على بعض الموروثات الفقهية والتاريخية ونزعها من سياقاتها، وإعادة إنتاجها في واقع موضوعي وتاريخى مغاير، وسياقات وأسئلة مغايرة عن الأصل التاريخي لهذه المنظومات التأويلية الوضعية المسيسة.

·         إعادة إنتاج الصور السلبية حول الآخر الديني والمذهبي، وتم إنتاج نمط من المذهبية المسيسة، والأخطر هو اللجوء إلى الخطاب التكفيري واستسهال وصم المغايرين دينياً ومذهبياً وسلوكياً وقيمياً بالخروج عن الملة وفق التعبير الذائع لديهم. لا شك في أن النزعة إلى تكفير المغايرين والمخالفين في الدين والمذهب والرأي السياسي والاجتماعي، أدى إلى إشاعة التطرف والنزعة الإرهابية، وتأجيج التوترات الاجتماعية، وتحويل الخلاف والشجارات الاجتماعية العادية واليومية إلى مصادر لإنتاج العنف الطائفي.. من ناحية أخرى استسهال الحكم الديني التأويلي على بعضُ الكتاب والفنانين والصحفيين والروائيين بالكفر مما سهل عملية تحريض بعض أحاد الجمهور البسيط على الاعتداء على بعض الكتاب والصحفيين كما حدث في قتل فرج فودة، والاعتداء على عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، وآخرين.

·         المناهج التعليمية المقررة على طلاب التعليم الديني – تقوم على التلقين والحفظ والتكرار وإنتاج العقل النقلي، وفي العقود الست الماضية تراجعت بعض الأصوات الاجتهادية وتوارث داخل الأزهر، وتغلغلت جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين بين بعض طلاب وأساتذة الأزهر، واتسم الإنتاج الفقهي والإفتائي والتفسير بالميلُ نحو التشدد المذهبي المسيس، والغلو التأويلي والتفسيري للنصوص الدينية، والاعتماد على بعض غلاة المفسرين التاريخيين للنصوص الدينية في المذهب السني، تحت إعلام السلفية المتشددة، والمذهب الأشعري في منحاه الأصولي والمحافظ.

·         ازداد تشدد بعض الغلاة من الأزهريين الأساتذة والطلاب كنتاج لتمدد الفقه الوهابي والسلفي، بعد ثورة عوائد النفط في أعقاب حرب أكتوبر 1973 وما بعدها.

·         أدى توظيف النظام التسلطي للدين في العمليات السياسية، وكأحد مصادر شرعية النظام إلى بروز صراع على الدين ويه في السياسة والحياة الاجتماعية وبين النظام والمعارضة الإسلامية السياسية والراديكالية، وهو ما أدى إلى صراع تأويلات دينية تزايد على بعضها بعضاً في التشدد، ودخلت المؤسسة الدينية كطرف مساعد للدولة والنظام الحاكم وداعم لها، ولكنه استنفر بقايا قواها لأنها أصبحت طرف في الصراع على الإسلام وبه في السياسة والحياة اليومية. أدى ذلك إلى تشدد أطراف الصراع على الإسلام في إنتاج الأفكار والآراء الدينية الوضعية التأويلية، بحيث يمكن القول ان حرب التأويلات المتصارعة ساهمت في تديين المجال العام.

·        أدت نزعات الغلو الديني التأويلي الوضعي إلى سعى جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين إلى أسلمة المجال العام من خلال ممارسة الضغوط الدينية لفرض نظام للزنى ذي محمولات ووجوه دينية من خلال النقاب والإسدال، للسيطرة على جسد المرأة المسلمة، وتديين المجال العام.. من ناحية أخرى أدى ذلك إلى إبراز التمايز في المجال العام بين المسلمات وغير المسلمات من السيدات والفتيات المصريات المسيحيات، وهو ما أدى إلى شروخ في ثقافة التعايش الوطني المشترك بين المصريين أياً كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية. وهى بيئة ولدت التوترات والتطرف اللفظي والإشاري والسلوكي والفكري، وذلك على الرغم من صدور فتاوى دينية إزاء النقاب لا تعتبره جزءًا من العقيدة الإسلامية.

