الخبرات الدولية والإقليمية في مكافحة التطرف
مع
هيمنة الجماعات المتطرفة اليوم على المشهد الاقليمي، وأيضاً الدولي، وحدوث تغير
نوعي في نمط العمليات الإرهابية، وهذا ما ظهر محلياً بشكل جلي في أحداث الكنيسة
البطرسية، أضحى علينا إعادة النظر في تفسير هذا التطور، وهو الأمر الذي يملي علينا
بدوره القراءة الجيدة لرسائل هؤلاء المتطرفين وأدواتهم، وهو ما يدفعنا للتعرض
للخبرات الدولية في كيفية التصدي لهم.
وفي
هذا السياق سعى كتاب الدكتور يوسف ورداني الذي حمل عنوان "الخبرات الدولية
والإقليمية في مكافحة التطرف"، والصادر عن معهد البحوث العربية، إلى إلقاء
الضوء تلك القضية في محاولة للاستفادة من الخبرات الدولية في هذا الشأن. تكون
الكتاب من أربعة فصول؛ تناول الفصل الأول عالمية قضية التطرف اليوم، بينما تناول
الفصل الثاني كيفية التعامل مع المتطرفين. أما الفصل الثالث فتمثل في ضرورة مساعدة
ضحايا التطرف. في حين ألقى الفصل الرابع الضوء على آليات الدول لوقاية وتحصين
المجتمع.
أولاً- تزايد عدد التنظيمات المتطرفة
مما
لاشك فيه أن التطرف ليست ظاهرة حديثة وليدة اللحظة بل تمتد جذورها إلى التكوين
الهيكلي للأفكار الأوروبية وصعود اليعاقبة إلى الحكم عام 1792، ولكن بدأ الإهتمام
بها عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، ووصل إلى ذروته عام 2014-2015 وذلك لتطور قوى
التطرف واستغلالها للثورة التكنولوجية إلى الوضع الذي أفضى إلى سيطرة تلك الكيانات
الإرهابية على مساحات شاسعة من دول عربية. وكان المردود الدولي قوياً على هذا
الإنتشار الواسع والتطور النوعي في أداء المتطرفين، وهو ما انعكس على تزايد عدد
المقاتلين المنضمين لداعش في يناير 2015 ما بين 1500 -3000 وذلك وفقاً لبيانات
المركز الدولي لدراسات التطرف والعنف السياسي بجامعة لندن. وتزامن هذا الاهتمام مع
الربيع العربي حيث تصاعد القوة المتطرفة معتمدة على صعود تيار الإسلام السياسي حيث
ربط الكتاب بين الثورات والانتفاضات الشعبية التي وصل بعدها الإسلام السياسي الي
سدة الحكم وتزايد إعداد التنظيمات المتطرفة.
ومع
اعتبار أن تونس من الدول المنخرطة حديثاً في الديمقراطية إلا أنها أكثر الدول
تصديرا للمقاتلين إلى مناطق مختلفة داخل العراق وسوريا حيث أدى اتساع نطاق التطرف
السياسي إلى إشارات خطيرة تنبه بنمط تطرفي كامن ينتظر اللحظة المناسبة للإنطلاق.
فقد أدت حالة الفوضى والفراغ السياسي في السلطة والمؤسسات الحكومية إلى إتاحة
الوقت لتلك الكيانات لتنظيم قوتها وتوحيد صفوفها لتكون على أهبة الاستعداد
لممارستها العنيفة وظهورها في المشهد الدولي. وهذا كما حدث في سوريا حيث الفراغ
السياسي والفوضى ودخول الدولة إلى نفق مظلم بسبب الحرب الأهلية التي سهلت ظهور
تنظيم جبهة النصرة برئاسة محمد الجولاني ثم ظهور تنظيم داعش وزعيمه البغدادي.
