اعتبارات العدالة: ملامح إعداد موازنة 2015- 2016 في مصر (1)
الأحد 12/يوليو/2015 - 11:24 ص
إبراهيم نوّار
تعتبر الميزانية السنوية للدولة خريطة الطريق الاقتصادية التي تحدد مسار الاقتصاد خلال سنة مالية محددة. وعلى ذلك فإن الميزانية تنطلق من رؤية أبعد لمسار الاقتصاد، وإلا سار الاقتصاد في مسارات متقطعة ومضطربة. كما أنها تحدد أهداف المسار الاقتصادي خلال 12 شهرا والطرق التي سيتم اتباعها للوصول إلى هذه الأهداف. وفي العادة يتم بناء أهداف السنة الحالية على ما تم تحقيقه في السنة السابقة وليس بعيدا عنه. بمعنى آخر فإن هناك علاقة عضوية بين الحساب الختامي للميزانية في السنة المالية اللاحقة وبين أهداف الميزانية التالية. وقد يتعذر تحقيق ذلك على غير أجهزة إعداد الميزانية، لكنه ونظرا إلى أن وزارة المالية هي مخزن المعلومات المالية للدولة تأتيها بيانات الوزارات والهيئات والمحليات شهرا بشهر عن مؤشرات الأداء المالي، فإنه لا يكون من الصعب عند إعداد الميزانية الجديدة أن تقوم على أساس القدر المتوفر من المعلومات عن الأداء في الحساب الختامي الذي قد يختلف عن توقعات الميزانية السابقة.
ونظرا لأن الميزانية تقدم لنا بيانا ماليا متوقعا لسنة مالية مقبلة، هذا البيان المالي تكون له صورة أخرى متمثلة في البيان العيني والسلعي المقابل للبيان المالي. وفي حين تكون وزارة المالية مسؤولة عن البيان المالي أو الميزانية، فإن وزارة التخطيط أو التنمية الاقتصادية والإدارية تكون مسئولة عن الجانب العيني من خريطة الطريق الاقتصادية خلال فترة الميزانية. ولهذا فإنه من المفترض أن ترقص الوزارتان على طبل واحد أو نغمة واحدة. وقد ترتفع تكاليف تنفيذ المشروعات أو تلبية الطلبات أو تغطية الأعباء الواردة في الميزانية خلال مدة التنفيذ، مما قد يستدعي مناقلات في الربط المالي داخل باب أو أكثر من أبواب الميزانية، وتكون هذه مسئولية مشتركة بين وزارتي المالية والتخطيط مع كل من الجهاز المركزي للمحاسبات والهيئات الرقابية المختصة. وفي العادة يحدث تغليب أولويات الميزانية في حال نقص الموارد وظهور الحاجة إلى تأجيل أو إبطاء تنفيذ بعض المشروعات أو تغطية بعض الأعباء.
ونظرا لأن الميزانية تقدم لنا بيانا ماليا متوقعا لسنة مالية مقبلة، هذا البيان المالي تكون له صورة أخرى متمثلة في البيان العيني والسلعي المقابل للبيان المالي. وفي حين تكون وزارة المالية مسؤولة عن البيان المالي أو الميزانية، فإن وزارة التخطيط أو التنمية الاقتصادية والإدارية تكون مسئولة عن الجانب العيني من خريطة الطريق الاقتصادية خلال فترة الميزانية. ولهذا فإنه من المفترض أن ترقص الوزارتان على طبل واحد أو نغمة واحدة. وقد ترتفع تكاليف تنفيذ المشروعات أو تلبية الطلبات أو تغطية الأعباء الواردة في الميزانية خلال مدة التنفيذ، مما قد يستدعي مناقلات في الربط المالي داخل باب أو أكثر من أبواب الميزانية، وتكون هذه مسئولية مشتركة بين وزارتي المالية والتخطيط مع كل من الجهاز المركزي للمحاسبات والهيئات الرقابية المختصة. وفي العادة يحدث تغليب أولويات الميزانية في حال نقص الموارد وظهور الحاجة إلى تأجيل أو إبطاء تنفيذ بعض المشروعات أو تغطية بعض الأعباء.
هناك علاقة عضوية بين الحساب الختامي للميزانية في السنة المالية اللاحقة وبين أهداف الميزانية التالية
أولا- شروط الوضوح والشفافية
ومن المهم أن تكون الميزانية واضحة لجميع الجهات المنفذة لها، فإذا التبس الأمر، لجأت الجهة الإدارية المختصة إلى إصدار "تأشيرات" أو "توجيهات" للدوائر المالية المختصة في الوزارات والهيئات العامة وأجهزة الحكم المحلي من أجل توضيح ما غمض. وبقدر وضوح الميزانية يكون الالتزام ببنودها، لأن المخالفة الصريحة للواضح من التعليمات توقع المخالف تحت طائلة القانون. لكن الموظفين العموميين القائمين على وضع بنود الميزانيات ربما يلجأون في بعض الأحيان إلى الغموض وعدم الوضوح بحجة أن ذلك يضفي قدرا من المرونة على الاستخدامات والإيرادات بالنسبة للجهات التنفيذية الأقل (المديريات المالية). وويؤدي هذا في أغلب الأحوال إلى تضارب في تنفيذ القيود المالية وربما إلى انحراف عن خريطة الطريق الاقتصادية للسنة المالية.