·        أدى الغلو في الأفكار وأنماط السلوك، والسعي إلى أسلمة لغة الخطاب اليومي إلى تشجيع بعض أنماط التطرف على أساس الانتماء الديني والمذهبي، وإلى تزايد معدلات العنف الطائفي في عهود السادات، ومبارك، وفي ظل حكم جماعة الإخوان والسلفيين، من خلال تحول الشجارات اليومية إلى نزاعات طائفية.

·        في ظل هذه البيئة الدينية والمذهبية التمامية المتشددة والمحافظة اجتماعياً شاع التطرف الديني الفكري والسلوكي، والسؤال. المطروح هو ما دور الدين في الوقاية من التطرف؟

·        من الممكن لنمط اعتدالي من الخطابات والأفكار الدينية المعتدلة أن تساهم في تخفيض معدلات التطرف الديني والسياسي والطائفي، لاسيما في ظل مشاكل ممتدة للتطرف والعنف ذي الوجوه الدينية والطائفية وبعضه طائفي، وآخر إرهابي كما يبدو في ممارسات القاعدة وداعش وبوكو حرام ونظائرهم وأشباههم.

·        من هنا يشكل إصلاح الفكر أولوية ومعه الخطابات الدينية في بنياتها ومراجعها وتأويلاتها والاجتهاد المعاصر داخلها. والمدخل هو إصلاح المؤسسة الدينية الرسمية، وتطوير نظام التعليم المدني والديني معاً للوقوف في مواجهة الأفكار الدينية المتطرفة والجماعات والمؤسسات الحاملة لها.

·        من هنا لابد من وضع سياسة دينية تجديدية أو إصلاحية في الظروف الحالية تتبنى قيم المواطنة وحريات الرأي والتعبير والإبداع، والحرية الدينية، وذلك على النحو التالي:-

§        في الدول ذات الأنظمة السياسية التسلطية – مثل مصر والجزائر – يمكن تبنى سياسة دينية جديدة تعتمد على نمط اعتدالي في تقديم الشروح الدينية يتأسس على بعض الاجتهادات التاريخية للمشايخ لمحمد عبده، ومصطفي المراغي، ومحمود شلتوت، ومحمد عبد الله دراز، وعبد المتعال الصعيدي، وآخرين، سواء في التعليم المدني العام، أو التعليم الديني مع إحداث إصلاحات في التعليم الأزهري في المناهج والمواد المقررة، وفي إعداد ورش عمل حوارية لأساتذة الأزهر حول القضايا المتصلة بتطور الفكر الحديث وما بعده وما بعد بعده، وطبيعة المشكلات المعقدة التي تواجه الإنسان المعاصر، ومنطومات حقوق الإنسان، وحريات الرأي والتعبير والتدين والاعتقاد، وبعض اتجاهات النقد الأدبي والألسني لتبيان التمايزات بين الواقع وشخوصه وقضاياه والواقع في السرديات الروائية أو الشعرية أو المسرحية، الذى يتأسس على التخييل والمتخيلات، لمحاولة وقف عمليات التفتيش في داخل السرديات عن العبارات الجنسية، أو التعبيرات الإغوائية، أو اللادينية والتي أصبحت تهدد حرية الإبداع، وضرورة إلغاء الادعاء المباشر في قضايا الحسبة، وإلغاء النصوص العقابية في قضايا النشر واستبدالها بعقوبات مالية في قانون العقوبات، مع إلغاء النصوص الخاصة بازدراء الأديان التي طبقت على بعض الباحثين والدعاة والصحفيين والإعلاميين في مصر.

§         دمج الثقافة في التعليم الديني والمدني معاً من خلال تطعيم المناهج المقررة بها، وتدريب التلاميذ والتلميذات والطلبة والطالبات على الجدل التأويلي، من خلال النصوص المتميزة والاجتهادية، ومثالها كتابات عبد المتعال الصعيدي عن حرية الفكر في الإسلام، والحرية الدينية في الإسلام.

