معالم التحولات: مصر وإيران والنظام الإقليمى
تكشف الأحداث والتطورات المتلاحقة التى صاحبت التوقيع على الاتفاقية النووية مع إيران معلمين أساسيين يجب أن تأخذهما مصر فى اعتبارها وهى تفكر فى تخطيط وصياغة مواقفها من هذه التطورات على وجه العموم ومن إيران على وجه الخصوص.
أولاً- التحول من دولة منبوذة إلى حليف تحت الاختبار
إن الولايات المتحدة الأمريكية قد اختارت أن تعدل من سياستها نحو إيران من التعامل معها كـ «دولة منبوذة» أو «دولة مارقة» تفرض التعامل معها بأدوات الصراع إلى «حليف محتمل» أو على الأقل كـ «حليف تحت الاختبار»، بكل ما يعنيه ذلك من صدام مع «الحلفاء القدامى» أو «الحلفاء التاريخيين فى الشرق الأوسط» إسرائيل والدول العربية الخليجية وتركيا، وبكل ما يفرضه هذا التحول فى الموقف الأمريكى نحو إيران من مساع أمريكية لطمأنة كل هؤلاء الحلفاء من أن هذا التحول الإيجابى نحو إيران لا يعنى ولا يفرض تحولا سلبيا فى علاقة الولايات المتحدة مع هؤلاء الحلفاء، وبذل جهود أمريكية لإقناع هؤلاء الحلفاء التاريخيين بتعديل سياساتهم العدائية نحو إيران إلى نمط آخر تعاونى أو على الأقل «نمط وفاقى» أو ما يسمى فى العلاقات الدولية بـ «وفاق القوى».
من بين ما فعلته الولايات المتحدة لتحقيق هذا التحول فى مواقف حلفائها التاريخيين من إيران، محاولاتها لاسترضاء الحكومة الإسرائيلية الرافضة للاتفاق النووى مع إيران، والتأكيد على أن هذا الاتفاق أكبر ضمان وأفضل حل لإرجاء امتلاك إيران للقنبلة النووية لأكثر من 15 سنة، ولإطالة أمد إيران الذى تحتاجه لإنتاج القنبلة، إن هى عزمت على ذلك وأنهت علاقتها بالاتفاق النووي، من ثلاثة أشهر إلى سنة كاملة سوف تكون كافية لاتخاذ السياسات البديلة لإحباط هذا المسعى الإيراني، إضافة إلى وعود الرئيس أوباما لرئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو بإمداد إسرائيل بكل ما تحتاجه من دعم وقدرات عسكرية واقتصادية لردع أى طموح عدواني، ووعد بالتعاون المشترك ضد حزب الله ومنعه من تهديد إسرائيل.
وما فعله أوباما مع «إسرائيل» فعله مع دول مجلس التعاون فى لقائه مع قادة المجلس بكامب ديفيد فى مايو 2015، عندما أكد أن إيران لها دور مهم فى الحرب ضد «داعش» فى العراق، وهو هنا يكشف عن تعاون أمريكي- إيرانى ممتد فى العراق، وبإعلانه الصريح لقادة الخليج أن إيران ليست مصدراً لتهديد بلادهم، وأن مصادر تهديدهم داخلية بسبب فشل النظم الحاكمة فى تحقيق الإشباع السياسى عند ملايين الشباب وفشل سياسات العدل الاجتماعى وشيوع الأيديولوجيات الجامدة (يقصد الفكر السلفى ومؤسساته داخل السعودية على وجه الخصوص). وكانت نصيحته لهم بوضوح شديد هي: التعاون مع إيران وليس الصراع معها، والانخراط فى السياسات الكفيلة بإنهاء ما بات يُعرف فى الأدبيات السياسية الأمريكية بـ «الدولة الفاشلة» العربية. ولم تتأخر واشنطن كثيراً فى استرضاء طموحات الحليف التركى والاستجابة لمطلب إقامة «منطقة آمنة» شمال سوريا تعطى تركيا القدرة على منع تأسيس كيان كردى فى الشمال السوري.