ويبدو أن مسألة "الوضوح" في الميزانية قد أصبحت مشكلة كبيرة في مصر. وأدى هذا إلى أن يتضمن قانون ربط ميزانية السنة المالية 2015- 2016 قسما خاصا بالتأشيرات والتوجيهات الخاصة بالميزانية. لكن القانون أفرط في تغليب سلطة الإدارة المركزية لوزارتي المالية والتخطيط على غيرهما من أجهزة الموازنة العامة للدولة إلى درجة اشتراط موافقة وزير المالية مثلا على شراء سيارة ركوب. وفي بعض الحالات الأخرى المتعلقة بتعديل الاستخدامات اشترط القانون موافقة رئيس الجمهورية. وأعتقد أن القسم الخاص بالتوجيهات والتأشيرات في قانون الموازنة الجديد سيؤدي إلى الكثير من الارتباك بسبب عدم الوضوح والتداخل بين السلطات وبسبب الميل إلى تغليب السلطة المركزية للوزارتين السابق الإشارة إليهما. ومن غير المستبعد أن يجد المستشارون القانونيون والماليون في المالية والتخطيط أنفسهم أمام كم هائل من الاستفسارات بشأن أعمال معطلة في الوزارات والهيئات والمحليات نتيجة لغموض تلك التأشيرات والتوجيهات. ومن المفارقات هنا أن تلك التأشيرات والتوجيهات إنما جاءت بغرض تحقيق زيادة في كفاءة الأداء وليس بهدف تعطيل العمل.
أعود إلى كيفية إعداد الميزانية والمبادئ الحاكمة لتلك العملية. وقد قلت إنه ليس من المقبول أن تبدأ الميزانية الجديدة بعيدا عن مؤشرات نهاية الميزانية السابقة، وإلا وجدنا أنفسنا أمام ميزانيات سنوية لا علاقة لأي منها بالأخرى. كما قلت إن الميزانية يجب أن تنطلق من رؤية للأجلين المتوسط والطويل، وأن تتتسق أهدافها مع الوصول إلى إنجاز أهداف هذه الرؤية. كذلك فإن الميزانية يجب أن تنطلق من أولويات متفق عليها، حتى لا تتعرض للاضطراب خلال فترة التنفيذ القصيرة (12 شهرا). ومن المفيد أن نذكر القارئ هنا بأن أحد أهم أسباب فشل الميزانيات السابقة في تحقيق أهداف التنمية في مصر كان يتمثل في اللجوء إلى أساليب "الفهلوة المالية" و"التضليل الإجتماعي" بغرض تمرير إجراءات بعينها أدت إلى وقوع أضرار شديدة الأذى إقتصاديا وسياسيا خلال العقود الماضية. ويذكر الناس كيف تم الاستيلاء على أموال صندوقي التأمين والمعاشات وضم مواردهما إلى الميزانية، بغرض تحقيق وفورات حسابية تؤدي إلى تخفيض عجز الميزانية على الورق في عام 2007 ليبلغ 1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في الأشهر الخمسة الأولى مقابل 9% في عام 2006. وقد ترتب على ذلك زيادة التزامات الخزانة العامة في تسديد قيمة مستحقات التأمينات والمعاشات المستحقة، والتي يتم احتسابها حاليا ضمن برامج النفقات العامة الاجتماعية في ميزانية الحكومة!
وإذا كان لنا أن نحدد المعايير المهمة للتفرقة بين "الميزانية الناجحة" وبين "الميزانية الفاشلة"، فإنه من الضروري أن نتعرف أولا على منطلقات السياسيين وصانعي القرار في إعداد الميزانية والأهداف التي يتوخونها من خريطة التدفقات المالية خلال السنة المالية. ولا شك أن أهداف تحقيق النمو والتوازن والاستقرار الاقتصادي الكافيين وزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد بما في ذلك القدرة على تحقيق حد كاف من الاعتماد على النفس تمثل الأهداف المثالية للميزانية "الناجحة". ولذلك فإن معظم واضعي الميزانيات سيقولون لك في صدر بياناتهم المالية إن الميزانية الجديد ة تسعى لتحقيق تلك الأهداف الحميدة. لكن العبرة ليست بما يقال في البيان المالي، ولكن العبرة هي بما يتحقق فعلا في نهاية السنة المالية. وفي بلادنا يجري في العادة دق الطبول وإقامة الاحتفالات بالشعارات الواردة في البيان المالي الجديد، على الرغم من أن هذا البيان ليس إلا مجرد توقعات، تكون وردية في العادة، لا يعرف أحد، بمن في ذلك الذين وضعوه، كيف ستنتهي بها الحال. وقد تنتهي الحال بالميزانية السنوية إلى نتائج تتفق مع الأهداف الواردة فيها، فتصبح بذلك "ميزانية ناجحة". لكنها في أحيان أخرى قد تنتهي إلى نتائج تتعارض تماما مع ما تم إعلانه من أهداف. وإذا وقع ذلك فإن الميزانية والسياسة المالية أو الاقتصادية برمتها تنتقل إلى تصنيف "الميزانية الفاشلة".
وهناك مدارس متنوعة في شأن تحقيق النمو والاستقرار الاقتصادي وزيادة القدرة التنافسية، لكنها جميعا تنتهي إلى مدرستين كبيرتين، إحداهما تتخذ مدخلها من جانب الطلب، والأخرى تتخذ مدخلها من جانب العرض. غير إن الحال في مصر يصعب وصفه بدقة، فلا هو يتخذ مدخلا من جانب العرض ولا من جانب الطلب، وإنما يسعى بأسلوب "الفهلوة المالية" إلى اتخاذ مداخل عدة من أي مكان ومن أي اتجاه حتى ولو كانت الطرق التي تؤدي إليها هذه المداخل متعارضة أو متنافضة! وتعتبر قضية دور الدولة في الاقتصاد ضية جوهرية في تحديد المدخل إلى تحقيق التنمية، لكنه نظرا إلى أن هذه القضية لم يتم حسمها في مصر، فإن هناك تخبط في تحديد مداخل التنمية والإصلاح الاقتصادي. إن إستراتيجيات التنمية التي يتم الاسترشاد بها في وضع خطط التنمية السنوية وموازناتها المالية تخلو من تحديد واضح لدور الدولة في الجهاز الإنتاجي. ويعبر ذلك عن نفسه في تردد بين أن تتدخل الدولة في الإنتاج وبين أن يقتصر دورها على وظائف "الدولة الحارسة" التي تقوم ببعض الأدوار الإجتماعية المكملة. ومع ذلك فإن التداعي الطبيعي للمؤشرات الاقتصادية يقطع بزيادة دور القطاع الخاص (70% من الإستثمارات) وتضاؤل دور الدولة، على الرغم من امتلاكها لأجهزة "سيادية" توفر للدولة ما يقرب من نصف إيراداتها الضريبية (منها قناة السويس والبنك المركزي وشركات البترول).
