تعويم الجنيه والأسعار: استقرار أم مزيد من الإضطراب؟
تثور تساؤلات كثيرة في الشارع المصري على كل المستويات بما في ذلك المجتمع المصرفي ومجتمعات رجال الأعمال والمستثمرين حول قرار تعويم الجنيه المصري، وهو القرار الذي انطلق كشائعة بعد انتهاء اجتماعات المجلس الأعلى للإستثمار برئاسة السيد رئيس الجمهورية في الأول من نوفمبر. ففي اليوم التالي للإجتماع هبطت قيمة الدولار في السوق الموازي للصرف (أو السوق السوداء) بنسبة 21% ليسجل الدولار في معاملات مكاتب الصرافة نحو 13 جنيها مقابل 16.5 جنيه في اليوم السابق. وكانت المصارف مغيبة تماما عما يحدث في السوق مع استمرار التعامل بالسعر الرسمي للدولار 8.88 جنيه/دولار.
وقبل نهاية يوم الأربعاء تلقت المصارف معلومات بأنه سيتم تعويم سعر الجنيه في السوق بواقع 13 جنيها للدولار مع السماح للمصارف بهامش 10% ارتفاعا أو انخفاضا بقصد إضفاء أكبر قدر ممكن من المرونة على التعاملات في الدولار رسميا على الشباك، كما تضمنت المعلومات أن البنك المركزي المصري سيضخ يوم الخميس دولارات إضافية في السوق من خلال عطاء دولاري إستثنائي بقصد توفير أكبر قدر ممكن من السيولة في السوق، وتشجيع المتعاملين على العودة للنظام المصرفي والإنصراف عن مكاتب شركات الصرافة.
وبالفعل تم تداول الدولار يوم الخميس بأسعار بدأت من 13 جنيها (شراء) ، وهو ما يعني عمليا تخفيض قيمة الجنيه بنسبة 46% ثم تحركت الأسعار إلى أعلى على مدار اليوم بدون وجود إشارات على أن البنك المركزي تدخل بضخ أي أموال إضافية. وفي اليوم نفسه صدرت تعليمات للمصارف بفتح بعض فروعها للتعامل على الدولار (شراء في أغلب الأحوال) يومي الجمعة والسبت، وهو ما يعني عمليا أن تتحمل المصارف نفقات إضافية في علاوات ساعات العمل الإضافية للموظفين والعمال. وطبقا لتقارير مصرفية غير رسمية فإن الإقبال على المصارف للتعامل في الدولار كان ملحوظا، وتركز أساسا في صرف قيمة الحوالات المصرفية الدولارية المرسلة عبر المصارف العربية من المصريين العاملين في الخارج إلى ذويهم. وقد باع المستفيدون بالفعل نسبة مهمة من قيمة هذه الحوالات بالأسعار الجديدة في المصارف، وهي الأسعار التي واصلت الإرتفاع على مدار يومي الخميس والجمعة لتتجاوز 16 جنيها للدولار. وطبقا لمصادر غير رسمية فقد بلغت حصيلة المصارف الحكومية وغير الحكومية من مبيعات الحوالات الدولارية بالجنيه المصري أكثر من 80 مليون دولار مقابل بضعة آلاف يوميا قبل التعويم، وهو ما يبشر بنتائج إيجابية لقرار التعويم، وإن كانت غير كافية حتى الآن.
وفي سياق الترويج للقرار عقد رئيس الوزراء يوم الجمعة مؤتمرا صحفيا لشرح تبعات القرار، خصوصا بعد أن قررت وزارة البترول رفع أسعار المشتقات النفطية منذ مساء يوم الخميس 3 نوفمبر. وقد أدى قرار رفع أسعار وقود السيارات إلى حالة من الإرتباك الشديد في مواقف ميكروباصات النقل الداخلي والنقل بين المحافظات في القاهرة والإسكندرية والأقاليم، وهو ما اضطر الشرطة إلى النزول في المواقف لمحاولة تنظيم حركة النقل الداخلي وبين الأقاليم. وفي مساء يوم الجمعة 4 نوفمبر تم تداول معلومات بأن الحكومة وجهت برفع أسعار النقل بواسطة القطارات والأتوبيسات بما يتراوح بين 10% إلى 15% لمواجهة ارتفاع نفقات الوقود. وقد جاءت الخطوتان، تخفيض سعر الجنيه بنسبة 46% ورفع أسعار وقود السيارات بنسبة 45% تقريبا في سياق واحد يستهدف تحقيق قدر من الإستقرار في سوق مضطرب.
السؤال الآن: هل سيؤدي تعويم الجنيه إلى زيادات مستمرة في أسعار المستهلك، أم إنه سيكرس حال الإضطراب في السوق التي تعتمد بنسبة كبيرة على تغطية احتياجات الإستهلاك بالإستيراد وتعاني من نقص العملات الأجنبية اللازمة للتمويل؟
وسوف نحاول الإجابة على هذا السؤال من خلال عدد من التوضيحات الفرعية تتعلق بالتوقيت، ومعنى التعويم، ومسؤولية البنك المركزي، والمساعدات المتوقعة من صندوق النقد الدولي، والتمويل الأجنبي المتوقع من الصين، ثم بعد ذلك ننتقل إلى العوامل الفعالة في السوق المحلي التي ستقرر في النهاية النتائج التي ستؤول إليها القرارات الأخيرة في الأجل القصير والأجل المتوسط.
أولاً- التوقيت
من المعروف أن موضوع تعويم الجنيه قد تحول إلى موضوع للنقاش العام خلال الأسابيع الأخيرة. وصدرت خلال هذا النقاش تصريحات كثيرة مباشرة وغير مباشرة في داخل مصر وخارجها عن مسؤولين مصريين مفادها أن "تعويم الجنيه قادم لا محالة" وأن قرار تعويم الجنيه "وشيك". وأظن أن الحكومة لم تكن لديها أية تفضيلات سياسية بخصوص قرار التعويم، وأن الحكومة كانت تعمل بمنطق ان تعويم الجنيه قد يحدث غدا لكنه أيضا ربما لا يحدث أبدا. وفي هذا السياق كانت معظم الأصوات الرسمية الصادرة عن كل من الحكومة ومجلس النواب تصب في طاحونة "الإنضباط الأمني للإقتصاد" وتطبيق إجراءات "اقتصاد الحرب" والتحكم في السوق من خلال "قرارات إدارية". كان الحديث عن تعويم الجنيه إذن يجري في بيئة تعتمد على آليات إدارية وأمنية وليس على آليات السوق.
