المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

هل حقاً كانت سياسات التنمية عادلة؟

الأربعاء 03/أغسطس/2016 - 02:59 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
إبراهيم نوار

هذه قراءة في كتاب الدكتور عثمان محمد عثمان "التنمية العادلة: النموالإقتصادي- توزيع الدخل- مشكلة الفقر" الصادر عن شركة روابط للنشر وتقنية المعلومات، مصر الجديدة، القاهرة، 2016.

تعاني المكتبة الإقتصادية المصرية من فقر شديد في الكتابات الجادة التي تتناول بالدراسة والتحليل ظواهر أداء الإقتصاد المصري من جوانبه المختلفة، سواء في تطور المتغيرات الإقتصادية الكلية والجزئية أو في علاقة هذه المتغيرات كل منها بالآخر داخل الإقتصاد أو في علاقتها بالخارج وتفاعلاتها مع متغيرات الأسواق العالمية. وبسبب هذا الفقر الشديد في الكتابات الإقتصادية الجادة فإن صدور كتاب جديد من فصيلة تلك الكتب الجادة يصبح في حد ذاته مناسبة للإحتفال بين الأكاديميين والباحثين وصانعي القرار. ومن هنا فإن صدور كتاب الدكتور عثمان محمد عثمان "التنمية العادلة: النمو الإقتصادي- توزيع الدخل- مشكلة الفقر"، الذي يتصدى فيه المؤلف بالدراسة لقضايا النمو وتوزيع الدخل والفقر، هو مناسبة حقيقية للإحتفال ليس فقط لأنه يضيف إضافة حقيقية إلى عناوين المكتبة الإقتصادية المصرية، ولكن أيضاً لأنه مساهمة من رجل شارك في عملية صنع القرار لمدة تقرب من عِقد كامل من الزمان حيث عمل وزيراً للتخطيط في الحقبة الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي أسقطته ثورة يناير 2011. وهذا الكتاب الذي يقول مؤلفه إنه "نتاج الدراسة التي قام بها المؤلف ضمن بحوث معهد التخطيط القومي في مصر"، يمثل شهادة تحليلية عن جانب مهم من جوانب السياسة الإقتصادية المصرية، أراد لها المؤلف أن تتجاوز حدود تجربته في المطبخ الوزاري؛ فهو في تحليله يتناول فترات أطول كثيراً من الحقب الثلاث التي تمكن فيها حسني مبارك ومن كانوا معه من حكم البلاد. ومع ذلك فإن تحليل الدكتور عثمان محمد عثمان لتطور السياسة الإقتصادية في مصر في مجالات النمو والتوزيع والفقر خلال الحقبة الأخيرة من حكم مبارك تكتسب بدون شك أهمية خاصة باعتبار إنه كوزير للتخطيط والتنمية الإقتصادية لم يكن شاهداً من خارج المطبخ وإنما كان شريكاً في عملية صنع القرار وصنع السياسة الإقتصادية داخل المطبخ السياسي المصري.

وينقسم كتاب "التنمية العادلة ..." إلى قسمين أو جزئين على حد بيان المؤلف، يناقش الجزء الأول من الكتاب (خمسة فصول- 170 صفحة من 312 ) العلاقة بين النمو الإقتصادي وتوزيع الدخل والثروة إنطلاقاً من نظرية سايمون كوزنتس عن توزيع عائد الإنتاج على عوامل الإنتاج المختلفة. ثم يناقش في الجزء الثاني من الكتاب موضوع النمو الإقتصادي وتوزيع الدخل في مصر. ويتضمن هذا الجزء الفصول من السادس إلى العاشر من الكتاب (من صفحة 175 وحتى 294).

وقد استعان الدكتور عثمان محمد عثمان في تحليله لتطور متغيرات النمو الإقتصادي وتوزيع الدخل ومشكلة الفقر في مصر لأفكار ونماذج كل من سايمون كوزنيتس وآرثر لويس في عدالة توزيع عوائد الإنتاج على المدى الطويل بين القطاعات الإقتصادية المختلفة خصوصاً بين قطاعي الصناعة في مرحلة نشأتها وتطورها والزراعة في مرحلة تراجعها وأفولها، من حيث قيمتهما في الناتج المحلي الإجمالي ونصيب كل منهما في تشغيل القوة العاملة (كوزنيتس) وميل فائض العمل إلى التحرك من قطاع الزراعة إلى قطاع الصناعة في مراحل النمو الصناعي الأولى بما يساعد على تحقيق اندفاعة في نمو القطاع الصناعي (آرثر لويس). وفيما يتعلق بالبيانات والمعلومات إعتمد المؤلف بشكل واسع على البيانات والإستنتاجات التي توصل إليها بنت هانسن في دراساته عن الإقتصاد المصري وتقسيمه لفترات النمو المختلفة، كما اعتمد أيضاً ولكن بدرجة أقل على بيانات مباشرة من كل من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ومعهد التخطيط القومي، لكنه اعتمد إجمالاً سواء في تحليله المباشر أم في استعاراته من النماذج التي عرضها على نتائج معامل (جيني) في توزيع الدخل وقياس نسبة التفاوت الإقتصادي بين الفئات الإجتماعية المختلفة. ولم يقدم الدكتور عثمان محمد عثمان كثيراً من المعلومات المستخلصة من خبرته كوزير للتخطيط والتنمية الإقتصادية في مصر لمدة تبلغ عقداً من الزمان. وفي كل الأحوال بدا المؤلف مدافعاً عن كل قيم النظام القديم الذي كان يترأسه حسني مبارك، على الرغم من اعترافه بحالة التفكك والانهيار التي كان يعاني منها ذلك النظام خصوصاً في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.

