التوترات المُفتعلة واستراتيجيات المواجهة التركية الأوروبية
قبل عام أو أكثر، لم يكن ثم حديث تركى-أوروبي، إلا عن التفاوض حول مزيد من الترتيبات المتعلقة بمباحثات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن الحديث عن اتفاقية اللاجئين، التي تعهدت أوروبا بمقتضاها بإعفاء الأتراك من تأشيرة الدخول إلى القارة الأوروبية، مقابل لجم طوفان اللجوء والهجرة الذى مثل تهديدًا أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا حينها، لاستمرارية فتح الحدود بين دول القارة.
لكن العلاقة ما بين الطرفين انتقلت من النقيض إلى النقيض، غُلفت بأسباب عدة، دفعت إلى تأزم الحوار، ورغم أن العنوان الرئيسي للأزمة هو «التعديلات الدستورية المرتقبة في تركيا في إبريل المقبل»، فإن هناك ملفات أخرى متفجرة لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال، تتجاوز ما يتم تصديره من ورقة التعديلات الدستورية.
أولاً- ملفات خلافية تتجاوز أزمة التعديلات الدستورية
تبلورت في الآونة الأخير ملامح لأزمة تركية-أوروبية، تمثلت بالأساس في رفض بعض الدول الأوروبية تنظيم تجمعات للأتراك المقيمين لديها ليشارك فيها وزراء أتراك، بهدف الترويج للاستفتاء على التعديلات الدستورية المزمع إجراؤه في ١٦ إبريل المقبل، وذلك على الرغم من سماح هولندا بتدشين فعاليات للتيار الرافض للاستفتاء الدستوري، شاركت به شخصيات تركية معارضة، بما يظهر الخلاف مع تركيا، وترتب على ذلك ردود أفعال غاضبة من الجانب التركي.
وقد بررت الدول الأوروبية رفضها تنظيم التجمعات التركية لأسباب أمنية وحقوقية؛ فمثل تلك التجمعات بمثابة عمل يخالف القواعد الحقوقية فيها، وذلك وفق المادة ١٠ من اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية، التي تسمح بحظر أي حملات دعائية سياسية تابعة للدول الأخرى على الأراضي الأوروبية.
واستكمالاً لمُعطيات الأزمة؛ فقد أعلنت الدول الأوروبية عدم ارتياحها للتعديلات الدستورية التي يرون أنها تتناقض مع الديمقراطية، أي إن سياسات المواجهة الأوروبية مع نشاطات الحزب الحاكم في تركيا ليست أكثر من تعبير عن قلق أوروبي تجاه مستقبل الديمقراطية التركية، لكن بالمقابل نجد أن تراخى الموقف الأوروبي من عملية التحول الديمقراطي ودعم قوى الحرية والديمقراطية في دول ثورات الربيع العربي، فضلًا عن الموقف المتردد والمتأخر من المحاولة الفاشلة للانقلاب العسكري في تركيا، جميعها شواهد لا توحى بأي حرص أوروبي على الديمقراطية التركية.
