الدولة التنموية: رؤى نقدية للمشكلات وسياسات بديلة (1)
الأحد 10/أبريل/2016 - 01:02 م
د. يسري العزباوي
إن من أهم الأدوار التي تقوم بها المراكز البحثية والعملية في العالم ليس فقط دراسة وتحديد الإشكاليات والقضايا المجتمعية الملحة، ولكن تقديم رؤى ومقترحات للنخبة الحاكمة ولمؤسسات الدولة (التنفيذية والتشريعية والقضائية) عن كيفية التعامل مع تلك الإشكاليات عن طريق وضع تصورات وسيناريوهات متعددة يمكن لصناع القرار تبنيها في تعامله من تلك القضايا.
وفي هذا الإطار، ومنذ ما يقرب من العام، وضع المركز العربي للبحوث والدراسات على عاتقة دراسة أهم المشكلات التي تمر بها الدولة المصرية، وإصدارها في كتاب، سوف يرى النور قريبًا، ويشارك فيها عدد كبير من الباحثين من مختلف التخصصات العلمية، ويتبع في ذلك منهجا محددا في دراسته لتلك القضايا التي يناولها، من خلال التوصيف المباشر للمشكلات بالأرقام، ثم تقييم للسياسات المتبعة حاليًا، وأخيرًا وضع سياسات بديلة يجب على متخذي القرار اتباعها في المرحلة المقبلة، أو على الأقل، وضعها في اعتباره عند عملية صنع أو اتخاذ القرار.
وقد تجلت الملامح الأولى للمشروع حينما كتب الأستاذ السيد يسين مدير المركز العربي سلسلة مقالات مهمة في جريدة الأهرام الغراء حول "مفهوم الدولة التنمية" مارس فيها كل أشكال الكتابات العملية الرصينة، حيث أصّل للمفهوم وتناول الأطروحات والمقولات الرئيسة للدولة التنموية ثم عاود بسرعة، وبجسارة مشهودة له، بممارسة فضيلة قلما نجدها ليس فقط عند المصريين ولكن عند العرب جميعًا، وهي فضيلة "النقد الذاتي"، حينما كتب في الأهرام في 3 سبتمبر 2015 مقال بعنوان "تحديات الدولة التنموية" وبدأه بـ " لابد لي أن أبدأ مقالي بنقد ذاتي، لأنني ظننت وهما أنني صغت من واقع تأملاتي في تاريخ مصر المعاصر – "مفهوم الدولة التنموية». وسبب ممارستي للنقد الذاتي أنني اكتشفت -عبر رحلة بحث علمية عميقة- أن مفهوم "الدولة التنموية" مستقر في التراث العلمي الاجتماعي منذ أن نشر عالم السياسة الأمريكي المعروف "كالمرز جونسون" كتابه عن "الميتي MIIT"- وهو اختصار اسم وزارة يابانية المخصصة في التنمية الاقتصادية والتجارة الدولية - والمعجزة اليابانية وذلك عام 1982 عن مطبعة جامعة كاليفورنيا. ومنذ هذا التاريخ لم ينقطع الجدل العلمي حول مفهوم "الدولة التنموية" التى اعتبر جونسون اليابان نموذجا مثاليا ideal Type لها".
ومنذ أكتوبر 2015 عقد المركز سلسلة اجتماعات أسبوعيًا للنقاش حول الدور التنموية للدولة، وفي هذا الإطار تمت استضافة عدد كبير من العلماء والخبراء من مختلف التخصصات، وخضعت المشروعات القومية التي يقوم بتنفيذها الرئيس عبد الفتاح السيسي للدراسة، خاصة مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، التي نالت حظًا كبيرًا من الجدل والنقاش، وانقسم مجلس الخبراء للمركز بين مؤيد ومعارض على طريقة ووقت تنفيذ المشروع وشارك في ذلك الدكتور راجح أبو زيد على سبيل المثال وليس الحصر.
وقد تبلورت فكرة المشروع أكثر واكتملت مع فوز رئيس المركز الدكتور عبد الرحيم علي في الانتخابات التشريعية، حيث طالب الهيئة العلمية للمركز بأن تتولى مسئوليتها التاريخية في مساعد مجلس النواب الجديد من خلال تقديم رؤى وأفكار جديدة يمكن تبنيها داخل المجلس تساعد على إدارة عملية التحول الديمقراطي، وتساعد على فك شفرات الإشكاليات المجتمعية المثارة منذ ثورة 25 يناير حتى الآن. ونعرض فيما يلي لفصول الكتاب.
وفي هذا الإطار، ومنذ ما يقرب من العام، وضع المركز العربي للبحوث والدراسات على عاتقة دراسة أهم المشكلات التي تمر بها الدولة المصرية، وإصدارها في كتاب، سوف يرى النور قريبًا، ويشارك فيها عدد كبير من الباحثين من مختلف التخصصات العلمية، ويتبع في ذلك منهجا محددا في دراسته لتلك القضايا التي يناولها، من خلال التوصيف المباشر للمشكلات بالأرقام، ثم تقييم للسياسات المتبعة حاليًا، وأخيرًا وضع سياسات بديلة يجب على متخذي القرار اتباعها في المرحلة المقبلة، أو على الأقل، وضعها في اعتباره عند عملية صنع أو اتخاذ القرار.
وقد تجلت الملامح الأولى للمشروع حينما كتب الأستاذ السيد يسين مدير المركز العربي سلسلة مقالات مهمة في جريدة الأهرام الغراء حول "مفهوم الدولة التنمية" مارس فيها كل أشكال الكتابات العملية الرصينة، حيث أصّل للمفهوم وتناول الأطروحات والمقولات الرئيسة للدولة التنموية ثم عاود بسرعة، وبجسارة مشهودة له، بممارسة فضيلة قلما نجدها ليس فقط عند المصريين ولكن عند العرب جميعًا، وهي فضيلة "النقد الذاتي"، حينما كتب في الأهرام في 3 سبتمبر 2015 مقال بعنوان "تحديات الدولة التنموية" وبدأه بـ " لابد لي أن أبدأ مقالي بنقد ذاتي، لأنني ظننت وهما أنني صغت من واقع تأملاتي في تاريخ مصر المعاصر – "مفهوم الدولة التنموية». وسبب ممارستي للنقد الذاتي أنني اكتشفت -عبر رحلة بحث علمية عميقة- أن مفهوم "الدولة التنموية" مستقر في التراث العلمي الاجتماعي منذ أن نشر عالم السياسة الأمريكي المعروف "كالمرز جونسون" كتابه عن "الميتي MIIT"- وهو اختصار اسم وزارة يابانية المخصصة في التنمية الاقتصادية والتجارة الدولية - والمعجزة اليابانية وذلك عام 1982 عن مطبعة جامعة كاليفورنيا. ومنذ هذا التاريخ لم ينقطع الجدل العلمي حول مفهوم "الدولة التنموية" التى اعتبر جونسون اليابان نموذجا مثاليا ideal Type لها".
ومنذ أكتوبر 2015 عقد المركز سلسلة اجتماعات أسبوعيًا للنقاش حول الدور التنموية للدولة، وفي هذا الإطار تمت استضافة عدد كبير من العلماء والخبراء من مختلف التخصصات، وخضعت المشروعات القومية التي يقوم بتنفيذها الرئيس عبد الفتاح السيسي للدراسة، خاصة مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، التي نالت حظًا كبيرًا من الجدل والنقاش، وانقسم مجلس الخبراء للمركز بين مؤيد ومعارض على طريقة ووقت تنفيذ المشروع وشارك في ذلك الدكتور راجح أبو زيد على سبيل المثال وليس الحصر.
