حرب الصورة: توظيف الصورة الصحفية في الحروب والثورات (1)
شهد تصويرُ الحروب والأزمات خلال القرن الماضى والسنوات الأولى من القرن الحالى تطوراتٍ كثيرة بفضل ما شهدته الصحافة وتقنيات التصوير والتغطية التليفزيونية المصورة من تقدم مذهل، بالإضافة إلى انتشار الإنترنت وازدهار الصحافة الإلكترونية التي أتاحت النشر الفورى، والموسع للصور بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ وسائل الإعلام الحديثة؛ ففى أعقاب التزايد غير المسبوق في إنتاج الصور الذي صاحب الحرب العالمية الثانية ثم انفجار التغطية الصحفية المصورة Photographic news coverage في النصف الثاني من القرن العشرين، تزايد اعتماد الصحافة المطبوعة على كاميرات التصوير لتعزيز التغطية الخبرية باعتبار أن الصورة هي انعكاسٌ صادق ومعبر عن الأحداث التي تقع خارج إطار التجربة الشخصية المباشرة للقارئ. وسُمى عصرُنا عصرَ "الصورة" لاحتلالها موقعًا متميزًا بين وسائل الاتصال، فهى تستمد تأثيرها في الصحافة المقروءة بفضل عناصرها وبوصفها علامةً مباشرة تنقل معلومات وأخبارًا وتوثق أحداثًا ومواقفَ لقطاعات عريضة من القراء.
والواقع أنه قد تزايد الاهتمام بالصورة الصحفية تزايدًا ملحوظًا نتيجة انتشار استخدامها كركنٍ من أركان المادة التحريرية في الجريدة، وتساعد في دعم موقف الصحيفة في المنافسة مع سائر وسائل الإعلام الأخرى التي تتنافس بعضها مع البعض الآخر من أجل الاستحواذ على وقت القارئ.
وكما أشار توم هاردن " T.Hardin " الحائز على جائزة بوليتــزر Pulitzer إلى أن أهمية الصورة لا تُقاس فقط بجذب الانتباه، ولكن بقدر تسجيلها لأشياء في المجتمع، والمحرر يجب أن يضع معيار المجتمع في اعتباره دائمًا عند اختيار كل صورة.
وتُعد الصورة من الوسائل الاتصالية الفاعلة في الصحافة المعاصرة؛ فهى أداةٌ فاعلة في التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية، محققةً بذلك دورًا اتصاليًا واقتصاديًا وحضاريًا وجماليًا بدرجة أصبح الجمهور يعيش تطور الأحداث أولًا بأول، ويرجع ذلك إلى القدرات التكنولوجية الفائقة لوسائل الإعلام التي تضع كل فرد في موقع الحدث في الوقت الفعلي.
وقد أعلت الأزمات الأخيرة في العالم من شأن وأهمية الصورة كمكون رئيس لا غنى عنه في الرسالة الإعلامية الحديثة نظرًا لدورها المهم والفاعل في تسجيل الأحداث، وعلى رأس هذه الأزمات "الثورات في المنطقة العربية"، حيث أصبحت بندًا دائمًا على أجندة وسائل الإعلام العربية والدولية على حدٍ سواء، وبلغ اهتمام الباحثين والسياسيين بالصور حد وصف بعض الحروب بأنها كانت "حروبًا مصورة" أو "حروبًا بالصور".
من هنا يأتي الاهتمام بدراسة وتحليل التغطية الصحفية المصورة للأحداث لكشف وتوصيف وتفسير الأطر والأفكار التي تسعى وسائل الإعلام إلى ترسيخها في أذهان الجماهير بشأن هذه الأحداث، لذا جاءت هذه الدراسة لتبحث موضوعًا مهمًا في الصحافة وهو توظيف التغطية الصحفية المصورة للحروب والثورات، وكيف استخدمت الصحف المصرية الصور الصحفية لتسجيل أحداث الثورة من خلال المعالجات المختلفة.
