الحديث هنا عن زيارة الملك سلمان لمصر والتي بدأت الخميس الماضي. واختياري لهذا العنوان لا يعني بالضرورة بناء اتحاد متكامل بين دول الخليج أو المملكة ومصر اعتباراً من اليوم كما هي الحال في دول أوروبا الأعضاء، في ما يعرف بالاتحاد الأوروبي، الذي يشمل إذابة الحدود وحرية التنقل.
لا أقصد ذلك بالطبع لأن هذا العمل، فتح الحدود وحرية التنقل، يعتبر مرحلة متأخرة ونتيجة لتحقيق قائمة من مبادرات التعاون المؤدية لنجاح هذا الاتحاد الذي للتو قد يبدأ. ما نتحدث عنه هو البدء ببناء منظومة كبرى للتعاون، ويأتي في مقدمتها التعاون الاقتصادي، واستغلال قدرات كل طرف بما يخلق فرص عمل جديدة ويقلل من التكاليف ويرفع حجم الاستهلاك، ويقلل من الاعتماد على الشراء من الدول الأخرى البعيدة.
أول ما يخطر على بالك وأنت تضع اسمَيْ السعودية ومصر هو القوة في عالمنا العربي المتمزق. القوة العسكرية والاقتصادية والبشرية. في المملكة ودول الخليج عموماً يوجد المال وتوجد الفرص الهائلة لبناء فروع جديدة للاقتصاد لا تزال غائبة، وأخص تحديداً المملكة وحاجتها لبناء صناعة السياحة، المؤثرة إيجابياً على الدخل الوطني، وبناء قاعدة ضخمة للإعلام وصناعة الميديا والسينما، والاستثمار في قطاعات التجزئة والترفيه، من دون الإغفال بالطبع عن تنمية وتطوير صناعات النفط والمعادن القائمة في كل بلد. وفي مصر يوجد نهر النيل الذي يصب في البحر يومياً ملايين البراميل من المياه العذبة، ولديهم صناعة السياحة والفن والميديا، وتوجد الزراعة والصناعة أيضاً، والتاريخ والآثار المدهشة، والنظام القضائي العريق، ومؤسسة الأزهر العملاقة، لكن الأهم من ذلك كله الوفر الهائل في القوى البشرية. ربما لو أن زمن كتابة هذه المقالة كان قبل عقدين لكان الحديث مختلفاً.
اليوم، المملكة ومصر بما حدث من نمو سكاني سريع بحاجة إلى توفير ملايين فرص العمل الجديدة للملايين من المواطنين هنا وهناك، بما يفضي بالنهاية إلى مكتسبات كبيرة للفرد على الأرض، وأهمها توفير السكن وبناء الأسرة في أجواء من الطمأنينة والثقة بالمستقبل.
تعمدت عدم الخوض في التعاون العسكري لعدم تخصصي في ذلك، ولو أنه أمر حتمي وعامل حاسم في المحافظة على الأمن وصيانة المنجزات والذود عنها، على أن شرعية الأنظمة الحاكمة وكما هي منذ بدء الخليقة وحتى اليوم هي توفير الأمن والرخاء والاكتفاء الذاتي للشعوب. باستثناء نظام إيران القمعي، لا يوجد في العالم نظام حكم قادر على الاستمرار من دون أن يحقق لشعبه هذه المنجزات، ومصر والمملكة ليستا استثناء ولا يوجد أدنى شك لدى أي عاقل في هذه الحقيقة. من هنا تبرز أهمية التعاون بين البلدين (١٠٠ مليون نسمة أو تزيد)، اللذين يشكلان في ما بينهما جملة اقتصاد يفوق ترليون دولار في إجمالي ناتجه المحلي (٣٥٠ بليون دولار لمصر، و٨٥٠ بليون دولار تقريباً للمملكة)، ولو أضفنا إليه ناتج دولة الإمارات وبقية دول الخليج فإنه سيتجاوز حتماً الناتج المحلي في دولة صناعية كبرى مثل كوريا الجنوبية.
لنأخذ بعض الأمثلة عن هذا التعاون المحتمل، خصوصاً بعد الإعلان عن بناء الجسر البري بين مصر والمملكة، الذي سيحمل اسم جسر الملك سلمان. في مصر يوجد الماء والأراضي الزراعية والعمالة اللازمة. في دول الخليج لا يوجد الماء ولا توجد اليد العاملة، لكن يوجد الطلب الهائل على المحاصيل والمنتج النهائي، بمعنى آخر القوة الشرائية. في صناعة الألبان واللحوم على سبيل المثال وليس الحصر لِمَ لا يتم نقل إنتاج الألبان والدواجن والماشية والأعلاف إلى مصر، مع عدم التفريط في المصانع المحلية في المملكة. أي نقل الحيوانات الحية إلى مصر دواجن وأبقار وماشية الغنم وتغذيتها ثم تعاد للمملكة بعد ذبحها، أو ينقل للمملكة إنتاجها من الحليب لتكملة التصنيع. الفكرة هي استثمار المياه والأراضي الزراعية واليد العاملة المصرية، وهي بلا شك أقل كلفة من فعل المجهود نفسه في الجزيرة العربية الصحراوية. هنا نخلق فرص عمل للمصريين، ونحافظ على الثروة المائية الشحيحة في المملكة.