ومن المهم أن تكون الميزانية واضحة لجميع الجهات المنفذة لها، فإذا التبس الأمر، لجأت الجهة الإدارية المختصة إلى إصدار "تأشيرات" أو "توجيهات" للدوائر المالية المختصة في الوزارات والهيئات العامة وأجهزة الحكم المحلي من أجل توضيح ما غمض. وبقدر وضوح الميزانية يكون الالتزام ببنودها، لأن المخالفة الصريحة للواضح من التعليمات توقع المخالف تحت طائلة القانون. لكن الموظفين العموميين القائمين على وضع بنود الميزانيات ربما يلجأون في بعض الأحيان إلى الغموض وعدم الوضوح بحجة أن ذلك يضفي قدرا من المرونة على الاستخدامات والإيرادات بالنسبة للجهات التنفيذية الأقل (المديريات المالية). وويؤدي هذا في أغلب الأحوال إلى تضارب في تنفيذ القيود المالية وربما إلى انحراف عن خريطة الطريق الاقتصادية للسنة المالية.
ويبدو أن مسألة "الوضوح" في الميزانية قد أصبحت مشكلة كبيرة في مصر. وأدى هذا إلى أن يتضمن قانون ربط ميزانية السنة المالية 2015- 2016 قسما خاصا بالتأشيرات والتوجيهات الخاصة بالميزانية. لكن القانون أفرط في تغليب سلطة الإدارة المركزية لوزارتي المالية والتخطيط على غيرهما من أجهزة الموازنة العامة للدولة إلى درجة اشتراط موافقة وزير المالية مثلا على شراء سيارة ركوب. وفي بعض الحالات الأخرى المتعلقة بتعديل الاستخدامات اشترط القانون موافقة رئيس الجمهورية. وأعتقد أن القسم الخاص بالتوجيهات والتأشيرات في قانون الموازنة الجديد سيؤدي إلى الكثير من الارتباك بسبب عدم الوضوح والتداخل بين السلطات وبسبب الميل إلى تغليب السلطة المركزية للوزارتين السابق الإشارة إليهما. ومن غير المستبعد أن يجد المستشارون القانونيون والماليون في المالية والتخطيط أنفسهم أمام كم هائل من الاستفسارات بشأن أعمال معطلة في الوزارات والهيئات والمحليات نتيجة لغموض تلك التأشيرات والتوجيهات. ومن المفارقات هنا أن تلك التأشيرات والتوجيهات إنما جاءت بغرض تحقيق زيادة في كفاءة الأداء وليس بهدف تعطيل العمل.
أعود إلى كيفية إعداد الميزانية والمبادئ الحاكمة لتلك العملية. وقد قلت إنه ليس من المقبول أن تبدأ الميزانية الجديدة بعيدا عن مؤشرات نهاية الميزانية السابقة، وإلا وجدنا أنفسنا أمام ميزانيات سنوية لا علاقة لأي منها بالأخرى. كما قلت إن الميزانية يجب أن تنطلق من رؤية للأجلين المتوسط والطويل، وأن تتتسق أهدافها مع الوصول إلى إنجاز أهداف هذه الرؤية. كذلك فإن الميزانية يجب أن تنطلق من أولويات متفق عليها، حتى لا تتعرض للاضطراب خلال فترة التنفيذ القصيرة (12 شهرا). ومن المفيد أن نذكر القارئ هنا بأن أحد أهم أسباب فشل الميزانيات السابقة في تحقيق أهداف التنمية في مصر كان يتمثل في اللجوء إلى أساليب "الفهلوة المالية" و"التضليل الإجتماعي" بغرض تمرير إجراءات بعينها أدت إلى وقوع أضرار شديدة الأذى إقتصاديا وسياسيا خلال العقود الماضية. ويذكر الناس كيف تم الاستيلاء على أموال صندوقي التأمين والمعاشات وضم مواردهما إلى الميزانية، بغرض تحقيق وفورات حسابية تؤدي إلى تخفيض عجز الميزانية على الورق في عام 2007 ليبلغ 1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في الأشهر الخمسة الأولى مقابل 9% في عام 2006. وقد ترتب على ذلك زيادة التزامات الخزانة العامة في تسديد قيمة مستحقات التأمينات والمعاشات المستحقة، والتي يتم احتسابها حاليا ضمن برامج النفقات العامة الاجتماعية في ميزانية الحكومة!