وقد تبلورت فكرة المشروع أكثر واكتملت مع فوز رئيس المركز الدكتور عبد الرحيم علي في الانتخابات التشريعية، حيث طالب الهيئة العلمية للمركز بأن تتولى مسئوليتها التاريخية في مساعد مجلس النواب الجديد من خلال تقديم رؤى وأفكار جديدة يمكن تبنيها داخل المجلس تساعد على إدارة عملية التحول الديمقراطي، وتساعد على فك شفرات الإشكاليات المجتمعية المثارة منذ ثورة 25 يناير حتى الآن. ونعرض فيما يلي لفصول الكتاب.
يشير مصطلح "الدولة التنموية" إلى الدولة التي تتدخل وتوجه مسار التنمية الاقتصادية
أولا: "الدولة التنموية" أو "الدولة الإنمائية"
يشير مصطلح "الدولة التنموية" إلى الدولة التي تتدخل وتوجه مسار التنمية الاقتصادية. وهي ترتبط بالأساس بنمط السياسات الاقتصادية التي اتبعتها حكومات شرق آسيا في النصف الثاني من القرن العشرين، وتتمثل بالتحديد في نموذج الاقتصاد الياباني بعد الحرب العالمية الثانية. كما يرتبط مصطلح الدولة التنموية بمصطلح آخر، هو "مفهوم الدولة الإنمائية"، فيعد الدور الإنمائي للدولة موضوعًا قديمًا وحديثًا في الوقت ذاته، فعلى الرغم من أن عديدًا من النظريات قد تناولت هذا الدور بالدراسة والتحليل من زوايا مختلفة، فإن هذا الدور قد مر بمراحل وتغيرات عديدة، فعلى سبيل المثال في أوْج الحرب الباردة، كان الصراع على أشده بين مؤيدي الليبرالية الذين ينادون بدور أقل للدولة، وبين مؤيدي الاشتراكية الذين يدعون إلى دور مركزي للدولة، ومع انتهاء الحرب الباردة بانتصار المعسكر الغربي الليبرالي، انتهى هذا الصراع وحسم – بصفة مؤقتة- إلى المعسكر الغربي والنظرية الليبرالية، ولكن إذا بالأزمة المالية العالمية الأخيرة التي بدأت تتضح معالمها منذ نهاية عام 2008، واشتدت وطأتها خلال عام 2009، ومازالت تلقي بظلالها حتى الآن على العديد من دل العالم، مما يدفع المفكرين إلى ضرورة إعادة النظر في الدور الإنمائي للدولة الذي اعتبروه محسومًا لصالح الرؤية الليبرالية.
ومن جانبه حدد "شالمر جونسون" المعالم الرئيسية للدولة التنموية، أولا، توفر بيروقراطية من نخبة الدولة صغيرة العدد وغير مكلفة من أصحاب المواهب الإدارية المتميزة. وتتمثل مهامها في تحديد واختيارات الصناعات التي تحتاج للتطوير، أي وضع سياسة صناعية، وتحديد واختيار أنجع الطرق لتطوير هذه الصناعات في أسرع وقت، أي سياسة الترشيد الصناعي، والإشراف على القطاعات الإستراتيجية المحددة لضمان جودة وتأثير عملها الاقتصادي. هذه المهام الثلاث يتم تنفيذها في ضوء تدخل الدولة باستيعاب قوى السوق. ثانيًا، استخدام آليات الجمع بين آليات السوق وتدخل الدولة في الاقتصاد، وقد قدمت اليابان نموذجا على ذلك تمثل في بناء مؤسسات مالية حكومية ذات نفوذ كبير، وصلاحيات واسعة، وأهداف محددة، وتقوم بالمراجعة للحوافز الضريبية، وتضع الخطط التي تحدد أهداف الاقتصاد، ولها أن تنشئ منتديات رسمية عديدة ومستمرة لتبادل الآراء ومراجعة السياسات والاستفادة منها في حل الخلافات، كما تعمل على منح بعض وظائف الحكومة لمنظمات خاصة وشبه خاصة. ومن هذه الإجراءات الاعتماد الواسع على الشركات العامة، وبالذات التي هي شراكة بين الحكومة والقطاع الخاص في ملكيتها، لتنفيذ السياسة في المجالات ذات المخاطر الكبيرة، وأن تخصص الحكومة ميزانية للاستثمار، وتوجيه سياسة للتنافس الدولي والتنموي وليس فقط الحفاظ على المنافسة المحلية، ورعاية الحكومة للبحث العلمي وتطبيقاته (صناعة الحاسب الآلي).
وثالثًا، وأخيرًا، وجود تنظيم ريادي مثل وزارة الصناعة والتجارة اليابانية. هذه الهيئة المنظمة التي تضبط السياسة الصناعية تحتاج أن تتحكم في التخطيط وصناعة الطاقة والإنتاج المحلي والتجارة الدولية والتمويل (سياسة توفير رأس المال وتحديد الضريبة). وأهم مميزات هذه الهيئة الضابطة هي صغر الحجم، وتحكمها غير المباشر في ميزانيات الحكومة، وامتلاكها مركزا بحثيا، ولها مكاتب لتنفيذ السياسة الصناعية، وتمتاز بطابعها الديمقراطي، وليس لها نظير في النظم الديمقراطية الصناعية المتقدمة.
يشير مصطلح "الدولة التنموية" إلى الدولة التي تتدخل وتوجه مسار التنمية الاقتصادية. وهي ترتبط بالأساس بنمط السياسات الاقتصادية التي اتبعتها حكومات شرق آسيا في النصف الثاني من القرن العشرين، وتتمثل بالتحديد في نموذج الاقتصاد الياباني بعد الحرب العالمية الثانية. كما يرتبط مصطلح الدولة التنموية بمصطلح آخر، هو "مفهوم الدولة الإنمائية"، فيعد الدور الإنمائي للدولة موضوعًا قديمًا وحديثًا في الوقت ذاته، فعلى الرغم من أن عديدًا من النظريات قد تناولت هذا الدور بالدراسة والتحليل من زوايا مختلفة، فإن هذا الدور قد مر بمراحل وتغيرات عديدة، فعلى سبيل المثال في أوْج الحرب الباردة، كان الصراع على أشده بين مؤيدي الليبرالية الذين ينادون بدور أقل للدولة، وبين مؤيدي الاشتراكية الذين يدعون إلى دور مركزي للدولة، ومع انتهاء الحرب الباردة بانتصار المعسكر الغربي الليبرالي، انتهى هذا الصراع وحسم – بصفة مؤقتة- إلى المعسكر الغربي والنظرية الليبرالية، ولكن إذا بالأزمة المالية العالمية الأخيرة التي بدأت تتضح معالمها منذ نهاية عام 2008، واشتدت وطأتها خلال عام 2009، ومازالت تلقي بظلالها حتى الآن على العديد من دل العالم، مما يدفع المفكرين إلى ضرورة إعادة النظر في الدور الإنمائي للدولة الذي اعتبروه محسومًا لصالح الرؤية الليبرالية.