وتزداد أهمية وسائل الإعلام خاصة أثناء الأزمات بسبب الاهتمام البالغ بها وتتبع سير أحداثها، ولذلك فإن التطور السائد سوف يمس شريحة واسعة من الناس، فمن المعروف أن الأزمات ترفع دائما من درجة اهتمام الشعوب بأخبارها، ومن ثم ترفع من درجة الوعي والحس الإعلامي وإقبال القراء على الصحف بما فيها من مواد تحريرية ومصورة، ومن ثم فإن وسائل الإعلام تقوم بدورٍ مهم أوقات الأزمات لدورها في غرس القيم والمعتقدات وتشكيل السلوك والاتجاهات وخلق نوعٍ من المشاركة من قبل الأفراد تجاه القضايا المختلفة.
ويعيش عالمُ اليوم صراعاتٍ ونزاعاتٍ عنيفة وحروبًا وأزماتٍ عديدة ومختلفة كثورات الربيع العربى، والإرهاب، والأزمة المالية العالمية؛ وهى كلها أزمات تتسم برهانات وانعكاسات وخيمة جدًا تمس الفرد والمجتمع والدولة. فالأزمات طالت كل مجالات الحياة وأدت إلى إعادة تشكيل العلاقات بين الأمم والدول والشعوب وفق عوامل ومعطيات يعجز الأفراد والمؤسسات وحتى الأنظمة عن التحكم فيها، والحروب باعتبارها تدخل ضمن الأزمات تؤثر تداعياتها بشدة وتتصف بالتعقيد والتشابك والتداخل في عناصرها وأسبابها وقوى المصالح المؤيدة والمعارضة، وتتسم بالمفاجأة ونقص المعلومات وعدم دقتها.
فالحربُ دائمًا صانعةُ الأخبار، خاصةً المصيرية منها. وتشمل الأخبار السياسية أنماطًا متعددة للسلوك السياسي الذي يحمل الكثير من الدلالات، كالانتخابات والصراعات السياسية والمطالبة بالحقوق وما إلى ذلك. وتعتبر الصورة الصحفية واحدةً من أهم المؤثرات على واقع المجال الإعلامي بصفة عامة والمجال الصحفي بصفة خاصة حيث تتأثر بها جميع الوسائل الإعلامية بجميع المجالات وخاصة الحروب والثورات.
والمتتبع لتطور الصورة الصحفية يجد أن الاستخدامات الأولى للصورة الفوتوغرافية كانت تفتقر إلى الخبرة، فلقد كانت الاستخدامات تنحصر في نشر صورة شخصية (Portrait) جامدة ورسمية أو ما شابه ذلك. وشهدت السنوات الأولى لاستخدام الصور جهدًا رائعًا من أجل الاستفادة من الوسيلة الجديدة والتي خرجت إلى الوجود بطريقة أسرع نسبيًا وتطور استخدام الصورة حتى وصلنا إلى عصر الصحافة المصورة pictorial journalism وهى نوع من الصحافة يعتمد أول ما يعتمد على الصورة الصحفية، وتعطي أولوية كبيرة للمصورين بها، ويشكل المصورون غالبية محرريها، وهكذا أصبحت عدسة المصور تفوق قلم المحرر في الصحف المصورة.
وقد أكدت الدراساتُ العلمية الدورَ الحيوي الذي قامت به وسائل الإعلام في إدارة الأزمات والصراعات الدولية من خلال تشكيل الجدل حولها، وتقديم تصورات بشأن الأطراف والصراعات الدولية من خلال تشكيل الجدل حولها وتقديم تصورات بشأن الأطراف المشتركة فيها، وإضفاء الشرعية على بعض الأطراف، وفي الوقت ذاته تجريد أطراف أخرى من الشرعية، وإبراز قضايا معينة وتجاهل أخرى.