وفي هذا العرض النقدي لكتاب "التنمية العادلة: النمو الإقتصادي- توزيع الدخل- مشكلة الفقر" للدكتور عثمان محمد عثمان سنحاول الإبحار معه في عدد من المشكلات والقضايا الرئيسية التي يطرحها في الكتاب، لكننا سنفعل ذلك بمقابلة استنتاجاته مع الواقع وبيان مقدار اتفاقها أو تعارضها معه، ومن ثم مقدار مصداقية التحليل الذي يقدمه الكتاب. ونحن لن نفعل ذلك فقط فيما يتعلق بالبيانات، وإنما سنتعرض أيضاً إلى أدوات ونماذج التحليل الإقتصادي التي لجأ إليها عثمان في كتابه الذي يتناول فترة خطيرة من فترات التاريخ الإقتصادي لمصر. ومع ذلك فإننا ولغرض المحافظة على الوحدة العضوية للعرض الذي سنقدمه مع الوحدة العضوية لمحتويات الكتاب موضع العرض، فإننا سنلتزم أساساً بمناقشة القضايا الثلاث التي يناقشها الكتاب على مدى فترات زمنية مختلفة ألا وهي قضايا النمو والتوزيع والفقر، مع وضعها جميعاً في سياق ما يسميه المؤلف "التنمية العادلة".

أولاً- في المنهج ومبادئ التحليل

قلنا إن الدكتور عثمان محمد عثمان إتخذ من أفكار سايمون كوزنيتس دستورا للتحليل الوارد في كتابه، وهو في ذلك لم يتجاوز كوزنيتس الذي تجاوزته النظرية الإقتصادية كما تجاوزه الزمن. وبذلك فإن عثمان وقع منذ اللحظة الأولى في مصيدة "التقادم التحليلي" ومن ثم ستصبح كل استنتاجاته موضعاً للشك وتحتاج إلى كثير من التمحيص لإثبات إنها ما تزال تمت بصلة حقيقية إلى الواقع وإنها لاتقع خارج نطاق الحقيقة. إن عالم الإقتصاد الأمريكي سايمون كوزنيتس وهو إبن مهاجر روسي، درس الإقتصاد في الولايات المتحدة وعمل في مصلحة الضرائب الأمريكية لفترة طويلة من حياته، وهو ما وفر له ثروة معلوماتية هائلة فيما يتعلق بتوزيع الدخل، كان مهموماً إلى حد كبير بمعالجة الإنتقادات الحادة التي توجَّه إلى الإقتصاد الصناعي الرأسمالي بسبب التفاوت الشديد والمتزايد في الثروة وفي الدخول من الإيرادات الرأسمالية خلال فترة الحرب الباردة. وقد استتج كوزنيتس في نظريته الإقتصادية أن التفاوت في توزيع الدخل في المجتمع الرأسمالي ما هو إلا ظاهرة مؤقتة ترتبط بتغير الإنتاجية وعوائد عوامل الإنتاج بين القطاع الصناعي الجديد (في بداية مراحل النمو الصناعي) وبين القطاع الزراعي القديم الذي يعاني من تدهور الإنتاجية الحدية للأرض والعمل. وطبقاً للمقال الرئيسي لعالِم الإقتصاد الأمريكي في هذا الصدد والذي أشار إليه عثمان في كتابه (1955) فإن عوائد عوامل الإنتاج تميل إلى الزيادة بمعدلات متسارعة في القطاع الصناعي على حساب الزراعة لكنها بعد فترة من الزمن لا تلبث أن تعود إلى حالة التوازن، مما سوف ينتج عنه عدالة في توزيع الدخل تحل محل التفاوت.