§        إدخال مناهج الفلسفة وتطور مدارسها، حتى الفكر الفلسفي المعاصر على الطلاب في جميع سنوات الدراسة في المرحلة الثانوية، في كل التخصصات، ومعها علم الاجتماع العام، وفي المعاهد الأزهرية، ثم في الكليات العملية كالطب والهندسة وطب الأسنان والعلوم، تلك التي ركزت الجماعات السلفية والإخوان المسلمين على التمدد داخلها، على نحو ما نشهد منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي وإلى الآن. الفجوة بين العلوم الإنسانية وبين العلوم الطبيعية لابد من تجسيرها في المناهج التعليمية في كل المراحل، بل لابد أن تتمدد مبادئ الفلسفة العامة والاجتماع إلى المراحل الإعدادية على نحو متدرجا، وهو ما سوف يكرس التوازن في تكوين شخصية الطلاب، والنظر إلى الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية المعاصرة التي تواجه الإنسان المصري والعربي في القرن الحادي والعشرين وتطوراته التقنية الهائلة على عديد الصعد.

§        إعداد منهج حول القيم الدينية والإنسانية المشتركة في الأديان المختلفة، وثمة دراسات ونصوص حولها قامت بها بعض المراكز والمنظمات الطوعية التي اهتمت بالمشتركات القيمية بين الأديان والمذاهب داخل كل دين. هذا المنهج يكون متدرج في مستوياته بحسب الفئة المستهدفة، والمرحلة التعليمية. ويمكن إعداد أفلام كارتونية وكاريكاتورية ورسومات توضيحية للأطفال، وأفلام تسجيلية تعرض للأطفال وتقدم لهم كجزء من الألعاب والهوايات.

§        إعداد مواد تعليمية لتصحيح صور الآخر الديني أياً كان في المناهج الدينية المقررة في ضوء الاجتهادات الدينية المعاصرة، والأهم التدريب على الممارسة النقدية لبعض الآراء المتشددة والمتطرفة في هذا الصدد.

§        إعداد دراسات بحثية تحليلية ونقدية على نماذج من أيديولوجيات التطرف الديني والإرهابي، لاسيما المعاصرة على تعددها واختلاف مسمياتها، وهى دراسات لا تعتمد فقط على النقد والتجريح الفقهي، وإنما من خلال مقاربات سوسيو – سياسية، وسوسيو- دينية ... إلخ، تقوم بها فرق بحثية متخصصة.

§        النشر الإلكتروني والورقي لكتابات المجددين والمصلحين الإسلاميين منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى الآن، وتبسيط بعض موضوعاتها وتقديمها للناشئة والطلاب والقراء عموماً، أو من خلال شروح بعض ما فيها.

§        تشكيل فرق إلكترونية لمتابعة السياسة الإعلامية، الرقمية لبعض المنظمات الدينية المتطرفة، والردود المتخصصة عليها، وضرورة تطوير مراصد الأزهر في هذا الصدد.

§        ضرورة إشراك بعض الطلاب في مؤتمرات للحوار بين المنتمين للأديان المختلفة حول القيم المشتركة والمشكلات التي تواجه الإيمان في عصرنا.

خاتمة
أدوار التربية والدين في الوقاية من التطرف، هى الوجه الآخر لكيف يمكن لأنماط من التربية والتدين أن تلعب أدواراً ومحفزات ومثيرات للحث والتحفيز على الفكر والسلوك المتطرف. ومن ثم تبدو أهمية دراسة الحالات حول مجتمعات محددة، وفئات اجتماعية وعمرية داخلها، استهدفت بالجذب نحو التطرف ولماذا؟

إن إصلاح المنظومات التربوية والدينية التأويلية يحتاج إلى إرادة سياسية نحو التجديد أو الإصلاح الديني والتربوي في بعض البلدان العربية القادرة على إنجاز ذلك من خلال كبار المثقفين المفكرين والمتخصصين في العلوم الاجتماعية، وبلا إرادة سياسية تغدو الحاجة إلى التجديد أو الإصلاح للفكر والخطابات الدينية محضُ شعار نمطى في خطابات اللغو السياسي الشائعة في عالمنا العربي.


دراسة مقدمة لندوة بيت المستقبل – بيروت 2017 - ونشرت في الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