ومن جانبه حدد "شالمر جونسون" المعالم الرئيسية للدولة التنموية، أولا، توفر بيروقراطية من نخبة الدولة صغيرة العدد وغير مكلفة من أصحاب المواهب الإدارية المتميزة. وتتمثل مهامها في تحديد واختيارات الصناعات التي تحتاج للتطوير، أي وضع سياسة صناعية، وتحديد واختيار أنجع الطرق لتطوير هذه الصناعات في أسرع وقت، أي سياسة الترشيد الصناعي، والإشراف على القطاعات الإستراتيجية المحددة لضمان جودة وتأثير عملها الاقتصادي. هذه المهام الثلاث يتم تنفيذها في ضوء تدخل الدولة باستيعاب قوى السوق. ثانيًا، استخدام آليات الجمع بين آليات السوق وتدخل الدولة في الاقتصاد، وقد قدمت اليابان نموذجا على ذلك تمثل في بناء مؤسسات مالية حكومية ذات نفوذ كبير، وصلاحيات واسعة، وأهداف محددة، وتقوم بالمراجعة للحوافز الضريبية، وتضع الخطط التي تحدد أهداف الاقتصاد، ولها أن تنشئ منتديات رسمية عديدة ومستمرة لتبادل الآراء ومراجعة السياسات والاستفادة منها في حل الخلافات، كما تعمل على منح بعض وظائف الحكومة لمنظمات خاصة وشبه خاصة. ومن هذه الإجراءات الاعتماد الواسع على الشركات العامة، وبالذات التي هي شراكة بين الحكومة والقطاع الخاص في ملكيتها، لتنفيذ السياسة في المجالات ذات المخاطر الكبيرة، وأن تخصص الحكومة ميزانية للاستثمار، وتوجيه سياسة للتنافس الدولي والتنموي وليس فقط الحفاظ على المنافسة المحلية، ورعاية الحكومة للبحث العلمي وتطبيقاته (صناعة الحاسب الآلي).
وثالثًا، وأخيرًا، وجود تنظيم ريادي مثل وزارة الصناعة والتجارة اليابانية. هذه الهيئة المنظمة التي تضبط السياسة الصناعية تحتاج أن تتحكم في التخطيط وصناعة الطاقة والإنتاج المحلي والتجارة الدولية والتمويل (سياسة توفير رأس المال وتحديد الضريبة). وأهم مميزات هذه الهيئة الضابطة هي صغر الحجم، وتحكمها غير المباشر في ميزانيات الحكومة، وامتلاكها مركزا بحثيا، ولها مكاتب لتنفيذ السياسة الصناعية، وتمتاز بطابعها الديمقراطي، وليس لها نظير في النظم الديمقراطية الصناعية المتقدمة.
حدد "شالمر جونسون" المعالم الرئيسية للدولة التنموية منها: توفر بيروقراطية من نخبة الدولة صغيرة العدد، استخدام آليات الجمع بين آليات السوق وتدخل الدولة في الاقتصاد
ثانيًا: بناء القدرة على المنافسة والاشتباك الإيجابي مع العالم
وعلى الرغم من أن مصر تعتبر واحدا من البلدان النامية متوسطة الدخل فإن ما يقرب من نصف المصريين يعيشون في حدود خط الفقر حسب المعايير الدولية. كما يعاني المصريون من الأمية وانتشار الأمراض خصوصا أمراض الكبد والكلى والقلب والرئة وهو ما يترجم نفسه في صورة انخفاض القدرة البدنية على العمل والإنتاج. وتزيد الأمور سوءا إذا ما أخذنا في الاعتبار المتغيرات المحيطة بالبشر مثل البنية الأساسية وتدهورها المستمر، وهو ما جعل مصر تنحدر سنة بعد أخرى على مؤشرات التنافسية العالمية حتى أصبحت تقبع في الربع الأخير من جدول المؤشرات على مستوى العالم. ولا يتوقف الأمر عند ذلك وإنما تعاني مصر من تأثير مؤشرات الفقر المركب (فقر الدخل المادي، وفقر موارد المياه، وفقر الطاقة، وفقر الأراضي الصالحة للزراعة...). وإلى جانب كل ذلك تواجه مصر تحديات إقليمية وعالمية غير مسبوقة تهدد مصالحها على كل المستويات، وإذا ما استمرت الحال هكذا دون تطوير قدرة مصر على المنافسة والاشتباك، فإن مكانة مصر التاريخية ستصبح محل شك.
ولهذه الأسباب جميعا فإن مصر كأمة (شعبا وحكومة) أصبحت في أشد الحاجة إلى إعادة التفكير في المستقبل، وأن تحمل على كاهلها مسئولية بناء هذا المستقبل بطريقة صحيحة. وفي هذا السياق فإن المصريين يواجهون منذ ثورتي 25 يناير و30 يونيو عشرات الأسئلة المصيرية. مثل: هل نحن بحاجة إلى رؤية جديدة لمستقبلنا الاقتصادي؟ هل نحن بحاجة إلى إستراتيجية للتنمية الاقتصادية؟ هل نرى أنفسنا جزءا من العالم أم نفضل الانعزال عنه وبناء "طريقنا الخاص" إلى المستقبل؟ إلى أي قيم إنسانية ننتمي؟ إلى أي ثقافة ننتمي؟ إلى أي نظام سياسي ننتمي؟ إلى أي نظام اقتصادي ننتمي؟ إلى أي نظام دفاعي ننتمي؟
هذه فترة تاريخية تفيض بالأسئلة التي تصرخ فينا طالبة الإجابة. مصر في مفترق طرق. أمامنا خيارات كثيرة بعضها يقود إلى فضاء رحب خصيب، وبعضها يؤدي إلى سراديب مظلمة. الكلمة لنا..مصر اليوم عليها أن تختار.
1- حال الاقتصاد المصري
أقصد باقتصاد الأمة: اقتصاد الناس واقتصاد الحكومة، أي الاقتصاد الحي والاقتصاد المكتوب في التقارير والإحصاءات الرسمية معا وليس كل واحد منهما بمعزل عن الآخر. ويتسم اقتصاد الأمة بأربعة ملامح رئيسية هي: الاستهلاك هو محرك النمو وليس الاستثمار أو التصدير، سيادة مؤشرات الفقر المركب (في مجالات المياه والطاقة والأراضي الزراعية والموارد الطبيعية)، انخفاض الإنتاجية وتدهور القدرة على المنافسة حتى في الأسواق المحلية، انخفاض مستوى التشابك الاقتصادي بين القطاعات بشكل عام وفي داخل الصناعة الواحدة.
2- الاختبارات المصيرية
ومن أجل تغيير هذه الملامح يحتاج الاقتصاد إلى النجاح في عدد من الاختبارات الرئيسية من أهمها: السيولة النقدية وتصحيح العجز المالي، التشغيل توفير ما يقرب من مليون فرصة عمل سنويا، التنافسية على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، تحقيق العدالة والقضاء على الفقر، المحافظة على البيئة (المياه والتربة والهواء)، تحقيق الأمان الاجتماعي بعيدا عن الوظيفة الحكومية، اجتثاث الفساد المالي والإداري، إزالة العشوائيات، كفاية البنية الأساسية، أمان الطرق، أولويات السياسة الاقتصادية. سوف يتعين على السياسة الاقتصادية أن تعمل على مستويات متعددة في وقت واحد، على أن تأخذ في الاعتبار أن تخصيص الموارد لا يجب أن يتم بطريقة حسابية خطية أو عشوائية، وإنما يجب أن يخضع تخصيص الموارد لحسابات عقلانية وطبقا لخريطة تحدد الأولويات الاجتماعية والاقتصادية، وذلك للحد من ظاهرة هدر الموارد في أعمال غير ضرورية أو ثانوية أو قابلة للتأجيل.
وفي هذا السياق فإن الأوضاع المباشرة تحتاج بسرعة إلى إنجاز تشريعات في قضايا عاجلة تتمثل في:- غلاء الأسعار والارتفاع الصارخ في تكاليف المعيشة، الفساد الإداري، البطالة، خصوصا بين الشباب، تلوث البيئة.