ومن أبرز الأمثلة على هذه الصراعات حرب فيتنام، والصراع في جزر فوكلاند، وخليج الخنازير في كوبا، وغزو بنما، وأزمة الرهائن الأمريكيين في إيران، والغزو الإسرائيلي للبنان، والحرب العراقية الإيرانية، والصراع العربي الإسرائيلي، وحرب الخليج الثانية، وأحداث الصومال، والبوسنة، وكوسوفو، وانتفاضة الأقصـى، والقضية العراقية خلال التسعينيات من القرن الماضي. وقد تزايد دور الإعلام في إدارة الصراعات والأزمات في العقد الأخير من القرن العشرين بسبب التطور التكنولوجى الكبير في وسائل الاتصال وتبادل المعلومات في عصر العولمة مقارنةً بدور الإعلام في الأزمات التي نشبت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
أما عن استخدام الصور الصحفية في الحروب عبر التاريخ، فإننا نجد عديدًا من الأدوار الأساسية للصور الصحفية في الحروب والصراعات والمعارك العسكرية ومن أهمها أنها أداةٌ مهمة لتوثيق فترات حاسمة في تاريخ المجتمعات، لا لمن يعيشها فقط، بل لأجيالٍ أخرى لم تعش الحدث؛ ففى العصر الفرعونى، عرف الإنسان قيمة الصورة عندما سجل أنباء انتصاراته ومغامراته على جدران الكهوف، كما سجل أعماله الحربية من غزو وتوسع، وحروب خارجية، وصد عدوان خارجى، وإخماد الثورات في المقابر الفرعونية. وكان ذلك بمثابة تاريخ محفوظ ومرسوم تتوارثه الأجيال، أما في بلاد الرافدين فكانت تُحْفَرُ على الألواح الحجرية رسومٌ لغزوات الحكام.
ولا شك أن أهم وسيلة لتحسين شكل الصحف ومحتواها استخدام الصور الفوتوغرافية بفاعلية أكبر، فالصور يمكن أن تجذب القراء إلى الجريدة، وتساعد في دعم موقف الصحيفة في المنافسة مع التليفزيون ووسائل الإعلام الأخرى التي تتنافس من أجل الاستحواذ على وقت القارئ. إن الصور الجيدة يمكن عن طريقها توصيل المعلومات إلى القراء، حيث تجذبهم إلى متون القصص الخبرية التي تحتوي على مزيد من المعلومات. ورغم أن آلة التصوير لا ترينا العالم كما هو، بل ترينا هذا العالم كما كان في جزء من الثانية، فإنها حين تكون بين يَدي مصورٍ صحفي قدير يمكنها في الواقع أن تقدم لنا تقريرًا كاملا لحدثٍ قد وقع.
غير أن الصورة الصحفية الأولى بمعناها الحقيقي جاءت نتيجة الأحداث السياسية. وبدأ ظهورها في السنوات التي سبقت حرب الاستقلال في الولايات المتحدة الأمريكية. أي في بداية النصف الثانى من القرن الثامن عشر. وهذه الصورة عبارة عن كارتون سياسي رسمه الفنان بنجامين فرانكلين (B.Franklin)، ونشر في صحيفة "بنسلفانيا جازيت" الأمريكية في مايو 1754. ويمثل الرسم ثعبانًا مقطعًا إلى ثمانية أجزاء ترمز إلى المستعمرات الأمريكية فى ذلك الوقت، وكُتب تحته " الاتحاد أو الموت "((Join or Die، وكان الغرض منه حث المستعمرات على القيام بعمل مشترك في الحرب التي كانت متوقعة مع الفرنسيين وحلفائهم من الهنود الحمر. وقد لعب هذا الرسم دورًا مهمًا أثناء كفاح المستعمرات الأمريكية للاستقلال عن بريطانيا.
وفي أواسط القرن التاسع عشر، تم استحداث طرق لطبع الصور الفوتوغرافية؛ ففى عام 1851تم اختراع المحلول الكيميائى الذي ساعد في تذويب الصفائح المعدنية، مما ساعد على طبع الصور الفوتوغرافية في الجريدة. فالتصوير الصحفي وسيلة للاتصال منذ أكثر من 150 سنة تقريبًا. وظهر هذا واضحًا خلال حرب القِرَم عندما دخل المصور الصحفي إلى ساحات القتال للمرة الأولى عام 1848، وكانت لجريدة "أخبار لندن المصورة" The Illustrated London News السبق الصحفي، لأنها نشرت صورًا مأخوذة عن صور التقطت على جبهة القتال.
