النماذج والدروس: العلاقات المدنية العسكرية، مساهمة في وضع نموذج مصري (5)
تقدم تجربة أمريكا اللاتينية نموذجًا مختلفًا في العلاقات المدنية العسكرية، والتي تمت رغم الدور المركزي لجيوش تلك الدول في الحفاظ على الأمن الداخلي. وبشكل عام، ففي عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية، كانت الجيوش تدعم في الواقع عملية الانتقال الديمقراطي، والبعض الآخر كانوا من المروّجين والمبادرين للتحول الديمقراطي وإصلاح العلاقات المدنية العسكرية، عادة بسبب الضغط من المجتمع أو نتيجة للانقسامات داخل النخب السياسية (1).
وربما كانت أقرب الحالات للنموذج المصري هي البرازيل وتشيلي. فالأولى شهدت حكم خمسة جنرالات حكموا لمدة 21 عامًا (1964-1985)، وكان القمع ليس كبيرًا. والثانية فقد حكم الجنرال أوغستو بينوشيه General Augusto Pinochet تقريبًا بمفرده بين انقلاب عام 1973 والانتخابات الديمقراطية الأولى في عام 1989، وكان مستوى القمع عاليًا جدًا"(2).
أولاً- نموذج أمريكا اللاتينية
وبشكل عام فهناك عدد من السمات المشتركة في حالة التحول الديمقراطي في كل البلدين. فهي أولًا، تمت من خلال التفاوض من قبل النخب السياسية الجديدة لتوفير مجموعة من الشروط أو التفاهمات من خلالها يمكن أن يشعر الجيش بقدر من الأمان من العقاب بعد تخليه عن السلطة السياسية. وتظهر العلاقات المدنية-العسكرية في كلا البلدين، كيف كانت الطبيعية التفاوضية السمة البارزة لتك المسألة، وكيف جعلت تلك المفاوضات من الممكن للقوات المسلحة تمديد بعض امتيازاتها وسلطاتها غير الرسمية إلى النظام السياسي الجديد. وبالتالي ضمن للجيش الحفاظ على امتيازات مؤسسية، ومناطق نفوذ مستقلة، والتي كان من الصعب على المدنيين التراجع عنها والانقلاب عليها(3). ثانيًا، كان التحول الديمقراطي في كلا البلدين تحولًا محافظًا، وتحت السيطرة، ومن خلال التحول الديمقراطي تمتع الجيش، لبعض الوقت، بعدد من الضمانات، والتي استمرت لفترة طويلة. ثالثًا، وكما كانت الحال في جميع حالات التجول الديمقراطي بعد الحرب الباردة كان الدور الذي لعبته القوى الخارجية سواء الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوربي ضئيلا(4).
ففي البرازيل، على سبيل المثال، كان التحول نتيجة التفاوض بين النخب السياسية في عام 1985. ونتيجة لعدم تيقنها من قوتها في علاقتها مع كل من الجيش والقوى السياسية الأخرى، جعلت الحكومة الجيش جزءًا من تحالفها السياسي، وكان الجيش مستعدًا لهذا التوافق. وكانت الحكومات المنتخبة الأولى حذرة في اتخاذ إجراءات وخطوات ضد الجيش. ولم يفعلوا شيئًا لوضع المؤسسة العسكرية تحت سيطرة المؤسسات المدنية. فعلى سبيل المثال فحتى حكم كلا من الرئيس سارني Sarney (1985-1990)، والرئيس كولور Collor، كان ضباط الجيش العاملون مازالوا أعضاء في مجلس الوزراء(5).كما ترك دستور 1988 المؤسسة العسكرية على حالها تقريبًا، ولم يمس أي من امتيازاتها (6). فعلي سبيل المثال تنص المادة 142 من دستور 1988، على أن "هدف القوات المسلحة الدفاع عن الوطن، وضمان السلطات القائمة بموجب الدستور". وهذا هو أساسًا نفس الدور الذي لعبته القوات المسلحة منذ تأسيس الجمهورية في عام 1891(7). وذلك هو ما دعا بعض المراقبين للادعاء بوجود عسكرة متزايدة داخل الفضاء المدني العام(8). وبالمثل، لم تتقلص هياكل القوات المسلحة بإنشاء وزارة الدفاع عام 1999 وتعيين سياسي مدني وزيرا للدفاع. كما أن استبدال مجلس الأمن القومي بمجلس الدفاع الوطني لم يؤثر كثيرًا؛ حيث ظل مجرد جهاز استشاري. وبالتالي خرجت القوات المسلحة خلال الفترة الانتقالية سالمة. وبدأت برنامج عملية تحديث القوات المسلحة مع بداية النظام المدني. فقد ضغطت القوات المسلحة على نحو فاعل في الجمعية التأسيسية، وازدادت شهرتهم وهيبتهم ومكانتهم بسبب اعتماد الرئيس سارني عليهم للحصول على الدعم لأنه ذو قاعدة سياسية ضئيلة. وبالتالي فقد بقت القوات المسلحة في مركز السلطة في الواقع أو من حيث الدستور (9). وحتى الآن، ما زال الجيش يتمتع باختصاصات مميزة، حتى بالنسبة لجرائم القانون العام. وحتى الآن أيضاً، استفاد الجيش من تصور أنه أقل فسادا من الشرطة، على تعزيز نفوذه (10).
