أصوات حائرة: إتجاهات تصويت المصريين
إن أية عملية انتخابية تعتبر بمثابة إحدى أدوات قياس قوة المجتمع ليس فقط لأن الانتخابات تقيس الأوزان النسبية للأحزاب السياسية أو مؤسسات المجتمع المدنى أو الإدارة التى تنظم العملية الإجرائية للانتخابات، أو حتى شعبية المرشحين، ولكنها تقيس أيضًا مدى إقبال الناخبين على العملية السياسية والاهتمام بمساراتها المختلفة، خاصة فى ظل عملية الانتقال الديمقراطي.
إن البلدان راسخة الديمقراطية تعتبر الانتخابات بمثابة دليل اختبار وإحدى أدوات القياس على قدرة الدولة والمجتمع على الممارسة الديمقراطية، فضلاً عن كيفية تلافى الأخطاء إن اُرتكًبت، والعمل على تلافيها فى المستقبل لكى تكون مؤهلة تمامًا على القيام بمهامها وواجباتها الدستورية والقانونية.
ويعد الطرف الأهم فى العملية الانتخابية، وفقا لرؤية كاتب هذه السطور، الناخب المصري، سيد العملية الانتخابية، فهو قد يشارك لاعتبارات حاكمة، أو يقاطع لظروف ضاغطة، ولمن سوف يدلى بصوته (المستقلين، الأحزاب المدنية، القوى الإسلامية، رموز الحزب الوطني) بصوته فيها، وكيف يمكن تحفيزه على بلوغ معدلات مرتفعة للمشاركة.
أولاً- مستوى الإقبال المنتظر
جرت بعد ثورة 25 يناير سبع استحقاقات انتخابية، ما بين استفتاءات على الدستور وانتخابات رئاسية وتشريعية، لم تتجاوز فيها نسبة المشاركة 50%، وهى نسبة ضعيفة للغاية لعدة أسباب إذا ما قورنت ببعض البلدان العربية مثل تونس والمغرب. أول هذه الأسباب حالة الوهج الثورى التى مرت بها مصر خلال هذه الاستحقاقات كانت كفيلة بزيادة نسبة المشاركة إذ ما ترجمت الحالة الثورة إلى مشاركة من قبل المواطنين. ثانيها، استخدام كل أنواع الدعاية المشروعة وغير المشروعة لحشد المواطنين حيث تم استخدام الدين و«الجنة» و«النار» والمال فى بعض الأحيان، ومع ذلك جاءت نسبة المشاركة ضعيفة للغاية. ثالثها، عدد التيارات السياسية والأحزاب والمرشحين الذين خاضوا هذا الانتخابات لم ينعكس بالإيجاب على عملية التصويت، والتى كانت تقتضى ألا تقل بأى حال عن 70% على الأرجح. رابعها، لا يجوز مقارنة نسبة المشاركة بعد الثورة فيما كانت عليه من ذى قبل، لأن ذلك بمعيار الديمقراطية الإجرائية معناه أن الثورة لم تنجح فى تغيير سلوك ونمط تصويت المواطنين، وسياسيًا بأن البلد لم تشهد حالة حراك سياسى ينعكس على صناديق الاقتراع، وأيضًا فى ظل ارتفاع تنقية وتنقيح الجداول الانتخابية.
وعلى الرغم من أنه لا يجوز علميًا مقارنة نسبة التصويت فى الانتخابات المقبلة بانتخابات 2011 / 2012، لاعتبارات كثيرة، والتى يأتى على رأسها السياق العام الذى جرت فيه، إلا أنه من المتوقع بألا تقل نسبة المشاركة عن 40% وهى نسبة مقبولة فى ظل عملية تنافسية شديدة الوطأة خاصة على المقاعد الفردية.