أولاً- توظيف الصورة الصحفية في تغطية الحروب
فى الصفحات التالية سيتم تناول نموذج لاستخدامات الصورة الصحفية في الحروب المختلفة:
1- حرب القرم عام 1855
ظهرت أول التحقيقات الصحفية المصورة أثناء حرب القِرَم عام 1855 The Crimean War. وكان المصور الإنجليزى روجر فنتون Roger Fenton الذي يرى بعضُ الذين تناولوا تاريخ الصحافة أنه هو أول مصور صحفي في العالم، لأنه أول ناشر لريبورتاج مصور بعنوان: "حرب القرم التي جرت في شبه الجزيرة شمالي البحر الأسود بين روسيا من ناحية وتركيا وفرنسا"، وحمل معه إلى ميدان المعركة أجهزته الثقيلة لتحميض الصور بنفسه، بالإضافة إلى أدوات لرسم المعركة، ولم تكن هناك أشرطة للأفلام حيث كان يعد بنفسه الكليشيهات ويستخدم المواد الكيماوية في الحفر. ونشرت هذه الصور في صحيفة أالستريتد لندن نيوز The Illustrated London News ، غير أنه لم ينجح الرسامون الذين قاموا بتغطية تلك الحرب في نقل صور الحرب الأولى بأدوات الرسم. ومنذ ذلك الوقت صارت آلة التصوير جزءًا لا يتجزأ من المعلومات المدعمة بالصور التي تعتبر الدليل الحي الواقعي على أحداث الحرب أينما وقعت.
وللتصوير الحربي أهمية كبيرة كحدث إستراتيجي، وهذا ما أظهره الرواد الأوائل حيث صور الأماكن على الخرائط، حيث تتجمع الجيوش وتُنصب الكمائن وتتقرر المعارك، وقد يخال الخط المصور الذي يلتقط الصور الحربية عندما تكون ساحة القتال مليئة بسحابة من بخار البارود تنقشع تدريجيًا لتلك الصور بعد ذلك على أن الأمر قد حدث بالفعل.
وقد أوضح لنا تاريخ الصحافة أن أول مصور كان يرافق الحملات الحربية هو روجر فنتون، وهو أول مصور في العالم فكانت مهنته الأصلية محام وهو أول سكرتير للجمعية الفوتوغرافية، وقد أبحر هذا المصور إلى شبه جزيرة القِرَم عام 1855، وعاد من هناك عام 1856 ومعه ما يزيد على (300) صورة عن تلك الحرب ، ولسوء الحظ لم تكن صورًا عسكرية، نظرًا لاستحالة اتخاذ وضع الثبات مع الكر والفر خلال مدة الخمس دقائق المطلوبة لالتقاط الصورة، لذلك تركزت الصور على بعض الخدمات الإدارية والقيادية وطرق وأساليب النقل أثناء الحرب. وكانت أغلب الصور التي التقطها بطريقة غير مباشرة، حيث تمثل جماعة من الجنود كانت مناظرهم غير مؤثرة ؛ لأن رؤساءه في الجريدة كانوا لا يريدون تعكير القراء بمشاهد القتال في ساحات المعركة. وبالتالى أثبتت هذه الصور ما للتصوير من قيمة لا تُجَارى في مجال رسم الملامح الحقيقية للأحداث بدرجة لم تكن في مقدور أي فنان أو رسام.
ولا شك أن حربَ القِرَم كانت مجسدة بالكلمة والصورة، وبشكل خاص خلال كتابات أشهر المراسلين الحربيين ويليام راسل William Russel الذي كان يعمل لجريدة التايمز The Times، كما كتب فيليب نايتلي: "إن تغطية مراسل لحرب القرم تعد علامة على بداية بذل الجهود لنقل أنباء إحدى الحروب إلى القراء في الوطن".
2- الحرب الأهلية الأمريكية (1861- 1864):
لقد كانت الحرب الأهلية الأمريكية (1861- 1864) أول حرب ظهر فيها المراسلون الحربيون بالمعنى الصحيح، حيث قاموا بنقل الأخبار العسكرية بالوسيلة المتوافرة آنذاك، وقد جاء في تاريخ وكالة الأسوشيتدبرسAssociated Press الكثير من الموضوعات التي تدور حول نقل الأخبار العسكرية ونشرها، فأثناء الحرب الأهلية الأمريكية انضم أكثر من (500) مراسل حربي إلى الجانب الشمالي في الحرب فوجدوا في التلغراف عونًا عظيمًا لعملهم، ولكن التصوير الضوئي لم يساعدهم لأنه لم تكن هناك أية صحيفة أمريكية تمتلك التكنولوجيا اللازمة لصنع الكتل الرمادية اللازمة لطباعة الصور. فكان لدى المجلتين الأسبوعيتين المصورتين "ألسترتيد ويكلي" Illustrated Weekly و"هاربز" Harpes ثمانون رسامًا في الجبهة أثناء الحرب الأهلية الأمريكية رسموا أكثر من ثلاثة آلاف رسم للمعارك والحضارات والقتال، نُشرت إما على هيئة كليشيهات نحاسية أو إرسالها إلى دار نشر (أنطوان) في مدينة نيويورك التي أغرقت بدورها البلاد بصور الحرب.