أما تجربة شيلي، فقد تطورت العلاقة بين المدنيين والعسكريين على مر الزمن. فأحد الجوانب الحاسمة للتحول الديمقراطي في تشيلي هو أنها خُطط لها ونُفذت من قبل الرئيس بينوشيه، الذي أدرك أن الاعتراف الدولي هو المفتاح الوحيد لشرعية النظام. وقد وافق الجيش على التفاوض للانتقال إلى حكومة مدنية، لكنه تمكن من السيطرة على شروط التفاوض. لذلك عندما جاءت الحكومة ألوين Aylwin إلى السلطة في عام 1990، كان خروج الجيش من الممارسة المباشرة للسلطة قد أُعد مسبقًا. وقد أنشأ دستور 1980 آلية للخلافة من شأنها أن تضمن استمرارية في السلطة للقادة العسكريين، والقائد العام للقوات المسلحة حتى عام 1997، وكذلك الأمر بالنسبة للسلطة القضائية. بالإضافة إلى أن القانون الأساسي للقوات المسلحة the Organic Law of the Armed Forces ضمن ميزانية مستقلة للقوات المسلحة. وبشكل عام، كانت الامتيازات والمجالات التي ضمن فيها الجيش استقلالًا قبل التحول الديمقراطي وذلك بمأسستها في الدستور، ثبت للحكومة الجديدة صعوبة تعديلها. لأنهم أقل قوة وسلطة من الجيش، فقد كانت القوي المدنية لديها مجالًا وفرصًا أقل في المناورة، ولم تستطع تحدي هذا الوضع. وعلى الرغم من ذلك كانت الحكومة الديمقراطية قادرة على إزاحة بينوشيه Pinochet عن الرئاسة في عام 1989(11). هناك جانب آخر مهم ميز الانتقال الديمقراطي في تشيلي، هو أن بينوشيه Pinochet أستمر في العمل كقائد عام للقوات المسلحة خلال الفترة الانتقالية الممتدة (حتى عام 1998)، ونصب نفسه عضوًا في مجلس الشيوخ مدى الحياة حتى عام 2000. وقد مثل هذا الاستمرار عائقًا خطيرًا أمام أي محاولة من قبل الحكومات المدنية المتعاقبة لتحدي الجيش.(12) ومع ذلك فالإصلاح الدستوري في عام 2005 أزاح في النهاية الجوانب الأكثر إشكالية لاستقلال الجيش من خلال: إزالة حق الجيش في حماية النظام المؤسسي؛ منح الرئيس الحق في عزل قادة للقوات المسلحة، إنهاء سيطرة الجيش على مجلس الأمن القومي؛ إلغاء مسألة أعضاء مجلس الشيوخ المعينين، والتي تشمل القادة المتقاعدين من كل أفرع القوات المسلحة. وبشكل عام، فعملية التحول في العلاقات المدنية العسكرية كانت طويلة وتطلبت تنسيقًا بين الحكومة والقوات المسلحة. كما تم بذل جهد تثقيفي وتعليمي كبير داخل الجيش، من أجل أن يفهم ويعمل ويتصرف أعضاء القوات المسلحة من كل الرتب، وفقًا لقواعد النظام الديمقراطي (13).
وبشكل عام، تشير تجربة أمريكا اللاتينية إلى أن إنشاء تسلسل واضح للقيادة أمر ضروري لإصلاح سلس للعلاقات المدنية العسكرية. فالرئيس هو عادة على رأس السلطة، يصدر الأوامر من خلال وزير دفاع مدني. ومن الضروري أن تكون وزارة الدفاع احترافية ومهنية، ومختصة وذات كفاءة من الناحية الفنية، وتحافظ على علاقات جيدة مع الإدارة والهيئات الأخرى من السلطة التنفيذية. ويجب تعزيز دور البرلمان لتمكينه من مراقبة تنفيذ السياسات العسكرية، وتعيين ميزانية القطاع العسكري، ويحتفظ البرلمان بحقة في إعلان الحرب. أما القضاء، فمن جانبه، لديه واجب أيضا وهو ضمان أن يمتثل ضباط الجيش لحكم وسلطة وسيادة القانون، وخاصة في تعاملهم مع المرؤوسين والجنود (14).