لكن انعقاد المجلس الأعلى للإستثمار برئاسة السيد رئيس الجمهورية عجل من الناحية العملية باتخاذ القرار بتعويم الجنيه. ولا أظن إنه كان بمقدور البنك المركزي أو وزير المالية اتخاذ قرار بهذا الشأن قبل الرجوع إلى رئيس الجمهورية، الذي رأى في نهاية الأمر أن تكون المسؤولية جماعية فدعا إلى عقد اجتماع لأول مرة للمجلس الأعلى للإستثمار برئاسته لمناقشة الموقف الإقتصادي برمته. وكان الحوار الذي دار في الإجتماع يعكس رغبة أكيدة على الإنتقال من حال الإضطراب الذي يعاني منه الإقتصاد إلى وضع الإستقرار المرغوب فيه.
ومع ذلك فقد جاءت أربعة عوامل مباشرة لتفرض قدرا هائلا من الضغوط على الإدارة السياسية لاتخاذ قرار تعويم الجنيه بسرعة على الرغم من خطورة القرار. وهذه العوامل الأربعة هي:
1- وقف مساعدات الوقود العينية التي كانت السعودية قد تعهدت بها منذ شهر اكتوبر. وهذا يعني أن تتكبد الخزانة العامة للدولة قيمة استيراد الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء، والصناعة ووسائل النقل العام والخاص. وأظن ان قرار رفع اسعار الطاقة الأخير يضع في اعتباره أن الحكومة ستلجأ للإستيراد لتغطية احتياجات البلاد من الوقود، وهو ما يعني زيادة قيمة المطلوبات بالعملة المحلية لتمويل استيراد البترول والغاز ومشتقاتهما.
2- إلتزام صندوق النقد الدولي بمضمون الشروط التي كان تم الإتفاق عليها في شهر سبتمبر من أجل تقديم تسهيلات ائتمانية لمصر بقيمة 12 بليون دولار على مدى 3 سنوات. وقد أوضحنا طبيعة هذه الشروط في مقال سابق في هذا الموقع. ونشير هنا إلى أن بعضها قد تم الوفاء به مثل قانون ضريبة القيمة المضافة، وقانون الخدمة المدنية، لكن البعض الآخر ما يزال في الطريق مثل قانون الإستثمار، واستئناف برنامج الخصخصة بقوة، ورفع سعر الفائدة على الجنيه المصري وتخفيض قيمته إلى جانب زيادة قيمة احتياطي العملات الأجنبية لدى البنك المركزي إلى 26 مليار دولار. ونظرا لحاجة مصر إلى تنفيذ الإتفاق مع الصندوق فقد كان يتعين الإسراع بتنفيذ ما التزمت به مصر من ناحيتها.
3- إشتداد حدة المضاربات على الدولار في السوق المحلي بعد أن اتخذت منحى جديدا بانضمام فئة جديدة من المضاربين الهواة إلى السوق. وأضاف هؤلاء طلبا قويا زائفا مما أدى الى ارتفاع أسعار الدولار في الأسبوع الأخير من شهر اكتوبر 2016 بواقع مرتين إلى ثلاث مرات في اليوم الواحد، وقفزت أسعار الدولار في السوق الموازية خلال ذلك الأسبوع من 15 جنيها إلى 16.7 جنيه/دولار أي بنسبة 11.3% وسط تزاحم شديد على الشراء ونقص ملحوظ في المعروض، بعد ان كانت السوق قد استنفذت بالفعل تحويلات المصريين العاملين في الخارج التي تأتي بحوزتهم خلال موسم الإجازات الصيفية. ومع اقتراب نهاية السنة المالية للشركات الخاصة والبنوك (31 ديسمبر) فإن التوقعات كانت تشير إلى أن المضاربات على الدولار ستزيد ولن تقل، وهو ما يعني أن سعر الدولار قد يواصل الإرتفاع ليصل إلى 20 جنيها أو يزيد. ومن ثم فقد كان لابد من اتخاذ قرار سريع، إما بالتدخل ضد السوق الموازية تماما، بغلق البقية المتبقية من شركات الصرافة وتجريم التعامل بالدولار خارج الجهاز المصرفي، أو بإضفاء الشرعية على السوق الموازية ومحاولة استيعابها داخل الجهاز المصرفي.
4- تدهور مؤشرات الميزانية العامة للدولة طبقا لنتائج الحساب الختامي للدولة (2015/2016) التي سجلت قفزة في أرقام عجز الميزانية والدين العام المحلي والدين العام الخارجي ومعدلات خدمة الدين العام والتضخم والبطالة والعجز التجاري. وقد ترك تدهور مؤشرات الميزانية أثرا مباشرا على أسعار الفائدة التي تطلبها المصارف للإكتتاب في أذون الخزانة العامة التي تستخدم في تمويل العجز العام. وقد وصل الأمر إلى حد خطير إضطر معه البنك المركزي إلى إلغاء عطاءات أذون الخزانة الأخيرة التي كانت مقررة منذ 30 أكتوبر بسبب ارتفاع أسعار الفائدة. إن مؤشرات الحساب الختامي لميزانية السنة المالية الأخيرة تثبت بشكل صارخ أن الحكومة فشلت في تحقيق المستهدفات التي كانت قد أعلنت عزمها على تحقيقها خلال تلك السنة.