المتابع للشأن التركي يستطيع الجزم بأن ثمة جدل كبير حول التعديلات الدستورية المُقترحة بتركيا، كما أن توجه الناخبين منقسم حول ما يعنيه تحويل نظام الحكم في البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي، وحتى اندلاع أزمة النشاطات الانتخابية بين تركيا من جهة، وألمانيا وهولندا من جهة أخرى، لم يكن هناك ما يشير إلى تبلور أغلبية تركية حاسمة مع إقرار هذه التعديلات، بما يرجح فرضية «أن هناك عددًا من الأسباب الأخرى التي تتجاوز مدى ديمقراطية تلك التعديلات من عدمه، ومنها تلك الملفات محل الخلاف الدائر بين الجانبين:
إعادة توجيه السياسة الخارجية التركية
عمد أردوغان إلى إعادة هيكلة الأولويات الخارجية وفقا لاستراتيجيات تنوع الأذرع الخارجية لضمان التواجد؛ فمنذ إعادة توجيه البوصلة الروسية لملفات الشرق الأوسط، وجدت تركيا ضالتها كمرتكز رئيس بملفات المنطقة، ساهم في ذلك تعميق العلاقات ما بين الطرفين في كل المجالات، والتي كان آخرها التعاون العسكري في المجال الصاروخي (صفقة الصواريخ S٤٠٠)؛ وذلك بالتزامن مع التقارب التركي المتصاعد مع الصين والهند وكوريا الجنوبية، التي باتت تتخذ مكانة متقدمة في السياسة الخارجية التركية، في ظل تراجع واضح في العلاقات التركية الأوروبية التي شابها الخلافات والمشكلات في ظل التوجهات التركية في أكثر من ملف شرق أوسطى مشترك مع الدول الأوروبية، وأبرزها ملفات مكافحة الإرهاب وتدفق اللاجئين والقضية الكردية، وهو ما يخالف استراتيجيات الدول الأوروبية ورؤيتها حول إعادة الدور التركي الذى قامت به أنقرة أبان الحرب الباردة كحائط الصد الأول الذى يفصل بين أوروبا الغربية الليبرالية ودول الاتحاد السوفياتي الشيوعية، فالاتحاد الأوروبي يسعى لدفع تركيا كحائط صد يفصل بينه وبين دول الشرق الأوسط بكل ملفاته المتداخلة.
مفاوضات تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبى
إلحاقًا بتعثر ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وتزامنًا مع الأزمة المفتعلة، أعلن الاتحاد الأوروبي قرارًا بوقف مساعداته المالية لتركيا بعد فشلها في تحقيق تقدّم في الملفات المطلوبة، كخطوة نحو حصولها على عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها الملفات الحقوقية.
الجدير بالذكر، أن الاتحاد الأوروبي قد قدّم لتركيا مساعدات مالية بقيمة ١٦٧ مليونًا و٣٠٠ ألف يورو، من أصل مساعدات كانت مقررة بنحو ٤ مليارات و٤٥٠ مليون يورو، في الفترة بين عامي ٢٠١٦ و٢٠٢٠، وذلك لتوفيق ملفاتها الحقوقية بما يتناسب مع عضوية الاتحاد الأوروبي كدولة مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي، وكنتيجة للتراخي التركي والابتعاد عن الواجهة الأوروبية، أعلنت بروكسل أن مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي توقفت بشكلٍ فعلى، نتيجة عدم فتح أي ملفات جديدة، بما يُعد محورًا ضمنيًا آخر لافتعال الأزمات التركية-الأوروبية.
المخاوف الأوروبية من سلطوية «العثمانية الجديدة»
التعديلات الدستورية التي طرحها الرئيس التركي من شأنها العمل على تحويل تركيا لنظام حكم شمولي، مُرسخة بذلك نظام الحزب الواحد وحكم الفرد، وبالتالي فالأحزاب المعارضة التركية أصبحت مجرد أحزاب كرتونية ليست لها قواعد انتخابية فاعلة، فضلًا عن محدودية تأثيرها وانحياز بعضها للحزب الحاكم، كأحزاب «الحركة القومية، الوطن».
التعديلات المُقترحة من شأنها أن تزيل أو تهمش ضوابط وتوازنات ضرورية في هوية النظام التركي، وطبيعة العلاقة بين مؤسساته وهياكله، بما أدى إلى دعوة لجنة المتابعة لدى «الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا PACE» إلى وضع تركيا «تحت التدقيق رسميا»، وهو الإعلان الذى يمهد لضمها لقائمة الدول غير الديمقراطية، حيث أكدت اللجنة في تقريرها، أنه تم اعتقال وفصل نحو ٢٥٪ من القضاة وأعضاء النيابة العامة، و١٠٪ من قوات الشرطة و٣٠٪ من الدبلوماسيين و٥ آلاف أكاديمي في تركيا، بعد محاولة الانقلاب الفاشل دون اللجوء للقضاء، مما يعد مؤشرًا لتدهور آليات عمل المؤسسات الديمقراطية في تركيا.