وربما كان تحليل كوزنيتس صحيحاً في فترة الإنتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي، لكنه يصبح بعد ذلك محلاً للتساؤل وعرضة للإنتقاد خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمقومات الإستقرار الإجتماعي والسياسي في المجتمع الرأسمالي الذي كان منذ نهاية الحرب العالمية الأولى يعاني من مظاهر الصراع بين القوى الرأسمالية البازغة ومن التأثير السلبي للأزمات الدورية، ثم استمرت معاناته بعد الحرب العالمية الثانية من جراء ما خلفته الحرب من خراب ومن تأثير الصراع الحاد مع النظام الإشتراكي خلال فترة الحرب الباردة. ولذلك فإنه ليس من باب المصادفة أن مقال كوزنيتش نشر في العام 1955 بينما كانت تتطور ملامح الصراع بين النظامين الإقتصاديين الجديدين في العالم، نظام إشتراكية الدولة في الشرق ونظام الرأسمالية الصناعية الإحتكارية في الغرب. ويعتقد توماس بيكيتي على سبيل المثال أن نظرية سايمون كوزنيتس بأكملها كانت نتاجاً للحرب الباردة وكانت تهدف إلى إشاعة قدر من التفاؤل في المجتمعات الرأسمالية في وقت كانت تزداد فيه حدة الصراع بين المعسكرين الإقتصاديين العالميين. وقد بينت في كتابي "مانيفستو جديد للعدالة الإجتماعية: ثورة توماس بيكيتي على النيوليبرالية" (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2015) أن الإقتصاديين الأمريكيين كانوا مشغولين خلال تلك الفترة بقضية الصراع بين المعسكرين وإن بعضهم إرتكب في هذا السياق حماقات بالغة مثلما فعل عالم الإقتصاد الأمريكي بول صامويلسون الذي طور نموذجاً اقتصادياً رصيناً أثبت فيه أن الناتج المحلي الإجمالي للإتحاد السوفييتي سيتجاوز مثيله في الولايات المتحدة في وقت ما بين عامي 1990 و2000، ومع ذلك فإن الذي حدث فعلاً هو إنه عند مجيئ عام 1990 كان الإتحاد السوفييتي قد تفكك وتلاشى، وعندما جاء عام 2000 كانت روسيا الإتحادية تعاني من أزمة اقتصادية طاحنة تستعين عليها بتصدير النفط الخام والغاز الطبيعي!.

إن النظرية التي اعتمد عليها الدكتور عثمان محمد عثمان لم تصمد كثيراً أمام تطورات الإقتصاد في المجتمعات الرأسمالية، مما دفع عدداً من الإقتصاديين داخل الولايات المتحدة وخارجها (جون كينيث جالبريث في الولايات المتحدة وجيمس ميد في المملكة المتحدة) إلى تقديم أفكار جديدة تتجاوز نظرية سايمون كوزنيتس. وقد تحقق هذا التجاوز لنظرية كوزنيتس في تفسير التفاوت الإقتصادي بواسطة أفكار علماء الإقتصاد البارزين فيما بعد، فجاء ميلتون فريدمان بنظرية تؤكد وجود التفاوت بل وتثني عليه باعتباره الحافز الرئيسي للإستثمار والنمو، ثم جاء روبرت سولو ليبين في نموذجه للإقتصاد الكلي أن توازن عوائد الإنتاج يتم طبقاً للإنتاجية الحدية لكل عامل على حده، وإنه يتحقق على المستوى الكلي للإقتصاد وليس على مستوى كل عامل من العوامل على حده في مقارنته مع عامل إنتاجي آخر، بمعنى آخر فإن سولو إعترف ضمناً بحدوث تفاوت في عوائد عوامل الإنتاج إضافة إلى إنه أضاف عامل التغير التكنولوجي كواحد من محددات النمو الرئيسية وأحد عوامل الإنتاج. ولذلك فإن روبرت سولو لم يعارض النتائج التي توصل إليها توماس بيكيتي وإنما أيدها وذلك خلال الحوار الساخن الذي شهده العالم بعد صدور طبعة هارفارد من كتاب بيكيتي "رأس المال في القرن الواحد والعشرين" (2014).

يقول الدكتور عثمان محمد عثمان في كتابه "ربما كان من أبرز الكتابات التي بدأت إثارة الإنتباه إلى أهمية مسألة عدم المساواة في توزيع الدخل وعلاقتها بالنمو الإقتصادي...هو الخطاب الذي ألقاه سايمون كوزنيتس (1955) في المؤتمر السنوي السابع والثلاثين للرابطة الإقتصادية الأمريكية وصارت هذه المقالة مرجعاً لكل ما تبعها من دراسات وأبحاث ومراجعات حتى وقتنا الراهن" (ص. 21)، وهو بذلك قد أغفل أهمية الدراسات التي انتقدت نموذج كوزنيتس وتجاوزته يميناً أو يساراً. لقد توقف تحليل المؤلف واستنتاجاته عند حدود مصداقية ما قدمه كوزنيتس في العام 1955! لقد استخدم عثمان أداة تحليل عفا عليها الزمن، فكانت النتائج من ذات الطبيعة، أي عفا عليها الزمن. يقول المؤلف "حينما يكون التفاوت الملحوظ في الدخول مرتبطاً بمعدل سريع للنمو الإقتصادي يضمن بدوره تخفيض معدلات الفقر، فقد يصبح ممكناً التعايش مع الإختلال في توزيع الدخل" (ص. 147) فكأن المؤلف بذلك يدافع عن استمرار الإختلال في توزيع الدخل، ويفترض أن النمو السريع يمكن أن يتحقق مستداماً مع اختلال توزيع الدخل، ويفترض في الوقت نفسه علاقة تبادلية بين الفقر وتوزيع الدخل، معتبراً أن تخفيض الفقر هو المشكلة التي يمكن أن يتغلب عليها النمو الإقتصادي السريع. وحقيقة الأمر هنا أنه لا توجد علاقة تبادلية بين الفقر وبين التفاوت في توزيع الدخل؛ فالتفاوت قد يحدث في مجتمع فقير، لكن حدته لا تزيد بالضرورة مع شدة مستوى الفقر، بل إن مجتمعاً فقيراً بشكل عام قد لا تشتد فيه درجة التفاوت في توزيع الدخل. وباستخدام أدوات التحليل التي اعتمد عليها المؤلف (معامل جيني) فإن معظم المؤشرات تؤكد أن نسبة الفقر في الأرياف تزيد عنها في الحضر ومع ذلك فإن مؤشرات التفاوت في التوزيع تقل في الريف (الأكثر فقراً) عنها في الحضر (الأقل فقراً أو الأغنى).