أما في المدى المتوسط والطويل فستكون مصر في حاجة إلى تنفيذ برامج للتغيير والإصلاحات الهيكلية بما يحقق النجاح في الاختبارات المصيرية التي تفرض نفسها على الأمة مثل اختبار القضاء على العجز المالي والتجاري واجتثاث الفساد واختبارات تحقيق العدالة الاجتماعية والتخلص من الفقر وتحقيق الأمان الاجتماعي وبناء التنافسية على أساس المعايير العالمية. وإذا جاز للمصريين أن يطمحوا إلى مكانة متقدمة بين دول العالم، فإن هناك عددا من موضوعات المنافسة المستقبلية يجب أن نعمل من أجل المُضي فيها إلى الأمام. ومن أهم هذه الموضوعات: سباق الفضاء وصناعة المحركات فائقة السرعة، الطاقة الجديدة والمتجددة، العلاج الجيني وعلوم الهندسة الوراثية، إنتاج أجهزة الذكاء الاصطناعي، ثورة في وسائل الاتصال والمواصلات باستخدام الليزر ومحاكاة سرعة الضوء، إن مصر تستحق أفضل مما هي فيه وهي تملك الكثير من الإمكانات أهمها الموقع الجغرافي الذي حباها به اللـه سبحانه وتعالى وتاريخها المرموق في حضارة الإنسانية.
وعلى الرغم من أن مصر تعتبر واحدا من البلدان النامية متوسطة الدخل فإن ما يقرب من نصف المصريين يعيشون في حدود خط الفقر حسب المعايير الدولية. كما يعاني المصريون من الأمية وانتشار الأمراض خصوصا أمراض الكبد والكلى والقلب والرئة وهو ما يترجم نفسه في صورة انخفاض القدرة البدنية على العمل والإنتاج. وتزيد الأمور سوءا إذا ما أخذنا في الاعتبار المتغيرات المحيطة بالبشر مثل البنية الأساسية وتدهورها المستمر، وهو ما جعل مصر تنحدر سنة بعد أخرى على مؤشرات التنافسية العالمية حتى أصبحت تقبع في الربع الأخير من جدول المؤشرات على مستوى العالم. ولا يتوقف الأمر عند ذلك وإنما تعاني مصر من تأثير مؤشرات الفقر المركب (فقر الدخل المادي، وفقر موارد المياه، وفقر الطاقة، وفقر الأراضي الصالحة للزراعة...). وإلى جانب كل ذلك تواجه مصر تحديات إقليمية وعالمية غير مسبوقة تهدد مصالحها على كل المستويات، وإذا ما استمرت الحال هكذا دون تطوير قدرة مصر على المنافسة والاشتباك، فإن مكانة مصر التاريخية ستصبح محل شك.
ولهذه الأسباب جميعا فإن مصر كأمة (شعبا وحكومة) أصبحت في أشد الحاجة إلى إعادة التفكير في المستقبل، وأن تحمل على كاهلها مسئولية بناء هذا المستقبل بطريقة صحيحة. وفي هذا السياق فإن المصريين يواجهون منذ ثورتي 25 يناير و30 يونيو عشرات الأسئلة المصيرية. مثل: هل نحن بحاجة إلى رؤية جديدة لمستقبلنا الاقتصادي؟ هل نحن بحاجة إلى إستراتيجية للتنمية الاقتصادية؟ هل نرى أنفسنا جزءا من العالم أم نفضل الانعزال عنه وبناء "طريقنا الخاص" إلى المستقبل؟ إلى أي قيم إنسانية ننتمي؟ إلى أي ثقافة ننتمي؟ إلى أي نظام سياسي ننتمي؟ إلى أي نظام اقتصادي ننتمي؟ إلى أي نظام دفاعي ننتمي؟
هذه فترة تاريخية تفيض بالأسئلة التي تصرخ فينا طالبة الإجابة. مصر في مفترق طرق. أمامنا خيارات كثيرة بعضها يقود إلى فضاء رحب خصيب، وبعضها يؤدي إلى سراديب مظلمة. الكلمة لنا..مصر اليوم عليها أن تختار.
1- حال الاقتصاد المصري
أقصد باقتصاد الأمة: اقتصاد الناس واقتصاد الحكومة، أي الاقتصاد الحي والاقتصاد المكتوب في التقارير والإحصاءات الرسمية معا وليس كل واحد منهما بمعزل عن الآخر. ويتسم اقتصاد الأمة بأربعة ملامح رئيسية هي: الاستهلاك هو محرك النمو وليس الاستثمار أو التصدير، سيادة مؤشرات الفقر المركب (في مجالات المياه والطاقة والأراضي الزراعية والموارد الطبيعية)، انخفاض الإنتاجية وتدهور القدرة على المنافسة حتى في الأسواق المحلية، انخفاض مستوى التشابك الاقتصادي بين القطاعات بشكل عام وفي داخل الصناعة الواحدة.
2- الاختبارات المصيرية
ومن أجل تغيير هذه الملامح يحتاج الاقتصاد إلى النجاح في عدد من الاختبارات الرئيسية من أهمها: السيولة النقدية وتصحيح العجز المالي، التشغيل توفير ما يقرب من مليون فرصة عمل سنويا، التنافسية على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، تحقيق العدالة والقضاء على الفقر، المحافظة على البيئة (المياه والتربة والهواء)، تحقيق الأمان الاجتماعي بعيدا عن الوظيفة الحكومية، اجتثاث الفساد المالي والإداري، إزالة العشوائيات، كفاية البنية الأساسية، أمان الطرق، أولويات السياسة الاقتصادية. سوف يتعين على السياسة الاقتصادية أن تعمل على مستويات متعددة في وقت واحد، على أن تأخذ في الاعتبار أن تخصيص الموارد لا يجب أن يتم بطريقة حسابية خطية أو عشوائية، وإنما يجب أن يخضع تخصيص الموارد لحسابات عقلانية وطبقا لخريطة تحدد الأولويات الاجتماعية والاقتصادية، وذلك للحد من ظاهرة هدر الموارد في أعمال غير ضرورية أو ثانوية أو قابلة للتأجيل.
وفي هذا السياق فإن الأوضاع المباشرة تحتاج بسرعة إلى إنجاز تشريعات في قضايا عاجلة تتمثل في:- غلاء الأسعار والارتفاع الصارخ في تكاليف المعيشة، الفساد الإداري، البطالة، خصوصا بين الشباب، تلوث البيئة.
أما في المدى المتوسط والطويل فستكون مصر في حاجة إلى تنفيذ برامج للتغيير والإصلاحات الهيكلية بما يحقق النجاح في الاختبارات المصيرية التي تفرض نفسها على الأمة مثل اختبار القضاء على العجز المالي والتجاري واجتثاث الفساد واختبارات تحقيق العدالة الاجتماعية والتخلص من الفقر وتحقيق الأمان الاجتماعي وبناء التنافسية على أساس المعايير العالمية. وإذا جاز للمصريين أن يطمحوا إلى مكانة متقدمة بين دول العالم، فإن هناك عددا من موضوعات المنافسة المستقبلية يجب أن نعمل من أجل المُضي فيها إلى الأمام. ومن أهم هذه الموضوعات: سباق الفضاء وصناعة المحركات فائقة السرعة، الطاقة الجديدة والمتجددة، العلاج الجيني وعلوم الهندسة الوراثية، إنتاج أجهزة الذكاء الاصطناعي، ثورة في وسائل الاتصال والمواصلات باستخدام الليزر ومحاكاة سرعة الضوء، إن مصر تستحق أفضل مما هي فيه وهي تملك الكثير من الإمكانات أهمها الموقع الجغرافي الذي حباها به اللـه سبحانه وتعالى وتاريخها المرموق في حضارة الإنسانية.