الجدير بالذكر، أن من أبرز المواد المقترحة تنص على رفع إجمالي عدد النواب في البرلمان التركي من ٥٥٠ إلى ٦٠٠ نائب، وتمنح التعديلات الرئيس الحق في تعيين نصف أعضاء مجلس القضاء، وتعيين مجلس الوزراء وتعديل الحكومات، وتلغى منصب رئيس الوزراء، وفي حال الموافقة على التعديلات في الاستفتاء، يمكن أن يحكم أردوغان تركيا حتى عام ٢٠٢٩ وفقًا للعديد من التحليلات السياسية المتداولة.
الجدال التركي-الأوروبي حول اتفاقية اللاجئين
ما زالت تركيا تتعمّد استخدام ورقة اللاجئين للضغط على الأوروبيين في كل أزماتهم المُفتعلة، وهو ما يدفع بالتحرك الأوروبي المضاد حماية لأمنها القومي وحفاظًا على خريطتها الديموغرافية. على أثر ذلك؛ ففور اشتعال الأزمة هدد الرئيس التركي بإلغاء الاتفاق المُبرم مع الاتحاد الأوروبي، لكبح الهجرة غير الشرعية، وتدفق اللاجئين لأوروبا، كما هدد بترحيل ٤٠٠ ألف لاجئ شهريًا لأوروبا. ووفقًا للاتفاق الذى تم توقيعه في مارس ٢٠١٦، تحصل تركيا بموجبه على ما يقرب من ٦ مليارات دولار، فضلًا عن إعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة الدخول إلى البلدان الأوروبية، مقابل حل مشكلة اللاجئين وتوطينهم داخل حدودها، بيد أن الاتفاق منذ ذلك الحين لم ينفذ بدقة، وتم انتهاكه من قبل الطرفين، فلم يقدم الاتحاد الأوروبي المساعدات المالية المتفق عليها، وكذلك لم تتمكن أنقرة من منع هجرة اللاجئين بشكل كامل.
الجدال حول الدعم الأوروبي للأكراد
الملف الكردي من أكثر الملفات الحيوية خارجيًا لدى النظام التركي، وخاصة ما يتعلق بإنشاء كيان كردى على حدودها، بالمقابل تهتم الدول الأوروبية، لاسيما ألمانيا، بتقديم دعم لوجيستي لحزب العمال الكردستاني الذى توجد له قواعد سياسية وإعلامية بالدول الأوروبية، لكن في ظل المطالب التركية المتعددة بوقف الدعم الألماني للأكراد، أصدرت برلين قرارًا بحظر شعارات حزب العمال الكردستاني، ومنع نشر صور زعيمه عبدالله أوجلان في التجمعات الكردية بألمانيا.
الجدير بالذكر، أنه، على الرغم من تصنيف ألمانيا لحزب العمال الكردستاني على أنه منظمة إرهابية منذ عام ١٩٩٣، فإنها تسمح لعدد كبير من القنوات الإعلامية والمراكز البحثية والأحزاب الكردية بالتواجد والعمل على أراضيها، مُصدرة بذلك ورقة «المؤازرة الأوروبية للقضية الكردية وللمواطنين الأكراد الذين يتعرّضون لانتهاكات جمّة لحقوقهم في تركيا وإيران، لكنها سياسيًا تستخدم الملف الكردي كورقة ضغط لتسوية مصالحها مع الطرف التركي.
التوتر التركي مع حلف شمال الأطلسي «الناتو»
اتسمت العلاقات التركية مع حلف الناتو بالتوازن، وتُرجم ذلك بدعوة الأمين العام لحلف الناتو لكلٍّ من تركيا وهولندا، بتخفيف حدة التوتر بينهما، خاصة أن البلدين أعضاء في الحلف، وذلك استنادًا للعقيدة العسكرية للحلف، والتي مفادها أن الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها بعضًا، ولذا فالتصعيد المستمر بين أعضائه ليس من مصلحة الحلف في شىء، بل إنه يمثل تهديدًا له، ويؤثر بشكل غير مباشر على عمل الحلف، خاصة أن الجيش التركى بقوامه الذى يبلغ مليون جندي، هو ثاني أكبر جيش بالناتو.
