مجتمع المخاطر: فيروس الجوع، وخبرات الكوليرا
في العام 1985 نشر الكاتب الكولومبي الشهير جابرييل جارسيا ماركيز رواية "الحب في زمن الكوليرا" باللغة الإسبانية El amor en los tiempos del cólera، وقد تم معالجتها سينمائيًا في فيلم يحمل عنوان الرواية نفسه. وربما يكون أهم ما في هذه الرواية هى تلك الحيرة التي نجد أنفسنا غارقين فيها منذ بداية الرواية حتى آخرها. وإن الدهشة التي أصابتنا في "مائة عام من العزلة" لكفاءتها العالية، تصيبنا عند قراءة هذه الرواية. غير أنها قادمة من طرق أخرى. هنا كل شئ ممكن، كل شئ يتحول إلى الممكن، ويظهر بعد معرفة الأحداث بأنه لم يكن بالإمكان حدوثها بشكلٍ آخر. أما الفكرة الثابتة في هذه الرواية فهي أنها "رواية حب"، ويكتب المؤلف عن روايته فيقول: "إن هذا الحب في كل زمان وفي كل مكان، ولكنه يشتد كثافة كلما اقترب من الموت.
غير أنه في مصر لم يكتشف المؤرخون والأدباء الحب من أي نوع في زمن الكوليرا، بل إن المؤرخين والصحف السيارة فيما بعد أرخت ووثقت لحظات انتشار مرض الكوليرا أو الطاعون مصحوبًا بالجوع والقتل والسلب والنهب، لم يكن في الأمر حبًا بل كان في الأمر حزنًا وجشعًا للتجار وشُحًا للأقوات وتحولاً للبشر إلى وحوشٍ طليقة في الطرقات.
ففى عام ١٣٤٨ اجتاح الطاعون العالم، وسماه المصريون الوباء الأصفر. كان هذا فى دولة المماليك البحرية بعد عام من سلطنة الملك الناصر حسن الأولى، وقد سماه المصريون أيضا "الموت الأصفر"، وقد بدأ فى أواسط آسيا ثم انتقل إلى شبه جزيرة القرم ومنها إلى جنوة عن طريق البواخر ثم انتشر فى أنحاء أوروبا وقيل إنه لما وصل إنجلترا حصد أرواح نصف مواطنيها.
أولاً- الموت في زمن الكوليرا
يقول ابن إياس إنه كان يخرج من القاهرة كل يوم ما يزيد علن ٢٠ ألف جنازة وبلغ عدد من ماتوا بين شهريْ شعبان ورمضان نحو ٩٠٠ ألف، ولم يُزْرَع من الأراضى الزراعية فى هذه السنة إلا القليل بسبب موت الفلاحين، فوقع الغلاء وكادت مصر تخرب فى تلك السنة. أما أبو المحاسن فيقول نقلاً عمن عاشوا بعد "شُوطة" هذا الوباء: فما إن أهل ذو القعدة إلا والقاهرة خالية مقفرة لا يوجد بشوارعها مارٌ لاشتغال الناس بالموتى وامتلأت الأماكن بالصياح؛ فلا نجد بيتًا إلا وفيه صيْحة ولا تمرُ بشارع إلا وترى فيه عدة أموات. وفى يوم الجمعة بعد الصلاة على الأموات فى جامع الحاكم صُفَت التوابيت من باب مقصورة الخطابة إلى باب الجامع، ووقف الإمام على العقبة والناس خارج الجامع، وكان يُدْفَنُ فى الحُفرة ثلاثين أو أربعين.
وفى عام ١٤١٦ داهم الطاعون مصر ثلاث سنوات انتهت فى عام ١٤١٩. ولم تكد تمضى ١٥ عامًا وتحديدًا فى العام ١٤٣٠ حتى تفشى الطاعون من جديد فى عهد سلطنة الملك الأشرف برسباى، ومات بسببه عددٌ هائلٌ من الناس حتى إن ابن إياس يقول: "مات فى يوم واحد ٢٤ ألفاً"، وكان ممن ماتوا الخليفة العباسى المستعين بالله. وفى العام ١٤٥٩ داهم الطاعون مصر قادمًا من الشام وكان شديدًا إلى الحد الذى هلك به ثلث المماليك والأطفال والجواري والعبيد والغرباء. وفى سلطنة الملك الأشرف قايتباى العام ١٤٧٦ تفشى الطاعون فى مصر وهو الوباء الثانى الذى وقع فى سلطنة قايتباي، ومات به عددٌ كبيرٌ من الأمراء والأعيان والكبراء والعامة والفقراء. وللمرة الثالثة فى دولة الأشرف قايتباى داهم الطاعون مصر فى العام ١٤٩٠.