ثانيًا- ما الدروس التي يمكن أن تتعلمها مصر من تجربة أمريكا اللاتينية؟
بكل أسف مصر ليست في وضع يختلف عن العديد من دول أمريكا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات. ولذلك فهناك العديد من الدروس التي يمكن أن تتعلمها مصر من تجارب دول أمريكا اللاتينية. أولًا، أن الحركات الوحيدة القادرة على مقاومة الجيش هي تلك التي لديها إما قيادة كاريزمية، أو حزب سياسي قوي يدعمها. وكان خير مثال على ذلك بيرون Peron في الأرجنتين. عندما تحول زملاؤه العسكريون ضده، وتحركت النقابات القوية ضده وأجبرت الجيش على التراجع (15). وتدرك مصر أهمية ذلك الآن. ومع ذلك، فلا توجد في مصر القيادة الكاريزمية كما سبقت الإشارة.
ثانيًا، الانتقال نحو نظام مؤسسي جديد يفصل بدقة بين السلطات المدنية والسلطات العسكرية عملية طويلة الأجل وممتدة. ومع ذلك، فلكي تترسخ هذه العملية، فالمؤسسات المدنية القوية التي تتمتع بشرعية شعبية واسعة يجب أن تظهر وتأسس أولًا. وفي الوقت نفسه، هناك حاجة إلى إصلاحات لإنشاء تسلسل واضح للقيادة، وإحداث تغيير جذري في العقلية وذهنية المؤسسة العسكرية، بما في ذلك تجديد النخب العسكرية.
ثالثًا، عقد اتفاق مع النخب العسكرية، هو خطوة حاسمة. وفي هذا السياق، ينبغي على القادة المدنيين أن يفهموا أن الجيش سيواصل لعب دور مهم بعد التحول الديمقراطي، وانتهاء الفترة الانتقالية. فالجيش يتصرف بشكل كبير بناء على رؤيته لمصالحه المؤسسية، والتي تبرر بالحفاظ على الأمن القومي. وفي هذا السياق، فالجيش دائما ما يكون في مصدر قوة. فطبقة الضباط لديها الكثير لتخسره، بما في ذلك نفوذهم داخل مجموعة واسعة من المنظمات التي تديرها الدولة، والتي تعطي الجنرالات السلطة والمحسوبية، ناهيك عن الحصول على الأموال. ولأن الجيش لديه أيضا مكانة خاصة في النظام السياسي؛ فلن يتخلى وبالطبع عن هذا كله بدون معركة سياسية شرسة"(16). بالتالي ينبغي على القادة المدنيين إيجاد وسيلة للتفاوض مع القيادة العسكرية لحل كل تلك الإشكاليات. وهناك العديد من الوسائل المجربة بالفعل في مناطق أخرى من العالم، مثل المواثيق والاتفاقات القانونية، التي تحفظ امتيازات الجيش لفترة مؤقتة، وبطبيعة الحال فزيادة وتحسين احترافية القوات المسلحة يمكن أن يساعد على دفع الجيش المصري إلى الثكنات، والحد من مشاركته في الشئون السياسية. وقد بدأت هذه العملية بالفعل في مصر من خلال المفاوضات بين الإخوان والجيش (17) والتي انتهت بإحالة المشير طنطاوي للتقاعد، وتعيين الجنرال السيسي وزيرًا للدفاع. وقد بدأ الجيش فعلًا خلال الشهور الأولى من حكم مرسي بعيدا عن السياسية، إلى أن حدث انقلاب مرسي الدستوري في نوفمبر 2012، وتطورت الأزمة إلى أن أصبحت مصر على حافة حرب أهلية فاضطر الجيش للتدخل لحماية الأمن القومي المصري.