وكشف الكتاب عن حقيقة مفادها أن الفقر لم يكن
العامل الجامع لهؤلاء المقاتلون وهذا ما أبرزته جلياً حالة إسلام يكن ذلك الشاب
الميسور الحال نجل رجل الأعمال أحمد عزت الذي شارك مع محمد بكري هارون في عملية
اغتيال ظابط الأمن محمد مبروك. حيث أن هناك خصوصية فكرية وثقافية وتنامي النزعة
للتطرف والإرهاب في المجتمعات العربية. فالسمة المميزة لهذا النوع من المتطرفين
أنهم لم يتلقوا تعليماً دينياً فقد يكونوا من الأوربيين المسلمين الذي يطلق عليهم
"المقاتلين الأجانب" وبلغ عددهم وفقاً لتقديرات المركز الدولي لدراسة
التطرف 20730. كذلك شكل صعود الأحزاب المتطرفة في أوروبا أحد أهم العوامل، حيث نوه
الكتاب إلى أنه بالرغم من تقدم الدول الأوروبية سياسياً واقتصادياً إلا أن الأحزاب
اليمينية المتطرفة تتمتع بشعبية عالية. فهذه الأحزاب رغم أنها تحترم القواعد
والإجراءات التي تفرضها اللعبة الديمقراطية إلا أنها تتبنى سياسات وأيديولوجيات قد
لا تتفق مع الذوق والتوجه العام واستشهد ورداني على ذلك بنتائج انتخابات البرلمان
الأوروبي والتي كشفت فوز واسع للأحزاب اليمينية المتشددة؛ ففي فرنسا استفاد حزب
الجبهة الوطنية من تراجع شعبية الحزب الاشتراكي وفاز ب 23 مقعداً في البرلمان
الأوروبي. وكذلك فاز حزب ukip)) في بريطانيا بنسبة 27,49 % من المقاعد وكان الوضع مماثل في
اليونان حيث حصد حزب التحالف اليساري الراديكالي 6 مقاعد من إجمالي 21 مقعد. وفي
ظل هذا المناخ المحتقن وسيطرة تلك الأحزاب المتشددة، أخذت النزعة العنصرية تتصاعد
مما أدى إلى انخراطهم في ممارسات عنيفة ضد اللاجئين والمهاجرين ومن ذلك واقعة
اغتيال محمد سليم على يد بافلو لاشين المحسوب على التيار اليمني المتطرف المعادي
للمهاجرين. وقد عزز صعود هذا التيار وجود أكثر من حالة اعتداء على المسلمين عقب
الهجوم على مقر صحيفة "شارلي إبدو" وذلك وفقاً لما وثقه مرصد مكافحة
الإسلاموفوبيا. وإزاء هذا الوضع المتردي وهذا الصعود للتيار اليميني، اتخذت حكومات
دول أوروبا الغربية عدد من الإجراءات منها اعتقال المشتبه فيهم والمتهمين بأعمال
عنف ضد الأقليات.
ومن
التطورات الراهنة التي يتجدر الإشارة إليها هي أن التحول لمتطرف يتطلب الآن مجرد
"like" أو "follow" وذلك انعكاساً لتفاقم تأثير الميديا ومواقع التواصل الاجتماعي.
فقد اعتمدت عليه الجماعات المتطرفة لتجنيد الشباب فقد بلغ عدد مستخدمي الفيسبوك في
2016 ما يقرب من 1.59 مليار مستخدم شهري وبالتالي أصبح الإنضمام إلى تلك الجماعات
لا يستدعي في كثير من الأحيان الانتقال إلى مخيمات التدريب. فتضخم عدد المواقع
الإلكترونية المتطرفة جعل المهمة أيسر، خاصة عندما تتحدث الأرقام، فوفقاً لتقرير
مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة بلغت حوالي 150 ألف موقع. وتعد داعش أكثر
التنظيمات اعتماداً على وسائل التواصل الاجتماعي في توثيق عملياتها المتطرفة وأيضاً
لتجنيد عناصر أخرى حيث يقوم بتصوير فيديوهات للعمليات المنفذة باستخدام أحدث
التقنيات. ويستخدم التنظيم لتحقيق تلك الأهداف جيشاً إلكترونياً من الشباب الذي
لديهم باع في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ولديهم قدرة على الإقناع لاستمالة
وجذب عناصر جديدة. هناك ميلاً جديداً في استراتيجية داعش حيث تجنيد الأطفال
والمراهقين وذلك من خلال مخاطبتهم عن طريق الألعاب الترفيهية (لعبة صليل الصوارم
على سبيل المثال).