ثانياً- التصويت للمستقلين أم للأحزاب؟
يوجد حوالى 105 أحزاب سياسية فى مصر، منها حوالى 85 حزبًا مشاركًا فى العملية الانتخابية بالرغم من أن الحزب الوحيد الذى أعلن عن مقاطعته للانتخابات هو حزب مصر القوية المرتبط عضويًا ونفسيًا بجماعة الإخوان المسلمين، وبالتالى فإن عدد الأحزاب المشاركة فى العملية الانتخابية هذه المرة أكبر بكثير عن الانتخابات الماضية. والسؤال الذى يطرح نفسه هنا: هل تستطيع هذه الأحزاب أن تعمل على استمالة الناخبين للمشاركة بالتصويت لصالحها أو لغيرها؟ ولماذا لا يصوت الناخب إلى أحزاب ويفضل التصويت لمرشح مستقل، حتى ولو خاض العملية الانتخابية على قوائم أو باسم حزب؟
وفى معرض الإجابة على هذه التساؤلات لابد من التأكيد على عدة أمور: أولها، أن الناخب المصرى لم يصل إلى درجة المعرفة والوعى بأهمية الأحزاب أو التصويت لصالح برامج انتخابية. ثانيها، أن الناخب المصري، نتيجة الثقافة التقليدية والممارسات الخاطئة من الأحزاب الحاكمة، يسعى لتحقيق مصلحة أو منفعة مباشرة من العملية الانتخابية. بمعنى، أن الناخب دائمًا ما يسعى إلى تلقى خدمة أو مكسب مادى من المرشحين بصرف النظر عن انتماء المرشح. ثالثها، ساهم ضعف الأحزاب وكثرة الانشقاقات الداخلية فى تكريس انطباع عام لدى المصريين بأن الأحزاب تعنى الصراع والتشرذم إلى الدرجة التى وصلت فيها أن مفهوم الحزبية أصبحت «مفهوما سيئة السمعة» لدى أغلب الشعب. رابعها، لم يمتلك أى نظام سياسى فى مصر منذ ثورة 23 يوليو 1952 حتى الآن أية رؤية أو تصور للدور الذى يمكن أن تلعبه الأحزاب فى المجتمع، وكيف يمكن تقويتها أو تشجيعها على العمل المؤسسى حتى الآن، وهو ما ساهم فى تكريس السلطوية والانفراد بالحكم، فضلاً عن انصراف المواطنين عن الانتماء لها.
خامسها، أن الأحزاب لم تسعى إلى خوض الانتخابات فى أى وقت ببرنامج حقيقى قابل للتنفيذ، أو على الأقل أجندة تشريعية واضحة المعالم تسعى إلى تطبيقها فى حال حصولها على عدد معين من المقاعد. والأدهى من ذلك، أن بعض الأحزاب وضعت برنامج عام لكل المرشحين الذى يخضون الانتخابات على قوائمها وفى ذات الوقت تركت الحرية للمرشحين فى بعض الدوائر أن يقوموا بوضع برامج أخرى إلى الحد الذى وصل فى بعض الأحيان إلى التناقض والتضارب بين البرنامجين، وهو ما أدى إلى فقد ثقة الناخب فى هذا المرشح، وأدى إلى فقدان المصداقية الانتخابية فى الحزب.
ثالثاً- التصويت الضيق
تشهد مصر، منفردة عن باقى دول العالم، أنماط تصويت عدة، وهو ما يجعل هنا صعوبة فى التعرف على اتجاهات التصويت، وأشهرها على الإطلاق نمط التصويت على أسس الانتماءات الضيقة ونمط التصويت الصراعي، وهو الأقرب فى الانتخابات الحالية، والذى يقصد به انقسام هيئة الناخبين حسب الهوية أو الأيديولوجية الحاكمة لها، أو التصويت فى ضوء المصالح والاعتبارات المنفعية الخاصة، والتى فى ضوئها ينقسم المجتمع إلى قوى تقليدية وقوى حديثة. ويعرف أيضًا بالتصويت الإيديولوجى أو المرجعى المحدد لشخص أو لحزب ينتمى لتيار دينى أو سياسى معين، خاصة إذا قررت قيادات هذا التنظيم أو الحزب أن تدعم شخصًا بعينه.
ومن الأهمية الإشارة إلى تصور سائد مفاده أن سكان المدن والمناطق التى تقل فيها التوترات الطائفية وسكان الريف الغنى، وأبناء الطبقة الوسطى، والأكثر تعليميًا يميلون للتصويت لصالح التيارات المدنية على حساب التيار الإسلامى. فيما يتزايد نفوذ التيار الإسلامى فى الريف الفقير وبين أبناء الطبقة الأكثر فقرًا، والشرائح الأقل تعليمًا، وسكان المناطق التى تتزايد فيها حدة التوترات الطائفية. مع الأخذ فى الاعتبار أن البيئة السياسية، وخطاب النخب، والقضايا الرئيسية للناخب فى لحظة الانتخابات تؤثر هى الأخرى على السلوك التصويتي.