الوطن العربي هو المجال الحيوي- الأمني والاقتصادي لتعظيم مصالح مصر الوطنية وحماية أمنها القومي، ولذلك فإن أمام مصر حزمة من الأدوار التي ينبغي أن تقوم بها
ثالثا: تجديد وتفعيل دور وسياسة مصر الخارجية
تهدف الدراسة إلى تقديم رؤى وتصورات لتفعيل وتجديد الدور المصري وسياسة مصر الخارجية وفق قراءة استشرافية لمسارات التطورات المحتملة للمحددات الحاكمة لهذا الدور على مدى السنوات الخمس القادمة من ناحية، ومنها تسعى إلى تقديم حزمة من الخيارات والسيناريوهات والسياسات الكفيلة بالنهوض بهذا الدور وتلك السياسة على المستويات العربية والإقليمية والدولية.
كما تنطلق الدراسة من فرضية محورية مفادها؛ أن دور مصر، وبالذات دورها على المستوى العربي، الذي يعتبر ركيزة لدورها على المستويين، الإقليمي والدولي، هو دور قيادي لا بديل عنه، ثقة في أن دور أي دولة ينبع من عمق تجربتها التاريخية، وهو محصلة تفاعلات هذه التجربة التاريخية أولًا، وهو ثانيًا انعكاس مباشر للموقع الجيوستراتيجي للدولة وقدرتها على تفعيل هذا الموقع، وهو ثالثًا تعبير عن القدرات الكلية للدولة (القوة الشاملة) بأنواعها المختلفة الثلاث: (الصلبة والناعمة والذكية)، وهو رابعًا مرتبط بحزمة من المحددات، التي قد تسمح وقد تعوق، أداء هذا الدور: محددات داخل الدولة ترتبط بنظامها السياسي (مدى فعالية هذا النظام وما يمتلكه من قدرات وبراعته أو عجزه عن تفعيل هذه القدرات)، ومدى تحقق أو انفراط التماسك الوطني بمجمل أشكاله السياسي والاجتماعي والثقافي والعِرقي والمذهبي، إلى جانب محددات أخرى من خارج الدولة ترتبط بكل من البيئة الإقليمية والبيئة الدولية، وكيف أن هذه البيئة مواتية أم غير مواتية، محفزة أو معوقة لأداء الدور والنهوض به لتحقيق أهدافه.
وإذا كانت الدراسة قد أفاضت في توضيح وتحليل المحددات الحاكمة لدور مصر وسياستها الخارجية على المستويات العربية والإقليمية والدولية فإنها خلصت بمجموعة من الحقائق المهمة.
أول هذه الحقائق أن الدولة الوطنية العربية، سواء كانت ليبرالية وديمقراطية أو كانت مستبدة ومتسلطة، أو سواء كانت ملكية وراثية أم كانت جمهورية أثبتت أنها ليست فقط عاجزة عن تحقيق التقدم وفرض نفسها ضمن معادلات النظام العالمي كشريك في الإنتاج ومن ثم كشريك في القرار، بل أضحت غير قادرة على حماية وجودها والتصدي لمحاولات إعادة تقسيمها.
ثاني هذه الحقائق، أن هذه الدولة الوطنية بتحالفاتها الدولية سواء كانت مع الغرب الرأسمالي بقيادته الأمريكية، أم كانت مع الشرق الاشتراكي بقيادته السوفيتية في سنوات الحرب الباردة، أو حظيت برعاية القوة العظمى الأمريكية في سنوات ما بعد انتهاء الثنائية القطبية أم جرى تهميشها، أو بتحالفاتها الإقليمية مع تركيا أو مع إيران أو مع باكستان لم تستطع أن تحقق أهداف الاستقرار والتماسك السياسي، أو تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي والمنعة العسكرية والمكانة الإقليمية والدولية. لقد كانت هذه التحالفات أدوات للتغلغل وفرض النفوذ والتبعية ونهب الثروات وقضم الأراضي، وفرض الاستعلاء والاستكبار سواء كان عالميًا أم إقليميًا.
ثالث هذه الحقائق، أن مشروع "الإسلام السياسي" بشتى تلاوينه، سواء كان إخوانيًا، أم سلفيًا جهاديًا تحول إلى التكفير والتآمر على أوطانه وأمته (داعش والقاعدة وأخواتهما)، أو كان شيعيًا طائفيًا امتد بولائه نحو طهران واعتقد في ولاية الفقيه واستبدل الولاء الطائفي بالولاء الوطني والقومي، لم يحفظ للدولة الوطنية تماسكها الوطني السياسي والاجتماعي والثقافي، بل كان أداة تمزيق هذا التماسك، والطريق نحو فرض وتنفيذ مخططات إعادة تقسيم ما سبق تقسيمه من الأقطار العربية وتفكيك روابطها العربية وإنهاء وجود النظام العربي وتهديد الهوية الحضارية العربية الإسلامية للأمة العربية، عندما أشعل حروب إسقاط الدول والمجتمعات لصالح فرض مشروعات الخلافة الإسلامية متباينة الرؤى.
رابع هذه الحقائق، أن العروبة، والمشروع القومي العربي هما الضمان الأهم، وربما الوحيد للحفاظ على بقاء وجود الدول الوطنية العربية، لكن الدعوة العروبية وحتى امتلاك مشروع قومي عربي لن يستطيعا تحقيق ذلك دون ربط شرط الوحدة العربية كأساس جوهري لهذا المشروع بشروط التقدم الحضاري والديمقراطي جنبًا إلى جنب مع التحرر الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهي ذاتها الأهداف التي انطلقت من أجلها الثورة الوطنية في مصر في 25 يناير 2011، والتي ناضل الشعب من أجلها مرة ثانية في 30 يونيو 2013.
وبناء على هذا كله اهتمت الدراسة بتحديد ثلاثة أبعاد للدور المصري من خلالها يمكن تطوير وتفعيل سياسة مصر الخارجية هي البُعد العربي والبُعد الإقليمي والبُعد الدولي على النحو التالي:
أ- البُعد العربي للدور المصري
يعتبر الدور المصري على المستوى العربي ركيزة الدور المصري كله. فالوطن العربي هو المجال الحيوي- الأمني والاقتصادي لتعظيم مصالح مصر الوطنية وحماية أمنها القومي، ولذلك فإن أمام مصر حزمة من الأدوار التي ينبغي أن تقوم بها.
تهدف الدراسة إلى تقديم رؤى وتصورات لتفعيل وتجديد الدور المصري وسياسة مصر الخارجية وفق قراءة استشرافية لمسارات التطورات المحتملة للمحددات الحاكمة لهذا الدور على مدى السنوات الخمس القادمة من ناحية، ومنها تسعى إلى تقديم حزمة من الخيارات والسيناريوهات والسياسات الكفيلة بالنهوض بهذا الدور وتلك السياسة على المستويات العربية والإقليمية والدولية.