ولا شك أن هذه المتغيرات تركت تأثيرها على المناقشات التي دارت في المجلس الأعلى للإستثمار، الذي ما إن تم إنهاء إجتماعه، وخرج المجتمعون إلى الشارع، حتى بدأت سوق الصرف الأجنبي في مصر تتعرض لهزة شديدة هبطت بسعر الدولار خلال ساعات بنسبة 21% وامتلأت السوق بالشائعات بأن الحكومة في طريقها إلى إغلاق شركات الصرافة وتجريم التعامل في الدولار خارج الجهاز المصرفي. وأظن أن قرار التعويم تم اتخاذه على خلفية هذه المتغيرات بصرف النظر عن مدى الإستعداد لتبعات "التعويم" وربما بدون وجود وضوح كاف لمؤسسات الدولة المختلفة مع تطبيق سياسة تعويم الجنيه.
ثانياً- التعويم ومسؤولية البنك المركزي
يفهم معظم الناس تعويم الجنيه على إنه يعني ترك قيمة الجنيه لقوى العرض والطلب تحددها كما تشاء. وهذا المعنى ينصرف إلى تضاد مع سياسة سعر الصرف الثابت الذي تفرضه الدولة وتضمن التعامل به. والحقيقة أن تعويم قيمة العملة، أي عملة، بشكل عام لا يتم في سياق منفصل عن السياسة النقدية، وهي السياسة المسؤول عنها البنك المركزي بوصفه السلطة النقدية المستقلة خارج الحكومة، الذي لا يجب أن تخضع قراراته لاعتبارات سياسية. ولا يعني تعويم قيمة الجنيه تركه تماما لقوى العرض والطلب، ولكن يعني إطلاق قوى السوق وسط انضباط تفرضه أدوات السياسة النقدية المختلفة من أجل تحقيق الإستقرار النقدي، وهو الإستقرار الذي يؤثر مباشرة على معدلات التضخم والتشغيل.
وعلى الرغم من أن جوهر سياسة تعويم العملة يتمثل في استبعاد "سعر محدد" من جانب البنك المركزي، فإن البنك يستخدم أدوات السياسة النقدية، مثل التدخل في عمليات السوق المفتوحة ببيع وشراء العملة المحلية والعملات الأجنبية، ومثل استخدام سلاح أسعار الفائدة برفعها أو تخفيضها لزيادة جاذبية العملة المحلية كأداة من أدوات الإستثمار وتوليد العائد، ومن ثم زيادة معدل الإدخار المحلي. ونظرا لأن الإستقرار النقدي يغذي مقومات الإستقرار المالي والإقتصادي، فإن البنك المركزي يجب أن يعمل على الحفاظ على قيمة مستقرة للجنيه خلال السنة المالية، نظرا لأن قيمة الجنيه تترك آثارا غير مباشرة على كل من العجز المالي في الميزانية والعجز التجاري في ميزان المعاملات السلعية، وكذلك على تدفقات الإستثمار الأجنبي وقيمة الأرباح الرأسمالية المحولة إلى الخارج بالعملات الأجنبية.
وبناء على ذلك فإن حركة سوق الصرف في نظام الصرف المفتوح أو "التعويم" لا تتم في غياب رقابة البنك المركزي. ومع ذلك فإن بعض تجارب تعويم قيمة العملات المحلية إنطوت على اضطرابات هائلة في هيكل أسعار الصرف والتغيرات اليومية، بما في ذلك تجارب خاضتها دول مصدرة للنفط في السنوات الأخيرة مثل نيجيريا. ويتطلب تعويم قيمة العملة المحلية الإستعداد لذلك استعدادا قويا وذلك لمحاصرة أثر الإضطرابات التي قد تنشأ عن المضاربات.
ويتضمن تعويم قيمة العملة في المرحلة الأولى تحديد سعر إسترشادي لقيمة العملة مقابل العملات الأجنبية الرئيسية مثل الدولار واليورو والإسترليني. ويتم التعامل بهذا السعر في سوق مفتوحة تشارك فيها المصارف المملوكة للدولة والخاصة والأجنبية وشركات الصرافة والأفراد. ويستبعد قرار تعويم الجنيه إحتمالات وقوع سوق الصرف المصري لقرارات وإجراءات إدارية تقضي بتجريم التعامل باالدولار خارج الجهاز المصرفي، ومن ثم فإن التعويم يعني عمليا إنتفاء احتمال وجود "سوق سوداء للعملات". وفي هذه السوق التي تنشأ تحت نظام التعويم تلعب قوى العرض والطلب دورها في تحديد السعر للدولار (والعملات الأخرى الرئيسية) مقابل الجنيه يوميا، لكن تحت رقابة البنك المركزي.
وتتمثل مسؤولية البنك المركزي في سوق الصرف الحر للجنيه المصري مقابل الدولار في ضمان عدم حدوث تقلبات حادة أو سريعة لقيمة العملة، وأن تكون تحركات الأسعار في حدود ضيقة يوميا بقدر الإمكان ، حتى وإن كان ذلك في اتجاه واحد، مع تنشيط دور أدوات السياسة النقدية لضمان ارتفاع قيمة الجنيه، وعدم انهيارها إلى الحد الذي يهدد بانفجار التضخم (عبر زيادة أسعار الواردات محسوبة بالعملة المحلية) أو استمرار زيادة العجز في الميزان التجاري بمعدلات مرتفعة. وفي هذا الصدد يستطيع البنك المركزي أن يرفع أسعار الفائدة على الجنيه المصري بنسب كافية لامتصاص التضخم وزيادة جاذبية الجنيه كعملة للإستثمار، كما يستطيع أيضا أن يواصل عملياته في السوق من خلال العطاءات الدولارية لتوفير المزيد من السيولة لتلبية الطلب المحلي، في الحدود التي يسمح بها رصيد الإحتياطي من العملات الأجنبية. وتوجد الكثير من الأدوات النقدية والإجراءات الفنية التي من شأنها أن تضمن انضباط التغيرات في قيمة العملات في السوق المحلية في حدود تساعد على تحقيق الإستقرار الإقتصادي والمالي والتجاري، وتخفيض التضخم وزيادة معدلات التشغيل في قطاعات الإنتاج والخدمات.