ثانيًا- التفسير الديني والسياسي للكوليرا
لدى ابن إياس تفسيرًا سياسيًا ودينيًا لتكرار تفشي الطاعون فيقول "كَثُرَ بمصر الزنى واللواط وشرب الخمر وأكل الربا وجَوْر المماليك فى حق الناس". يقول ابن إياس هذا معتمدًا على الحديث النبوى الذى يقول "مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِم الزِنَا إلا أُخُذِوا بالفَنَاء". وفى سلطنة الملك الأشرف قنصوه الغورى العام ١٥٠٥ تفشى الطاعون وبلغ ضحاياه فى اليوم الواحد أربعة آلاف، فأظهر الغُورى ميلاً إلى العدل والورع تقربًا لله ليرفع البلاء؛ فأبطل الضرائب ودعا الناس للإقلاع عن المعاصى. وفى العام ١٥١٣ فى سلطنة الغورى اجتاح الطاعون مصر ومات كثيرٌ من الأمراء والكبراء، بل أُصيب الغُورى بمرضٍ فى عينيْه وتناقل الناس شائعة تقول إنه فقد بصره، وكعادته عاد الغُورى مع اشتداد الأزمة إلى ورعه ودعوة الناس لهجر المعاصي.
وحين غزا نابليون بونابرت مصر واتخذ التدابير الصحية وكان من بينها إنشاء المحاجر والكورتينات الصحية فور وصوله إلى الإسكندرية، وحينما وصل القاهرة أقام حجرًا صحيًا فى بولاق وأنشأ مستشفيات عسكرية وأخرى للأهالى، حتى إنه فرض على الأهالى نشر فروشهم على الأسطح لتعريضها للشمس والهواء وعين مشرفين خصيصًا لهذا الأمر.
وفى العام ١٨٣١ ومع نشوب نزاع بين والى عكا عبدالله باشا الجزار ومحمد على باشا، قرر محمد على تجريد حملة لتأديب الجزار، غير أنه مع حلول صيف ذلك العام داهم مصر وباء الكوليرا واستشرى فى البلاد لمدة ٣٤ يوماً وحصد ما يقرب من ١٥٠ ألف نسمة، وامتد إلى الجنود الذين مات منهم خمسة آلاف، ومع انتهاء الوباء استأنف محمد على حملته.
وعرفت مصر أهوال الكوليرا عام 1883 حينما اكتشف الطبيب روبرت كوخ سبب ذلك الوباء الأسود الذى قبض أرواح أربعين ألفا من المصريين العزل. وفى مستشفى الإسكندرية الأميرى استطاع "كوخ" عزل ميكروب الكوليرا لأول مرة.
ثالثًا- اليوم السادس: الكوليرا في عام 1947
لا زال كبار السن الآن يذكرون وباء الكوليرا الشهير الذي ضرب مصر في العام 1947؛ فقد كانت والدتي المولودة عام 1936 تبلغ من العمر أحد عشر عامًا، وكانت مخطوبة لأبي في ذلك الوقت المبكر كعادة أهل الريف، وتذكر جيدًا تفاصيل ذلك الوباء، والذى انتقل من الهند عن طريق بعض جنود الاحتلال الإنجليزى الذي كان يجثم على نراب هذا الوطن في تلك الفترة، وكانت الهند هى الموطن الأصلي للكوليرا والفقر المدقع في آنٍ واحد.
أيًا كان الأمر، فقد انتقل الوباء إلى مصر عن طريق اثنيْن من الجنود فى معسكرات الجيش الإنجليزى في "التل الكبير" بالإسماعيلية على حدود محافظة الشرقية، وكان هذان الجنديان عائديْن من الهند، وانتقلت العدوى بعدها إلى اثنيْن من الفلاحين فى قرية "القرين" التابعة لمركز فاقوس بمحافظة الشرقية، وتم تشخيص المرض وقتها على أنه تسمم غذائي، لكن بعد يوميْن ساءت حالة الإصابتيْن ونُقلتا للمستشفى العام، ولم يمضي سوى يوميْن حتى مات سبع حالات، فانتفضت وزارة الصحة وأرسلت فرقًا طبية على أعلى مستوى، لتكتشف هذه الفرق الطبية على الفور من أن تلك الحالات هى مرض الكوليرا.