كما تنطلق الدراسة من فرضية محورية مفادها؛ أن دور مصر، وبالذات دورها على المستوى العربي، الذي يعتبر ركيزة لدورها على المستويين، الإقليمي والدولي، هو دور قيادي لا بديل عنه، ثقة في أن دور أي دولة ينبع من عمق تجربتها التاريخية، وهو محصلة تفاعلات هذه التجربة التاريخية أولًا، وهو ثانيًا انعكاس مباشر للموقع الجيوستراتيجي للدولة وقدرتها على تفعيل هذا الموقع، وهو ثالثًا تعبير عن القدرات الكلية للدولة (القوة الشاملة) بأنواعها المختلفة الثلاث: (الصلبة والناعمة والذكية)، وهو رابعًا مرتبط بحزمة من المحددات، التي قد تسمح وقد تعوق، أداء هذا الدور: محددات داخل الدولة ترتبط بنظامها السياسي (مدى فعالية هذا النظام وما يمتلكه من قدرات وبراعته أو عجزه عن تفعيل هذه القدرات)، ومدى تحقق أو انفراط التماسك الوطني بمجمل أشكاله السياسي والاجتماعي والثقافي والعِرقي والمذهبي، إلى جانب محددات أخرى من خارج الدولة ترتبط بكل من البيئة الإقليمية والبيئة الدولية، وكيف أن هذه البيئة مواتية أم غير مواتية، محفزة أو معوقة لأداء الدور والنهوض به لتحقيق أهدافه.
وإذا كانت الدراسة قد أفاضت في توضيح وتحليل المحددات الحاكمة لدور مصر وسياستها الخارجية على المستويات العربية والإقليمية والدولية فإنها خلصت بمجموعة من الحقائق المهمة.
أول هذه الحقائق أن الدولة الوطنية العربية، سواء كانت ليبرالية وديمقراطية أو كانت مستبدة ومتسلطة، أو سواء كانت ملكية وراثية أم كانت جمهورية أثبتت أنها ليست فقط عاجزة عن تحقيق التقدم وفرض نفسها ضمن معادلات النظام العالمي كشريك في الإنتاج ومن ثم كشريك في القرار، بل أضحت غير قادرة على حماية وجودها والتصدي لمحاولات إعادة تقسيمها.
ثاني هذه الحقائق، أن هذه الدولة الوطنية بتحالفاتها الدولية سواء كانت مع الغرب الرأسمالي بقيادته الأمريكية، أم كانت مع الشرق الاشتراكي بقيادته السوفيتية في سنوات الحرب الباردة، أو حظيت برعاية القوة العظمى الأمريكية في سنوات ما بعد انتهاء الثنائية القطبية أم جرى تهميشها، أو بتحالفاتها الإقليمية مع تركيا أو مع إيران أو مع باكستان لم تستطع أن تحقق أهداف الاستقرار والتماسك السياسي، أو تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي والمنعة العسكرية والمكانة الإقليمية والدولية. لقد كانت هذه التحالفات أدوات للتغلغل وفرض النفوذ والتبعية ونهب الثروات وقضم الأراضي، وفرض الاستعلاء والاستكبار سواء كان عالميًا أم إقليميًا.
ثالث هذه الحقائق، أن مشروع "الإسلام السياسي" بشتى تلاوينه، سواء كان إخوانيًا، أم سلفيًا جهاديًا تحول إلى التكفير والتآمر على أوطانه وأمته (داعش والقاعدة وأخواتهما)، أو كان شيعيًا طائفيًا امتد بولائه نحو طهران واعتقد في ولاية الفقيه واستبدل الولاء الطائفي بالولاء الوطني والقومي، لم يحفظ للدولة الوطنية تماسكها الوطني السياسي والاجتماعي والثقافي، بل كان أداة تمزيق هذا التماسك، والطريق نحو فرض وتنفيذ مخططات إعادة تقسيم ما سبق تقسيمه من الأقطار العربية وتفكيك روابطها العربية وإنهاء وجود النظام العربي وتهديد الهوية الحضارية العربية الإسلامية للأمة العربية، عندما أشعل حروب إسقاط الدول والمجتمعات لصالح فرض مشروعات الخلافة الإسلامية متباينة الرؤى.
رابع هذه الحقائق، أن العروبة، والمشروع القومي العربي هما الضمان الأهم، وربما الوحيد للحفاظ على بقاء وجود الدول الوطنية العربية، لكن الدعوة العروبية وحتى امتلاك مشروع قومي عربي لن يستطيعا تحقيق ذلك دون ربط شرط الوحدة العربية كأساس جوهري لهذا المشروع بشروط التقدم الحضاري والديمقراطي جنبًا إلى جنب مع التحرر الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهي ذاتها الأهداف التي انطلقت من أجلها الثورة الوطنية في مصر في 25 يناير 2011، والتي ناضل الشعب من أجلها مرة ثانية في 30 يونيو 2013.
وبناء على هذا كله اهتمت الدراسة بتحديد ثلاثة أبعاد للدور المصري من خلالها يمكن تطوير وتفعيل سياسة مصر الخارجية هي البُعد العربي والبُعد الإقليمي والبُعد الدولي على النحو التالي:
أ- البُعد العربي للدور المصري
يعتبر الدور المصري على المستوى العربي ركيزة الدور المصري كله. فالوطن العربي هو المجال الحيوي- الأمني والاقتصادي لتعظيم مصالح مصر الوطنية وحماية أمنها القومي، ولذلك فإن أمام مصر حزمة من الأدوار التي ينبغي أن تقوم بها.
الإسراع بتقديم مبادرات مشتركة لتأسيس نواة للقوة السياسية والعسكرية العربية تكون قادرة على أن تكون قيادة للنظام العربي تحمي الدولة العربية من السقوط وإعادة التقسيم
1- أن تخرج قوية متماسكة متمتعة بعافيتها من تداعيات ثورتها، وأن تكون قادرة على تقديم النموذج الأجدر بالقيادة، نموذج الكفاءة والاقتدار وحسن إدارة الموارد، والنظام السياسي الديمقراطي القادر على حماية الحريات والحقوق وتحقيق العدالة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي والعلمي والثقافي، والقادر أيضًا على الإبهار، في التجديد الحضاري والثقافي والفكري. إن ما نعنيه هنا هو، بحق، "الجهاد الأكبر"، أي جهاد النفس، وإعادة طرح مشروع قومي عربي بروح حضارية ديمقراطية، و|عادة طرح مفهوم جديد لـ "العروبة"، ونعني به أولًا العروبة الديمقراطية، وثانيًا العروبة الإبداعية، وثالثًا العروبة التكاملية، أي صياغة وتحقيق نموذج تكاملي عربي مفعم بأعظم خصوصيات أمتنا العربية ويحقق أجمل ما في هويتها الحضارية العربية- الإسلامية.
2- الإسراع بتقديم مبادرات مشتركة لتأسيس نواة للقوة السياسية والعسكرية العربية تكون قادرة على أن تكون قيادة للنظام العربي تحمي الدولة العربية من السقوط وإعادة التقسيم، وتنهي ما يموج داخل الدول العربية من صراعات وأزمات، وأن تبلور مشروعًا عربيًا جديدًا للتكامل والاتحاد، يجدد حيوية وفعالية النظام العربي نحو نظام عربي جديد أكثر كفاءة وأكثر اقتدارًا، والأهم أكثر شعبية وديمقراطية، أي أن يكون الشعب العربي محور ارتكاز هذا النظام جنبًا إلى جنب مع الحكومات.
3- العودة بالقضية الفلسطينية مجددًا كقضية مركزية عربية، وصياغة مشروع عربي قادر على استعادة حقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حقه في الاستقلال الوطني وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على أرضه المحتلة في الخامس من يونيو 1967، والتصدي للمشروع الاستيطاني الصهيوني الذي أخذ يتغلغل في أنحاء الجسد السياسي العربي مستغلًا حالة الانفراط والتردي العربية الراهنة.