وأشار الكاتب إلى نمط جديد من الإرهاب وهو "الإرهاب
بدون قيادة" والذي يتمتع بخصائص تختلف عن تلك التي يتمتع بها إرهاب القاعدة.
ويمكن حصر تلك الخصائص في أنها جماعات وأفراد صغيرة في العدد، فهؤلاء المنخرطون في
هذا النمط الإرهابي ليسوا أجانب أو مهاجرين ولكنهم مواطنون أصليون تولَّد عندهم
شعور أكثر راديكالية تجاه دولتهم ومع ذلك فهم غير منعزلين عن مجتمعاتهم كما هو
الحال في الجماعات الإرهابية التقليدية، فتلك الجماعات تتبنى استراتيجيات إرهابية
مغايرة لأسباب مختلفة سياسية أو دينية أو عرقية. ومن أهم الخصائص أيضاً أنه لايوجد
قيادة فكرية أو عملياتية لهذا النوع من الإرهاب فهي ليست كالتنظيم العنقودي. ومن
المثير للانتباه أن هذا النوع من الإرهاب يتصدر المشهد في الدول الغنية والتي
تتمتع بمعدلات تنمية مرتفعة هو يجد تربته في دول الخليج العربي فهم أشخاص تتميز
بالتعليم الذاتي.
ثانيًا- سياسات تعاطي الدولة مع المتطرفين
احتلت
قضية محاربة الإرهاب قائمة اهتمامات دول العالم وذلك لعالمية القضية اليوم فتضافرت جهود الدول،
فوضعت السياسات لمكافحة الإرهاب وذلك بتحديد الأسباب الكامنة وراء الانضمام إلى
تلك التنظيمات ولزومية معالجة السياسات التي تزيد راديكالية المجتمعات. ومن تلك
الجهود المبذلة الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي أكدت في دورتها الـ 68 والتي
جاءت تحت عنوان "عالم ينبذ العنف والتطرف العنيف". والاهتمام ذاته وجد
في الاتحاد الأوروبي.
اتبعت
الدول أربع سياسات للتعامل مع المتطرفين، وذلك على النحو التالي:
1- المحاصرة الأمنية:-
وذلك لتفكيك الجماعات المتطرفة وإضعافها، وتقاس فاعلية تلك المحاصرة بقدراتها على
منع وقوع اية أعمال إرهابية. وتتبنى تلك المحاصرة الأجهزة الأمنية ولاتمام تلك
المهمة لابد من تخصيص ميزانية للمؤسسات الأمنية وإمدادهم بأحدث الأسلحة وتطوير
قنوات التواصل بين الأجهزة الاستخباراتية لجمع المعلومات وتحليلها خاصة تلك
المعلومات المرتبطة بمناطق تمركز هذه الجماعات. وجاءت الخبرة الفرنسية والتي تقدم
نموذجاً متطوراً في كيفية توظيف تكنولوجيا الانترنت في تمكين جهاز الشرطة من تتبع
المتطرفين. فأطلقت السلطات الفرنسية موقعاً إلكترونياً باسم "أوقف الجهادية"
وذلك لتشجيع الناس للإبلاغ عن أي فرد.
