المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
السيد يسين
السيد يسين

رحيــــل مفـكر مســـتقبلى مبـــــدع

الخميس 10/ديسمبر/2015 - 12:19 م

رحل عن عالمنا فجأة الدكتور «محمد منصور» أستاذ العلوم السياسية بجامعة أسيوط والمدير السابق لمركز الدراسات المستقبلية التابع لمركز دعم القرار بمجلس الوزراء.

والدكتور «منصور» رحمه الله من رواد البحوث المستقبلية فى مصر، وعلاقتى به قديمة بحكم اهتماماتنا العلمية التى تدور حول أبحاث علم المستقبل Futurology..

وقد زارنى الدكتور «منصور» فى مكتبى بالمركز العربى للبحوث منذ أسابيع قليلة، وزف لى نبأ أنه انتهى من تأليف كتاب عنوانه «الدراسات المستقبلية: ثورة معرفية لقرن جديد».

وقد تفضل -بحكم تواضعه العلمى- وطلب منى أن أكتب تقديما للكتاب. ولا أجد ما أحيى ذكرى الصديق العزيز الراحل خيرا من نشر التقديم الذى أعددته لكتابه البالغ الأهمية والذى جمع فيه حصيلة قراءاته النظرية فى علم المستقبل بالإضافة إلى عرض الملامح الأساسية للرؤية الاستراتيجية الفريدة لمصر، والتى أشرف على إنجازها وشارك فى صياغتها عشرات الأساتذة الأكاديميين والمفكرين والتى نشرت نشراً محدوداً فى تقرير «مصر 20-30».

وأعرض فيما يلى نص التقديم الذى أعددته لكتاب الدكتور «منصور» والذى أتمنى على أسرته الكريمة فى الوقت المناسب أن تدفع به للمطبعة إحياء لذكراه.

والكتاب الذى بين أيدينا ينقسم إلى فصول نظرية وإلى قسم تطبيقى مهم يتضمن قراءة لمشروع مصر 2020 ورؤية مصر 2030 والسيناريوهات البديلة لمستقبل مصر بعد ثورة 25 يناير، وقراءة تحليلية فى أجندة أفريقيا 2063 بالإضافة إلى موضوعات تطبيقية أخرى.

وتبدو أهمية كتاب الدكتور «منصور» فى أنه يتعرض لموضوعات نظرية ومنهجية وتطبيقية بالغة الصعوبة، ومع ذلك استطاع بأسلوب سلس وواضح أن يقدم للقارئ وجبة معرفية متكاملة.

ومن واقع خبرتى وتتبعى لمشكلة الدراسات المستقبلية فى عصر العولمة أستطيع القول إن هذه الدراسات تمر الآن بأزمة حقيقية. وذلك لأن العالم انتقل من وضع الثبات النسبى إلى السيولة والتى تضع على عاتق الباحث المستقبلى أعباء جسيمة نظرا للتسارع فى الأحداث acceleration من ناحية والتدفق الغزير للمعلومات Flow من ناحية أخرى مما يجعل مسألة الاستشراف بالغة الصعوبة فى عالم يتسم- بحسب عبارة كلاسيكية فى العلاقات الدولية- «نحن نعيش فى عالم يفتقر إلى اليقين ويصعب التنبؤ بمستقبله».

وإذا أردنا تفصيلا لهذا الحكم يمكننى الاعتماد على ما كتبته من قبل عن توصيفى لمشكلة الدراسات المستقبلية فى عصر العولمة.

الدراسات المستقبلية فى العالم تمر بأزمة حقيقية. وترد هذه الأزمة إلى سببين رئيسيين: الأول هو التغيرات الجسيمة فى الوضع العالمى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وكتلة الدول الاشتراكية عام 1989 ونهاية عصر الحرب الباردة، وزوال نظام الثنائية القطبية الذى هيمن على مجمل القرن العشرين من ناحية، والثانى هو اللحظة التاريخية التى تمر بها العلوم الاجتماعية الغربية والتى تتسم بسقوط النظريات القديمة والصراع حول تأسيس نظريات جديدة، من ناحية ثانية.