ومع ذلك فإن مسؤولية البنك المركزي تتجاوز الحدود التقليدية للسياسة النقدية، إلى نطاق أوسع ماليا واقتصاديا. وفي الوقت الحالي تدور مناقشات جادة حول إعادة النظر في الدور الذي تقوم به البنوك المركزية في دول العالم المختلفة. ومن حسن الحظ إننا في مصر نملك تجربة رائدة في هذا السياق حيث تبنى البنك المركزي مبادرتين كبيرتين في السنوات الأخيرة لتعزيز الإستثمار والنمو في ميادين الإقتصاد والمختلفة، وهما مبادرة التمويل العقاري، ومبادرة تمويل الصناعات الصغيرة والمتوسطة. وتضمن كل من المبادرتين ضخ مليارات الجنيهات في هذين القطاعين (العقارات والصناعات الصغيرة والمتوسطة) بأسعار فائدة منخفضة وهو ما يمكن أن يساعد على تطوير الأداء الإقتصادي في كل منهما وتوليد آثار إيجابية في القطاعات الإقتصادية المجاورة لهما. وفي هذا السياق فإن البنك المركزي سيحتاج إلى مواصلة توسيع نطاق مبادراته الخلاقة في الميادين التي تتسبب في حدوث اختناقات مالية وتجارية.
ثالثاً- دور صندوق النقد
يعلق كثير من الناس آمالا هائلة على قرض صندوق النقد الدولي الذي تأمل مصر في الحصول عليه قبل نهاية العام الحالي. ويظن بعض الناس أن هذا القرض هو من نوع القروض أو المساعدات التي حصلت عليها مصر من الدول العربية الخليجية منذ ثورة يناير 2011، بمعنى إن الأموال التي ستحصل عليها مصر من الصندوق هي "مساعدات مجانية". ومع إن المساعدات الخليجية لم تكن مجانية من الناحية النقدية، فهي واجبة السداد في نهاية الأمر، إلا إنها لم ترتبط بأي إطار للإصلاح الإقتصادي أو السياسي. هذه المرة، فإننا إزاء وضع مختلف. القرض الذي ستحصل عليه مصر من الصندوق بقيمة 12 مليار دولار مقسمة إلى شرائح تدفع على 3 سنوات يرتبط بإصلاحات إقتصادية ومؤسسية، بعضها يسبق الحصول على القرض، وبعضها خلال فترة السنوات الثلاث التي سيتم خلالها استهلاك قيمة التسهيلات الإئتمانية. وييجب على مصر الوفاء بالتزاماتها المتفق عليها قبل الموافقة على القرض، كما سيتوجب عليها الإستمرار في تنفيذ الإصلاحات اللاحقة لبدء الحصول على القرض.
لكن موافقة الصندوق على القرض، التي ما تزال تحت الإنتظار، وبدء حصول مصر على التسهيلات الإئتمانية المقررة، تشبه إلى حد كبير الحصول على روشتة العلاج من الطبيب، وشراء الدواء، ثم يعتمد الشفاء من المرض على عاملين أساسيين، الأول هو صحة الوصفة الطبية ودقتها، والثاني هو التزام المريض بتناول الدواء في المواعيد المقررة، ومراعاة الاعتبارات الأخرى المؤثرة في حالته الصحية. وعلى الرغم من إن بعثة الصندوق المقيمة في مصر سوف تتابع بدقة مدى الإلتزام بتنفيذ الإصلاحات المتفق عليها، إلا أن الكثير من التقدم في العلاج سيعتمد على انضباط المريض وعلى التزامه وقوة إرادته في طلب الشفاء من المرض. إن ما أريد أن أستخلصه هنا هو التحذير من الإفراط في التفاؤل بشأن قدرة وصفة صندوق النقد على تحقيق الشفاء الإقتصادي، فقد تكون الوصفة فاسدة منذ البداية، أو قد يتخاذل المريض في اتباع قواعد العلاج. وفي أي من الحالين، فإن الإقتصاد سيظل يعاني الأمراض نفسها، بل إن المرض قد يطول أو يزداد تعقيدا.
رابعاً- دور الصين
من المرجح أن الصين ستعلب دورا مهما في عملية التنمية في مصر خلال السنوات القليلة المقبلة. وإضافة إلى المشروعات العملاقة التي يشارك في تنفيذها أو يقوم بها الجانب الصيني بالكامل في مصر مثل مشروع إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، فإن الاستثمارات الصينية العامة والخاصة أصبحت تلعب في مصر دورا متزايدا.
ويساعد على زيادة دور الاستثمارات الصينية في مصر عاملين، الأول هو حاجة الحكومة المصرية الأجنبي لتمويل الفجوة الحالية في الإستثمار والتي تبلغ 10 مليارات دولار سنويا، والثاني هو قدرة الصين على تمويل استثماراتها في مصر بسهولة بالغة بسبب الفائض المالي والتجاري الهائل الذي تتمتع به الصين. وسوف تشارك الصين في بناء مدن وطرق وخطوط سكك حديد ومناطق صناعية ولوجيستية وربما محطات للطاقة تساعد على تحقيق بعض أهداف التنمية الواردة في المخطط التنموي العام لمصر في السنوات الخمس عشر المقبلة.
وتعتبر مصر بالنسبة للصين المدخل الشمالي الشرقي لأفريقيا، وإحدى بوابات أسواق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومن المعروف أن الصين تقوم باستثمارات هائلة في أفريقيا جنوب الصحراء خصوصا في قطاعات التعدين والبنية الأساسية والطاقة. كذلك تهتم الصين في الوقت الحاضر بإنشاء مشروعات البنية الأساسية الضرورية لإحياء طريق الحرير البري وطريق الحرير البحري، وتحتل مصر مكانة فرعية في كل من الطريقين، ومن ثم فإن استثماراتها في مصر تتكامل مع كل من أهداف سياستها الخارجية من ناحية، واحتياجات التنمية في مصر من الناحية الأخرى.