2- منع تمويل المتطرفين:-
وذلك لكون التمويل عصب استمرار العمليات الإرهابية فالتمويل بمثابة الجهاز التنفسي
لاستمرار حياة الجماعات المتطرفة ومع اختلاف آلية الحصول على هذا التمويل يتعين
التمييز بين مسارين. وتمثل المسار الأول في التمويل الذاتي حيث أنه من الممكن أن
تقوم تلك الجامعات من خلال في تطوير مجموعة من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية
التي تدر عائداً وذلك عن طريق فتح مشاريع صغيرة في الأحياء الفقيرة أو عن طريق
السيطرة على مناطق ذو موارد غنية وعبر عن ذلك سيطرة داعش على مناطق غنية بالنفط في
سوريا والعراق. أما المسار الثاني يتضح في سعي تلك الجماعات للحصول على تمويل من
الخارج وذلك في إطار الصدقات والزكاة وذلك سواء كان ضمن نطاق حدودها أو ممن يحملون
ذلك التكوين الأيديولوجي للجماعة وعادة ما تكون منظمات أهلية غير هادفة للربح. ورغم
جهود الحكومة ووضع عراقيل على عملية تمويل الجماعات المتطرفة خصوصاً بعد أحداث 11
سبتمبر، إلا أن هذه الجماعات ما زالت قادرة على خرق تلك الإجراءات وعلى توظيف
التكنولوجيا للتحايل على الرقابة على حركة الأموال العالمية. وبالرغم من الجهود
الإقليمية والدولية التي من شأنها منع تمويل المتطرفين، إلا أن السياسة الوطنية
تتحمل العبء الأكبر. وتعد دولة الإمارات المثال الأبرز في هذه الحالة حيث فرضت عدد
من الإجراءات الوقائية والدفاعية منها اعتقال المشتبه في تورطهم في عمليات غسيل
أموال وتجميد عدد من الحاسبات المشبوهة. وكذلك كندا التي تنفرد في مجال الرقابة
الشديدة على أنشطة الجمعيات الخيرية وذلك بإنشاء وحدة للاستخبارات المالية تتبع
وزارة المالية، أما عن أوروبا فبشكل عام منذ 2012 شهدت عدة محاولات لتحجيم تمويل
الإتحاد الأوروبي للسياسات ذات الفكر الأصولي الراديكالي.
3- المراجعات الفكرية والأيديولوجية:-
تعد جوهر تلك الاستراتيجية هو محاولة إقناع أعضاء تلك الجماعات لمراجعة أفكارهم
والتخلي عنها، وفي هذا السياق أشار المؤلف إلى الخبرة المصرية في هذا المجال؛ حيث
تمت مراجعة فكرية لأعضاء الجماعة الإسلامية في التسعينيات ونجحت في وقف نزيف
الدماء الذي كان من الممكن استمراره وتفشيه في البلاد. وأشار الكتاب إلى سلسلة من
الكتب الناتجة من عمليات المراجعات الأيديولوجية تلك، ومن هذه الكتب النصح والتبين
في تصحيح مفاهيم المحتبسين، وأقر الأزهر الشريف بما جاء في هذه الكتب من مفاهيم
صحيحة للدين وشجب المفاهيم المغلوطة عند هؤلاء الجماعات. ورغم ما اتبع من سياسات
لم يحول دون عودة هؤلاء الذين تم إقناعهم بترك تلك الأفكار وإنما كانوا أكثر ميلاً
للعنف والإرهاب ورغبة في إلاقبال على ممارسة أنماط جديدة منها. وفي هذا السياق
ظهرت المملكة العربية السعودية كمثال يعبر عن ذلك حيث أوضحت الدراسات المنوطة
بتقييم السياسات المطروحة بمكافحة التطرف أن السعودية اهتمت باقناع الأفراد
بالتخلي عن أفكارهم مقابل الخروج من السجن وذلك دون النظر إلى مايحملونه تلك الأفراد
من أفكار عدوانية ودون الاهتمام بحدوث أي تغيير جذري في معتقداتهم.
4- إعادة تأهيل المتطرفين:- تتجلي
تلك السياسة في إمكانية تخلى الجماعات المتطرفة عن أفكارها وإعادة ادماجهم في
المجتمع مرة أخرى باعتبارهم مواطنين عاديين بعد أن كانوا منبوذين من المجتمع كافة.
وكشفت الخبرات الدولية صورتين لما يمكن أن تؤدي إليه سياسات إعادة التأهيل. الصورة
الأولى هي أن الأفراد تنأى بنفسها عن الإنضمام إلى الجماعات المسلحة ولكن تبقي
الولاء إلى أفكارهم في داخلهم ونفوسهم وهذا ما يصطلح عليه فك الارتباط. والصورة
الثانية هم الأفراد الذين ينهون علاقتهم التنظيمية بالجماعات المتطرفة وتخلوا عن
أفكارهم. والواقع هنا أن نجاح إعادة التأهيل يتوقف بدرجة كبيرة على مراعاة الدوافع
الاقتصادية والاجتماعية التي دفعتهم إلى الانضمام أساساً. وأيضاً ظهرت المغرب
وخبراتها في هذا المجال حيث قامت بإعادة تأهيل السجناء وإعادة دمجهم في المجتمع
وخلقت لهم شركات لتوفير فرص عمل وذلك لضمان عدم عودتهم إلى التطرف اذا ضاق بهم
الحال.