رابعًا- الجيش والشرطة يكافحان فيروس الكوليرا
تعاملت الدولة المصرية – وفي القلب منها الجيش والشرطة - بكثيرٍ من الحرص والوعي لمحاصرة الوباء الملعون؛ فقد قامت قوات الجيش والشرطة بمحاصرة قرية "القرين"، ومنعت الدخول إليها أو الخروج منها، وقامت بعزل الحالات المصابة فى عنابر معزولة عن سائر عنابر المستشفى وشيدت معسكرات خاصة لعزل الحالات المصابة، وتعقيم منازل المصابين بعد عزلهم و التحفظ على المتعلقات الشخصية لهم لحماية سائر أفراد الأسرة، وزيادة نسبة الكلور فى المياه العمومية، وتوصيل عربات مياه معقمة للمناطق الموبوءة التى لا تتمتع بخطوط مياه صحية، ومنع الاستحمام أو غسل الملابس فى الترع نهائيًا.
كما قامت قوات الجيش والشرطة بمنع أية فتحة أو مصب يصب مياه أو أية مخلفات فى الترع والمصارف، وإزالة القُلَل والأزيرة وأية وسيلة للشرب في الأماكن العامة والطرقات فى القرى المُصابة، ومنع حمامات السباحة العامة، وإغلاق العيادات الخارجية فى المستشفيات فى المناطق الموبوءة، ومنع بيع أى طعام أو شراب يتم تحضيره أو إعداده بالأسواق وأماكن التجمعات أو المطاعم، وتم التنبيه بأن يقوم كل واحد بتحضير طعامه فى بيته، ومنع انتقال الخضروات والفواكه بين المناطق إلا بعد غسلها بالكلور المائي، ونقل القمامة فورًا، ورش القرى باستمرار بالمبيدات الحشرية للقضاء على الذبابة الناقلة للمرض.
وعزلت قوات الجيش والشرطة الوجه القبلى عن الوجه البحري ووضع المتاريس على مشارف العاصمة القاهرة من اتجاه محافظة القليوبية عن قريرة مسطرد، ومن أراد الانتقال عليه أن يمكث 6 أيام تحت الملاحظة، وتم تطبيق الحظر على كل وسائل المواصلات بما فيها القطارات، وعدم الانتقال بين مدينة وأخرى خصوصًا من أراد أن يدخل المدن الكبرى مثل القاهرة إلا بتصريح من وزارة الصحة عليه صور الاشخاص المصرح لهم. ولم يكن وقتها يوجد علاج إلا الفاكسين ولم يكن يوجد كمية كافية فتم قصر استعماله للمرضى الفعليين والفريق الطبى، ثم تم بعد ذلك استيراد المصل وإعطائه لسكان المناطق الموبوءة والمشتبه فيها، مما أدى إلى القضاء على الوباء. وكانت إجمالى الإصابات بهذا الوباء 20805 مات منهم 10276، ولولا جهود الجيش والشرطة ووزارة الصحة وتعاون الأهالي، لبلغ عدد الضحايا أضعاف أضعاف هذا العدد.
وكانت أول خريطة تنشرها صحيفة "أخبار اليوم" منذ بدء صدورها في 11 نوفمبر 1944، هى تلك الخريطة التي نشرتها في عددها الصادر يوم السبت الموافق 27 سبتمبر 1947عن مسار انتشار وباء الكوليرا، وتوضح الخريطة كيف نشأ الوباء في معسكرات الجيش بالتل الكبير، ثم كيف امتد الوباء إلى أقرب قرية مجاورة وهى قرية "القرين" بمحافظة الشرقية ليمتد بعد ذلك إلى بلبيس بالشرقية والتي تقع بالقرب من حدود محافظة القليوبية ليواصل الوباء انتشاره بطول ترعة الإسماعيلية غلأى قرية أبو زعبل ثم قرية مسطرد على حدود القاهرة، حيث وضعت المتاريس لمنع دخول المُصابين بالوباء إلى القاهرة. ورغم ذلك استطاع الوباء التسلل إلى القاهرة، ولولا الإجراءات الصحية لحصد مئات الآالاف من البشر.