ومع ذلك فإننا يجب أن نعلم أن الصين التي لا تربط سياستها الخارجية، بما في ذلك الإستثمارات، بمعايير أخلاقية أو سياسية، لا تتورط في استثمارات غير مربحة أو بدون ضمانات. وسوف تعمل الصين بكل ما تستطيع على أن تضمن لنفسها مكانا متميزا وأن تكون استثماراتها في مصر آمنة في إطار تعاقدي تجاري واضح، على العكس من النهج الذي التزم به الاتحاد السوفييتي في مساعداته لمصر خلال فترة الحرب الباردة، وهو النهج الذي انتهى بطرد السوفييت من مصر في أوائل السبعينات على الرغم من توقيع معاهدة للصداقة والتعاون الاستراتيجي مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات.
خامساً- دور الإدارة المصرية
أشرت هنا من قبل إلى مسؤولية البنك المركزي المصري في ضمان استقرار سوق الصرف الأجنبي. لكن البنك المركزي لا يعمل وحده في ميادين إدارة الإقتصاد وإنما تلعب إلى جانبه مؤسسات مختلفة حكومية وخاصة، كما تلعب أيضا شركات ومؤسسات أجنبية ومنظمات دولية أدوارا مهمة في تقرير المستقبل الإقتصادي للبلاد. ومن الضروري في الظروف الحالية لأن تصبح الحكومة لاعبا مرجحا للإستقرار وليس لعدم الإستقرار في السوق من خلال سياسات وإجراءات اقتصادية وليس بالقرارات الإدارية والإجراءات الأمنية؛ فالأخيرة تؤدي في العادة إلى إحباط النشاط الإقتصادي، وتقليل الثقة في الحكومة، وزيادة حالة عدم اليقين في مجتمعات الأعمال والمستثمرين، وهو ما من شأنه جميعا أن يؤدي إلى تعميق الأزمة وزيادة حدة الإضطراب الإقتصادي والمالي، بكل ما لذلك من تداعيات سياسية واجتماعية ليس هنا المجال للإشارة إليها.
وسوف يتعين على الإدارة أن تمارس دورها المساند للإستقرار والتنمية (stabilizing role) من خلال أدوات السياسات النقدية والمالية والتجارية. وتتمتع الحكومة في قيامها بهذا الدورة بميزة احتكار نسبة مهمة من المعلومات التي لا تتوفر للباحثين أو العاملين في السوق بصورة كاملة. ومن ثم فإن إجراءات الحكومة تقوم على معرفة، أما تكهنات الأفراد وهواة الخبراء والمعلقين الذين تمتلئ بهم شاشات الفضائيات وصفحات الصحف، فإن تقديراتهم ودعواتهم قد تصدر في أحوال كثيرة عن جهل بالحقائق الإقتصادية. ومن الأمثلة التي يجب أن أشير إليها هنا نظرا لخطورتها الشديدة الدعوة إلى وقف استيراد السلع "الإستفزازية" أو الكمالية ومنها سلع الرفاهية الزائدة مثل أغذية الكلاب والقطط. وقد قرأت تقديرات غريبة لقيمة واردات هذه السلع "الإستفزازية" تبلغ 20 مليار دولار سنويا! أي ما يتجاوز ثلث قيمة الواردات، وهذا بلا شك تقدير مبالغ فيه إلى حد كبير، يتعين على وزارة التجارة أو الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن يقوما معا أو أحد منهما بتصحيحه وإبلاغ الرأي العام بحقيقة الأمر.
وسوف أحذر هنا من عدد من المخاطر التي قد تنزلق إليها السياسات الحكومية والتي يدعو البعض إلى ترويجها في أوساط الرأي العام لتصبح بعد ذلك سياسات رسمية:
1- خطورة تحويل سعر الصرف إلى القضية المركزية للسياسة الإقتصادية؛ وعلى الرغم من أهمية سعر صرف العملة المحلية، فإن تحويله إلى قضية مركزية يمثل تشويها للسياسة الإقتصادية، ونوعا من أنواع اختطاف الإقتصاد بأكمله ووضعه في مصيدة سعر الصرف، وعدم الإنتباه إلى ما هو أهم من ذلك من المجالات الحيوية لتنشيط النمو وأهمها الإستثمار بشقيه المحلي والأجنبي. إن أخطر ما يعانيه الإقتصاد المصري يتمثل في إنه تحول تدريجيا خلال العقود الأخيرة، وتحديدا منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي، إلى اقتصاد ريعي يعيش ويتغذى على إيرادات وهمية مبالغ في قيمتها، أو تحويلات من الخارج لم يتم توليدها محليا تؤدي في نهاية الأمر إلى زيادة الضغوط التضخمية والإستهلاكية. ويجب أن نعلم في هذا السياق أن إحدى الظواهر الملازمة للإقتصاد الريعي هي إنتاج سعر صرف مبالغ فيه يتجاوز القيمة الحقيقية للعملة المحلية. ونظرا لأننا اعتدنا على سعر صرف مبالغ فيه طيلة العقود الماضية، فإن الصدمة الحالية تعكس عدم قدرة العملة على التلاؤم مع متغيرات الواقع الإقتصادي. وفي هذه الحالة يكون نزيف الإقتصاد من قناة سعر الصرف شديدا وسريعا وقد يستمر لفترة من الوقت. ويعتمد علاج نزيف سعر الصرف على حزمة متكاملة من السياسات والإجراءات الإقتصادية في الأجل القصير والأجل المتوسط، لا تهدف إلى إنقاذ سعر الصرف، بقدر ما تهدف إلى البدء في تغيير طبيعة الإقتصاد من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج، والقضاء على تشوهات السوق التي يتمثل أخطرها في الممارسات الإحتكارية والفساد المؤسسي في علاقات الدولة بالقطاع الخاص، والغش التجاري والصناعي، والقيود البيروقراطية التي تعرقل بيئة الإستثمار في قطاع الأعمال بشكل عام، وفي قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة على وجه الخصوص.