ويخلص عثمان إلى أن "السياسة الإقتصادية الهادفة إلى تحقيق نمو سريع تمثل مكوناً جوهرياً في استراتيجية تقليل الفقر" (ص. 152). وقد بين عالم الاقتصاد الأمريكي جوزيف ستيجليتز أن تفاوت الدخول يؤدي إلى إعاقة النمو كما بينت دراسات لاحقة لصندوق النقد الدولي أن النمو المستدام لا يتحقق مع التفاوت في توزيع الدخل. والأكثر من ذلك أن بعض بيوت الخبرة المالية مثل ستاندارد آند بوورز أكدت في السنوات الأخيرة من واقع دراسات ميدانية أن التفاوت يؤدي إلى تخفيض معدلات النمو الإقتصادي (راجع إبراهيم نوار، مانيفستو جديد للعدالة الإجتماعية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015) خصوصاً في الفصل الثاني من الكتاب.

إننا هنا نريد أن نبين أن القصور في أدوات التحليل يؤدي عادة إلى خطأ في النتائج. وقد بين المؤلف في موضع آخر كيف أن نموذج آرثر لويس في تفسير انتقال فائض العمل من الزراعة إلى الصناعة فشل في تفسير الحالة المصرية. وقد افترض لويس أن فجوة توزيع الدخل تميل إلى الزيادة عندما تبدأ التنمية بسبب انتقال فائض العمالة من القطاع الزراعي إلى الصناعة، مشدودة إلى القطاع الأكثر تطوراً بحافز ارتفاع الأجور في الصناعة عنها في الزراعة. واعتقد لويس أن هذا ينطبق على الحالة المصرية، وهو ما نفاه تماماً عثمان في كتابه مفترضاً أن الزراعة المصرية لم تشهد أبداً بطالة مطلقة وإنما تشهد دائماً بطالة موسمية فقط.

والحقيقة إنه من الصعب أن ندرس حالة توزيع العمالة وانتقال فائض العمالة من الريف إلى المدن في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بمعزل عن التغيرات التي طرأت على هيكل توزيع الملكية في مصر خلال تلك الفترة، وهي التغيرات التي قال عثمان وغيره من الأكاديميين الذين تصدوا لدراسة تطور الإقتصاد المصري أنها أدت إلى تقليل ثروة وإيرادات طبقة كبار الملاك وأدت إلى زيادة حجم وثروة الطبقة الوسطى إضافة إلى توسيع نطاق طبقة صغار الملاك. إن عثمان يخلص إلى عدم انطباق نموذج لويس بحجة أن القطاع الزراعي المصري لم يشهد أبداً ظاهرة البطالة المطلقة (بمعنى وصول الإنتاجية الحدية للعامل الزراعي إلى الصفر)، ومن ثَم انخفاض معدل هجرة العمال الزراعيين إلى المدن للعمل في القطاع الصناعي وهو ما يعني أن الصناعة المصرية لم تستفد من افتراض لويس بأن التوسع الصناعي في الدول النامية الزراعية كثيفة السكان يمكن أن يتحقق بدون تضحيات كبيرة فيما يتعلق بالأجور. وطبقا لآرثر لويس فإن الدخول المنخفضة في القطاع الزراعي تؤدي إلى تثبيت الأجور النقدية في القطاع الصناعي عند مستويات منخفضة. لكن ذلك لم يكن الحال في مصر، مما يعني عدم انطبق النموذج على الحالة المصرية كما ذكر الدكتور عثمان.