وقد جسد المخرج الكبير الراحل يوسف شاهين انتشار وباء الكوليرا في العام 1947 في فيلمه "اليوم السادس" الذي أنتجه وأخرجه وكتب له السيناريو والحوار عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة الفرنسية "أندريه شديد". يحكي الفيلم قصة سيدة "صِدّيقة" وصراعها مع مرض ابنها بالكوليرا وذلك أثناء حكم الملك فاروق. ويصف الفيلم بطريقة درامية كيف أن كل من حولها يختفي بفعل هذا الوباء. وتحاول إخفاء ابنها عن أعين الناس لمدة ستة أيام، والتي يفترض بعدها أن ينجو ابنها من المرض. وكانت محاولة إخفاء ابنها خشية أن يبلغ عنه أحد السلطات التي كانت تجمع مرضى الكوليرا في مخيمات لا يعود منها أحد على حد وصف الفيلم.
خامسًا- مفارقات مذهلة بين فيروسيْ الكوليرا 1947 والجوع 2017
إن الكوليرا في مصر لم تكن أبدًا مقرونةً بالحب كما كان الحال في رواية جابرييل جارسيا ماركيز، بل كانت مرتبطة بالموت والجوع والحزن، أما العلاقة بين ماحدث من انتشار فيروس الكوليرا في العام 1947 وانتشار فيروس الجوع في العام 2017 فهى علاقةٌ وثيقة لأن الحدثيْن بينهما عديدٌ من القواسم المشتركة التي نستطيع أن نتبينها ببعض التحليل للظواهر الحاكمة لكلا الحدثيْن علاوةً على طبيعة الأحداث المصاحبة لهما.
لا بد أن ندرك أن كلا الفيروسيْن سريعا الانتشار، ويصعب التحكم فيهما إذا هما خرجا عن السيطرة، مما قد يخلف ضحايا كثيرين، وتُعرف عملية انتشار الفيروس بالعدوى، التي يمكن أن تنتقل من مكانٍ إلى آخر، مما يلزم معه بذل مجهوداتٍ ضخمة لمحاولة السيطرة على الأماكن الموبوءة.
والقاسم المشترك في طريقة انتشار فيروس الكوليرا في العام 1947 وفيروس الجوع في إوائل العام 2017 هو أن كلا الفيروسيْن سلكا طريقًا واحدًا في أسلوب انتشار العدوى؛ فكلاهما ظهر لأول مرة في قرية "القرين" والتي أصبحت الآن مدينة بمحافظة الشرقية بالقرب من محافظة الاسماعيلية، حيث قام أهالي مدينة “القرين” في الثامن من فبراير الماضي باقتحام سيارة تموين كانت محملة بالسلع ونهب ما كانت تحمله من زيت وسكر وأرز قبل تخزينها، وقام الأهالي برصد السيارة وتجمهروا حولها ولم يتمكن السائق من السيطرة على الموقف .وذكر شهود العيان أن الفوضى كانت كبيرة والوضع كان سيئًا للغاية، فعلى الرغم من أن المواطن من حقه الحصول على كيس سكر، كان المواطن يحمل “باكت” سكر بيدٍ واحدة به 10 كيلو سكر .
وضرب فيروس الكوليرا عام 1947 وفيروس الجوع عام 2017 بعد "القرين" منطقة بلبيس بمحافظة الشرقية أيضًا، ولم يفصل بين الحدثيْن سوى أيام؛ حيث ظهرت ملامح فيروس الجوع في قرية "الجوسق" التابعة لدائرة مركز بلبيس، حيث قام الأهالي بالاستيلاء على سيارة محملة بـ55 طن سكر تموينى قبل توزيعها على تجار التجزئة بالقرية. وأكد الأهالي أن غلاء الأسعار ونقص المواد التموينية وجشع التجار وتخزينهم للمواد الغذائية، هو ما دفعهم للاستيلاء على حمولة السيارة بالقوة، ليدقوا ناقوسَ خطرٍ بمزيدٍ من الانتشار لفيروس الجوع الذي يلتهم البطونَ الخاوية.