2- خطورة سياسات التدخل الإداري والأمني؛ وقد يبدو لبعض المشرعين أو صناع السياسة الذين تنقصهم الخبرة السياسية ويفتقرون إلى الحقائق الإقتصادية أن إنقاذ قيمة العملة وفرض الإنضباط في السوق لا يتحقق إلا بقرارات إدارية وإجراءات أمنية، تقود إلى توسيع دائرة الاشتباه في مجتمعات الأعمال والنشاط الإقتصادي، وتزرع الخوف في قلوب المستهلكين والمستثمرين على السواء، وتكرس قوة الأجهزة التنفيذية بما يؤدي إلى زيادة حدة الفساد الذي تعاني منه هذه المؤسسات بالفعل. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على مواقف الميكروباص أو على الأسواق العشوائية، حتى ندرك أن تأثير الحملات الأمنية والإجراءات الإدارية يكون شكليا وموقوتا بالوجود العيني للشرطة وقت الحملة، ثم تعود الأمور إلى ما كانت عليه بمجرد انتهاء الحملة، حتى مع وجود الشرطة! وبينما تؤدي القرارات الإدارية إلى زيادة جالة عدم اليقين، فإن التدخل الأمني يؤدي إلى زرع الخوف وانتشار الفساد.
3- خطورة التقليل من حدة تداعيات تدهور سعر الصرف؛ فانخفاض سعر الجنيه يعني ارتفاع أسعار كل مدخلات الإنتاج المستوردة، ومنها 70% من الغذاء الذي يأكله المصريون، وكذلك المدخلات المنتجة محليا والمقومة بالدولار مثل البترول والغاز ومشتقاتهما المنتجة محليا، والسلع الوسيطة المستوردة لتغطية احتياجات الإنتاج (مثل المبيدات والكيماويات للزراعة، ومكونات صناعات التجميع المحلية). وهذا الإرتفاع في الأسعار لن يقتصر على سلع الأغيناء كما يحاول البعض أن يصوره، وإنما سيمتد بالقطع إلى سلع الفقراء. ويكفي أن ننظر إلى صورة مواقف الميكروباص لكي نعرف أن من يستخدم الميكروباصات في التنقل هم من الطبقات غير القادرة بمن في ذلك الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى. ومن الضروري حتى نتمكن من وضع سياسة فعالة لمواجهة تداعيات تدهور سعر الصرف أن نبتعد عن أساليب النفاق السياسي وعن الجهل الإقتصادي، وأن نرى الصورة كما هي في الواقع كخطوة أولى للتعامل مع تلك التداعيات بجدية بعيدا عن فنون الفهلوة والاحتيال الإداري.
4- خطورة استمرار حالة عدم اليقين الإقتصادي؛ فعدم اليقين الإقتصادي هو أعدى أعداء السوق، وهو أخطر العوامل السلبية المؤثرة على قرارات المستثمرين والمستهلكين. إن عدم اليقين يؤدي من ناحية إلى الإحجام عن استثمار الدولار في السوق المحلية في مشاريع جديدة للإنتاج، كما يؤدي إلى ميل المستهلكين إلى "تخزين الدولار" بما يزيد من الضغوط على أسعار العملة المحلية. ومن هنا تصبح الشفافية في السياسة الإقتصادية عاملا حاسما في تحريك السوق في الاتجاه المطلوب، لكن تحقيق الشفافية يتطلب أولا وجود سياسة واضحة. ولا يكفي كما أوضحنا سابقا القول بأنه تم "تعويم" الجنيه وكفى، كما لو أن التعويم في حد ذاته هو الحل لكل مشاكل مصر الإقتصاية. وللقضاء على حالة عدم اليقين الحالية يتوجب على الحكومة بأسرع ما يمكن أن تعلن سياستها الإقتصادية العامة للفترة المقبلة (بالأشهر وليس بالسنوات). وأن تكون قد استعدت جيدا بكل الأدوات المتاحة لمواجهة تداعيات تعويم الجنيه.
5- خطورة اللجوء إلى أساليب التحريض والإثارة الإجتماعية لأنها تهدد السلم الإجتماعي في وقت شديد الحساسية؛ ويتمثل اللجوء إلى هذه الأساليب بمحاولة تصوير بعض تداعيات تدهور سعر الصرف على إنها ضريبة يجب أن يدفعها الأغنياء لصالح الفقراء. ومن أمثلة ذلك الزعم بأن رفع أسعار الطاقة هو بمثابة ضريبة يجب أن يدفعها الأغنياء الذين لا حق لهم في الحصول على الدعم. والحقيقة أن الفقراء الذين يمثلون أكثر من نصف السكان في مصر هم الذين يدفعون النصيب الأكبر من فاتورة إلغاء الدعم وليس الأغنياء. ومن أمثلة التحريض الإجتماعي الهجوم على شركات الصرافة، وهي شركات تمارس نشاطا قانونيا والإدعاء بأنها سبب أزمة سعر الصرف، وبالتالي الدعوة إلى إغلاق هذه الشركات ووضع أصحابها في السجون! ومن أمثلة التحريض الدعوة إلى مصادرة أو إغلاق حسابات الأفراد بالعملات الأجنبية. إن هذه الأمثلة وغيرها تعبر عن حالة من القلق الشديد داخل المجتمع، كما تعبر عن نظرة مشوهة إلى حالة الإقتصاد، مبنية على نفاق سياسي متأصل لدى بعض الناس وعلى جهل عميق بالحقائق الاقتصادية.
سادساً- بدائل وأدوات للسياسة الإقتصادية
وبعد أن حذرنا من خطورة بعض الميول التي رصدناها أعلاه، يصبح من الأخلاقي أيضا أن نبين بعض السبل لمواجهة تداعيات تخفيض وعدم استقرار سعر صرف الجنيه المصري، بصرف النظر عن مدى وقوة الإستعدادات المسبقة التي وفرتها الحكومة والتي لا نعلمها. ومع ذلك فإن ما سنقترحه من بدائل وأدوات سيكون في واقع الأمر مقيدا بمحدودية البيانات والمعلومات الحقيقية التي تعبر عن حال الإقتصاد في بعض النواحي، ومنها على سبيل المثال أرقام الرصيد الإحتياطي الفعلي وليس المحاسبي للعملات الأجنبية لدى البنك المركزي، وهو الرصيد الذي قد تثور عليه بعض علامات الإستفهام.