رابعًا، وبنفس القدر من الأهمية، فنقل السلطات لحكومات منتخبة في نهاية المطاف لم يترجم بشكل تلقائي إلى إعادة الجيش إلى ثكناته، وخضوعه للحكم المدني. بل على العكس فالتحول الديمقراطي في البرازيل وتشيلي جاء نتيجة اتفاق بين النخب السياسية، ضمن فيها الجيش الحفاظ على امتيازات مؤسسية، ومناطق نفوذ مستقلة، والتي كان من الصعب على المدنيين التراجع عنها والانقلاب عليها. وأصبح معلومًا بشكل واسع أنه بعد عقد من نقل السلطة رسميًا للمدنيين استمر الجيش في ممارسة نفوذًا كبيرًا في السياسية، حتى إن لم يكن بشكل مباشر، واستمر في التصرف بشكل مستقل في مواجهة الحكومة (18).
خامسًا، وبالمثل، فإن أهم الدروس المستفادة من حالات دول أمريكا اللاتينية هي أن التحولات الديمقراطية، وتوطيد الديمقراطية لاحقًا في تلك البلاد، من المحتمل أن تكون عملية طويلة وممتدة وتدريجية. وعملية الخروج الآمن للضباط أخذت في الاعتبار بشكل كبير.
ثالثاً- مساهمة تجريبية في وضع نموذج لمستقبل العلاقات المدنية العسكرية في مصر
وبعد استعراض تلك النماذج الستة، يمكن استنتاج أن النماذج الدولية في العلاقات المدنية العسكرية مسألة مثيرة للاهتمام، وتعطي دروسا كثيرة جديرة بالتعلم، ولكنها في بعض الأحيان تحجب أكثر مما تكشف. والنتيجة المهمة التي يمكن استخلاصها من تلك التجارب هي أن نجاح العلاقات المدنية العسكرية لا يتوقف على تبني أي من تلك النماذج في العلاقات المدنية-العسكرية: النموذج التفاوضي؛ النموذج الإصلاحي، سواء الذي يقوده الجيش أو الذي يقوده النظام؛ أو النموذج التصارعي، لكن على الأحرى على وجود رغبة جادة من الأطراف المعنية: الجيش والأحزاب والنخب المدنية، للشروع في هذا الإصلاح الذي لا مفر منه.
وبشكل عام، فمنظرو علم السياسة المقارن، والعلاقات المدنية العسكرية، ودعاة إصلاح العلاقات المدنية-العسكرية في كثير من الأحيان ما يختارون النماذج الخاطئة. فهم ينظرون إلى أكثر الديمقراطيات الناجحة، بدلًا من النظر إلى البلدان التي تواجه مشاكل مماثلة لحالة البلد موضع الدراسة. لذلك فمن المهم العثور على أمثلة مناسبة، وقابلة للتطبيق في بلد مثل مصر. فمصر يجب أن تتعلم أساسًا من الأمثلة غير الكاملة في العلاقات المدنية، وذلك لتجنب أوجه القصور فيها، والأخطاء. فالأمثلة التي حققت نجاحًا جزئيًا في إصلاح العلاقات المدنية العسكرية ربما تكون أكثر ملاءمة للحالة المصرية، من الأمثلة الأكثر نجاحًا، حيث تفتقر مصر في هذه اللحظة الحرجة لبعض المتطلبات لتحقيق العلاقات المدنية-العسكرية الشاملة؛ بالإضافة إلى أنها ما زالت تحبو، في طريق طويل، نحو التحول الديمقراطي. وهنا يجب التأكيد على أن أهم فائدة من فوائد التجارب الدولية هي أنها تعطي مجالًا لتجنب أخطاء النماذج السابقة، خاصة النماذج الفاشلة.
لهذا السبب، يجب على مصر أن تطور نموذجها الخاص الذي يتناسب مع حالتها. ولذلك فإنني أقترح نموذجا تجريبيا يطبق على مرحلتين متتاليتين. المرحلة الأولى هي ما أسميها بـ "السيطرة السياسية" “Political Control” على القوات المسلحة، والتي سوف تستمر لمدة تتراوح بين 10 إلى 15 عامًا، وخلال تلك الفترة ستستكمل مصر الشروط اللازمة لبدء المرحلة الثانية: "السيطرة السياسية المدنية" “Civilian Political Control” على القوات المسلحة. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن "السيطرة السياسية" على القوات المسلحة، وليس السيطرة الديمقراطية على القوات المسلحة أو إخضاع الجيش تحت سيطرة مدنية ديمقراطية، هي النموذج الأكثر ملاءمة، من وجهة نظري، وينطبق على الحالة المصرية، في هذه اللحظة الحرجة. على اعتبار أن مصر أمامها طريق طويل لتقطعه للوصول للتحول الديمقراطي، وبالتالي تستطيع وضع الجيش تحت سيطرة مدنية ديمقراطية، وفقًا للمعايير الغربية
أما بالنسبة لـ "السيطرة السياسية المدنية" فهي تحتاج لمدة 10 سنوات لإحداث عملية توطيد Consolidation العلاقات المدنية العسكرية. وبعد تطبيق "السيطرة السياسية المدنية"، سيتعود الجيش على السيطرة المدنية على القوات المسلحة. وبشكل عام، لضمان نجاح السيطرة المدنية على القوات المسلحة، ينبغي على المدنيين مواصلة الإصلاحات تدريجيًا، من خلال التفاوض والحوار وبناء توافق في الآراء بدلًا من المواجهة الحادة.