وإذا كان لابن إياس تفسيرًا سياسيًا ودينيًا لتكرار تفشي الطاعون حيث يقول "كَثُرَ بمصر الزنى واللواط وشرب الخمر وأكل الربا وجَوْر المماليك فى حق الناس"، معتمدًا على الحديث النبوى الذى يقول "مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِم الزِنَا إلا أُخُذِوا بالفَنَاء"، وإذا كان الملك الأشرف قنصوه الغورى عند تفشي الطاعون في العام 1505 ميلادية أظهر ميلاً إلى العدل والورع تقربًا لله ليرفع البلاء؛ فأبطل الضرائب ودعا الناس للإقلاع عن المعاصي،. فإنه في العام 2017 كان للسلفيين تفسيرًا دينيًا ذا غطاءٍ سياسي كذلك لغلاء الأسعار؛ حيث ذكر رئيس الهيئة البرلمانية لحزب "النور" الذراع السياسية للدعوة السلفية "أن من ينظر للمعاصي التي تًرتكب في الشارع المصري يقول إن رغيف الخبز سيصل ثمنه إلى مائة جنيه"، وهو ربطٌ متعسف بين الدين والأسعار، لأن هناك دولٌ كافرة من وجهة نظر السلفيين لا تؤمنُ أساسًا بوجود الله، ورغم ذلك لا تعاني مما يعانيه المواطنون في مصر.
ولا شك أن القوات المسلحة المصرية قامت بدورها الوطني في مكافحة فيروس الكوليرا عام 1947 كما سبق وذكرنا تفصيلاً في المقال الماضي، كما بذلت - ولا زالت - جهودًا حثيثة في محاولة عدم وصول فيروس الجوع إلى أرجاء البلاد في الوقت الراهن من خلال السيارات المحملة بالسلع الغذائية المخفضة والمنتشرة في كل ربوع مصر للتخفيف عن محدودي الدخل وتوفير الطعام للأفواه الجائعة لتحصينهم من فيروس الجوع اللعين، والذي يعني انتشاره في البلاد تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري. وقد نجحت هذه الجهود في منع وصول هذا الفيروس إلى القاهرة الكبرى، رغم مضي ما يزيد عن أربعة شهور على القرارات الاقتصادية التي وُصفت بـ "المؤلمة".
سادسًا- احتجاجات الخبز وتسرب فيروس الجوع إلى القاهرة الكبرى
صبيحة يوم الثلاثاء السابع من مارس 2017، أفاقت مصر على انتشار غير مسبوق لفيروس الجوع في مصر استتبعته تجمعات للأهالي في مناطق مختلفة من البلاد في كفر الشيخ والإسكندرية والمنيا وأسيوط، كما استطاع الفيروس أن يصل – لأول مرة – إلى القاهرة الكبرى ليضرب منطقتيْ امبابة والوراق بمحافظة الجيزة، وهو ما يُنذر بمشكلات وأعراض غير مسبوقة. وكان السبب المباشر لذلك قرار وزير التموين الجديد د. علي مصيلحي الذي لم يمضِ على تكليفه بالوزارة سوى أسبوعيْن. ويقضي هذا القرار بتخفيض عدد الأرغفة التي يحصل عليها محدودو الدخل من 2000-4000 رغيف إلى 500 رغيف فقط من المخابز المقيد عليها المواطنين من غير أصحاب البطاقات أو حاملي البطاقات الورقية، ليفسد الوزير كل الجهود التي تقوم بها القوات المسلحة في مساعدة الناس على تخطي الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد.
لقد جاء قرار الوزير دون دراسة، ودون نقاش مجتمعي، ولا استطلاع رأي المواطنين في منظومة الخبز الحالية، ولا توافر قاعدة معلوماتية يُؤسس عليها قرار يمس الحياة اليومية للمواطنين، ولا استخراج بطاقات إلكترونية لمن يحمل بطاقات ورقية. والمصيبة الأكبر أن الوزير صرح في مؤتمر صحفي عقده يوم الأزمة نصُا بقوله: "الحمد لله إن ده حصل والناس ما لقيتش عيش النهاردة علشان نناقش القضية"، وهو تفكير عجيب؛ فبدلاً من أن يقوم الوزير بحل الأزمات التي تواجه وزارته، وبدلاً من الإنصات باهتمام لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي التي لا يسأم من تكرارها بتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية لمحدوي الدخل، بدلاً من كل ذلك نجد الوزير يصنع أزمةً بكلتا يديه، أزمةً أدت إلى انتشار فيروس الجوع واحتجاجات "الخبز" في بِقَاعٍ كثيرة من أرض الوطن، أزمةً تؤدي إلى عرقلة الإصلاحات الاقتصادية التي تحاول الدولة إنجاحها للخروج بالوطن من عنق الزجاجة. إن الأزمة التي خلقها الوزير سوف تستلزم جهودًا ضخمة من القوات المسلحة وأجهزة الدولة لمحاصرة تجلياتها، جهودًا أكثر بكثير مما كان يُبذل من قبل لمواجهة وحصار فيروس الجوع.