ثالثًا- تحصين المجتمع من التطرف ما بين الخبرات الدولية وآليات
التنفيذ:
ناقش الكتاب كيفية وقاية وتحصين المجتمع
من الأفكار المتطرفة والعنف؛ فنظراً لحدوث ثورة هائلة في أدوات وآليات التواصل بين
المتطرفين فلم يعد الأمر مقتصراً على التواصل المباشر بين الجماعة المتبنية نفس
التكوين الأيديولوجي، بل دخل الانترنت وفتح مجالاً واسعاً للتلاقي وسهل التواصل
عبر حدود الدول ولذلك كان لابد من الالتفاف إلى كيفية تحصين ووقاية الكتل السائلة
في المجتمع وذلك من خلال تجويد التعليم ورفع وعي المؤسسات التعليمية بمخاطر التطرف
لحماية أجيال من الأطفال داخل هذه المؤسسات خاصة مؤخراً، فهناك اتجاه يذهب إلى
استقطاب الشرائح العمرية الصغيرة واستغلال الظروف الاجتماعية والاقتصادية وعمل
غسيل للمخ عن طريق تلقيها مجموعة قيم وكأنها من صميم الدين. وكذلك توفير الأنشطة
الترفيهية وتنمية ثقافة التشكيك والاتهام لكل من يخالف أفكاره.
ولتحصين المجتمع لابد من اتباع الخطوات
عديدة منها؛ إعطاء أولوية خاصة للتعليم، فكشف الكاتب عن عدة خبرات دولية في هذا
السياق منها فلندا حيث تبنت نظاماً خاصاً لتعزيز دور التعليم في مواجهة التطرف فقد
أدخلت مادة الوقاية من الجريمة في المناهج التدريبية، وفضلاً عن ذلك جعلت شرطياً
من الجهاز الأمني يقوم بتدريسها مرتديا الزي الرسمي وذلك لخلق نوع من الود بين
الطلاب ورجال الشرطة المنفذين للقانون. أما دولة الإمارات العربية المتحدة فقد
نفذت برنامج التربية الأمنية وذلك بإدخال الطلاب والاستعانة بهم في الأعمال
الأمنية. أما استراليا الجنوبية والتي خصصت ميزانية 65 ألف جنية استرليني للتواصل
باستمرار مع التلاميذ وتوعيتهم بمخاطر التطرف وتوزيع الملصقات الجذابة والجميلة.
فيما أعطت بريطانيا كذلك أولوية للتعليم كأولى الآليات لمكافحة الإرهاب فأنتجت
كتيبات وتم توزيعها على المدارس وذلك لزيادة الوعي بأسباب التطرف ومخاطره إيماناً
منها بضرورة محاربة الإرهاب بالفكر. وتمثلت استراتيجية ديفيد كاميرون والتي تلخصت
في جهود الحكومة في تدريب المعلمين على كيفية التعامل مع التغيرات السلبية التي
تطرأ على سلوك الطلاب ومن شأنها ينخرط في الجماعات الإرهابية.
أثار المؤلف قضية ملفتة للنظر ومثيرة للدهشة
وهي أن دارسي التخصصات العلمية في مجالي الطب والهندسة أكثر اعتناقاً للفكر
المتطرف مقارنة بدراسة العلوم الإجتماعية واستعان بكتاب مارك ساجمان "فهم
شبكات الإرهاب" والذي تناول السيرة الذاتية لبعض منفذي أحداث 11 سبتمبر وأثبت
أن ثلاث أرباع العينة كانوا يعملوا في مجالات الهندسة والطب؛ علاوة على تأكيد
الباحثان ديجو حامبينا وستيفان هيرتوج في كتابهما "مهندسي الجهات" أن
أكثر من نصف أعضاء الحركات الجهادية هم متخصصون في الهندسة والطب.