هناك العديد من المبادرات في الصناعة أيضاً. لنتذكر كم دولة من دول الاتحاد الأوروبي تشارك في صنع طائرات الأيرباص قبل أن تخرج من مصانع تولوز الفرنسية. في إطار التعاون على بناء القطاعات الأخرى التي أشرت إليها، يمكن لعدد من المحافظ الخليجية المالية الكبرى الاستثمار ببناء قاعدة عالمية لصروح سياحية غير مسبوقة في مناطق عدة من المملكة، كما يمكن فعل ذلك لتطوير مناطق في مصر نفسها.
في صناعات الأغذية المحفوظة لا يمكن الاستهانة ببعض العلامات التجارية المصرية، وكذا السعودية، وبالإمكان تأسيس مراكز إنتاج متطورة هنا أو هناك تخلق الآلاف من فرص العمل الجديدة. حتى في مجال الفن والمسرح، ومصر تعتبر رائدة في هذا العمل، يمكن لدول الخليج أن تؤسس استوديوهات ضخمة بمواصفات عالمية معتمدة على تجارب الأشقاء في مصر، ولكن لتحقيق منتجات عالمية في هذه الصناعة المهمة بما يؤدي إلى اعتبار هذا الفن رافداً من روافد تنوع مصادر الدخل. يمكن توكيل مهمات المحاسبة والتدقيق وتنظيم بعض الدورات التعليمية في مراكز متطورة ومعتبرة في مصر، من دون الحاجة إلى وجودها فعلياً في المنطقة المستهدفة. الحديث في أفرع التعاون بين شعوب ومؤسسات دول الخليج ومصر لا يتوقف، وهناك المئات من المبادرات الخلاقة. لكن، وهذه الـ«لكن» أراها من الوقفات المفصلية، يتطلب قبل كل ذلك تطوير القوانين المصرية والخليجية بشكل عام، بحيث تشكل الحماية الأهم للمستثمرين من كلا الطرفين، وفرصة مهمة للتخلص تماماً من الضبابية في الأنظمة بشكل عام. أقول ذلك لأن من سيقود هذا التفاعل الاقتصادي هو في الغالب القطاع الخاص وليس الحكومات، وهذا القطاع يحتاج أول ما يحتاج إلى توافر الأنظمة العدلية الواضحة. تمنيت لو أن من ضمن المذكرات الموقّعة بين السعودية ومصر وعددها ١٧ مذكرة واتفاقاً حول التعاون في تطوير القضاء وتقنينه، وبناء الهيكل العدلي المناسب للعصر ومتطلباته. لا يعني ذلك أن الوقت متأخر، إذ بالإمكان فعل ذلك في أي لحظة، والاستفادة من تاريخ القضاء المصري الذي يعتبر مؤسسة بالغة الأهمية في الدولة، ويحظى بثقة الشعب المصري على عمومه. ليس أمام دول الخليج ومصر إلا التعاون نحو بناء غد أفضل، وهذا الحديث تحوّل إلى قاعدة استراتيجية لا يمكن المساومة حولها مهما تعالت أصوات بعض الناقمين من هذا التقارب.
إذا كان لدى مصر ١٠ ملايين عاطل فلدى دول الخليج عدد من العاطلين، ولكن لديها أيضاً ١٤ مليون أجنبي لا ينطقون العربية يعملون في مهن متعددة. قد لا نستغني عن بعض المهارات التي نستقدم لها أجانب، لكننا حتماً قادرون على استبدال نصف عدد هؤلاء الأجانب بمصريين، سواء في الصحة أم في صناعة المعلومات أم في التصنيع والترفيه. كل ما نحتاج له هو وضع خريطة طريق تعتمد في فرضياتها على الواقع وما يمكن تحقيقه وليس ما نحلم به. يتم بعد ذلك مراقبة أهداف كل مرحلة والتأكد من سيرها ضمن الطريق المعد لها بحيث لا توقفها بيروقراطية ولا منافع شخصية، ومعتمدة بعد الله على المراقبة اللصيقة وتطبيق مبادئ الثواب والعقاب. هذه مسببات النهضة في الدول المتقدمة، ومنطقتنا لن تنهض من دون ذلك مهما بلغت الأماني والطموحات والآمال. لو نفعّل هذه الرؤى وغيرها فسيجد أبناء وبنات الأجيال القادمة أنفسهم انضموا إلى قوائم الدول والاتحادات الأكثر تأثيراً إيجاباً في منطقة عانت عبر القرون كل أنواع الاقتتال والحروب وغياب الاستقرار والأمن. ومن يدري فقد يتمدد هذا الاتحاد الأنموذج ليضيف مستقبلاً دولاً عربية وصديقة، عانت من التمزق والضعف والشتات، ويجمعها التطلع للتنمية والأمن والاستقرار. نقلا عن الحياة
* كاتب سعودي.