ويجب أن نبين بادئ ي بدء أن البدائل والأدوات التي سنقترحها هنا، وإن كانت تمس سعر الصرف بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فإن الغرض منها ليس التعامل مع سعر الصرف كقضية مركزية، ولكن الغرض منها هو بناء البيئة الصحية التي يتفاعل معها سعر الصرف، للحد من ظاهرتين هما التشوهات في أسعار العملات، والتقلبات السريعة والمفاجئة في الأسعار. ونعتقد أن سعر الصرف للعملة المحلية هو "متغير تابع" لقوة الإقتصاد، وليس "متغيرا مستقلا" يقرر هذه القوة.
كذلك فإننا نعتقد أن مراحل التنمية الأولى في الدول النامية ترتبط بظاهرة "سعر الصرف المنخفض" وليس بارتفاع سعر الصرف إلى قيمة تفوق القيمة التبادلية الفعلية للعملة المحلية في الأسواق العالمية. ويؤيد هذا الإعتقاد من الناحية العملية لجوء الصين وفيتنام وكوريا الجنوبية إلى سياسة سعر الصرف المنخفض لتعزيز قوة نفاذ صادراتها إلى الأسواق العالمية.
وفي هذا السياق فإننا يجب أن ننبه أيضا إلى أهمية معدل التضخم وأسعار الفائدة كمتغيرين يقرران سعر العملة المحلية في الأسواق العالمية؛ فارتفاع معدل التضخم محليا يخصم من قيمة العملة المحلية، بسبب انخفاض قوتها الشرائية خارجيا بعد انخفاضها محليا نتيجة لارتفاع معدل التضخم. وفي المقابل فإن رفع أسعار الفائدة على العملة المحلية يعزز قوتها في السوق المحلية كأداة من ادوات الإدخار والإستثمار، وهو ما يسهم في الإتجاه نفسه بالنسبة لقيمتها في السوق العالمية. وتتصف سياسات البنك المركزي المصري بالقصور الشديد في توظيف هذين المتغيرين واستخدامهما كمؤشرات لتوجيه السياسة النقدية التي لا يجب أن تمسها أية شائبة في الإستقلال عن السلطة والإعتبارات السياسية في الأجل القصير.
ومن الغريب أن مصر لديها حزمتين مختلفتين من المعايير لحساب معدل التضخم الأساسي، حزمة يتبناها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهي أقرب إلى الواقع، وحزمة مختلفة يتبناها البنك المركزي تم تصميمها بقصد تقليل معدل التضخم وإظهار معدلات شهرية تقل كثيرا عن التغيرات الحقيقية في الأسعار. ونظرا لأن معدل التضخم يستخدم كأحد مؤشرات توجيه أسعار الفائدة لغرض تحقيق الإستقرار النقدي؛ فقد استخدم البنك المركزي معدلات التضخم الأقل من الواقعية كمبرر لاستمرار أسعار فائدة سلبية تؤدي عمليا إلى تدمير الرغبة في الإدخار وإشعال الرغبة في الإستهلاك. ويجب أن نعلم هنا أن سياسة أسعار الفائدة التي يتبعها البنك المركزي المصري هي فوق ضررها للإدخار قد أسهمت في خلق فجوة مؤسسية بين أسعار الفائدة التي تدفعها المصارف للمودعين وأسعار الفائدة التي تتلقاها البنوك من الحكومة. إن أسعار الفائدة التي تتلقاها المصارف من الحكومة مقابل تمويل سندات الخزانة قد وصلت إلى 17% في حين أن المودعين يتلقون من المصارف 12% أو أقل على ودائعهم، وهذا يمثل هامشا كبيرا جدا يقل وجوده في العالم.
وأخيرا يجب أن أشير إلى أن الهدف من حزمة لا يتوقف عند حد مواجهة المضاربات على الدولار ضد العملة المحلية في الأجل القصير، وإنما هي تتجاوز ذلك إلى بدء الإنتقال إلى طريق جديد في التنمية يهدف للإنتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج. دعك من الشعارات الفارغة الواردة في ما يسمى استراتيجية 2030 فقد أثبت العام الأول من الخطة فشلا ذريعا في تحقيق المستهدفات، ودعك من المصطلحات التي استخدمتها وثيقة 2030 بدون قصد وبدون إدراك لمعانيها الحقيقية مثل "بناء اقتصاد المعر فة"! دعك من كل ذلك فالمشكلة أعمق بكثير مما يكتبه المسؤولون في التقارير الرسمية الذين لا يكترثون حتى بمراجعة أنفسهم لمحاولة اكتشاف أسباب قصور التقارير التي قدموها إلى الشعب وإلى مؤسسات الحكم والإدارة وقدموا فيها الوعود الزائفة. وفيما يلي عدد من البدائل والسياسات المقترحة وهي مقيدة بقيدين أساسيين، الأول هو كم ونوعية البيانات المتاحة، والثاني هو التوصيف السابق لحال الإقتصاد المصري على ضوء أزمة سعر الصرف وقرار تعويم الجنيه:
1- ضرورة تحقيق الشفافية في البيانات المتاحة وتوحيدها، خصوصا فيما يتعلق بالمؤشرات ذات العلاقة بسعر الصرف وعلى رأسها معدل التضخم. وليس من المقبول أن يكون لدينا معدل تضخم غير واقعي أو معدلات تضخم رسمية متباينة.
2- تصحيح الخلل الحالي في هيكل أسعار الفائدة على الجنيه المصري بغرض تحويل أسعار الفائدة إلى أداة لتوليد عائد ادخاري إيجابي وليس عائدا سلبيا. إن أسعار الفائدة السلبية هي المتهم الرئيسي في ظاهرة ضعف الميل للإدخار لدى المصريين. ولا أستطيع هنا أن أقترح سعرا للفائدة يحقق عائدا إيجابيا، لكن المعروف أن العائد الإيجابي يتمثل في مقدار العائد الذي يفوق معدل التضخم؛ فتحديد سعر للفائدة يساوي معدل التضخم يكفي بالكاد للمحافظة على قيمة العملة ومن ثم على قيمة المدخرات من عام لآخر، وما يزيد عن ذلك يعتبر عائدا صافيا إيجابيا بعد خصم التكاليف والرسوم الإدارية المصرفية والضرائب.