وسنلاحظ بعد ذلك أن المؤلف إعتمد اعتماداً مطلقاً على معامل (جيني) لقياس التفاوت في الإنفاق على الإستهلاك بدون التدقيق في الإنتقادات الموجهة إلى هذا المقياس، وبدون أن يستخدم ما قد يكون متاحاً له بحكم خبرته وتجربته الطويلة في العمل داخل معهد التخطيط القومي، باحثاً ومديراً ثم وزيرا للتخطيط. وأتصور من واقع خبرتي القصيرة في العمل مستشاراً لوزير الصناعة والتجارة إن المسؤولين عن قطاعات الإقتصاد والمالية والتخطيط والتجارة والصناعة والزراعة وغيرهم من المسؤولين الحكوميين عادة ما تتاح لهم أرقام لا يجري نشرها، أو ربما تتكون لديهم من واقع تلك الخبرات ملاحظات قد لا ينتبه إليها لا الشخص العادي ولا الباحث الأكاديمي. ويشير الدكتور عمرو محيي الدين في مقدمته لكتاب "التنمية العادلة..." إلى خطورة الإعتماد على بيانات الإستهلاك التي توفرها بحوث ميزانية الأسرة التي يجريها دورياً الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ويتم تحليلها على أساس معامل جيني. يقول محيي الدين في مقدمته لكتاب عثمان "الإعتماد على بيانات الإستهلاك التي توفرها بحوث ميزانية الأسرة قد لا يعطي صورة دقيقة وواقعية لتوزيع الدخل..." (ص. 18). والحقيقة إن معامل جيني يمثل واحداً من مقاييس التركز (concentration measures) التي تقيس توزيع الإنفاق على السلع الإستهلاكية، ومع ذلك فإن الأكاديميين توسعوا في استخدامه كمقياس لتوزيع الداخل وحساب التركز في توزيع الدخل. وفي اعتقادي أن التوسع في استخدام مقياس جيني كمعامل لتوزيع الدخل يمثل مفسدة منهجية لأن الدخل الفردي يتضمن الإنفاق على الإستهلاك وكذلك على الإدخار، بينما لا تقيس بحوث الإنفاق والإستهلاك إلا الإنفاق على الإستهلاك فقط، ومن ثَم فإنه لا يجوز التوسع في الإستدلال منها على توزيع الدخل. بل إن طبيعة الإنفاق الإستهلاكي التي تتغير من فئة من فئات الدخل إلى فئة أخرى تضيف قيداً شديداً على الإستدلال من بحوث الإنفاق على توزيع الدخل؛ فنسبة الإنفاق على مجموعة الطعام والشراب مثلاً لدى الفئات الأكثر دخلاً تقل كثيراً عن مثيلتها بالنسبة للفئات الققيرة أو الأقل دخلاً. ولذلك فإننا نضع تحفظات كثيرة على جداول توزيع الدخل المبنية على استخدام معامل جيني في دراسة بيانات الإنفاق الإستهلاكي، وهو المنهج الذي استخدمه بنت هانسن (1965، 1982، 1991) وخبراء البنك الدولي على نطاق واسع ونقله عن هانسن والبنك الدولي الأكاديميون المصريون. إن دراسة التباين في توزيع الدخل في مصر تحتاج إلى منهج جديد يستفيد من قوانين توماس بيكيتي في دراسة التراكم وتركيز الثروة على مدى فترات تاريخية طويلة نسبياً. وقد أوضح عثمان في كتابه إنقطاع فترات النمو وعدم استدامتها واختلاف اتجاهات توزيع الدخل بسبب السياسات الإقتصادية، لكنه اقتصر على ذلك بالمؤشرات الوصفية بدون أن يقدم تحليلاً يفسر لماذا حدث ذلك أو ما هي العوامل الحاكمة التي أدت إلى فشل السياسة الإقتصادية أو نماذج النمو المتبعة منذ الخمسينات في تحقيق التنمية العادلة أو التنمية المستدامة.

ثانياً- النمو الإقتصادي بين الإستدامة والإنقطاع ومعايير العدالة

سوف أنتقل هنا بسرعة من خطايا الإطار النظري الذي اعتمد عليه الدكتور عثمان محمد عثمان في الجزء الأول من كتابه "التنمية العادلة..." وقصور أدوات التحليل التي وظفها لاستخلاص نتائجه، إلى تناول القسم (الجزء) الثاني من الكتاب الذي جاء بعنوان "النمو الإقتصادي وتوزيع الدخل في مصر"، الذي اشتمل على خمسة فصول (من السادس إلى العاشر)، وحاول فيه المؤلف جاهداً أن يبرهن على أن إعادة توزيع الدخل لا تحقق العدالة وأن المشكلة الرئيسية التي ينبغي أن تواجهها السياسة الإقتصادية هي تخفيض الفقر، مع ترك مسألة التوزيع لقوانين النمو فهي كفيلة بها مع استثناءات محدودة، مع تأكيده على أن توزيع الدخل في مصر يتميز عموماً بالعدالة وليس التفاوت.