4- القيامة بدور فاعل في الأمن الخليجي يربط هذا الأمن بالأمن القومي العربي وجعل مصر طرفًا أساسيًا في معادلة الأمن الخليجي لمواجهة الأطماع الإيرانية من ناحية وتعويض الانسحاب الأمريكي من مسئولياته السابقة في الخليج، بحيث يكون الأمن العربي أو الدور العربي هو وحده المعني بـ "ملء الفراغ" الذي سوف ينتج عن الانسحاب الأمريكي، وهو دور يمكن أن يكون قادرًا على موازنة الدور الإيراني من ناحية، والحد من اندفاع الأشقاء في الخليج نحو "موازن إقليمي" بديل قادر على مواجهة تحديات إيران سواء كان هذا الموازن هو تركيا أم باكستان.
ب- البُعد الإقليمي للدور المصري
تكشف قراءة المشهد الإقليمي عن وجود ثلاثة مشاريع إقليمية كبرى تتصارع أحيانًا، وتتنافس في أحيان أخرى، لكنها، وفي ظروف جديدة قد تتعاون هي: المشروع الاستيطاني الصهيوني، والمشروع "الإمبراطوري" الإيراني الطائفي – المذهبي، والمشروع التركي الملتبس بين عثمانية جديدة مترددة حريصة على العودة إلى الشرق إما بدوافع الحنين التاريخي أو بضغوط ومرارة الإقصاء الأوربي، وبين عالمية تكافح الانضواء تحت عباءة مشروع إسلامي سُني- ديمقراطي غير موثوق بكفاءته أو فرص نجاحه.
هذه المشاريع القومية الثلاثة تتصارع على الهيمنة في إقليم الشرق الأوسط، وتسعى إلى تعميق نفوذها في كل أنحاء هذا الإقليم الذي يشكل وطننا العربي قلبه الجغرافي والبشري والاقتصادي. صراعات الهيمنة هذه تدور على أرض الوطن العربي. وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد مكنت هذه القوى الثلاث من احتلال أرض عربية (إيران احتلت الأحواز، وتركيا احتلت الأسكندرون، وإسرائيل احتلت فلسطين)، فإن الحرب العالمية الثانية وما تلاها من تطورات أطلقت صراعات من أجل الهيمنة والنفوذ بين إسرائيل التي تطرح نفسها قوة إقليمية مهيمنة مسنودة من الغرب ضمن دور مغزاه الحيلولة دون وحدة العرب والإمعان في تقسيمهم وتمزيق تماسكهم ومسخ هويتهم، وبين إيران التي تحالفت مع الغرب والكيان الصهيوني في عهد الشاه ضد العرب وحركة التحرر العربية التي قادتها مصر، ثم تحولت بعد الثورة الإيرانية عام 1979 إلى قوة إقليمية رافضة للهيمنة الإسرائيلية وطرح نفسها كمهيمن بديل، وتركيا التي حرصت أحيانًا على أن تكون قوة موازنة بين تل أبيب وطهران، لكنها عادت لأحلامها الإمبراطورية العثمانية في عهد حزب العدالة والتنمية وخاصة بعد الثورات والانتفاضات العربية التي دفعت بحركة الإخوان للسيطرة على مقاليد تلك الثورات.
مصر مُطالَبة بطرح وقيادة رؤية إستراتيجية عربية للتعامل مع هذه القوى الثلاث جنبًا إلى جنب مع القوة الأفريقية الأخرى البازغة ونعني إثيوبيا، والبداية أن تسعى مصر إلى فرض نفسها مجددًا قوة إقليمية بعمق استراتيجي عربي قادر على المنافسة مع هذه القوى الثلاث، وأن تفرض إطار توازنات قوي بديل قادر على حماية مصالح العرب وأمنهم، والتمييز بين هذه القوى وفق "بوصلة" قادرة على فرز المصالح ومصادر التهديد بين هذه القوى، ولن يتحقق هذا كله إلا بقيادة مصر لمشروع عربي للنهضة يرتكز على أهداف عربية للتحرر والنهوض تربط بين الوحدة الوطنية والقومية في مواجهة التقسيم، والاستقلال الوطني والقومي في مواجهة التبعية للخارج، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد والتسلط، والتنمية المجتمعية الشاملة والمستدامة في مواجهة التخلف، والعدل الشامل: السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني في مواجهة الظلم والجور والفساد والطغيان واحتكار السلطة والثروة، والتجديد الحضاري والثقافي والإبداعي في مواجهة الجمود والتحجر والارتداد إلى عصور الاستبداد المتخفي بستائر دينية زائفة.
هذه البوصلة في حال اعتمادها سوف تميز بين إسرائيل كعدو إستراتيجي تاريخي للأمة هدفه أن يفرض عليها التقسيم وعرقلة توحدها والإبقاء على تخلفها، وبين صراعات ونفوذ مع إيران وتركيا قد يتحول إلى علاقات تعاون في ظروف أخرى، ومن ثم يمكن اعتماد سياسة توازن المصالح بدلًا من "صراع القوى" مع هاتين القوتين على العكس من الكيان الصهيوني الذي يجب أن يبقى دائمًا ضمن إطار الصراع الإستراتيجي التاريخي الممتد.
ج- البُعد الدولي للدور المصري
إذا كان تحليل توازن القوى الدولي يكشف الآن عنة تحولات في هيكلية القوة بتراجع أو أفول عهد القطب الأوحد الأمريكي وظهور نظام دولي يعتمد ضمن مستويين: القيادة التي تتجه إلى أن تكون متعددة الأقطاب والقيادة الوسطية التي تلعب فيها النظم الإقليمية والقوى الدولية أدوارًا أساسية، فإن مصر يجب أن تسعى للعمل ضمن مسارين؛ أولهما، المسار الأحادي للدولة المصرية، وثانيهما، مسار النظام العربي في تفاعلاته مع القيادة العالمية للنظام العالمي من ناحية، والنظم الإقليمية العالمية بما تمثله من كتل اقتصادية- سياسية من ناحية أخرى.
كما أن مصر مطالبة بتحقيق التوازن في علاقاتها مع القوى القيادية العالمية بالحفاظ على المصالح مع الولايات المتحدة والحيلولة دون الصدام معها، مع تطوير لعلاقات مميزة مع كل من روسيا والصين جنبًا إلى جنب مع اليابان والهند، وهي مجالات سوف تشهد تنافسًا مصريًا- إسرائيليًا ضاريًا بينهما.
في الوقت نفسه فإن مصر مطالبة بتطوير علاقاتها مع الكتل الإقليمية الدولية وفي مقدمتها الاتحاد الأوربي والتنظيمات الإقليمية المتعددة في آسيا خاصة منظمة الآسيان و"رابطة شنغهاي" وفي أمريكا اللاتينية، والمنظمات العابرة للقارات مثل رابطة "بريكس" إضافة إلى أولوية القارة الأفريقية بكافة جبهاتها في شرق القارة وغربها في جنوبها وأوسطها حيث وادي النيل التاريخي في تفاعلات شديدة الحيوية مع مصر.
2- الإسراع بتقديم مبادرات مشتركة لتأسيس نواة للقوة السياسية والعسكرية العربية تكون قادرة على أن تكون قيادة للنظام العربي تحمي الدولة العربية من السقوط وإعادة التقسيم، وتنهي ما يموج داخل الدول العربية من صراعات وأزمات، وأن تبلور مشروعًا عربيًا جديدًا للتكامل والاتحاد، يجدد حيوية وفعالية النظام العربي نحو نظام عربي جديد أكثر كفاءة وأكثر اقتدارًا، والأهم أكثر شعبية وديمقراطية، أي أن يكون الشعب العربي محور ارتكاز هذا النظام جنبًا إلى جنب مع الحكومات.