إن الصور والرسوم التوضيحية الخاصة بالحرب الأهلية ومنها صور صحيفة "هاربز" كانت تُظهر دائمًا مشاهد المعارك دون ظهور أي أثر للبشر فيها، إنما كانت الصور تركز على المواقع الطبيعية التي تحدث فيها المعارك، فأثناء الحرب الأهلية الأمريكية كانت الصحف اليومية والأسبوعية حديثة العهد بتسجيل وتصوير الأحداث من خلال الاستخدام المنظم للصور الصحفية، كما أن تركيز هذه الصحف على فكرة الخروج من تصوير أرض المعركة بشكل خاص خلال الصور الأولى والرسوم التوضيحية، إلا أن الصور الخاصة بأرض المعركة في صحيفة "هاربز" ومعظم مطبوعات الحرب في صحيفة "ليزلي" كانت تستخدم عديدًا من الأساليب الإقناعية والصور الخاصة برسوم أرض المعركة.
وأُجريت بعد ذلك عديدٌ من الدراسات حول استخدام الصورة الصحفية في تغطية الحرب الأهلية الأمريكية، فأجرى (بارك Park) (1995) دراسة عن الأشكال المصورة والمرئية في أخبار الحرب الأهلية الأمريكية، حيث طبقت الدراسة على جريدة أسبوعية باسم (هاربز)، جريدة يومية باسم (ليزلي) و أكدت نتائجها أن نشر الصور كان يختلف باختلاف الاتجاهات السياسية المؤثرة على الصحف، وأن صحف هذه الفترة مزجت بين الصور الصحفية والرسوم لزيادة فاعلية التفسير في إطار التأثير المرئي.
كما أشارت النتائج إلى أن الصور والرسوم التوضيحية الخاصة بالحرب الأهلية ومنها جريدة (هاربز) تظهر دائما مشاهد للمعارك، كما كانت الصور تركز على الموقع التي تحدث فيه المعارك، ففي أثناء الحرب الأهلية الأمريكية كانت الصحف اليومية والأسبوعية حديثة العهد تهتم بتسجيل وتصوير الأحداث من خلال الاستخدام المنظم للصور الصحفية، وأكدت نتائج هذه الدراسة أن نشر الصور كان يختلف باختلاف الاتجاهات السياسية المؤثرة على الصحف، وأن صحف هذه الفترة مزجت الصور الصحفية والرسوم لزيادة فاعلية التفسير في إطار التأثير المرئى. وقد أجرى Park دراسة حللت الصور الأرشيفية التي قدمتها "خدمة الإذاعة العامة" Public Broadcasting Service عن الحرب الأهلية الأمريكية، وقامت الدراسة بتحليل كيفية تقديم الصور الخاصة بهذه الحرب من زوايا جديدة تزيد الإحساس بالأبعاد الثلاثية للصورة بما يوفر رؤية أفضل وقدرة أكبر على التحليل والتفاعل مع الصورة من جانب الجمهور.
وبعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية أراد الشعب الأمريكي أن ينسى، ومع النسيان أغلق الرأي العام أيضًا الباب على الصور التي تذكره بالحرب، لذا اختفت الصور الحربية كلها من الأسواق، حيث أوضحت عديدٌ من الصور التي التُقطت خلال تلك الحرب صور الدمار وضرب المدن وصور الأنشطة الداعمة للحرب، وعدد قليل من هذه الصور تمكنت من رصد بعض صور المعركة، حيث أظهرت صور لأحد الجنود الأمريكيين الجرحى وقد وضعوه في المستشفى.