وإذا كان لنا أن نحدد المعايير المهمة للتفرقة بين "الميزانية الناجحة" وبين "الميزانية الفاشلة"، فإنه من الضروري أن نتعرف أولا على منطلقات السياسيين وصانعي القرار في إعداد الميزانية والأهداف التي يتوخونها من خريطة التدفقات المالية خلال السنة المالية. ولا شك أن أهداف تحقيق النمو والتوازن والاستقرار الاقتصادي الكافيين وزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد بما في ذلك القدرة على تحقيق حد كاف من الاعتماد على النفس تمثل الأهداف المثالية للميزانية "الناجحة". ولذلك فإن معظم واضعي الميزانيات سيقولون لك في صدر بياناتهم المالية إن الميزانية الجديد ة تسعى لتحقيق تلك الأهداف الحميدة. لكن العبرة ليست بما يقال في البيان المالي، ولكن العبرة هي بما يتحقق فعلا في نهاية السنة المالية. وفي بلادنا يجري في العادة دق الطبول وإقامة الاحتفالات بالشعارات الواردة في البيان المالي الجديد، على الرغم من أن هذا البيان ليس إلا مجرد توقعات، تكون وردية في العادة، لا يعرف أحد، بمن في ذلك الذين وضعوه، كيف ستنتهي بها الحال. وقد تنتهي الحال بالميزانية السنوية إلى نتائج تتفق مع الأهداف الواردة فيها، فتصبح بذلك "ميزانية ناجحة". لكنها في أحيان أخرى قد تنتهي إلى نتائج تتعارض تماما مع ما تم إعلانه من أهداف. وإذا وقع ذلك فإن الميزانية والسياسة المالية أو الاقتصادية برمتها تنتقل إلى تصنيف "الميزانية الفاشلة".
وهناك مدارس متنوعة في شأن تحقيق النمو والاستقرار الاقتصادي وزيادة القدرة التنافسية، لكنها جميعا تنتهي إلى مدرستين كبيرتين، إحداهما تتخذ مدخلها من جانب الطلب، والأخرى تتخذ مدخلها من جانب العرض. غير إن الحال في مصر يصعب وصفه بدقة، فلا هو يتخذ مدخلا من جانب العرض ولا من جانب الطلب، وإنما يسعى بأسلوب "الفهلوة المالية" إلى اتخاذ مداخل عدة من أي مكان ومن أي اتجاه حتى ولو كانت الطرق التي تؤدي إليها هذه المداخل متعارضة أو متنافضة! وتعتبر قضية دور الدولة في الاقتصاد ضية جوهرية في تحديد المدخل إلى تحقيق التنمية، لكنه نظرا إلى أن هذه القضية لم يتم حسمها في مصر، فإن هناك تخبط في تحديد مداخل التنمية والإصلاح الاقتصادي. إن إستراتيجيات التنمية التي يتم الاسترشاد بها في وضع خطط التنمية السنوية وموازناتها المالية تخلو من تحديد واضح لدور الدولة في الجهاز الإنتاجي. ويعبر ذلك عن نفسه في تردد بين أن تتدخل الدولة في الإنتاج وبين أن يقتصر دورها على وظائف "الدولة الحارسة" التي تقوم ببعض الأدوار الإجتماعية المكملة. ومع ذلك فإن التداعي الطبيعي للمؤشرات الاقتصادية يقطع بزيادة دور القطاع الخاص (70% من الإستثمارات) وتضاؤل دور الدولة، على الرغم من امتلاكها لأجهزة "سيادية" توفر للدولة ما يقرب من نصف إيراداتها الضريبية (منها قناة السويس والبنك المركزي وشركات البترول).
بقدر وضوح الميزانية يكون الالتزام ببنودها، لأن المخالفة الصريحة للواضح من التعليمات توقع المخالف تحت طائلة القانون
تعتبر الميزانية السنوية للدولة خريطة الطريق الاقتصادية التي تحدد مسار الاقتصاد خلال سنة مالية محددة. وعلى ذلك فإن الميزانية تنطلق من رؤية أبعد لمسار الاقتصاد، وإلا سار الاقتصاد في مسارات متقطعة ومضطربة. كما أنها تحدد أهداف المسار الاقتصادي خلال 12 شهرا والطرق التي سيتم اتباعها للوصول إلى هذه الأهداف. وفي العادة يتم بناء أهداف السنة الحالية على ما تم تحقيقه في السنة السابقة وليس بعيدا عنه. بمعنى آخر فإن هناك علاقة عضوية بين الحساب الختامي للميزانية في السنة المالية اللاحقة وبين أهداف الميزانية التالية. وقد يتعذر تحقيق ذلك على غير أجهزة إعداد الميزانية، لكنه ونظرا إلى أن وزارة المالية هي مخزن المعلومات المالية للدولة تأتيها بيانات الوزارات والهيئات والمحليات شهرا بشهر عن مؤشرات الأداء المالي، فإنه لا يكون من الصعب عند إعداد الميزانية الجديدة أن تقوم على أساس القدر المتوفر من المعلومات عن الأداء في الحساب الختامي الذي قد يختلف عن توقعات الميزانية السابقة.
ونظرا لأن الميزانية تقدم لنا بيانا ماليا متوقعا لسنة مالية مقبلة، هذا البيان المالي تكون له صورة أخرى متمثلة في البيان العيني والسلعي المقابل للبيان المالي. وفي حين تكون وزارة المالية مسؤولة عن البيان المالي أو الميزانية، فإن وزارة التخطيط أو التنمية الاقتصادية والإدارية تكون مسئولة عن الجانب العيني من خريطة الطريق الاقتصادية خلال فترة الميزانية. ولهذا فإنه من المفترض أن ترقص الوزارتان على طبل واحد أو نغمة واحدة. وقد ترتفع تكاليف تنفيذ المشروعات أو تلبية الطلبات أو تغطية الأعباء الواردة في الميزانية خلال مدة التنفيذ، مما قد يستدعي مناقلات في الربط المالي داخل باب أو أكثر من أبواب الميزانية، وتكون هذه مسئولية مشتركة بين وزارتي المالية والتخطيط مع كل من الجهاز المركزي للمحاسبات والهيئات الرقابية المختصة. وفي العادة يحدث تغليب أولويات الميزانية في حال نقص الموارد وظهور الحاجة إلى تأجيل أو إبطاء تنفيذ بعض المشروعات أو تغطية بعض الأعباء.