وبناء عليه، وبحسب المشهد البيئة السياسية والمجتمعية فيما بعد 30 يونيو، فيمكن القول ان تيار الإسلام السياسى – بشقيه الإخوانى والسلفى- لديه جمهور تصويتى محتمل بنحو 15 إلى 20% من الناخبين وهم إجمالى سكان الريف الفقير والمحافظات الحدودية ومناطق التوتر الطائفى فى الصعيد، مقابل قوة تصويتية تصل إلى 20 أو 25% للتيار المدنى تتمثل فى سكان الحضر والريف الغنى وأبناء الطبقة الوسطى بين المعاملات السابقة، مثل سكان المناطق الفقيرة التى تتمتع بنسب تعليم مرتفعة وتوترات طائفية متقطعة. ويتضح مما سبق أن هناك تداخلا واضحا بين هذه المعاملات، فسكان المحافظات الغنية هم فى الأغلب من سكان الحضر وينتمون للطبقة الوسطى والأقل تعرضًا للتوترات الطائفية.
وفى مقابل الكتلة التصويتية للمرشح ذو المرجعية الدينية والتيار المدنى، توجد «الكتلة الحاسمة»، والتى تتراوح ما بين 30 إلى 50%، والتى سوف تصوت لمرشح ذو خلفية عسكرية، بغض النظر عن أسم المرشح. وتضم هذه الكتلة أيضًا أبناء الريف وسكان الحضر وأبناء الطبقة الوسطى، بالإضافة إلى ما يعرف إعلاميًا باسم «حزب الكنبة»، والذى تحرك بقوة فى 30 يونيو.
فى مجتمع تقليدي، مثل المجتمع المصري، والذى لا ينتمى فيه أغلبية المواطنين أو المرشحين لأحزاب أو تكتلات سياسية، فإنه لا يتم اختيار المرشح على أساس الانتماء السياسى أو البرنامج الانتخابي، ولكن هناك معايير أخرى أغلبها معايير تقليدية مثل: الانطباعات الشخصية أو السماعية، والارتباط العائلى والقبلي، والدينى فى بعض الأحيان، والرشاوى الانتخابية..الخ. وهو ما يتطلب جهدًا كبيرًا لاستمالة «حزب الكنبة» للمشاركة فى العملية الانتخابية.
رابعاً- كيف ندفع هيئة الناخبين للمشاركة؟
لكى ندفع هيئة الناخبين إلى المشاركة والوصول إلى النسبة المرجوة هناك جملة من الأمور يجب القيام بها من قبل أطراف العملية الانتخابية، نذكر منها: أولاً، قيام الرئيس عبد الفتاح السيسي، نظرًا لما يتمتع به من استقلالية وشعبية كبيرة، بمناشدة المواطنين إلى النزول إلى مراكز الاقتراع لاختيار من يرونه مناسبًا ويصلح فى المرحلة القادمة. ثانيًا، قيام اللجنة العليا للانتخابات بتكثيف حملاتها للتوعية بأهمية المشاركة فى الانتخابات، وهنا يمكن اللجوء إلى إعلانات تسجل بواسطة رموز الفن والرياضة والسياسة المستقلين، والذين يتمتعون بحب المواطنين. ثالثًا، يجب على مؤسسات المجتمع المدنى أن تقوم بدورها الفعلى بتوعية المصريين بأهمية المشاركة، كما يتم فى كل دول العالم، وليس فقط التركيز على مراقبة العملية الانتخابية. وأن يسمح لها فى فترة الصمت الانتخابى بأن تقوم بمناشدة المواطنين للمشاركة والتدفق إلى مراكز الاقتراع، وأن تقوم أيضًا إذا لزم الأمر بنقل الناخبين إلى مراكز الاقتراع، كما يحدث فى إندونيسيا على سبيل المثال.
وأخيرًا، على المرشحين والأحزاب والتيارات السياسية القيام بأهمية الالتزام بالإجراءات وقوانين العملية الانتخابية وحث الرأى العام على أهمية المشاركة وليس فقط التصويت لصالح المرشح أو الحزب. ومن هنا، تستطيع أطراف العملية الانتخابية أن تنجح فى الاختبار وتجتاز مصر الخطوة الثالثة من خارطة المستقبل التى تم الإعلان عنها فى 3 يوليو 2013، والتى يترقبها العالم أجمع وليس المصريين فقط.