وقد أصبح عنصر الصورة أهم عناصر التأثير في الجمهور، بقصد زيادة وعيهم بدلالات الرسالة الإعلامية أو تغيير مواقفهم واتجاهاتهم تجاه القضية التي تتناولها الرسالة الإعلامية، فيمكن للصور أن تعبئ الرأي العام بشكل فعال لتأييد أو لمعارضة الحرب. فهناك عديدٌ من الصور التي أثرت في القراء، "إما مع الحرب أو ضدها، مثل صورة لخمسة جنود من مشاة البحرية الأمريكية التي التقطها المصور إيرنست فريدمان في الحرب الأهلية الأمريكية كانت بمثابة حرب ضد حرب War against War، حيث رسم في الصورة وجوه الجنود المشوهة والبؤس والجوع الذي تعرض له الأطفال.
3- الحرب الأمريكية في كوبا 1898
أثناء الحرب الأمريكية في كوبا 1898 استطاع الرسام هاوارد شاندلر كريستى أن ينقل الحرب برسومه، حيث لم يتمكن أى مصور أن يصورها، آنذاك، فرسم آلاف الرجال الذين يسحبون القوارب إلى الشاطئ، كما نجد الحرب الروسية الصربية لم تنقل بالصور الظلية ولكن بالرسوم. فاستطاع المصور فريديريك فيليه أن يرسم صورة لثلاثة من الصرب مصلوبين على شجرة وهم يحترقون أحياء. وقد واكب هذه الحروب تقدم كبير في أساليب التقاط الصور وتحميضها، كما أدخلت مطابع الألوان في عام؛ فظهرت الملاحق بالرسوم والصور. وبهذا تكون الصورة قد عادت إلى رحمها الأول الذي منه انبثقت الحضارات الكتابية، وأصبحنا نعيش عصرًا يسمى بعصر الصورة "Image "، وهذا مصطلح يلح على الحضور البشري المعاصر نستلهمه من مفهوم الزمن Chronos الذي بدا شديد الإلحاح في فكر الإنسان وحضوره البشري متوسطًا مبدأىْ اللذة Heros والألم Tanathos.
4- الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)
عندما نشبت الحرب الحرب العالمية الأولي عام 1914 أدت أحداثها إلى أن أصبحت الصورة بأنواعها من المعالم الإخراجية المهمة في الصحف المصرية، وأدى ذلك إلى تكرار نشر صور رؤساء الدول المتحاربة، وصور أخرى لبعض المناظر المتعلقة بعمليات القتال.
وقد نشبت الحرب نتيجة للتنافس الدولي السياسي والاقتصادي، وعلى إثر اغتيال ولي عهد النمسا يوم 28 يونيه بيد أحد الصربيين في عاصمتهم. فأعلنت النمسا الحرب على الصرب يوم 28 يوليو. وهبت روسيا لنجدة الصرب، وأعلنت الحرب على النمسا، فانضمت ألمانيا لحليفتها النمسا، ثم وقفت فرنسا إلى جانب حليفتها روسيا، ودخلت بريطانيا يوم 4 أغسطس 1914 الحرب إلى جانب فرنسا وروسيا.
وفي بداية الحرب لزمت مصر الحياد لتضمن حياد قناة السويس، ولكن مصالح بريطانيا قضت بأن تحكم سيطرتها على مصر رسميًا وشعبيًا، وأن تفيد من إمكاناتها في الحرب، وأن تفصم علاقتها مع تركيا. فمارست بريطانيا ضغوطها الرسمية على مصر، وجندت بعض الصحف وفي مقدمتها "المقطم" لتعارض حيادها، وتبرر دخولها الحرب إلى جانب الحلفاء، فأصدر مجلس النظار برئاسة حسين رشدي القائم مقام الخديو، قراريْه يومى 5 و13 أغسطس 1914، اللذيْن منعا كل أشكال التعامل بين مصر ودول ألمانيا والنمسا والمجر، وبدخول مصر الحرب، بدأت مرحلة صعبة في تاريخها السياسي والاجتماعي والصحفي، افتقدت فيها كل مظاهر الاستقلال والحريات العامة والشخصية، ولكنها لم تفتقد أبدًا الرغبة فيها والمطالبة باستعادتها.