أما بخصوص الخبرة الشرق الأوسطية؛ فقد
قامت المملكة العربية السعودية بعدة إجراءات من شأنها منع مشاركة المتطوعين
المجهولة انتمائهم وأيديولوجياتهم. أما المحور الثاني لتحصين المجتمع هو خلق منصات
الحوار المجتمعي حول مكافحة التطرف، وإيجاد أرضية للتفاهم على على قائمة أولويات
الدول. وتأخذ تلك الاستراتيجية عدة أشكال؛ أولها إنشاء قنوات إعلامية توعوية توثق
قصص شباب انحرفوا عن الوسطية ثم تراجعوا عن التطرف وذلك لتقديم عبرة و دروس لنبذ
التطرف. وتعد منظمة الناس ضد التطرف العنيف في استراليا من أكبر المنظمات شيوعاً
واهتماما بدور الأفلام وقصص الآخرين في رفع الوعي بمخاطر التطرف.
أما
الشكل الثاني يتعلق باستخدام الناجين من أعمال العنف التي نفذها المتطرفون وذلك
لقيادة برامج حوارية مع النشء الذين تم تجنيدهم من قبل الجماعات المتطرفة. في حين
أن الشكل الثالث يتمثل في تشجيع المناقشات العامة بالتطرف على وجه الخصوص وأسبابه.
وفي هذا السياق تبنت بريطانيا استيراتيجية "بريفينت" لتعزيز ثقافة
الحوار وتقبل الآخر وتم تنفيذ 261 مشروعاً للتعامل مع الأفكار المتطرفة التي تسوغ
ممارسة الإرهاب ووجود متحدثين قادرين على تفنيد الأفكار المتطرفة. وتعد محاربة
الإرهاب بأدواته ذاتها التي تجذب الشباب من أهم أسلحة الدول لذلك تعد المواجهة
الإلكترونية للتطرف من أهم آليات تحصين المجتمع، وذلك نظراً لتعاظم دور وسائل
التواصل الاجتماعي حديثاً بشكل موسع لتجنيد الشباب للإنضمام للتنظيمات الإرهابية.
وتعد داعش المثال الأبرز هنا حيث اعتمادها بشكل كبير على الإنترنت في مختلف مراحل
عملياتها سواء لتجنيد الشباب ولخلق شبكة عنكبوتية لأعضائها أو لنشر فيديو ينسب
العملية لها. وسعياً للسيطرة عليهم وتتبعهم على هذه الوسائل، فقد قدمت بعض الدول
خبراتها في هذا الإطار، فتم التواصل مع شركات جوجل وفيسبوك لمناقشة آليات تتبع
حاسبات هؤلاء المتطرفون لملاحقة خطتهم ومنعهم من الترويج لأفكارهم. ومن تلك
الخبرات الخبرة الفرنسية والتي اتجهت بعد حادثة شارلي أبدو لمواجهة التطرف وذلك
بغلق كافة المواقع المتهمة بدعم التطرف، وفي الوقت ذاته ألزمت الاستراتيجية التي
تبنتها الحكومة البريطانية في مكافحة الإرهاب بإزالة أي محتوى الكتروني يحض على
الكراهية. وتنفرد الولايات المتحدة الأمريكية بخبراتها في هذا المجال فقد أنشأت
فرقاً متخصصة لشن ما يشابه حروب الشوارع على الحاسبات التي تنشر محتويات متطرفة من
شأنها أن تزعزع الإستقرار والأمن وتعمل تلك الفرق في إطار مركز الاتصالات
الاستراتيجية الخاصة بمكافحة الإرهاب.
وأشار
ورداني إلى ضرورة الشراكة مع المرأة باعتبارها القوة الرئيسية لمكافحة التطرف بين
الشباب ومنع انتقال الأفكار الأصولية إلى الأجيال الجديدة وذلك بالتنشئة السليمة،
والمرأة هي المحرك الأساسي لتشكيل الوعي والقيم التربوية للأبناء، مشيراً إلى
خطورة التغير النوعي الحادث في تلك التنظيمات بتجنيد حيث يشكلن الآن 10% من جملة
المقاتلين في صفوف داعش وبلغ عددهم نحو 20 ألف. وقد بدأ الأمر بكتيبة الخنساء التي
تطورت مهامها من مجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى المشاركة في القتال
والعمليات العسكرية. وسعت بريطانيا إيماناً منها بدور المرأة في محاربة الفكر
الإرهابي بدعم النساء المسلمات إلي جانب رجال الدين الإسلامي والشباب
المسلم وذلك بتقديم المنح المباشرة إلى منظمات المجتمع. في حين قامت المغرب بإطلاق
تجربة فريدة فقامت بإنشاء مركز يتبني تخريج مرشدات وواعظات تتولى نشر صحيح الدين.
