المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الإبادة في بورما: حين يتحول المسلمون إلى قرابين للعنصرية

الإثنين 13/يوليو/2015 - 11:05 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. أحمد موسى بدوي
تحت سمع وبصر البلدان الإسلامية والعالم بأسره، وفي ميانمار (بورما سابقا)، التي تقع جنوب شرق آسيا، يتعرض السكان المسلمون في إقليم (أراكان) إلى إبادة جماعية وحشية، تتجاوز قصص وأساطير وتاريخ المذابح التي عرفتها البشرية. يكتفي الجميع، في تواطؤ غريب، بإصدار بيانات تنديد واستنكار خجولة، لا تمنع البوذيون من الاستمرار في إبادة المسلمين هناك. وفي هذا المقال نحاول تسليط الضوء على هذه الكارثة التي لم تحرّك ساكن الضمير العالمي حتى اللحظة الراهنة.
تبلغ مساحة ميانمار نحو 677 ألف كم2، ويزيد سكانها على 60 مليون نسمة، بكثافة سكانية نحو 73 نسمة لكل كم2
أولا: ميانمار الموقع والمكانة الاقتصادية
هي إحدى دول شرق آسيا وتقع على امتداد خليج البنغال. يحدها من الشمال الشرقي الصين، وتحدها الهند وبنجلاديش من الشمال الغربي، وتشترك حدود ميانمار مع كل من لاوس وتايلاند، أما حدودها الجنوبية فسواحل تطل على خليج البنغال والمحيط الهندي ويمتد ذراع من ميانمار، نحو الجنوب الشرقي في شبه جزيرة الملايو. تبلغ مساحة ميانمار نحو 677 ألف كم2، ويزيد سكانها على 60 مليون نسمة، بكثافة سكانية نحو 73 نسمة لكل كم2، (تقترب من الكثافة السكانية في مصر).
في عام 1989، غيرت الحكومة البورمية العسكرية رسميًا الترجمات الإنجليزية للكثير من المناطق، شاملةً اسم الدولة من بورما إلى "ميانمار" وقد اعترفت الأمم المتحدة، ومعظم دول العالم بالاسم الجديد "ميانمار"، غير أن بعض الدول مثل أستراليا وكندا وفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا، لا تزال تستخدم الاسم القديم "بورما" وهذا هو السر في بقاء كلا الاسمين متداولين في الكتابات الأكاديمية حتى الآن.
 تقع ميانمار وفق تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة، ضمن مجموعة البلدان ذات التنمية البشرية المنخفضة، ويبلغ إجمالي ناتجها المحلي 82 مليار دولار ( سلطنة عمان 81 مليارا، كرواتيا 80 مليارا) ، النشاط الرئيسي للدولة هو الزراعة، وأهم صادرتها الأرز. وعلى الرغم من ذلك فإنها تشترك في عدد من الخصائص مع البلدان متوسطة النمو، ومن أهم هذه الخصائص، أنها تتمتع بنظام تعليم جيد، حيث تنخفض نسبة الأمية لأقل من 20% من مجموع السكان، ولديها بنية تعليم أساسي، وتعليم جامعي (101 جامعة) تستطيع استيعاب معدلات النمو السكاني، ما يعني أن المجتمع البورمي، عرف طريق الحداثة، وأنه يقع ضمن المجتمعات النامية، وليس مجتمعا بدائيا أو تقليديا، ما يجعل التفكير في رد أسباب الإبادة التي يتعرض لها المسلمين هناك إلى عوامل التخلف، أمرا مشكوكا في صحته.

ثانيا: الخصائص العرقية والدينية لسكان ميانمار
يتكون اتحاد ميانمار من عرقيات كثيرة، تصل إلى أكثر من 140 عرقا، وأهمها من حيث الكثرة "البورمان"، وهناك أيضًا الـ" شان وكشين وكارين وشين وكاياوركهاين – والماغ". غير أن البورمان يمثلون أكبر مجموعة عرقية، ويعتنقون الديانة البوذية،  وبذلك فهم يمثلون أيضا أكبر مجموعة دينية في ميانمار، حيث يبلغ تعدادهم وفق آخر الإحصاءات، نحو ثلثي سكان ميانمار. وترجع أصولهم إلى هضبة التبت الصينية، هاجروا إلى المنطقة "بورما" في القرن السادس عشر الميلادي ثم أصبحوا يمثلون غالبية السكان في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وهم الطائفة الحاكمة الآن.