وفي يوم 5 نوفمبر 1914، دخلت تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا، ضد بريطانيا وحلفائها، وأعلن قائد القوات البريطانية بمصر ذلك، يوم 7 نوفمبر 1914، وبيّن أن بريطانيا تحارب لغرضين: أولهما، الدفاع عن حقوق مصر وحريتها التي كسبها محمد على في الأصل بالقتال. وثانيهما: استمرار تمتع مصر بالسلم والرخاء اللذيْن تحققا بها تحت الاحتلال. وقال إنه نظرًا لما للسلطان بصفته الدينية من الاحترام عند مسلمي مصر، فإن بريطانيا تتحمل جميع أعباء الحرب، ومقابل هذا تطلب من المصريين الامتناع عن عرقلة تحركات الجيوش البريطانية، أو مساعدة أعداء بريطانيا. وعلى الفور صدر قرار مجلس النظار في 5 أغسطس 1914، باعتبار مصر في حالة حرب الدولة العثمانية.
وفي 18 ديسمبر 1914، أعلنت بريطانيا فرض حمايتها على مصر، وزوال السيادة التركية عنها، وقد رحبت الصحف المصرية المؤيدة لبريطانيا بإعلان الحماية ترحيبًا شديدًا، وتزعمتها "المقطم" التي أبرزت النبأ بعنوان كبير على صفحتيْها الأولى والخامسة، وابتهجت بحلول بريطانيا العظمى مكان تركيا في السيادة على مصر، قائلة إن الحماية نعمة للمصريين وعبرة للعثمانيين، وبشرت المصريين بفوائد هذه الحماية، وأبدت سرورها البالغ بسقوط الخديو عباس الثاني، عدوها اللدود، أما " الوطن " فزعمت أن مصر تخلصت من السيادة التركية لتتمتع بالحرية والعدالة، في ظل الحكم البريطاني إلى الأبد.
ولما وصل السير هنري مكماهون إلى مصر، يوم 9 يناير 1915، ليتسلم عمله كأول مندوب سامٍ بريطاني في ظل الحماية، استقبلته "المقطم" بحفاوة بالغة، وقالت إن مقابلته أثرت في الجمهور تأثيرًا حسنًا، "حتى قال سعد "باشا" زغلول: على مسمع منا ومن سوانا إن دلائل الخير بادية على وجهه، فأملنا أن اللـه يجزل لمصر الخير على يده. أما "الأهرام" فقد نشرت صورة "لمكماهون" على صدر صفحتها الأولى، وتحتها أبيات من شعر حافظ إبراهيم بعنوان "ماذا نريد"، وتعليق "للأهرام" توضح فيه أن المصريين يريدون مع انتهاء الحرب نوال استقلالهم التام، جزاء موقفهم وتضحياتهم خلالها.
وبعد انقضاء الحرب، ظهرت الصفحات المصورة في صحف مصرية عديدة كالأهرام و"المفيد" لحسن الشمسي، "الأخبار" لأمين الرافعى، و"السياسة للدكتور محمد حسين هيكل، وغيرها. وهكذا، أصبحت معظم الصحف المصرية في فترة ما بين الحربين العالميتين تحرص على نشر مثل هذه الصفحات حتى إن صحيفة "المصري" حين صدرت عام 1936 خصصت صفحتها الأخيرة للصور حتى تساير الصحف المصرية الأخرى في هذه السبيل وتستطيع أن تنافسها في السوق الصحفية.
وجدير بالذكر أن مرحلة ما بين الحربين قد شهدت محاولة فريدة لإصدار صحيفة يومية تعتمد على الصورة الخبرية والموضوعات القصيرة، ففي يوم 14 من أكتوبر 1931، حيث أصدر اسكندر شاهين مكاريوس صاحب "اللطائف المصورة" صحيفة بهذا الوصف أطلق عليها "السيار" التي لم تعش أكثر من شهر، ويبدو أنها توقفت لاختيارها الحجم النصفي الذي لم يكن شائعا لتصدر فيه، فلم تستطيع منافسة الصحف كاملة الحجم، وعقب ذلك زاد عدد الصور الفوتوغرافية التي تستخدمها الصحف زيادة كبيرة حتى إنها ملأت بها الصفحة الأخيرة، فضلًا عما ينشر على الصفحة الأولى، والصفحات الداخلية.
كما أجرى Dinklage & Ziller دراسة حول مفهومي الحرب والسلام كمفهومين اجتماعيين لدى كل من أطفال ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث طلب من ثمانين طفلًا من الدولتين أن يختار كل منهم صورة فوتوغرافية تعبر عن الحرب وأخرى عن السلام، وأوضحت الدراسة أن أطفال ألمانيا قد وجهوا انتقادات واستجابات سلبية تجاه الحرب أكثر مما قدم أطفال الولايات المتحدة الأمريكية وأن ذلك قد يرجع لما عانوه من تداعيات الحربيْن.