ثانيا- "ترزية" الميزانيات المالية
ويتضح لنا من دراسة الميزانيات المالية المصرية في العقود الأخيرة أن التكنوقراط الذين يقومون فعلا بعملية "تفصيل" الميزانية السنوية مثلهم مثل "ترزية القوانين" في مصر، يفعلون ما يؤمرون أو ما يعتقدون أنه الطريق للحصول على رضا الحاكم أو صاحب القرار النهائي، وهو في مصر مجرد شخص واحد وليس مؤسسة. وقد تعلم هؤلاء بمرور الزمن كيف يصيغون الميزانيات السنوية وبياناتها المالية بالصورة التي ترضي الحاكم، لكنهم في الوقت نفسه يوفرون لها القدر الكافي من "الصياغات المالية الفضفاضة" التي لا تغلق الطريق على الفساد والتي تسمح بقدر من التلاعب يحمي مصلحة التكنوقراط في الحصول على جزء من فائض القيمة أو حصيلة "الاعتصار الاجتماعي" في صورة مكافآت ومزايا وحوافز تبدو في ظاهرها شرعية وقانونية. ومن التخريجات التي ابتكرتها كتائب "ترزية الميزانية" أو التكنوقراط الماليون تقنين ما يسمى حاليا "الصناديق الخاصة". وهذه تخريجة تسمح للجهات الإدارية فرض رسوم وأعباء بدون قانون، وووضعها في حسابات لا تخضع للرقابة، والصرف منها بدون قواعد وإجراءات قانونية. كذلك توجد نصوص فضفاضة تسمح بإحراء مناقلات للقيود المالية بين أبواب الميزانية أو يتم التلاعب بها بدون احتمال التعرض للعقاب. وقد حاول القسم الثاني من قانون الميزانية للسنة المالية الحالية 2015- 2016 الحد من هذه الظواهر.
ونظرا لأن الميزانية تقدم لنا بيانا ماليا متوقعا لسنة مالية مقبلة، هذا البيان المالي تكون له صورة أخرى متمثلة في البيان العيني والسلعي المقابل للبيان المالي. وفي حين تكون وزارة المالية مسؤولة عن البيان المالي أو الميزانية، فإن وزارة التخطيط أو التنمية الاقتصادية والإدارية تكون مسئولة عن الجانب العيني من خريطة الطريق الاقتصادية خلال فترة الميزانية. ولهذا فإنه من المفترض أن ترقص الوزارتان على طبل واحد أو نغمة واحدة. وقد ترتفع تكاليف تنفيذ المشروعات أو تلبية الطلبات أو تغطية الأعباء الواردة في الميزانية خلال مدة التنفيذ، مما قد يستدعي مناقلات في الربط المالي داخل باب أو أكثر من أبواب الميزانية، وتكون هذه مسئولية مشتركة بين وزارتي المالية والتخطيط مع كل من الجهاز المركزي للمحاسبات والهيئات الرقابية المختصة. وفي العادة يحدث تغليب أولويات الميزانية في حال نقص الموارد وظهور الحاجة إلى تأجيل أو إبطاء تنفيذ بعض المشروعات أو تغطية بعض الأعباء.
ثانيا- "ترزية" الميزانيات المالية
ويتضح لنا من دراسة الميزانيات المالية المصرية في العقود الأخيرة أن التكنوقراط الذين يقومون فعلا بعملية "تفصيل" الميزانية السنوية مثلهم مثل "ترزية القوانين" في مصر، يفعلون ما يؤمرون أو ما يعتقدون أنه الطريق للحصول على رضا الحاكم أو صاحب القرار النهائي، وهو في مصر مجرد شخص واحد وليس مؤسسة. وقد تعلم هؤلاء بمرور الزمن كيف يصيغون الميزانيات السنوية وبياناتها المالية بالصورة التي ترضي الحاكم، لكنهم في الوقت نفسه يوفرون لها القدر الكافي من "الصياغات المالية الفضفاضة" التي لا تغلق الطريق على الفساد والتي تسمح بقدر من التلاعب يحمي مصلحة التكنوقراط في الحصول على جزء من فائض القيمة أو حصيلة "الاعتصار الاجتماعي" في صورة مكافآت ومزايا وحوافز تبدو في ظاهرها شرعية وقانونية. ومن التخريجات التي ابتكرتها كتائب "ترزية الميزانية" أو التكنوقراط الماليون تقنين ما يسمى حاليا "الصناديق الخاصة". وهذه تخريجة تسمح للجهات الإدارية فرض رسوم وأعباء بدون قانون، وووضعها في حسابات لا تخضع للرقابة، والصرف منها بدون قواعد وإجراءات قانونية. كذلك توجد نصوص فضفاضة تسمح بإحراء مناقلات للقيود المالية بين أبواب الميزانية أو يتم التلاعب بها بدون احتمال التعرض للعقاب. وقد حاول القسم الثاني من قانون الميزانية للسنة المالية الحالية 2015- 2016 الحد من هذه الظواهر.
أن أحد أهم أسباب فشل الميزانيات السابقة في تحقيق أهداف التنمية كان يتمثل في اللجوء إلى أساليب "الفهلوة المالية" و"التضليل الإجتماعي" بغرض تمرير إجراءات بعينها
ثالثا- اعتبارات صنع الميزانية في مصر
ويمكن الإشارة إلى عدد من الملامح الرئيسية التي تشكل أسسا لمنطق وضع الميزانية لدى كبار موظفي وزارة المالية المصرية. وتتضمن هذه الملامح ما يلي:
1- سيطرة اعتبار "الحصيلة" على ما عداه من الإعتبارات الحاكمة لصياغة الميزانية، بما في ذلك اعتبارات تحقيق العدالة الإجتماعية والتنمية والاستقرار الاقتصادي. وقد تحول هذا في نهاية الأمر إلى صبغ السياسة الضريبية بطابع "الجباية" بصورة صارخة.