وفي هذا الجزء من الكتاب تواجهنا منذ اللحظة الأولى مشكلة "مصداقية" البيانات التي اعتمد عليها المؤلف، ومما لاشك فيه أن نوعية البيانات والمعلومات تصبغ بطابعها النتائج والمستخلصات التي ينتهي إليها الباحث؛ فإذا كانت نوعية المعلومات عالية ومصادر المعلومات متعددة ومتنوعة، صبغ ذلك الإستنتاجات التي يتم التوصل إليها بصبغة الجودة والدقة والعكس صحيح. والحقيقة أن عدداً من الباحثين في شؤون الإقتصاد المصري إضافة إلى عدد من المؤسسات الإقتصادية والتنموية العالمية مثل صندوق النقد والبنك الدولي أشاروا إلى كثير من الفجوات والنقائص والعيوب في الأرقام والبيانات الرسمية المصرية التي يتم تقديمها إلى المؤسسات الدولية ويتم على أساسها وضع مؤشرات التنمية للفترات اللاحقة. ومع ذلك فإنه لاعتبارات عملية بحتة يتم الإعتماد على البيانات المتاحة لتحليل ووضع مؤشرات التنمية وصوغ مقومات السياسات الإقتصادية الوطنية. وفي سياق الحديث عن مصداقية البيانات المتاحة يقرر عثمان في كتابه إن "بعض النقائص أو التباين لا ينال من مصداقيتها (ص.ص 216-217). لكن باحثاً اقتصادياً آخر هو الدكتور إبراهيم العيسوي يقرر في كتابه عن الإقتصاد المصري في ثلاثين عاماً (منتدى العالم الثالث، مشروع مصر 2020 الصادر عام 2007) أن البيانات الإقتصادية المتاحة تحتاج إلى "مراجعة وتصحيح والتوصل إلى سلاسل زمنية طويلة ومتسقة...والتوثيق الدقيق للتعاريف وأساليب البيانات وطرق الحساب وأساليب التعديل في التقديرات السابقة، مع نشر هذه المعلومات في تقارير تتاح في سهولة ويسر لكل من يطلبها" (العيسوي، 2007. ص. 75). وأظن إن البيانات الإقتصادية في مصر لاتزال تعاني من كثير من النقائص والفجوات والإضطراب في التقديرات، ومن مظاهر ذلك حالياً على سبيل المثال الإختلاف في بيانات مؤشر التضخم في مصر بين تقديرات كل من البنك المركزي وبين الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء؛ ففي شهر يونيو 2016 بلغ معدل التضخم السنوي طبقا للبنك المركزي 12.37% في حين إن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أعلن أن معدل التضخم للشهر نفسه بلغ 14.8% بفارق 2.5% بين التقديرين أي بفجوة بين التقديرين تصل إلى نحو 20%!.

وسوف نلاحظ في كثير من المجالات أن تغيير طرق حساب وترتيب البيانات وفقا لقرارات إدارية وليس لاعتبارات فنية يترك تأثيراً هائلاً على الأرقام المتاحة. وعلى سبيل المثال فإنه خلال فترة تولي وزير المالية الأسبق يوسف بطرس غالي تم تخفيض قيمة العجز في الموازنة العامة للدولة بعد ضم رصيد وموارد صندوقي المعاشات والتأمينات الإجتماعية إلى الإيرادات العامة للدولة، مع إصدار صكوك إسمية ورقية لتعويض الصندوقين؛ فكان أن انتهي الأمر إلى ضياع موارد الصندوقين مع احتساب قيمة مدفوعات المعاشات والتأمينات ضمن الإنفاق العام. كذلك حدثت تشوهات في أرقام الدعم بعد أن تم إعادة تقدير قيمة الإنتاج المحلي للطاقة بأسعار السوق العالمية وليس طبقاً لتكاليف الإنتاج المحلية، وهو ما ترتب عليه تضخيم قيمة دعم الطاقة في عهد الوزير نفسه. إن الدكتور عثمان محمد عثمان وكان سابقاً للدكتور يوسف بطرس غالي في تولي الوزارة إعتمد على البيانات الرسمية المنشورة كما هي أو استعان بها عن طريق باحثين آخرين أو مصادر ثانوية بدون أن يحاول تدقيق هذه البيانات. ولا شك أن تطوير نظم إعداد البيانات الإقتصادية في مصر ما يزال يحتاج إلى الكثير من الدقة والشفافية.

بعد ذلك ينتقل عثمان إلى دراسة موضوعه (النمو وتوزيع الدخل ومشكلة الفقر) طبقاً للإطار النظري الذي عرضه في الجزء الأول وعلى أساس البيانات المتداولة بافتراض صحتها ودقتها بشكل عام. ولغرض تقديم صورة بانورامية واسعة تعينه على تفسير العلاقات بين النمو والتوزيع والفقر فقد استعان عثمان بدراسات سابقة أجراها بنت هانسن وسمير رضوان وخالد إكرام وغيرهم، وخلص هؤلاء بشكل عام إلى تقسيم مراحل النمو في مصر إلى فترات تتبع السياسات الإقتصادية الرسمية، فهناك فترتي النمو الإقتصادي في الخمسينات إلى منتصف الستينات، ثم هناك الفترة من منتصف الستينات إلى منتصف السبعينات، تليها الفترة التي يطلق عليها عثمان "عقد النمو الكبير" الممتدة من 1975 وحتى 1985، وهي نفسها الفترة التي أطلق عليها هانسن ورضوان فترة "النمو غير المولد لفرص عمل واسعة". ثم فترة "النمو البطئ" الممتدة من عام 1985 إلى منتصف التسعينات وربما إلى نهاية القرن الماضي، ثم الحقبة الأولى من القرن الحالي والتي يطلق عليها الدكتور عثمان "فترة النمو الجيد وتراجع نسبة البطالة".