ثانياً- محاولة لفهم أسباب التحول
ربما يثور هنا سؤال مهم هو: لماذا هذا التحول الأمريكى من إيران؟ نحن فى مصر بحاجة إلى أن نفهم خلفيات هذا التحول فى الموقف الأمريكي، وأستطيع أن أقدم هنا تفسيرين فى حاجة إلى مزيد من التدقيق والبحث؛ أولهما أن الولايات المتحدة تسعى إلى «احتواء إيران» على نحو ما سعى الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون لاحتواء الصين. كان هدف نيكسون هو تحويل الصين إلى حليف محتمل للولايات المتحدة بدلاً من أن تكون حليفاً للاتحاد السوفيتى ضمن إطار الصراع الأمريكى السوفيتى فى ذروة الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو لكن يوجد هنا سؤال مهم هو: احتواء إيران ضمن أى سياق، هل للحيلولة دون تحالفها مع العرب مثلاً، أم لتفكيك تحالفها مع روسيا والصين فى إطار تحولات واشنطن للتركيز على مصالحها فى إقليم جنوب شرق آسيا بدلاً من الشرق الأوسط، أم من أجل تأسيس نظام إقليمى يجمع إيران وإسرائيل بعد أن فشلت مساعى أوباما لتأسيس تحالف يضم تركيا والإخوان ودولاً خليجية مع إسرائيل تحت مسمى «الحلف السني» ضد إيران وما يُعرف بـ :الهلال الشيعي»، وهو الحلم الذى أسقطته ثورة الشعب المصرى فى 30 يونيو 2013.
ثانى هذين التفسيرين أن واشنطن ربما تكون ساعية لتأسيس ما بات يُعرف بـ «الدولة الشيعية الكبرى» بقيادة إيران لتضم جنوب العراق، أى الدولة الشيعية المتوقعة فى العراق ضمن مخطط التقسيم الأمريكى للعراق الذى أخذ يتجدد فى الآونة الأخيرة، والكويت والبحرين والساحل الشرقى للمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، بحيث تمتد هذه «الدولة الشيعية الكبرى» على الساحل الشرقى للخليج (إيران) وعلى ساحله الغربى «دول الخليج وشرق السعودية»، وهدف هذه الدولة الشيعية الكبرى خلق «توازن قوى» بين المسلمين الشيعة (الأقل عدداً) والمسلمين السنة (الأكبر عدداً)، وإحداث قطيعة بين الشيعة العرب وجسدهم العربى الكبير وجعل الانتماء الطائفى عندهم يتجاوز انتماءهم الوطنى القومى العربي، والهدف الأساسى هو جعل الصراع الشيعي- السنى هو الصراع المسيطر على الشرق الأوسط، وحماية وجود إسرائيل، وتبديد حلم تجديد الحضارة العربية الإسلامية وتفكيك الوحدة الإسلامية فى ظل قناعة الأمريكيين بأن الصراع فى العالم لم يعد صراع أيديولوجيات بل أضحى «صراع حضارات» على نحو ما أكد عالم السياسة الأمريكى صموئيل هنتنجتون وأن الصراع بين الحضارة الغربية والحضارة العربية الإسلامية هو أهم معالم هذا الصراع الكوني.
ثالثاً- ضعف أداء الفاعلين في المنطقة
أمام المعلم الثانى لتفاعلات ما بعد الاتفاق النووى الإيرانى فهو ذلك الاضطراب فى أداء القوى الفاعلة فى إقليم الشرق الأوسط باستثناء إيران التى أخذت تطرح مشروعاً جديداً لقيادة إيرانية للشرق الأوسط تلازم مع اندفاع ملحوظ فى أداء الدبلوماسية الإيرانية مقارنة بالأطراف الأخرى.
ففى الوقت الذى تنشغل فيه حكومة إسرائيل بسعيها لإفشال مسعى الرئيس أوباما للحصول على موافقة الكونجرس على الاتفاق النووى مع إيران، والحرص على التمسك بإستراتيجية الصراع ضد إيران، ودفع الدول العربية السنية للتحالف معها ضمن هذه الإستراتيجية، فى هذا الوقت انشغلت تركيا بصراعاتها الداخلية وبالذات فشل تشكيل حكومة جديدة بناء على نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وتخطيط رئيسها رجب طيب أردوغان لإجراء انتخابات برلمانية جديدة مبكرة، على أمل أن يحصل فى هذه الانتخابات على نتائج تمكن حزبه (العدالة والتنمية) من تشكيل حكومة دون حاجة إلى الائتلاف مع أى من أحزاب المعارضة. كما تنشغل تركيا بحربها فى شمالى سوريا والعراق ضد حزب العمال الكردستانى وضد أكراد سوريا لمنع إقامة دويلة كردية فى شمال سوريا. أما العرب فإن أوضاعهم أكثر سوءاً بانقسامهم فى الخليج على الموقف من إيران، هل هى العدو ومصدر التهديد الأكثر خطورة (السعودية- البحرين- الإمارات) أم هى حليف محتمل (سلطنة عمان- الكويت- قطر)، فى حين أن مصر مستنزفة فى حربها ضد الإرهاب الذى تعتبره مصدر التهديد العاجل الأولى بالمواجهة، فى وقت مازال فيه العرب، وفى الخليج على وجه الخصوص، يرون أن المتاهة التى يعيشون فيها سببها هو الغياب المصري، والفراغ الهائل الذى تركه هذا الغياب والذى لم يستطع أحد أن يملأه.