وبهذا الفهم فهذا النموذج التجريبي يحتاج إلى 20 إلى 25 عاما لكي يطبق. ولا ينبغي أن يثير هذا العدد من السنوات استغراب البعض. فإصلاح العلاقات المدنية في تشلي والبرازيل، اقرب الحالات للنموذج المصري، أخذت نفس القدر من السنوات تقريبا. وأخذ إصلاح العلاقات المدنية العسكرية في كل من إسبانيا والبرتغال نحو 10 سنوات، وهي بلاد ليس لدي جيوشها مصالح اقتصادية كبرى مثل الجيش المصري. أما باكستان وتركيا وإندونيسيا، فإصلاح العلاقات المدنية العسكرية استمر –ومازال مستمرا - لمدة تزيد على 60 عامًا، ووصلت إلى نجاح جزئي في العلاقات المدنية العسكرية. وبالتالي فمدة 20 إلى 25 كمتوسط لإصلاح العلاقات المدنية العسكرية ليست مدة طويلة.
أما بالنسبة للمرحلة الأولى من النموذج التجريبي المقترح لإصلاح العلاقات المدنية العسكرية في مصر، فعلى الرغم من أن الجيش المصري يخضع بالفعل للـ "السيطرة السياسية" منذ حكم مبارك على الأقل، فمصر ينقصها الكثير لاستكمال تلك المرحلة، وبالتالي استكمال الشروط اللازمة لبدء المرحلة الثانية من ذلك النموذج. وفي هذا الصدد، فـ "السيطرة السياسية" ليست مماثلة لتلك المفاهيم الكلاسيكية لـ "السيطرة المدنية". وهو ما يعني تجنب سلوك غير مرغوب فيه من جانب الجيش أو المواجهة مع القوات المسلحة من خلال التهديد بانقلاب، أو الانقلابات الفعلية أثناء القيام بهذه المرحلة المهمة من الإصلاح العسكري. فخلال تلك المرحلة: "السيطرة السياسية"، تزيد الحكومة المدنية في مصر سيطرتها ورقابتها تدريجيًا على الجيش، من خلال إجراء إصلاح دستوري تدريجي، وتعزيز دور البرلمان، والسلطات الرقابية الأخرى في شؤون الاقتصاد، وشئون الدفاع. ومع ذلك، فإن الإصلاحات الدستورية والمؤسسية لا تؤدي تلقائيًا إلى "السيطرة السياسية المدنية"، لكنها تؤدي إلى دسترة دور المدنيين في الشؤون العسكرية والأمنية. وفي هذه الحالة فيجب على مصر أن تستكمل وتوفر الظروف والشروط المختلفة اللازمة لإقامة "السيطرة السياسية المدنية"، والتي ستكون عملية معقدة جدًا وخطيرة. فوفقًا لديموند، تتطلب تأسيس السيادة المدنية على القوات المسلحة – بشكل عام- على توفر أربعة عوامل: القيادة السياسية الماهرة؛ الوحدة بين القوى السياسية المدنية (بتجاوز الانقسامات الحزبية وغيرها)؛ الخبرة المدنية (سواء داخل الحكومة وخارجها) في مسائل الأمن الوطني؛ و"الحظ (الذي يكون من خلال الانقسامات داخل المؤسسة العسكرية). ومصر في الواقع تفتقر إلى كل تلك العوامل. ولذلك، ينبغي عليها توفير الثلاثة عوامل الأولى من أجل الوصول إلى "السيطرة السياسية المدنية" على القوات المسلحة. وبعد توفير وتطبيق تلك الشروط اللازمة، يتم تقليل النفوذ العسكري في المهام والقضايا غير العسكرية تدريجيًا، وتتولي السلطة السياسية المدنية تدريجيًا المسائل المتعلقة بوضع سياسة الأمن القومي والسياسة العسكرية. وتشمل هذه المسائل وفقًا لديموند، الإستراتيجية، وهيكل القوة، ونشر القوات، والنفقات العسكرية"(19).