ولعل السؤال الذى يفرض نفسه: ما العلاقة بين انهيار النظام العالمى القديم وأزمة الدراسات المستقبلية؟

الواقع أن هناك علاقة وثيقة. وبيان ذلك أن النظام العالمى القديم الذى سيطر على مناخه السياسى والفكرى الصراع الحاد والعنيف بين الرأسمالية والماركسية، كان يتسم بالثبات النسبى. ذلك أنه بالإضافة إلى العالم الأول ممثلا فى الولايات المتحدة الأمريكية وباقى الدول الغربية الرأسمالية المتقدمة، كان هناك العالم الثانى متمثلا فى الاتحاد السوفيتى وغيره من البلاد الاشتراكية. غير أنه بالإضافة إلى ذلك كان هناك العالم الثالث، ونعنى عالم الأطراف الذى يزخر ببلاد تنتمى إلى ثقافات متباينة، وتطبق فيها نظم سياسية متعددة، وإن كان يجمعها سمة واحدة، هى تدنى المستوى الاقتصادى، وقصور البنية التكنولوجية، وضعف الإنتاج وانخفاض مستواه، بالإضافة إلى زيادة السكان بالمقارنة مع الموارد، وكل الصفات التى تكون نموذج «التخلف» إذا ما قورن بنموذج «التقدم» الذى تمثله الدول الرأسمالية المتقدمة.

فى ظل هذه الخريطة العالمية بثوابتها وسماتها الراسخة، كانت تدور الدراسات المستقبلية فى الغرب والشرق، فى ظل مناخ يتسم فى الواقع بالثبات النسبى، وهذا الثبات النسبى كان يتبلور حول الصراع بكل تجلياته العسكرية والسياسية والاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة ما أطلق عليه «العالم الحر»، والاتحاد السوفيتى زعيم البلاد الاشتراكية وبلاد العالم الثالث التى تدور فى فلكه.

فى هذه الحقبة الحاسمة من تاريخ الإنسانية، سمح الثبات النسبى للوضع العالمى أن تنمو الدراسات المستقبلية نظريا فى رحابه، وأن يتبلور عديد من مناهجها وأدوات بحثها.

غير أن معركة علمية دارت بين المدرسة المستقبلية الغربية والمدرسة المستقبلية الماركسية.

وهكذا انتقل الوضع العالمى من الثبات النسبى الذى ميز التفاعلات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عام 1989، إلى حقبة تاريخية مختلفة تماما، تتسم بالسيولة التى لا تحكمها ضوابط معينة، وكأنها انتقال من «النظام» إلى الفوضى!

والواقع أن الفراغ الأيديولوجى كان أبرز سمات مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، بل إن أحوال الأمم ذاتها- فى مختلف القارات- شابتها ظواهر جديدة غير مسبوقة. لقد شاهدنا ثورة عديد من الجماعات اللغوية والاثنية والدينية على الدولة القومية، وبرزت مطالبها السياسية التى تتمثل فى حق تقرير المصير، والانفصال عن الدولة الأم، وتأسيس دول جديدة بغض النظر عن امتلاكها لمقومات العيش والبقاء، وكذلك ظهرت المطالب الثقافية لعديد من الجماعات. غير أن أزمة الدولة القومية والتى تتمثل فى خروج عديد من الجماعات عليها، ومطالبتها سواء بالانفصال التام عنها وتأسيس دول جديدة، بالقوة أو بالتراضى السياسى، ليست سوى صورة جديدة واحدة من صور الأزمة، ذلك أن هناك صورة أخرى تتعلق بأزمة الدولة القومية فى البلاد الرأسمالية المتقدمة مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وتتعلق هذه الأزمة بنهاية عصر ما أطلق عليه من قبل «دولة الرفاهية»

ونستطيع أن نضيف أسبابا أخرى لأزمة الدولة القومية، بعضها يتعلق باتساع نطاق العولمة وخصوصا العولمة الاقتصادية.

وإذا أضفنا إلى كل ذلك بروز التكتلات الاقتصادية كضرورة اقتصادية تكفل دوام تطور الاقتصاديات القطرية، كما هو الحال فى الاتحاد الأوروبى وغيره من التكتلات، لأدركنا أن صانع القرار الاقتصادى القطرى لابد له أن يتكيف مع الإرادة الجماعية للتكتل الاقتصادى الذى ينتمى إليه.

هذا الوضع العالمى الجديد الذى يتسم بالسيولة الشديدة، وهذا المناخ الفكرى الذى يميزه عدم اليقين، هو العقبة الحقيقية فى الوقت الراهن أمام الدراسات المستقبلية!

مما سبق يتبين للقارئ أن الدكتور «محمد منصور» نجح بكتابه العميق فى أن يعيدنى مرة أخرى لميدان الدراسات المستقبلية. ولا أشك فى أن الكتاب حين يصدر سيلقى ترحيبا فى كل الدوائر الأكاديمية لأنه يعد فى الواقع إضافة معرفية مهمة للمكتبة العربية.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