ومن خلال عرضه لفترات النمو المختلفة وخصائصها المختلفة سواء من حيث معدلات النمو أو توزيع الدخل أو انتشار الفقر إستنتج عثمان أن "أهم ملامح وخصائص عملية النمو الإقتصادي (في مصر) تمثلت في ظاهرتين: الأولى أن الإقتصاد المصري لم يتمكن من المحافظة على معدل نمو جيد (مرتفع) لفترة طويلة ممتدة. ولم تدم أي فترة نمو جيد أكثر من 3-5 سنوات، يتجه بعدها منحنى النمو إلى الهبوط. الثانية أن النمو الإقتصادي وتوزيع الدخل لم يكن مرهوناً بما اقتضته أسس علم الإقتصاد والتنمية من أهداف متعلقة بتحقيق النمو مع العدالة." (ص. 226). والحقيقة إن قضية "الإستمرارية والإنقطاع في تطور المجتمع المصري خلال الربع قرن الذي أعقب عام 1952، كانت واحدة من القضايا الجوهرية التي رصدتها دراسات سابقة من أهمها مجموعة الدراسات التي تم نشرها في مجلد شارك فيه وحرره الدكتور جودة عبد الخالق بعنوان "الإقتصاد السياسي لتوزيع الدخل في مصر" والتي ما تزال في حاجة إلى دراسات متعمقة من أجل تفسير آليات الإستمرار والإنقطاع في نمو المجتمع المصري سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؛ فالظاهرة التي تم رصدها من قِبل الباحثين لم يتم حتى الآن تقديم تفسيرات كافيه لفهم طبيعتها وآليات عملها. إن عثمان توقف هنا عند حدود المشاركة في رصد ظاهرة عدم استدامة النمو، ولم يقدم العلاقة بينها وبين شروط النمو المستدام خصوصاً فيما يتعلق بالتأثيرات المتبادلة بين متغيرات التنمية الإقتصادية (رأس المال العيني) والإجتماعية (رأس المال البشري) والبيئية (التوازن البيئي) والتوازن المناطقي أو الجغرافي وعدم تهميش المناطق غير الحضرية خلال عملية التنمية.

ومن الملاحظ كذلك إن عثمان في عرضه لفترات النمو في مصر قد تجاهل دراسة عمليات وطبيعة وآثار التغيرات الهيكلية التي حدثت في المجتمع المصري، وقلل كثيرا من أهمية هذه التغييرات على الرغم من اعترافه في أحد هوامش الكتاب بأنه تعلم من الأستاذ الجليل الدكتور زكي شافعي أن التنمية تتضمن محورين هما "النمو السريع والتغييرات الهيكلية" (ص. 240). إن التغييرات الهيكلية العميقة في خريطة توزيع الثروة في مصر على مدار فترات التنمية الممتدة من العام 1952 وحتى نهاية العام 2010 تركت تأثيرات بالغة الخطورة على خريطة توزيع الدخل وعلى معدلات التفاوت والفقر في مصر. ومع ذلك فإن عثمان يتوصل إلى نتيجة خطيرة حيث يقرر إنه "إستنادا إلى المؤشرات الدارجة المستخدمة في قياس مستوى التفاوت (اللامساواة) في توزيع الدخل يمكن التأكيد على إن مصر لا تعاني من اللامساواة أو حدة التفاوت بين مستويات الدخل للفئات المختلفة" (ص. 232). وهذا الإستنتاج الخطير يناقض تماما مع ما انتهى إليه الدكتور إبراهيم العيسوي في دراسته عن التشابكات بين توزيع الدخل وبين النمو الإقتصادي في مصر منذ 1952، ويقول جودة عبد الخالق في مقدمته لكتاب "الإقتصاد السياسي لتوزيع الدخل في مصر" أن العيسوي يقرر أن فترات النمو الإقتصادي في مصر منذ ذلك الوقت حتى الآن تميزت في المرحلة الأولى (الخمسينات حتى منتصف الستينات) بتسارع النمو وتحقيق مزيد من العدالة في الوقت نفسه، مدللا على ذلك إحصائيا بوجود ارتباط موجب بين النمو والعدالة في توزيع الدخل خلال تلك الفترة. أما في الفترة الثانية (من منتصف الستينات وحتى منتصف السبعينات) فقد تباطأ النمو لكن الإقتصاد على الرغم من ذلك إتجه إلى تحقيق مزيد من العدالة في التوزيع، ومع ذلك فإن هذه الفترة كانت كما يقرر العيسوي هي بمثابة "نقطة تحول في تاريخ مصر الإجتماعي" وإنها "تصوير واضح لفشل النظام الإجتماعي المصري في الوصول إلى نقطة توازن مستقر على طريق النمو والعدالة". أما الفترة الثالثة من فترات النمو حسب العيسوي فإنها تمتد منذ منتصف السبعينات و "تشهد نمواً اقتصادياً سريعاً وتزايداً في التفاوت في توزيع الثروة والدخل. (جودة عبد الخالق- محرر، الإقتصاد السياسي لتوزيع الدخل في مصر، 1993. ص. 12).