3- العودة بالقضية الفلسطينية مجددًا كقضية مركزية عربية، وصياغة مشروع عربي قادر على استعادة حقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حقه في الاستقلال الوطني وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على أرضه المحتلة في الخامس من يونيو 1967، والتصدي للمشروع الاستيطاني الصهيوني الذي أخذ يتغلغل في أنحاء الجسد السياسي العربي مستغلًا حالة الانفراط والتردي العربية الراهنة.
4- القيامة بدور فاعل في الأمن الخليجي يربط هذا الأمن بالأمن القومي العربي وجعل مصر طرفًا أساسيًا في معادلة الأمن الخليجي لمواجهة الأطماع الإيرانية من ناحية وتعويض الانسحاب الأمريكي من مسئولياته السابقة في الخليج، بحيث يكون الأمن العربي أو الدور العربي هو وحده المعني بـ "ملء الفراغ" الذي سوف ينتج عن الانسحاب الأمريكي، وهو دور يمكن أن يكون قادرًا على موازنة الدور الإيراني من ناحية، والحد من اندفاع الأشقاء في الخليج نحو "موازن إقليمي" بديل قادر على مواجهة تحديات إيران سواء كان هذا الموازن هو تركيا أم باكستان.
ب- البُعد الإقليمي للدور المصري
تكشف قراءة المشهد الإقليمي عن وجود ثلاثة مشاريع إقليمية كبرى تتصارع أحيانًا، وتتنافس في أحيان أخرى، لكنها، وفي ظروف جديدة قد تتعاون هي: المشروع الاستيطاني الصهيوني، والمشروع "الإمبراطوري" الإيراني الطائفي – المذهبي، والمشروع التركي الملتبس بين عثمانية جديدة مترددة حريصة على العودة إلى الشرق إما بدوافع الحنين التاريخي أو بضغوط ومرارة الإقصاء الأوربي، وبين عالمية تكافح الانضواء تحت عباءة مشروع إسلامي سُني- ديمقراطي غير موثوق بكفاءته أو فرص نجاحه.
هذه المشاريع القومية الثلاثة تتصارع على الهيمنة في إقليم الشرق الأوسط، وتسعى إلى تعميق نفوذها في كل أنحاء هذا الإقليم الذي يشكل وطننا العربي قلبه الجغرافي والبشري والاقتصادي. صراعات الهيمنة هذه تدور على أرض الوطن العربي. وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد مكنت هذه القوى الثلاث من احتلال أرض عربية (إيران احتلت الأحواز، وتركيا احتلت الأسكندرون، وإسرائيل احتلت فلسطين)، فإن الحرب العالمية الثانية وما تلاها من تطورات أطلقت صراعات من أجل الهيمنة والنفوذ بين إسرائيل التي تطرح نفسها قوة إقليمية مهيمنة مسنودة من الغرب ضمن دور مغزاه الحيلولة دون وحدة العرب والإمعان في تقسيمهم وتمزيق تماسكهم ومسخ هويتهم، وبين إيران التي تحالفت مع الغرب والكيان الصهيوني في عهد الشاه ضد العرب وحركة التحرر العربية التي قادتها مصر، ثم تحولت بعد الثورة الإيرانية عام 1979 إلى قوة إقليمية رافضة للهيمنة الإسرائيلية وطرح نفسها كمهيمن بديل، وتركيا التي حرصت أحيانًا على أن تكون قوة موازنة بين تل أبيب وطهران، لكنها عادت لأحلامها الإمبراطورية العثمانية في عهد حزب العدالة والتنمية وخاصة بعد الثورات والانتفاضات العربية التي دفعت بحركة الإخوان للسيطرة على مقاليد تلك الثورات.
مصر مُطالَبة بطرح وقيادة رؤية إستراتيجية عربية للتعامل مع هذه القوى الثلاث جنبًا إلى جنب مع القوة الأفريقية الأخرى البازغة ونعني إثيوبيا، والبداية أن تسعى مصر إلى فرض نفسها مجددًا قوة إقليمية بعمق استراتيجي عربي قادر على المنافسة مع هذه القوى الثلاث، وأن تفرض إطار توازنات قوي بديل قادر على حماية مصالح العرب وأمنهم، والتمييز بين هذه القوى وفق "بوصلة" قادرة على فرز المصالح ومصادر التهديد بين هذه القوى، ولن يتحقق هذا كله إلا بقيادة مصر لمشروع عربي للنهضة يرتكز على أهداف عربية للتحرر والنهوض تربط بين الوحدة الوطنية والقومية في مواجهة التقسيم، والاستقلال الوطني والقومي في مواجهة التبعية للخارج، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد والتسلط، والتنمية المجتمعية الشاملة والمستدامة في مواجهة التخلف، والعدل الشامل: السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني في مواجهة الظلم والجور والفساد والطغيان واحتكار السلطة والثروة، والتجديد الحضاري والثقافي والإبداعي في مواجهة الجمود والتحجر والارتداد إلى عصور الاستبداد المتخفي بستائر دينية زائفة.
هذه البوصلة في حال اعتمادها سوف تميز بين إسرائيل كعدو إستراتيجي تاريخي للأمة هدفه أن يفرض عليها التقسيم وعرقلة توحدها والإبقاء على تخلفها، وبين صراعات ونفوذ مع إيران وتركيا قد يتحول إلى علاقات تعاون في ظروف أخرى، ومن ثم يمكن اعتماد سياسة توازن المصالح بدلًا من "صراع القوى" مع هاتين القوتين على العكس من الكيان الصهيوني الذي يجب أن يبقى دائمًا ضمن إطار الصراع الإستراتيجي التاريخي الممتد.
ج- البُعد الدولي للدور المصري
إذا كان تحليل توازن القوى الدولي يكشف الآن عنة تحولات في هيكلية القوة بتراجع أو أفول عهد القطب الأوحد الأمريكي وظهور نظام دولي يعتمد ضمن مستويين: القيادة التي تتجه إلى أن تكون متعددة الأقطاب والقيادة الوسطية التي تلعب فيها النظم الإقليمية والقوى الدولية أدوارًا أساسية، فإن مصر يجب أن تسعى للعمل ضمن مسارين؛ أولهما، المسار الأحادي للدولة المصرية، وثانيهما، مسار النظام العربي في تفاعلاته مع القيادة العالمية للنظام العالمي من ناحية، والنظم الإقليمية العالمية بما تمثله من كتل اقتصادية- سياسية من ناحية أخرى.
كما أن مصر مطالبة بتحقيق التوازن في علاقاتها مع القوى القيادية العالمية بالحفاظ على المصالح مع الولايات المتحدة والحيلولة دون الصدام معها، مع تطوير لعلاقات مميزة مع كل من روسيا والصين جنبًا إلى جنب مع اليابان والهند، وهي مجالات سوف تشهد تنافسًا مصريًا- إسرائيليًا ضاريًا بينهما.
في الوقت نفسه فإن مصر مطالبة بتطوير علاقاتها مع الكتل الإقليمية الدولية وفي مقدمتها الاتحاد الأوربي والتنظيمات الإقليمية المتعددة في آسيا خاصة منظمة الآسيان و"رابطة شنغهاي" وفي أمريكا اللاتينية، والمنظمات العابرة للقارات مثل رابطة "بريكس" إضافة إلى أولوية القارة الأفريقية بكافة جبهاتها في شرق القارة وغربها في جنوبها وأوسطها حيث وادي النيل التاريخي في تفاعلات شديدة الحيوية مع مصر.