وبشكل عام يتطلب استكمال المرحلة الأولي من النموذج التجريبي المقترح توافر تسعة شروط؛ وذلك لتحقيق "السيطرة السياسية المدنية" الشاملة على القوات المسلحة المصرية، هي على النحو التالي:
أولًا، يجب على دعاة إصلاح العلاقات المدنية والعسكرية في مصر بناء القيادة الماهرة، وينبغي أن يساعدوا على بناء الوحدة بين الأحزاب السياسية لتنفيذ هذا الغرض.
ثانيًا، ينبغي على دعاة إصلاح العلاقات المدنية والعسكرية في مصر الحرص على بناء الخبرة المدنية في مسائل الأمن القومي أو ما يسميه ألفريد ستيبان Alfred Stepan "التمكين الديمقراطي" أو ما أسميه مجموعة الـ "سنهدرين" "Sanhedrin" المصرية. وفي هذا الصدد فالتمكين الديمقراطي يتطلب من المدنيين تطوير مستوى الكفاءة لإدارة ومراقبة الميزانيات العسكرية، والأملاك العسكرية، والتدريب والترقيات والعمليات العسكرية، وبناء الخبرة المدنية للعمل في وزارة الدفاع؛ ولجان الرقابة التشريعية بذكاء ومسئولية (20)، كما يجب على مجموعة الـ "سنهدرين" المصرية المقترحة التعاون مع مجموعة صغيرة من الضباط، وذلك بموافقة وإشراف وزارة الدفاع المصرية، وذلك من أجل إعادة تعريف مشترك للعلاقات المدنية-العسكرية، مثل الإستراتيجية الدفاعية، وإعادة تعريف "مهمة" ورسالة الجيش. وينبغي وضع تحديد وتقسيم صارم للعمل بين الأمور العسكرية والأمور المدنية بشكل واضح. أما القضايا المتعلقة بالإستراتيجية الدفاعية والتكتيكات من حيث صلتها القوية بالتدريب، وبنية ونشر القوات فيجب أن تترك بالكامل للجيش ليحددها ويقررها. وفي الوقت نفسه، فإن القوات المسلحة ينبغي أن تتقيد بحدود النفوذ الخاصة بها، وتترك للمدنيين وضع السياسات خارج نطاق سياسات الدفاع. ينبغي على الجيش أيضا أن لا يكون له رأي حول اختيار القادة السياسيين والمعينين في مجلس الوزراء. ويجب التأكيد على المعايير الحديثة للرقابة المدنية على تدريب القوات المسلحة وإطارها القانوني. وبعبارة أخرى، ينبغي على الأيديولوجية والثقافة العسكرية التحول من مفهوم "الوصاية" "Guardianship" إلى فكرة التبعية والخضوع للقادة المدنيين(21). وبنفس الفهم يجب إعادة تعريف الدور السياسي لوزارة الداخلية، ودور الجيش في السياسة الداخلية، والاقتصاد بشكل واضح أيضا. ويجب إعادة توجيه الجيش المصري لمهمة محددة أضيق مما هي عليه الآن. وبالمثل، فإن حالات الطوارئ التي يمكن للرئيس أن يأمر فيها الجيش بالانتشار في المدن يجب أن تكون محددة بوضوح في الدستور، ودور الجيش في الأمن الداخلي يجب أن يكون محددًا بوضوح لمنع إساءة استخدام السلطة(22). ومع ذلك، فإن غياب دور المؤسسة العسكرية عن السياسة والمجال الاقتصادي يكاد يكون من المستحيل. ويبدو أن القادة العسكريين لديهم بعض المخاوف من أن تقوض الإصلاحات قدرة القوات المسلحة على إملاء السياسات الدفاعية، أو إضعاف قبضتهم على الإمبراطورية الاقتصادية الضخمة التي يمتلكها الجيش. بل هي أيضا قلقة من أن مجرد وضع الجيش تحت قيادة مدنية مستقلة، فإنها يمكن أن تصبح عرضة للملاحقة القضائية بتهمة ارتكاب جرائم يزعم أنها ارتكبتها في الماضي"(23). وهذا أمر قد يكون مبالغا فيه. فليس من مصلحة أي من الأطراف العمل على ذلك. ويقدم ديموند Diamond وصفة للحد من مقاومة الجيش لإجراء تلك التغييرات التي لا مفر منها. وقد تكون هذه وصفة قابلة للتطبيق في الحالة المصرية. فعلى سبيل المثال، يجب على المدنيين التفكير في منح الجيش منزلة رفيعة، وأوسمة الشرف، ودخلًا ماديًا مميزًا مقابل أن لا يستخدم الجيش كمصدر قوة في التنافس السياسي، وأن يتجنب الجيش التدخل السياسي في أنشطة سياسية روتينية، مقابل تجنب الجيش من المحاكمات بالنسبة للجرائم التي ارتكبت في ظل النظام السابق(24).