وسوف نلاحظ في دراسات النمو أو التنمية في مصر إن هناك اتفاقاً على أن الفترة من عام 1975 قد سجلت نمو اقتصادياً سريعاً، مع اختلاف في تقديرات الآثار التوزيعية للنمو؛ فهناك من يعتقد إن النمو تميز بالعدالة التوزيعية، وهناك من يدلل على أن النمو تميز بالتحيز المناطقي لصالح العاصمة والمدن الكبرى والتحيز لمصلحة أصحاب الثروة على حساب قوة العمل. ومع ذلك فإن أياً من الفريقين اللذين اتفقا على تحقيق معدلات نمو سريعة منذ منتصف السبعينات حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي لم يدرس طبيعة محركات النمو خلال ذلك العقد التنموي، خصوصاً فيما يتعلق بانتقال الدولة إلى مزيد من الإعتماد على القطاعات الريعية (مثل إيرادات تصدير النفط وقناة السويس) على حساب القطاعات الإنتاجية خصوصا الصناعة التحويلية. إن محركات الإستثمار والتنمية خلال ذلك العقد إعتمدت أيضاً على المزيد من المساعدات الإجنبية والإقتراض من الخارج، وهو ما أدى عملياً إلى تعقيدات اقتصادية واسعة النطاق في الفترات التالية بسبب اتساع نطاق البطالة وزيادة عبء المديونية الخارجية واضطراب السياسات الإقتصادية، خصوصاً في المجالين النقدي والمالي، بسبب تقلبات الإيرادات من صادرات النفط وقناة السويس وتحويلات المصريين العاملين في الخارج. لقد ظل الإستهلاك هو محرك النمو الأساسي وليس الإستثمار. في حين إن الإستثمار خضع هو الآخر لضغوط المتغيرات الخارجية السلبية، الأمر الذي انتهي إلى اضطراب كل المؤشرات الإقتصادية في الفترة اللاحقة حيث اتسع نطاق الفقر وارتفع معدل التضخم وزادت البطالة . وهذا الإضطراب يناقض في حقيقة الأمر ما كان قد قرره عثمان من قبل بشأن طبيعة النمو وقدرة الإقتصاد على توفير ما يقرب من مليون فرصة عمل سنويا (ص. 264). إن تخلي الدولة عن سياسة التشغيل الكامل وتعيين الخريجين منذ عام 1984 أسهم ليس فقط في زيادة معدل البطالة الكلي، ولكن في زيادة تركز نسبة البطالة بين الشباب والداخلين الجدد إلى سوق العمل من خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس الفنية المتوسطة. لقد زاد معدل انتشار الفقر من 16% إلى أكثر من 26% خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وفشلت خطط التنمية في تحقيق أهدافها الرئيسية، وتراجع متوسط نمو الناتج القومي للفرد، وزاد نطاق الخلل في المالية العامة للدولة، مما يضع معظم النتائج التي توصل إليها الدكتور عثمان محمد عثمان في كتابه "التنمية العادلة: النمو الإقتصادي- توزيع الدخل- مشكلة الفقر" موضع التساؤل. لقد انشغل عثمان بالدفاع عن السياسة الإقتصادية في عصر مبارك خصوصاً الحقبة الأخيرة التي سبقت سقوطه، كما انشغل بالهجوم على من حذروا من تآكل الطبقة الوسطى المصرية وتدهور أحوالها، أكثر من انشغاله بتحليل الأداء الإقتصادي من وجهة النظر التي تعني بالكفاءة والرشادة في إدارة الموارد المتاحة. إن عثمان عرض لفترات النمو الإقتصادي بدون أن ينشغل بتحليل محركات النمو والكشف عن آليات عملها، وهو في نهاية العرض يؤكد انحيازه لمعسكر أنصار الإبقاء على الوضع الراهن كما هو عليه، مكتفياً بتقديم الفتات إلى الفقراء لتقليل فقرهم بمقتضى سياسات توزيعية هزيلة يعترف هو نفسه بأنها لا تغطي إلا نسبة محدودة من الفقراء، وإنما لا تقدم لهؤلاء إلا نسبة هزيلة من الدخل القومي في صورة إعانات نقدية أو عينية لا تعادل بأي حال من الأحوال ما يتم امتصاصه من عرق العاملين والفقراء الذي تستحوذ عليه الدولة من خلال الضرائب غير المباشرة ومن خلال معدلات التضخم المرتفعة وأسعار الفائدة السلبية على مدخرات القطاع العائلي. ويبقى الكتاب بالرغم من كل ذلك إضافة مهمة إلى المكتبة الإقتصادية المصرية ومجهوداً كبيراً في مجال دراسات توزيع الدخل ومواجهة مشكلة الفقر في مصر.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