سابعًا- ترميم الطبقة المتوسطة وردم الفجوة بين الطبقات
في مصر الآن شريحتان الشريحة العليا والتي لا تزيد عن ربع السكان والشريحة الدُنيا التي يندرج تحتها معظم السكان على اختلاف دخولهم التي تدنت بفعل انخفاض قيمة الجنيه المصري من جهة وزيادة معدل التضخم إلى مستويات كبيرة من جهة أخرى. وقد أدى هذا الوضع إلى تآكل الطبقة المتوسطة التي تمثل قاطرة النمو في كل بلدان العالم، ولا تستطيع أية دولة أن تنمو إذا لم تكن هذه الطبقة فاعلة وتحيا حياةً كريمة. وهكذا أصبح معظم المصريين يعيشون شقاء البحث عن رغيف "العيش" يوميًّا ويركبون التوك توك وأتوبيسات النقل العام المزدحمة والمترو الذي لا يأتي في مواعيده مما يجعله خانقًا، في حين أن ثًلة من المصريين لا يعنيهم أمر غالبيتهم، فهم مرفَّهون يعيشون حياة الترف، يركبون سيارات الفيراري والهامر ولامبورجيني ومازيراتي وبي إم دبليو، ومعظمهم من الفنانين ورجال الأعمال ولاعبي الكرة والمتربحون من عائدات الفساد الذين تطاردهم الرقابة الإدارية ليلاً ونهارًا.
وتكشف الأرقام أن مصر استوردت سيارات ماركات عالمية بـ35.8 مليار جنيه خلال عام 2016، وأن ما يقرب من 100 شخصية يمتلكون 700 سيارة فارهة وأحدث صيحة، في مقابل فقر متصاعد بين محدودي الدخل. كما أعلن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء فى آخِر تقرير له فى يونيو الماضي 2016، أن 27.8% من السكان فى مصر فقراء ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغير الغذاء، وأن 57% من سكان ريف الوجه القبلي فقراء مقابل 19.7% من ريف الوجه البحري، وتعد محافظتا سوهاج وأسيوط الأكثر فقرًا بنسبة 66%، تليها قنا بنسبة 58%، والأقل فقرًا محافظة بورسعيد بنسبة 6.7%، تليها الإسكندرية بنسبة 11.6%، كما أن 18% من سكان القاهرة فقراء. وقد تصاعدت هذه النسب بالتأكيد بفعل تحرير سعر الصرف وزيادة معدلات التضخم.
وقد ارتفعت نسبة الفقراء في الريف إلى 85% من السكان، بينما تبلغ نسبتهم في الحضر 42%، ويعيش 48% من مجموع الفقراء في الوجه القبلي، بينما يعيش 36% في الوجه البحري، كما أن اللحوم والأسماك لا تدخل ضمن قائمة الفقراء التي يتناولها حوالي 51.2% من الفقراء إلا حسب الظروف، بينما لا يشتري 33% منهم الفواكه؛ لعدم قدرتهم، ويكتفي 58.8% منهم بوجبتين فقط في اليوم، فيما يعتمد 61% من الفقراء في طعامهم على البقوليات (الفول والعدس).
ثامنًا- مجتمع المخاطر وثورة الجياع والعاطلين
لعل هذه الحقائق الموجعة هى التي يجب أن تجعلنا ننتبه إلى أننا أصبحنا في "مجتمع المخاطر" Risk Society، وهو المصطلح الذي ارتبط بعديدٍ من الكُتَاب الذين كتبوا عن الحداثة Modernity، وعلى رأسهم أولريك بيك Ulrich Beck وأنطوني جدنز Anthony Giddens، وقد سُك هذا المصطلح في عقد الثمانينيات، وشاع بشكلٍ أكبر خلال التسعينيات، وذلك نتيجةً لارتباطه باتجاهات التفكير في مشكلات الحداثة. وارتبط "مجتمع المخاطر" بشكلٍ كبير بأمريْن مهميْن أولهما زيادة الفجوة بين الطبقات وثانيهما انتشار البطالة بين الشباب.