3- إبتكار أوعية إدخارية دولارية بأسعار فائدة متميزة يزيد عن أسعار الفائدة في دول الخليج التي تستضيف العدد الأكبر من المصريين العاملين في الخارج. فإذا كان متوسط أسعار الفائدة على الودائع الدولارية في مصارف الخليج هو 4% مثلا للودائع المربوطة لمدة 3 سنوات، فإن متوسط أسعار الفائدة على الودائع المشابهة في مصر يجب أن يكون أعلى بما يترواح بين 0.5% إلى 1.0% على الأقل لتشجيع المصريين أصحاب المدخرات الدولارية على الإحتفاظ بها في صورة ودائع مربوطة أو شهادات إيداع لدى المصارف المصرية. إن الأوعية الإدخارية الدولارية المقترحة يجب أن تكون جذابة بالقدر الكافي.
4- إستخدام آليات التدخل في سوق الصرف بكفاءة بواسطة البنك المركزي المصري. وفي هذا السياق يجب الكف عن العطاءات الدولارية الإسبوعية المحددة القيمة (120 مليون دولار حاليا). ويجوز للبنك المركزي أن يتدخل في عمليات السوق المفتوحة بيعا وشراء بدون الإعلان عن ذلك لضمان الحد من قيمة التقلبات ومن سرعتها، بحيث تبدو السوق قادرة على موازنة نفسها، وامتصاص الصدمات والضغوط المفاجئة.
5- التحوط ضد "ظاهرة الدولرة" التي عادة ما ترافق تدهور أسعار صرف العملات المحلية بالإجراءات الإقتصادية الكافية وليس بتوسيع دائرة الإشتباه الجنائي في المعاملات النقدية. وما طرحته في المقترحات السابقة أمثلة لكيفية التحوط ضد انتشار ظاهرة الدولرة.
6- دخول الدولة بقوة في عمليات الأسواق السلعية بيعا وشراء، ومن المهم جدا أن تلعب الدولة دورا ديناميكيا في عمليات الأسواق السلعية الإستهلاكية، بالشراء مباشرة من الفلاحين مثلا وغيرهم من المنتجين الذي يواجهون صعوبات في التسويق ويعانون من احتكار أباطرة تجارة الجملة والتصدير والإستيراد، وتحرير سوق التصدير والإستيراد من نفوذ المجموعات الإحتكارية والإتفاقات الإحتكارية. لكن يجب أن يكون واضحا أن مثل هذا التدخل هو سياسة مؤقتة محددة المدة تمثل طريقا إستثنائيا نظرا لظروف الأزمة الراهنة.
7- زيادة إمكانات النقل العام، وتطوير الخدمات التي تقدمها هيئات السكك الحديد، والطرق والكباري، ومترو الأنفاق، وهيئات وشركات النقل العام في القاهرة والإسكندرية والمحافظات. إن قطاع النقل يعاني من اختناقات حادة سوف تزداد حدتها في الفترة المقبلة ما لم تقدم الحكومة حلولا مبتكرة، وتبتعد عن سياسة ضرب الناس ببعضهم البعض في مواقف الميكروباصات وفي تاكسيات المدن.
8- وضع برنامج اقتصادي عاجل لعلاج تشوهات العرض والطلب في الأسواق، يهدف إلى تقليل الضغوط على العملة المحلية بتوفير سلع منتجة محليا تحل بأساليب اقتصادية وليس إدارية محل السلع المستوردة، وزيادة إنتاج السلع ذات القيمة المضافة العالية القابلة للتصدير (على الرغم من ندرتها). ويضمن هذا البرنامج تشغيل الطاقات الإنتاجية العاطلة كليا أو جزئيا، وزيادة الإستثمار في الصناعات سريعة العائد، خصوصا في مجالات إنتاج السلع الإستهلاكية وصناعات إنتاج المواد الوسيطة وقطع الغيار. وسوف يتطلب ذلك الحد من منظومة الفساد المؤسسي وتقليل الإجراءات البيروقراطية السلبية، وإطلاق تحويل منظومة الإبتكار والإختراع إلى نشاط صناعي ريادي.
9- العمل على استعادة الثقة بالسياسة الإقتصادية للدولة في أوساط شركات السياحة والإستثمار والنفط المحلية والأجنبية؛ بإصدار بيان واضح وشفاف يعترف بالحقائق الإقتصادية كما هي، ويوضح برنامج عمل الدولة في الأجلين القصير والمتوسط، مع ضمانات قانونية بعدم تغيير إطار ذلك البرنامج خلال فترة زمنية لا تقل عن فترة 10 سنوات.
إن المقترحات المذكورة عاليه تمثل فقط مجرد نماذج من الإجراءات الممكن تنفيذها خلال الأجل القصير والمتوسط، ولكنها لا ترقى إلى التغييرات أو الإصلاحات الهيكلية الكبرى التي تضمن تصحيح سياسات التنمية في مصر وتغيير طبيعة هيكل الإقتصاد. ومع ذلك فإن الطموح لتحقيق الإنتقال الضروري من الإقتصاد الريعي إلى الإقتصاد الإنتاجي، وزيادة معدلات الإنتاجية الكلية وتطوير الهيكل الإنتاجي في اتجاه تكثيف قوة قطاعات الإنتاج المتقدمة كثيفة التكنولوجيا، وهي كلها تحتاج إلى مداخلات أكثر تفصيلا. تبقى كلمة أخيرة من باب التحذير للذين يصطفون في معسكر فرض الإنضباط بقوة الشرطة والإجراءات الإدارية التعسفية، أقول لهم إن مثل هذه السياسة التي تم اتباعها منذ الخمسينات حتى السبعينات ندفع ثمنا فادحا لها الآن، وإن هذه السياسة ما كان لها أبدا أن تستمر لولا الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي، وقد انتهت هذه الحرب، وحذار من محاولة العودة إلى تلك السياسة مرة أخرى لأن مثل تلك الحخطورة ستكون بمثابة ضرب الثقة الإقتصادية بالمدفعية الثقيلة.