وتأتي الشراكة مع المجتمع المدني في قائمة أولويات الدول لتحدي الإرهاب. فإشراك
المجتمع المدني اليوم أمراً مفروغاً منه وذلك لتفوقهم في التواصل بشكل أسرع وأكثر
فاعلية من مؤسسات الدولة. وتستطيع هذه المؤسسات تمكين فاعلين آخرين من المشاركة في
عمليات مكافحة الإرهاب وتحديد التجمعات المعرضة للاختراق من الجماعات، وأصبحت
الشراكة من أهم توصيات الاتحاد الأوروبي. أما في المغرب فقد شجعت مؤسسات الدولة
المجتمع المدني للمشاركة في تنفيذ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والتي تهدف
إلى تنفيذ عدة مشاريع اقتصادية واجتماعية وذلك من شأنه القضاء على كافة الدوافع
الاقتصادية المؤدية للتطرف وذلك من خلال خلق فرص عمل ومكافحة الفقر الذي يعد
أحياناً من أقوى الدوافع للتطرف. أما السويد فقد شجعت مؤسسات المجتمع المدني على
نشر قيم الديمقراطية بين المواطنين الشباب.
وأكد المؤلف هنا إلى ضرورة خلق كيانات بديلة
تتبنى فكراً وسطياً يسعى للتعايش والتفاهم مع الآخر ويتبنى أفكاراً مناهضة لتلك
الأفكار المتطرفة المبنية على العنف والتكفير للآخر. وتعد المغرب النموذج الأبرز؛ حيث
قامت الحكومة بإطلاق برنامج من أجل تنظيم كيانات بديلة للتطرف. ويعد إنشاء مراكز
فكر متخصصة في مكافحة التطرف من الوسائل التي تتبعها الحكومات لفهم طبيعة العمل
الإرهابي وفهم إشكالية التطرف من كل جوانبها بشكل اكاديمي ومع ذكر كافة الجهود
الساعية لمكافحة الإرهاب، إلا أن الاهتمام لم يصل بقضية التطرف إلى المستوى
المنشود حيث تتفاقم المشكلة يوماً بعد يوم، فهناك فجوة معرفية نتيجة عدم توافر
المعلومات الكافية عن المتطرفين خاصة في إقليم الشرق الأوسط. ففي الولايات المتحدة
تم إنشاء مركزاً دولياً تابعاً لوزارة الخارجية يهدف إلى متابعة التنظيمات
المتطرفة وتقييمها وتوفير دليل استرشادي يعاون الحكومة في التعامل مع الإرهاب.
جميع هذه السياسات لاتؤتي بثمارها في غياب جهاز أمني شرطي مؤهل لتلك المواجهة.
فبداية يتوجب تحسين صورة تلك المؤسسة خاصة في الدول التي بها ميراث سيء في التعامل
مع المواطنين وذلك على نحو يحول دورها من مجرد متلقي للبلاغات إلى فاعل أساسي في
حل مشكلات الدول مع التنظيمات المتطرفة فأطلقت الإمارات العربية المتحدة عدد من
البرامج منها جائزة حسن التعامل مع الجمهور لتحسين الصورة الذهنية لرجل الشرطة
وأطلقت كذلك مشروع الأمن المشاركة وهو بمثابة تحسين حقيقي لمهام الشرطة المجتمعية.
أخيراً، يمكن القول أن هذا الكتاب
يعد أحد أهم الاسهامات القوية في مجال تحليل سبل وأدوات التعامل مع التطرف
ومكافحته، من واقع خبرات دولية متباينة، من جوانب عدة ليس فقط الخبرات الأمنية،
ولكن على كافة المستويات الثقافية الاجتماعية الاقتصادية، مما له كبير الأثر في
معالجة شبه شاملة لآفة العصر الحديث.