ويعتبر المسلمون، ثاني أكبر مجموعة دينية في ميانمار، ومعظمهم يقطن في إقليم أراكان، في الشمال الغربي لميانمار، ويعرفون باسم "مسلمو أراكان" وأكثرهم ينحدرون من أصول عربية حيث يعود نسبهم إلى اليمن والجزيرة العربية وبعض بلاد الشام والعراق. ونسبة من مسلمي ميانمار تنحدر من أصول بنجالية وهندية. ومن المعروف أن هؤلاء المسلمين وصلوا  إلى المنطقة، بغرض التجارة، وعن طريق التجار والبحارة المسلمين، انتشر الاسلام في هذه البقاع، واستقر عدد كبير منهم في المراكز الآسيوية مشكلين مع الوقت قوة ديموجرافية واقتصادية كبيرة. حيث يذكر المؤرخون أن أراكان، كانت دولة إسلامية مستقلة خلال الفترة من عام 1430م إلى 1784م، إلى أن اجتاحتها القبائل البورمية البوذية القادمة من التبت. بطبيعة الحال، ليس من المنتظر في ظروف الإبادة التي يتعرض لها المسلمون في ميانمار، أن تفصح الحكومة عن الأعداد الحقيقية للمسلمين هناك، (سواء الذين مُنِحُوا الجنسية البورمية أو المحرومين منها) غير أن الإحصاءات الدولية، تشير إلى أن نسبتهم تتراوح بين 10 إلى 15% من السكان، أي يمثلون من 6 إلى 9 ملايين نسمة، يعيش معظمهم في مرتفعات أراكان.
يعتبر المسلمون، ثاني أكبر مجموعة دينية في ميانمار، ومعظمهم يقطن في إقليم أراكان، ويعرفون باسم "مسلمو أراكان" وأكثرهم ينحدرون من أصول عربية
غير أن نسبة من المسلمين في ميانمار ويعرفون بـ " مسلمي الروهينجا " ومعظمهم من أصول بنجالية، ويصل تعدادهم الآن نحو مليون نسمة، لا تعترف بهم الحكومة كمواطنين، ويعيشون بلا جنسية منذ الاستقلال وحتى الآن، بسبب قانون أصدره الحاكم العسكري بعد الاستقلال بعدة سنوات، يمنع العرقية الروهنجية من التمتع بالجنسية البورمية. وهو وضع يشبه إلى حد ما قطاع من سكان الكويت الذين يسمّوْن "البدون" غير أن هذه الفئة تلقى المعاملة الكريمة في الكويت، وتتمتع بمعظم الحقوق التي يتمتع بها المواطن الكويتي، بينما يعاني مسلمو الروهينجا في ميانمار من كل صنوف التمييز والعنف.
على أية حال، فقد جرى توقيع اتفاق في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، سمِّي " اتفاقية العودة بين بورما وبنجلادش" وينص على عودة المهاجرين البنجال طواعية دون إجبار، مع إلزام الحكومة البورمية بتعويضهم عما فقدوه. غير أن بنود الاتفاق لم يتنفذ من كلا الطرفين (بنجلادش وبورما) الأول لا يريد أن يستقبل العائدين، ويقاوم دخولهم إما بالتصفية على الحدود، أو إيداعهم السجون، تمهيدا للقذف بهم داخل حدود بورما مرة أخرى.و الثاني لا يريدهم على أرضه، ويستخدم كل أساليب التطهير العرقي والإبادة ضدهم.

ثالثا: الاحتلال الإنجليزي وبداية مأساة المسلمين
وقعت ميانمار تحت الاحتلال البريطاني مدة ليست بالقصيرة (1886- 1948)، وفي تلك الفترة كان السكان المسلمون، أصحاب الثروة والنفوذ، ومن بينهم انطلقت حركات المقاومة للاستعمار الإنجليزي، ما جعل بريطانيا تنفذ حملتها للتخلص من قوة المقاومة المسلمة، بإدخال الفُرْقَة بين الديانات المختلفة في هذا البلد لتشتيت وحدتهم وإيقاع العداوة بينهم كعادتها في سياستها المعروفة (فرق تسد) فأشعلت الحروب بين المسلمين والبوذيين, وتمثلت تلك المؤامرات في عدة مظاهر أساءت بها بريطانيا إلى المسلمين أيما إساءة ومنها: (1) طرد المسلمين من وظائفهم وإحلال البوذيين مكانهم. (2) مصادرة أملاكهم وتوزيعها على البوذيين. (3) الزج بالمسلمين وخاصة قادتهم في السجون أو نفيهم خارج أوطانهم. (4) تحريض البوذيين ضد المسلمين ومد البوذيين بالسلاح حتى أوقعوا بالمسلمين مذبحتهم عام 1942، حيث فتكوا بآلاف المسلمين في منطقة أراكان. (5) إغلاق المعاهد والمدارس والمحاكم الشرعية ونسفها بالمتفجرات.