2- تغليب مصلحة رأس المال على مصلحة العمل نظرا لقوة تنظيمات رجال الأعمال وقدرتها على إنزال الضرر بالموظفين وإفساد اقتراحاتهم إذا هي تعارضت مع مصالح رجال الأعمال. وقدر رأينا كيف تم تخفيض الحد الأقصى للضريبة وتأجيل الضريبة المؤقتة على الثروة وتأجيل فرض ضريبة الأرباح الرأسمالية في البورصة خلال السنة المالية الماضية.
3- الميل إلى زيادة الحصيلة عن طريق "توسيع المجتمع الضريبي". وفي هذا السياق كانت الضرائب على الوقود والدخان والسجائر ووبعض السلع الأخرى بشكل عام مخرجا مهما لواضعي الضرائب يمكنهم من الحصول على زيادة في الإيرادات، بدلا من زيادة عبء الضريبة على الأغنياء أو على رجال الأعمال.
4- تقديم اعتبارات خدمة الدين العام وتخفيض العجز المالي على ما عداها، حتى لو كان ذلك على حساب اعتبارات تحقيق العدالة والتنمية والاستقرار المالي. ويجري عادة تخفيض الدعم المالي لسلع الفقراء والمزايا التي يحصلون عليها كوسيلة من وسائل تخفيض العجز.
5- تنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي بقصد الحصول على رضا المؤسسات المالية الدولية ومؤسسات التصنيف الائتماني والدائنين، حتى لو كان ذلك على حساب اعتبارات التنمية والعدالة الاجتماعية والاستقرار المالي.
6- تلبية احتياجات ومطالب شركات النفط والغاز باعتبارها المستثمر الأجنبي الرئيسي في البلاد، وباعتبار القطاع الاستخراجي هو أكبر القطاعات الاقتصادية (23% من الناتج المحلي الإجمالي) في مصر. وفي هذا السياق تم خلال السنة المالية الماضية سداد نحو 3 مليارات دولار من مستحقات هذه الشركات، كما تم رفع سعر شراء النفط والغاز منها بواسطة الهيئة المصرية العامة للبترول، وتحريك أسعار الصرف لمصلحة الدولار على حساب الجنيه المصري.
ويمكن الإشارة إلى عدد من الملامح الرئيسية التي تشكل أسسا لمنطق وضع الميزانية لدى كبار موظفي وزارة المالية المصرية. وتتضمن هذه الملامح ما يلي:
1- سيطرة اعتبار "الحصيلة" على ما عداه من الإعتبارات الحاكمة لصياغة الميزانية، بما في ذلك اعتبارات تحقيق العدالة الإجتماعية والتنمية والاستقرار الاقتصادي. وقد تحول هذا في نهاية الأمر إلى صبغ السياسة الضريبية بطابع "الجباية" بصورة صارخة.
2- تغليب مصلحة رأس المال على مصلحة العمل نظرا لقوة تنظيمات رجال الأعمال وقدرتها على إنزال الضرر بالموظفين وإفساد اقتراحاتهم إذا هي تعارضت مع مصالح رجال الأعمال. وقدر رأينا كيف تم تخفيض الحد الأقصى للضريبة وتأجيل الضريبة المؤقتة على الثروة وتأجيل فرض ضريبة الأرباح الرأسمالية في البورصة خلال السنة المالية الماضية.
3- الميل إلى زيادة الحصيلة عن طريق "توسيع المجتمع الضريبي". وفي هذا السياق كانت الضرائب على الوقود والدخان والسجائر ووبعض السلع الأخرى بشكل عام مخرجا مهما لواضعي الضرائب يمكنهم من الحصول على زيادة في الإيرادات، بدلا من زيادة عبء الضريبة على الأغنياء أو على رجال الأعمال.
4- تقديم اعتبارات خدمة الدين العام وتخفيض العجز المالي على ما عداها، حتى لو كان ذلك على حساب اعتبارات تحقيق العدالة والتنمية والاستقرار المالي. ويجري عادة تخفيض الدعم المالي لسلع الفقراء والمزايا التي يحصلون عليها كوسيلة من وسائل تخفيض العجز.
5- تنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي بقصد الحصول على رضا المؤسسات المالية الدولية ومؤسسات التصنيف الائتماني والدائنين، حتى لو كان ذلك على حساب اعتبارات التنمية والعدالة الاجتماعية والاستقرار المالي.
6- تلبية احتياجات ومطالب شركات النفط والغاز باعتبارها المستثمر الأجنبي الرئيسي في البلاد، وباعتبار القطاع الاستخراجي هو أكبر القطاعات الاقتصادية (23% من الناتج المحلي الإجمالي) في مصر. وفي هذا السياق تم خلال السنة المالية الماضية سداد نحو 3 مليارات دولار من مستحقات هذه الشركات، كما تم رفع سعر شراء النفط والغاز منها بواسطة الهيئة المصرية العامة للبترول، وتحريك أسعار الصرف لمصلحة الدولار على حساب الجنيه المصري.