التصعيد التركي ضد حلف الناتو تمثل في إيقافها التعاون مع «النمسا» الشريكة في الحلف، ردًا على إلغاء فيينا اجتماعًا لوزير تركى، ما خلق أزمة مع «الناتو» أكد من خلالها أن القرار التركي بوقف التدريب العسكري لن يمس النمسا فحسب، بل سيطال دولاً أخرى ليست أعضاء في الحلف، ودعا تركيا والأطراف الأوروبية -للمرة الأولى- لحل خلافاتهم سريعًا حتى لا يتأثر العمل داخل الحلف.
ثانياً- مسارات الأزمة
على الرغم من أن سريان الأزمة وتبعاتها المختلفة ما بين الجانبين التركي والأوروبي، وما لحق ذلك من تدخل أطراف أخرى، كحلف الناتو واستهجانه المُعلن من الأزمة وتبعاتها؛ فإن بداية خلق الأزمة وأسبابها المُعلنة والضمنية، توحى للمتابع للشأن الدولي بأن مسارات الحل ستنحصر بدورها في التالي:
المسار الأول: انتهاء الأزمة بعد النصف الأول من إبريل ٢٠١٧، أي بعد انتهاء الاستفتاء على التعديلات الدستورية بتركيا، وهو على الأرجح ما سيحدث لأن الدافع الرئيسي للتصعيد سيكون قد انتهى بانتهاء الاستحقاقات الانتخابية التركية.
السيناريو الثاني: انتهاء الأزمة الحالية مع استمرار الخلافات والملفات العالقة بين الطرفين، حيث إن تلك الملفات جميعها محل خلاف بينهما كملف الإرهاب واللاجئين، ومن الصعب التوصّل إلى حلها جميعًا، خاصة أن الخلاف حولها لم يُحسم نتيجة عدم حسم ملفاته بالشرق الأوسط.
السيناريو الثالث: تدخل الأطراف الأوروبية والدولية، والعمل على احتواء الأزمة وتقريب وجهات النظر بين تركيا والدول الأوروبية، فضلًا عن تدخل حلف الناتو الضاغط، والقوى الكبرى التي لا ترغب في تصعيد الأزمات بين طرفي الأطلسي حتى لا تؤثر سلبًا على الملفات المشتركة بينهما في الشرق الأوسط، خاصة ملفي الإرهاب واللاجئين؛ وهو المسار الأقرب للحل بشواهده المُختلفة، والتي في مقدمتها تصريحات رئيس الوزراء التركي الأخيرة «بن على يلدريم» بعدم رغبة بلاده في قطع العلاقات مع هولندا تمامًا.
تأسيسًا على ذلك
نتيجة للتحديات الدولية والإقليمية المشتركة، فإن الطرفين التركي والأوروبي كلاهما بحاجة للآخر؛ فالاتحاد الأوروبي بحاجة لتركيا لتسريع حل أزمتي الإرهاب واللاجئين، والبقاء على نفوذه العسكري والسياسي في المنطقة، وتركيا بحاجة إلى الاتحاد الأوروبي لتشكل عنصر موازنة بدعم رؤيتها حيال حل الأزمة السورية.
الاتحاد الأوروبي يُدرك إمكانية مخاطر تعرضه لنتائج سلبية في حال ما إذا سمحت تركيا للاجئين بالانطلاق نحو بلدانها، وقد تتأثر تركيا سلبًا في حال تخلى الاتحاد الأوروبي عن دعمها في موقفها من حل الأزمة السورية، لا سيما في ظل ظهور بعض ملامح التنسيق الروسي-الأمريكي في سوريا، تحديدًا في منبج، أما التداعيات الإيجابية من هذا التوتر، فبالنسبة للدول الأوروبية ستشكل تلك التوترات بيئة خصبة لتصاعد النعرات القومية الشعبوية وفرض أجندات الأحزاب اليمينية على الشارع الأوروبي، خاصة في ظل الانتخابات المرتقبة؛ بينما بالنسبة لتركيا فتتمثل في ضمان مرور الاستفتاء الشعبي لصالح النظام الرئاسي، فضلًا عن مزيد من التفاهمات السياسية مع الجانب الروسي، في ظل تصعيدات مؤقتة لا ترمى لأى تهديد للأجندات الثنائية التركية- الأوروبية.