وفي أواخر العام نفسه، حدث تطور آخر في تفكير الشقيقين إميل وشكري زيدان، وذلك عندما أصدرا في 24 أكتوبر 1924 أول مجلة مطبوعة بالروتوغرافور في مصر، وهي مجلة "المصور"، وكانت "المصور" تتميز بجودة طباعتها وأناقة صورها، ووعدت المجلة الوليدة قراءها في افتتاحية عددها الأول بأنها ستحمل إليهم كل أسبوع مجموعة من صور الأشخاص والحوادث والمشاهد، مما يتحدث عنه الناس ويتوقون إلى رؤيته.
وانتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة ألمانيا وحلفائها، وانتصار بريطانيا وحلفائها وعقدت الهدنة بين الفريقين يوم 11 نوفمبر 1918. وقد قدمت الصور عديدًا من الجوانب خلال الحرب العالمية الأولى مثلما هي الحال بالنسبة للتعبئة العسكرية ورحيل الجنود، وكانت هذه الصور قد التُقطت لتدعيم مشاعر الوطنية، ولكن الصور العسكرية أو الحربية التي كانت عليها أن تتعامل مع المعدات الضخمة قد وجدت أن من الصعب أن تسجل بشكل جيد جبهة القتال.
وفي أبريل من عام 1917 دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا وأستراليا وبلغاريا، وقد قامت الحكومة الفيدرالية آنذاك بتجهيز المجتمع الأمريكي وإعداده لمواجهة متطلبات الحرب الشاملة، وقد حركت الوكالات الفيدرالية الرأى العام من خلال استخدام الصور لبيع وترويج الحرب، وقد كانت الصور التي التقطت من قبل المصورين التابعين للحكومة أو تلك التي جمعها لأغراض تجارية، استخدمت لإقناع الشعب الأمريكي بأن الحرب كانت فقط للقضاء على الديكتاتورية، كما استخدمت الحكومة الأمريكية الصور أيضا لتدعيم إحساس المشاركة الشعبية لتشجيع التضحية لإثارة إحساس الحماس حول جهود الحرب.
وفي نهاية ذلك العام نشرت صحيفة "شيكاغو ديلي نيوز" Chicago Daily News كارتونا للفنان لوثر برادليLuther D.bradly معارضا التدخل العسكري الأمريكي في الحرب حيث صور الهجوم الألماني كثعبان يبتلع الكرة الأرضية. ففي ألمانيا كان ينظر إلى الإعلام كسلاحٍ آخرَ في الحرب، وقد أُلحق الصحفيون والفنانون والمذيعون ومصورو الأفلام السينمائية والمصورون بوحدات عسكرية، كانت تعرف باسم فرق الدعاية Propaganda Kampien، وكانت مهمتهم تتلخص في استعمال مهاراتهم كمدنيين لمد العسكريين في الوطن بالمعلومات.
كما استخدم النازيون الجرائد المصورة والأفلام التسجيلية لإشراك الشعب الألماني في المجهود الحربي لإرهاب الخصوم، ويبدو أن هذا قد أثمر النتيجة المطلوبة. ولقد كان لسلاح الدعاية أهمية كبيرة في الحروب فقد أخذت ألمانيا تدرك أهمية هذا السلاح إلى جانب أسلحة الحرب المعروفة.
كما ظهرت صور هتلر وما ألحقه بألمانيا والعالم من آلام ومآس، وصور ستالين. الذي تسلم السلطة بعد موت لينين بإيطاليا في عام 1924، وعمل على تصفية معارضيه في الاتحاد السوفيتى، وزراعة الرعب في الأرض الآسيوية عبر ملايين الأبرياء الذين تم تعذيبهم وقتلهم، وصور موسولينى. بل ظهرت إعلانات عن الحرب مثل ما حدث في بريطانيا عام 1916، عندما فرضت بريطانيا التجنيد الإلزامي فظهر بوستر إعلاني يحث ويشجع البريطانيين على التجنيد، وكان يحمل صورة لجندي وعبارة (Your Country Needs You)، أي "بلادك في حاجة إليك".