أحدى الملامح الرئيسية التي تشكل أسسا لمنطق وضع الميزانية هو سيطرة اعتبار "الحصيلة" على ما عداه من الإعتبارات الحاكمة لصياغة الميزانية، بما في ذلك اعتبارات تحقيق العدالة الإجتماعية
رابعا- اقتصاد ينمو وآخر يترنح
هذه بعض الملامح والاعتبارات الجوهرية التي تحكم عملية إعداد ميزانية الحكومة والهيئات العامة وأجهزة الحكم المحلي في مصر. ولم يحدث في أي مناسبة من المناسبات خلال السنوات التالية لثورتي 25 يناير و30 يونيو أن تغيرت هذه الاعتبارات تغيرا جوهريا. صحيح إن هناك بعض الإصلاحات التي تمت على صعيد امتصاص الغضب الشعبي والإحتجاجات الفئوية منذ ثورة 25 يناير 2011 حتى الآن لكن هذه الإصلاحات تمت بمنطق "امتصاص الغضب" وليس بمنطق "حفز التنمية". وقد أدت هذه الإصلاحات التي شملت زيادات في المرتبات والاعتمادات المالية الفئوية خصوصا للمعلمين والأطباء وتوفير درجات وظيفية لحملة الماجستير والدكتوراه العاطلين عن العمل إلى زيادة في الإنفاق بدون حدوث زيادة مماثلة في الإنتاجية. ولولا وجود موارد إضافية استثنائية مثل المنح من الدول العربية الخليجية والقروض الميسرة، لما كانت الميزانية قادرة على توفير الموارد الضرورية للوفاء بهذه الزيادات. ولا تزال العلاقة بين الحكومة والعاملين في أجهزتها تقوم على أساس أن الحكومة تهزأ من العاملين لديها بإعطائهم مرتبات لا تتلاءم مع تكاليف المعيشة، ويعاملها العاملون بالمثل بأن يهزأون منها بإعطائها القدر من العمل والمجهود الذي يعتقد العاملون أنه المكافئ العادل لما يحصلون عليه من مرتبات!
ونخلص مما تقدم إلى أن الميزانية السنوية للدولة هي خريطة طريق اقتصادية توضح مسار الاقتصاد وليس القطاع المالي فقط لمدة 12 شهرا. ومن ثم فإن هذه الخريطة يجب أن تكون جزءا من رؤية شاملة وإستراتيجية محددة تستهدف تحقيق أهداف مرحلية في الأجلين المتوسط والطويل. ومن شأن ذلك أن يتيح للاقتصاد النمو من نقطة إلى النقطة التالية وألا يتخبط أو يتأرجح. وهي إلى جانب كونها خطة للتدفقات المالية فإنها أيضا خطة لنمو الاقتصاد العيني والإنتاج خلال مدة الميزانية. ومن الضروري عند إعداد الميزانية وضع توقعات عملية أقرب إلى الدقيقة بالنسبة للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة في الميزانية، مثل الاتجاهات العالمية المتوقعة لأسعار النفط أو الخامات الصناعية بالنسبة للدول المستوردة أو المصدرة لهذه المواد. يضاف إلى هذه الاعتبارات أيضا ضرورة وضع تحوطات ضد تطورات مفاجئة أو غير متوقعة خصوصا في حالات الصراع أو الأزمات أو عدم الاستقرار السياسي الداخلي أو الإقليمي.
ويلعب السياسيون والتكنوقراط دورا مهما في وضع الميزانية طبقا للأولويات السياسية التي تضعها الحكومة. ويكون القرار النهائي بالنسبة للميزانية (إقراراها أو تعديلها أو تغييرها) في أيدى السلطة التشريعية، وحيث تغيب يكون رئيس الجمهورية هو الشخص الوحيد القادر على اتخاذ إجراءات من هذا النوع. وفي العالمين الأخيرين أعاد الرئيس عبد الفتاح السيسي مشروع الميزانية للحكومة أكثر من مرة بغرض تعديلها لتحقيق معدلات عجز مالي أقل. وقد تم تعديل مؤشرات العجز المتوقع في ميزانية العام الماضي كما تم أيضا تعديل ميزانية السنة المالية الحالية لتحقيق الغرض نفسه. وسوف نناقش كيف قامت الحكومة بإجراء هذه التعديلات في مقال لاحق.
وبعد إجراء التعديلات المطلوبة، وفي نهاية السنة المالية قد تسجل الميزانية معظم أهدافها وتوقعاتها الواردة في البيان المالي. وفي هذه الحال تكون الميزانية "ناجحة". ولكن الميزانية قد تفشل في تحقيق أهدافها، فتصبح بذلك "ميزانية فاشلة" يجب محاسبة واضعيها ومساءلتهم على الفشل الذي تسببوا فيه.
ومن الواضح إن الأجهزة التي تقوم بوضع الميزانية في مصر تتوارث ثقافة قديمة بالية في صياغة الميزانية، سواء فيما يتعلق بتحديد الأهداف المبتغاة أو فيما يتعلق بطرق الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف. ومما يساعد استمرار هذه الثقافة غياب الوضوح في استراتيجيات وسياسات التنمية في مصر. ولذلك فإن اعتبارات "الجباية" ومحاباة الأقلية على حساب الأكثرية وتقديم مصلحة صندوق النقد الدولي والدائنين على غيرها، ترك جميعا أثارا سلبية شديدة الوطأة على الإقتصاد. ويدفع الإقتصاد المصري ثمن عفونة البيروقراطية وفساد السياسة وتخبط السياسيين، مما يؤدي عمليا إلى تدهور نوعية الحياة بالنسبة للغالبية العظمى من المواطنين وزيادة العائد النهائي الذي يحصل المالكون لرأس المال بصورة قانونية على حساب العاملين غير المالكين الذين تتدهور حياتهم باستمرار. إن الإعلان عن تحقيق زيادة في معدل النمو بنسبة 5.6% خلال النصف الأول من السنة المالية المنتهية في 30 يونيو 2015 يفضح حقيقة التفاوت الحاد بين عائدات النمو التي تحصل عليها فئات الأثرياء على حساب الفقراء. لقد عدنا من جديد إلى الحال التي يبدو فيه الاقتصاد وكأنه ينمو في حين هو يترنح بالنسبة للأغلبية العظمى من المواطنين.