ثالثًا، يجب وضع الرقابة المدنية المناسبة على الميزانية العسكرية والأنشطة الاقتصادية للجيش. ويجب تنفيذ هذا الإجراء تدريجيًا، وبشكل متزايد لتجنب المواجهات السياسية. ويجب وضع سلطة إعلان الحرب في أيدي ممثلين مدنيين منتخبين. ويجب أن يكون الممثلون المنتخبون مسئولين عن تعين وفصل كبار القادة العسكريين من الخدمة.
رابعًا، الضمانة الوحيدة لوقف تدخل الجيش في السياسة في مصر هو تقوية الأحزاب السياسية المدنية حتى توازن أو تفوق تلك الأحزاب قوة الجماعات والأحزاب الدينية وقوى ما يسمي بالإسلام السياسي. وبالتالي تستطيع تلك الأحزاب المدنية تسوية الخلافات السياسية فيما بينها دون حاجة للتدخل السياسي من الجيش لحسم أي خلاف. فكلما كانت هناك أحزاب دينية قوية وحركات راديكالية إسلامية متطرفة، كلما زادت إمكانية تدخل الجيش في السياسة، واستحالة إحداث إصلاح في العلاقات المدنية العسكرية.
خامسًا، وهو ما يرتبط بالنقطة السابقة، يجب على القوى السياسية الرئيسية في مصر إعادة تعريف دور الإسلام في السياسة. فإخراج الإسلام خارج اللعبة السياسية يؤدي إلى إضعاف الإخوان المسلمين والجماعات والأحزاب الدينية الأخرى، وسيضع حدًا لدور الوصي الذي لعبه الجيش في الحياة السياسية المصرية. فإعادة تحديد دور الإسلام في السياسة سيضع حدا لقبول القوى ذات الميول العلمانية والليبرالية لقيام دور سياسي مستمر للجيش في الحياة السياسية، وذلك من أجل موازنة القوة السياسية المتنامية للجماعات الإسلامية"(25). وقد سبق وحدث ذلك في مرات متعددة.
سادسًا، ينبغي على مصر علاج الشروط الاجتماعية التي تسهم، وفقًا لعاموس بيرلماتر Amos Perlmutter، فيما سمّاه 'Praetorianism "(أي الدولة التي يصنع الجيش فيها القرار السياسي أو على الأقل يصنع القرار بشكل كبير بتأثير من الجيش)، والتي توفر أرضية خصبة لتدخل الجيش في السياسة. وتشمل تلك الشروط انعدام التماسك الاجتماعي، ووجود تقسيم طبقي حاد، والضعف السياسي للطبقة الوسطى، وانخفاض مستوى التعبئة السياسية بشكل عام، والتي وفقًا لبيرلماتر توفر أرضية خصبة لتدخل الجيش في السياسة(26). ولهذا السبب، يجب على دعاة إصلاح العلاقات المدنية-العسكرية في مصر القيام بالتعبئة السياسية، ليس ضد التدخل العسكري في السياسة، ولكن بالأحرى على جدوى وأهمية إبقاء الجيش بعيدًا عن السياسة.
سابعًا: يجب على مصر الاستفادة من التجارب الدولية في مجال العدالة الانتقالية Transitional Justice لبناء سلطة قضائية مستقلة، واحترام سيادة وحكم القانونRule of Law ؛ وإصلاح قطاع الشرطة Policing Reform بشكل خاص، وإصلاح القطاع الأمني Security Sector Reform بشكل عام، وهو ما يساعد على خروج الجيش من السياسة.
ثامنًا، قد يساعد المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، والأمم المتحدة، في دعم إصلاح العلاقات المدنية-العسكرية في مصر، فبدلًا من انتقاد مصر في بعض السياسات الثانوية غير المهمة، فيمكن أن يوفر المجتمع الدولي لمصر بعض الحوافز أو الشروط التي تساعد على تحسين العلاقات المدنية-العسكرية.
تاسعًا، يجب على دعاة إصلاح العلاقات المدنية العسكرية أن يربطوا التقدم في الإصلاح العسكري Military Reform بالإصلاح الديمقراطي. وفي هذه الحالة يجب تجنب الحالة التركية، حيث تم تعظيم سيطرة القادة المدنيين على الجيش، وإضعاف المؤسسات الديمقراطية للدولة"(27).