قامت بريطانيا بتحريض البوذيين ضد المسلمين ومد البوذيين بالسلاح حتى أوقعوا بالمسلمين مذبحتهم عام 1942، حيث فتكوا بآلاف المسلمين في منطقة أراكان
رابعا: الفاشية ثلاثية الأبعاد
عرفت ميانمار حكومات فاشية عسكرية وعرقية ودينية في آن واحد، ودون الدخول في تفاصيل فإن هذا الحكم الفاشي الذي استمر منذ الاستقلال وحتى تسعينيات القرن الماضي، ورث سياسة الإنجليز في التعامل مع المسلمين، وكأنهم وباء لابد من استئصاله من كل بورما، فما من قرية يتم إخراج المسلمين منها حتى يسارع النظام الحاكم بوضع لوحات على بوابات هذه القرى، تشير إلى أن هذه القرية خالية من المسلمين. ولم تترك هذه الفاشية ثلاثية الأبعاد، سبيلا إلا واتبعتها لسحق المسلمين سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، بالإضافة إلى عمليات التعذيب والتنكيل والإبادة، لدفع المسلمين إلى هجرة وطنهم.
لا يوجد بشر على وجه هذه الأرض، سحق كما سحق اَلمسلمون في ميانمار، ولا دينا أهين كما أهين الإسلام في ميانمار. حتى بعد أن ضغطت الأمم المتحدة على الحكومة، في التسعينيات من أجل وضع دستور جديد للبلاد يحفظ حقوق الأقلية هناك، ماطلت الحكومة في إصداره، لأكثر من خمسة عشر عاما، إلى أن صدر في 2008، ورغم تضمين الدستور نصوصًا تعترف بالديانات المسيحية والإسلامية والهندوسية، كديانات قائمة في اتحاد ميانمار، فإن الدستور تضمن في المقابل نصوصا مكبلة للحرية الدينية والسياسية، ضاربا عرض الحائط بتوصيات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، ومكرسا في نصوصه كل ألوان التمييز ضد المسلمين بصفة خاصة. وبعد إقرار الدستور، جرت أول انتخابات في عام 2010، وصفها المراقبون الدوليون بأنها مزورة، وجاءت بحزب التضامن والتنمية الاتحادي، الذي يسيطر عليه العسكريون. وهناك إجماع على أن هذا النظام وسلفه، هو من أكثر أنظمة العالم قمعًا.

خامسا: مأساة المسلمون في ميانمار في الوقت الراهن
في الثالث من يونيه 2012، واستمرار لمأساة هذه الأقلية، قتل الجيش الميانماري والغوغاء 11 مسلمًا بدون سبب بعدما أنزلوهم من الحافلات وهم في طريق عودتهم من أداء العمرة،  فقامت احتجاجات عنيفة في إقليم أراكان ذي الأغلبية المسلمة، ما أدى إلى وقوع المتظاهرين ضحية استبداد الجيش، حيث ذكرت أنباء بمقتل أكثر من 20000 مسلم بإحصاءات رسميه، وأكثر من 50000 وفقا لإحصاءات غير رسمية، شهدت تلك الأحداث صوراً غير معقولة من الوحشية، كإحراق المحتجين أحياء، وتدمير المنازل ودور العبادة، واغتصاب النساء. ولا تزال هذه الأعمال الوحشية مستمرة منذ ذلك التاريخ، تتجدد بين وقت وحين.
لا يوجد بشر على وجه هذه الأرض، سحق كما سحق اَلمسلمون في ميانمار، ولا دينا أهين كما أهين الإسلام في ميانمار
سادسا: أين الضمير الإنساني والنصرة الإسلامية
إذا كان العالم يتشدق بعبارات حقوق الإنسان، فقد أثبت – في حالة ميانمار- أن التمسك بهذه الحقوق، ما هو إلا ذريعة تستخدم في صراع القوى وفي إخضاع الدول. بدليل أن وجود ميانمار بعيدا عن دائرة الصراع الدولي، يصم آذان العالم عن سماع  أنات المعذبين فيها، متجاهلا المأساة التي يتعرض لها البشر في تلك المنطقة، دون وجل أو تأنيب للضمير العالمي.
وعلى مستوى العالم الإسلامي، اكتفت المؤسسات الدينية والحكومات، بإصدار عبارات التنديد والاستنكار، وذرًا للرماد في الأعين، تقدم بعض الدول الإسلامية إعانات إغاثة للمنكوبين هناك بين الحين والحين. غير أن المسلمين في ميانمار مأساتهم أكبر من الجوع والفقر، إنهم يتعرضون للإبادة الجماعية المستمرة منذ أكثر من نصف قرن. المسلمون الذين يقتلون بعضهم بعضا باسم الدين في منطقة الشرق الأوسط، يغضون الطرف عن إهانة هذا الدين في ميانمار.  
المسلمون في ميانمار، معدومو القوة والإرادة، ينتظرون قرارًا ملزما من مجلس الأمن، يمنحهم الحق في البقاء، مجرد البقاء أيها العالم المتحضر.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