هذه بعض الملامح والاعتبارات الجوهرية التي تحكم عملية إعداد ميزانية الحكومة والهيئات العامة وأجهزة الحكم المحلي في مصر. ولم يحدث في أي مناسبة من المناسبات خلال السنوات التالية لثورتي 25 يناير و30 يونيو أن تغيرت هذه الاعتبارات تغيرا جوهريا. صحيح إن هناك بعض الإصلاحات التي تمت على صعيد امتصاص الغضب الشعبي والإحتجاجات الفئوية منذ ثورة 25 يناير 2011 حتى الآن لكن هذه الإصلاحات تمت بمنطق "امتصاص الغضب" وليس بمنطق "حفز التنمية". وقد أدت هذه الإصلاحات التي شملت زيادات في المرتبات والاعتمادات المالية الفئوية خصوصا للمعلمين والأطباء وتوفير درجات وظيفية لحملة الماجستير والدكتوراه العاطلين عن العمل إلى زيادة في الإنفاق بدون حدوث زيادة مماثلة في الإنتاجية. ولولا وجود موارد إضافية استثنائية مثل المنح من الدول العربية الخليجية والقروض الميسرة، لما كانت الميزانية قادرة على توفير الموارد الضرورية للوفاء بهذه الزيادات. ولا تزال العلاقة بين الحكومة والعاملين في أجهزتها تقوم على أساس أن الحكومة تهزأ من العاملين لديها بإعطائهم مرتبات لا تتلاءم مع تكاليف المعيشة، ويعاملها العاملون بالمثل بأن يهزأون منها بإعطائها القدر من العمل والمجهود الذي يعتقد العاملون أنه المكافئ العادل لما يحصلون عليه من مرتبات!
ونخلص مما تقدم إلى أن الميزانية السنوية للدولة هي خريطة طريق اقتصادية توضح مسار الاقتصاد وليس القطاع المالي فقط لمدة 12 شهرا. ومن ثم فإن هذه الخريطة يجب أن تكون جزءا من رؤية شاملة وإستراتيجية محددة تستهدف تحقيق أهداف مرحلية في الأجلين المتوسط والطويل. ومن شأن ذلك أن يتيح للاقتصاد النمو من نقطة إلى النقطة التالية وألا يتخبط أو يتأرجح. وهي إلى جانب كونها خطة للتدفقات المالية فإنها أيضا خطة لنمو الاقتصاد العيني والإنتاج خلال مدة الميزانية. ومن الضروري عند إعداد الميزانية وضع توقعات عملية أقرب إلى الدقيقة بالنسبة للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة في الميزانية، مثل الاتجاهات العالمية المتوقعة لأسعار النفط أو الخامات الصناعية بالنسبة للدول المستوردة أو المصدرة لهذه المواد. يضاف إلى هذه الاعتبارات أيضا ضرورة وضع تحوطات ضد تطورات مفاجئة أو غير متوقعة خصوصا في حالات الصراع أو الأزمات أو عدم الاستقرار السياسي الداخلي أو الإقليمي.
ويلعب السياسيون والتكنوقراط دورا مهما في وضع الميزانية طبقا للأولويات السياسية التي تضعها الحكومة. ويكون القرار النهائي بالنسبة للميزانية (إقراراها أو تعديلها أو تغييرها) في أيدى السلطة التشريعية، وحيث تغيب يكون رئيس الجمهورية هو الشخص الوحيد القادر على اتخاذ إجراءات من هذا النوع. وفي العالمين الأخيرين أعاد الرئيس عبد الفتاح السيسي مشروع الميزانية للحكومة أكثر من مرة بغرض تعديلها لتحقيق معدلات عجز مالي أقل. وقد تم تعديل مؤشرات العجز المتوقع في ميزانية العام الماضي كما تم أيضا تعديل ميزانية السنة المالية الحالية لتحقيق الغرض نفسه. وسوف نناقش كيف قامت الحكومة بإجراء هذه التعديلات في مقال لاحق.
وبعد إجراء التعديلات المطلوبة، وفي نهاية السنة المالية قد تسجل الميزانية معظم أهدافها وتوقعاتها الواردة في البيان المالي. وفي هذه الحال تكون الميزانية "ناجحة". ولكن الميزانية قد تفشل في تحقيق أهدافها، فتصبح بذلك "ميزانية فاشلة" يجب محاسبة واضعيها ومساءلتهم على الفشل الذي تسببوا فيه.
ومن الواضح إن الأجهزة التي تقوم بوضع الميزانية في مصر تتوارث ثقافة قديمة بالية في صياغة الميزانية، سواء فيما يتعلق بتحديد الأهداف المبتغاة أو فيما يتعلق بطرق الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف. ومما يساعد استمرار هذه الثقافة غياب الوضوح في استراتيجيات وسياسات التنمية في مصر. ولذلك فإن اعتبارات "الجباية" ومحاباة الأقلية على حساب الأكثرية وتقديم مصلحة صندوق النقد الدولي والدائنين على غيرها، ترك جميعا أثارا سلبية شديدة الوطأة على الإقتصاد. ويدفع الإقتصاد المصري ثمن عفونة البيروقراطية وفساد السياسة وتخبط السياسيين، مما يؤدي عمليا إلى تدهور نوعية الحياة بالنسبة للغالبية العظمى من المواطنين وزيادة العائد النهائي الذي يحصل المالكون لرأس المال بصورة قانونية على حساب العاملين غير المالكين الذين تتدهور حياتهم باستمرار. إن الإعلان عن تحقيق زيادة في معدل النمو بنسبة 5.6% خلال النصف الأول من السنة المالية المنتهية في 30 يونيو 2015 يفضح حقيقة التفاوت الحاد بين عائدات النمو التي تحصل عليها فئات الأثرياء على حساب الفقراء. لقد عدنا من جديد إلى الحال التي يبدو فيه الاقتصاد وكأنه ينمو في حين هو يترنح بالنسبة للأغلبية العظمى من المواطنين.