ولكن لكي تكون كل تلك الإصلاحات أكثر كفاءة وعميقة الجذور ومترسخة، ينبغي أن تُستكمل بإصلاحات ديمقراطية أوسع. وبعد استكمال هذه المتطلبات في المرحلة الأولى من النموذج التجريبي، يتم تعويد القوات المسلحة على قبولها، وقبول سيطرة سياسية مدنية في المرحلة الثانية من النموذج. ومع ذلك، ينبغي أن يتعلم دعاة إصلاح العلاقات المدنية العسكرية درسًا مهمًا جيدًا، وهو أن بدء المرحلة الثانية من النموذج المصري في العلاقات المدنية العسكرية: "السيطرة السياسية المدنية"، سيعتمد على استكمال المتطلبات التسعة المذكورة آنفًا. وهذا سوف يستغرق جيلا بكامله لتحقيقه.
وبكل تأكيد فهذا النموذج يخضع للإضافة، والحذف، والنقد، أو حتى للرفض من قبل المتخصصين والخبراء في العلاقات المدنية العسكرية، والسياسات المقارنة، والعلوم الاستراتيجية والدفاعية. فهو بالطبع نموذج تجريبي، كما ذكرت، يخضع لكل ما يخضع له كل النماذج التجريبية، وذلك إلى حين بناء نموذج نهائي لمستقبل العلاقات المدنية العسكرية في مصر.
وفي النهاية ستُطور وستُقدم مصر نموذجًا في العلاقات المدنية العسكرية وفقًا لتاريخها وبنائها السياسي الاجتماعي.
الهوامش
1- Tófalvi, Fruzsina, Military Disloyalty and Regime Change: a Comparative Examination of Loyalty Shifts in the Armed Forces, Submitted to Central European University Department of Political Science, In partial fulfillment of the requirements for the degree of Master of Arts in Political Science, Supervisor: Carsten Q. Schneider, Budapest, Hungary, (2012), PP. 2-3.
2- Springborg, Robert and Bruneau, Thomas, Latin America's lessons for the SCAF, Egypt Independent, January 12, 2012.
3- UNDP, The Political Economy of Transition: Comparative experiences, Op cit., PP. 29-35.
4- Springborg, Robert and Bruneau, Thomas, Latin America's lessons for the SCAF, Op cit.
5- [1] UNDP, The Political Economy of Transition: Comparative experiences, Op cit., PP. 29-35.
6- Ibid, PP. 29-35.
7- Bruneau, Thomas C., Civil-Military Relations in Latin America, Op cit., PP. 125-126.
8- UNDP, The Political Economy of Transition: Comparative experiences, Op cit., PP. 29-35.
9- Bruneau, Thomas C., Civil-Military Relations in Latin America, Op cit., PP. 125-130.
10- UNDP, The Political Economy of Transition: Comparative experiences, Op cit., PP. 29-35.
11- Ibid.
12- Ibid.
13- Ibid.
14- Diamint, Rut and Mikail, Barah, Militaries, Civilians and Democracy in the Arab World, Op cit., PP. 4-5.
15- Smallman, Shawn, Egypt’s military and the Latin American experience, International and Global Studies, November 18, 2011, Available at:http://introtoglobalstudies.com/2011/11/egypts-military-and-the-latin-american-experience/
16- Ibid.
17- Diamint, Rut and Mikail, Barah, Militaries, Civilians and Democracy in the Arab World, Op cit.,P. 5.
18- UNDP, The Political Economy of Transition: Comparative experiences, Op cit.,PP. 29-35.
19- Voogd-el Mhamdi, Lebna, Serving in uniform during the Spring, Op cit.,PP. 34-36.
20- Ibid.
21- Mahmoud, Faiqa, Evolving Civil-Military Relations, Op cit.,PP. 17-20.
22- Ibid.
23- Brumberg, Daniel, and Sallam, Hesham, The Politics of Security Sector Reform in Egypt, United States Institute of Peace, Special Report 318 October 2012, PP.11-12.
24- Voogd-el Mhamdi, Lebna, Serving in uniform during the Spring, Op cit.,PP. 34-36.
25- Brumberg, Daniel, and Sallam, Hesham, The Politics of Security Sector Reform, Op cit.,PP.11-12.
26- Lutterbeck, Derek, Arab Uprisings and Armed Forces:Between Openness and Resistance, SSR PAPER 2, The Geneva Centre for the Democratic Control of Armed Forces (DCAF)2011, PP. 8-11.
27- Tuininga, Alexander, The