وفي رأينا أن "مجتمع المخاطر" لم يكن وليد عصر الحداثة بل عرفته مصر منذ فجر التاريخ؛ حيث أدت هذه المخاطر إلى اندلاع أول ثورة على ضفاف النيل في التاريخ الإنساني، وهى ما يمكن أن نطلق عليه الآن بامتياز "ثورة الجياع"، ولم يقطع أحد بزمن محدد دقيق لهذه الثورة، لكن ما ساقه الحكيم إيبور يشير بأنها قد وقعت إبان حكم بيبى الثانى قبل ما يزيد عن ألفيْ عام قبل الميلاد. وكان السبب الرئيس لهذه الثورة العارمة هو تفشي الظلم واتساع الهُوة بين الطبقات، حيث كانت توجد قلة متخمة من فرط الشبع، وكثرة تعانى قسوة الجوع، الذى بلغ مداه، حيث أكل الناس العشب، واكتفى بعضهم بشرب الماء، وعز على الطير أن يجد ما يملأ به جوفه. وحين اشتد الجوع بالناس هاجموا بضراوة قصور أصحاب الجاه والأثرياء، فقتلوا من فيها، ونهبوا ما بها، وأشعلوا النيران فى كثير منها، وسقط الحكم بعد أن انهارت الدواوين والمحاكم ونهبت سجلاتها، وذبح كبار الموظفين وصار من بقى منهم على قيد الحياة بلا كلمة مسموعة، وعاشت مصر بلا حكم لمدة تصل إلى ست سنوات، فانتشرت عصابات السرقة والقتل، وأفلست الخزانة العامة.
تاسعًا- آليات مكافحة انتشار فيروس الجوع
لكي ننقذ البلاد من أن تنحدر إلى أتون "ثورة جوع" ينتشر الفيروس الخاص به كفيروس الكوليرا مثلما حدث في إرهاصات احتجاجات الخبز الأخيرة، يجب أن نعيد النظر في كثير من الأمور أهمها: ضرورة ترميم الطبقة المتوسطة التي لن ترضَ أن تنحدر إلى مصاف الطبقات الفقيرة في ظل تضخم ثروات قلة تستولي على معظم الناتج القومي ومعدلات النمو، كما يجب التوسع في مظلة الحماية الاجتماعية، فرغم أنه يتم التوسع في برنامج "تكافل وكرامة" في عديد من المحافظات، إلا أن هذا البرنامج حاليًا لا يشمل سوى مليون و380 ألف أسرة ضمن البرنامج في عديد من المراكز الأكثر فقرًا، وهو عدد لا يصل إلى عُشر عدد الفقراء في مصر.
وعلاوة على ذلك، يجب التوسع في دعم المواد التموينية للمستحقين ومضاعفة قيمتها المادية على الأقل، لأن القيمة الحالية (21 جنيه للفرد) أصبحت بلا قيمة، ويمكن أن يتم ذلك دون أن نكلف الدولة مليمًا واحدًا؛ فليس عيبًا رفع الدعم عن رجال الشرطة والجيش والقضاء وأساتذة الجامعات ورجال الأعمال والفنانين ولاعبي الكرة والمسافرين إلى الخارج، وتوجيه الدعم الذي يتقاضونه إلى الفقراء ومحدودي الدخل ممن يستحقون الدعم.
كما يمكن التوسع في معارض السلع التموينية المخفضة سواء من خلال منافذ القوات المسلحة وسياراتها، أو بتنظيم معارض لهذه السلع تكون أسعارها في متناول الجميع. والاقتراح المهم في هذه السبيل هو أن يتم إنشاء بيت الزكاة تكون مهمته جمع الزكاة من المواطنين وتوجيه حصيلتها لدعم الفقراء بشكلٍ حضاري ومحترم، ويمكن كذلك إنشاء صندوق لمكافحة الغلاء تكون حصيلته الأساسية من حصيلة الضرائب التصاعدية التي يتم فرضها على الأغنياء.