رؤية مستقبلية: الحوار الوطني الليبي وآفاق التسوية
نتيجة لتردّي الأوضاع الأمنية والإنسانية في ليبيا، استؤنفت من جديد جلسات الحوار الوطني الليبي في جولتها الخامسة، من أجل التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة الليبية، وقد عٌقدت أحد الجلسات في العاصمة الألمانية برلين في 10 يونيو 2015، بمشاركة الأعضاء الدائمين في الأمم المتحدة وعدد من ممثلي الدول الغربية، ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، برناردينو ليون.
وتأتي هذه المفاوضات في إطار السعي الدائم من جميع الأطراف سواء الداخلية أو الإقليمية والدولية لإعادة الاستقرار مرة أخرى للأراضي الليبية، ووقف معاناة المواطن الليبي، خاصة أن الأوضاع على اختلاف مستوياتها أضحت متردية للغاية هناك، نتيجة للانتشار الكثيف للجماعات والميلشيات المسلحة، وانعدام الأمن وظهور الجماعات الإرهابية، وحضورها في المشهد الليبي وعلى رأسها تنظيم داعش الإرهابي الذي أضحى يسيطر على جزء من الأراضي الليبية.
أولاً: أهداف الحوار
هناك عدد من القضايا الأساسية والخلافية بين أطراف الحوار الوطني الليبي، وقد أدى الخلاف حولها إلى ازدياد الأوضاع الأمنية سوءًا في ليبيا، لذلك يسعى أطراف الحوار إلى التوصل لاتفاق حول الأمور التالية:
1. المصالحة الوطنية: وهي القضية الأساسية التي تشغل أطراف الحوار، حيث أدت تعقيدات الوضع الأمني والسياسي في ليبيا، إلى امتداد خريطة النزاعات المسلحة بين كل القبائل والقوى السياسية الليبية، فعلى الرغم من صدور القانون رقم 17 لسنة 2012 بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، والذي نص في المادة الثالثة منه على ترسيخ السلم الاجتماعي وتحقيق المصالحة الاجتماعية، كما نص على تشكيل هيئة لتقصّي الحقائق والمصالحة في المادة الرابعة. إلا أن ملف المصالحة الوطنية في ليبيا ما زال غير مفعل، وهو ما دعى مجلس الأمن الدولي إلى إصدار توصية حث فيها الأطراف الليبية على ضرورة تحقيق المصالحة الوطنية وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وبالتالي يشكل ملف المصالحة أحد الملفات الحقيقية المطروحة على طاولة التفاوض، نظراً لأن هناك العديد من الأصوات الليبية التي تدعو إلى ضرورة القصاص العادل ضد كل من ارتكب أي جرم في حق الشعب الليبي، وفي هذا الإطار يمكن القول إن مقتضيات المصالحة الحقيقية تستلزم الالتزام بحكم القانون وإجراء محاكمات عادلة، مع ضرورة التأكيد على أهمية احترام حقوق الإنسان، خاصة في ظل الاقتتال الدائر هناك بين أبناء الشعب الواحد.
2. تشكيل حكومة وحدة وطنية: فمن المعروف أن هناك حكومتين في ليبيا الآن، الأولى في طرابلس وتخضع لسيطرة ائتلاف فجر ليبيا الذي يضم عددًا من المجموعات المسلحة، والثانية في طبرق بشرق البلاد وهي معترف بها دوليًا. وتهدف المفاوضات التي تجري الآن برعاية الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات المغربية، تشكيل حكومة وحدة وطنية والتوقيع على اتفاق دائم لوقف إطلاق النار وإعادة العملية الديمقراطية إلى مسارها الصحيح. وسوف تطرح الأمم المتحدة أمام الأطراف المتنازعة في اجتماعات المغرب، مسودة اتفاق لتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتدعو المسودة الجديدة إلى تشكيل حكومة وفاق وطني لمدة عام، يضطلع فيه مجلس وزراء، يرأسه رئيس للوزراء وله نائبان، بالسلطة التنفيذية ويكون مقره طرابلس. وينص الاتفاق على أن مجلس النواب- البرلمان المنتخب في عام 2014 ومقره الآن في شرق البلاد- هو الهيئة التشريعية الوحيدة. كما يدعو الاتفاق أيضًا إلى مجلس للدولة ذي صفة استشارية يتألف من 120 عضواً من أعضاء برلمان طرابلس. وتدعم كل الأطراف الإقليمية والدولية خيار التوصل لحكومة وحدة وطنية في ليبيا من أجل تحقيق الاستقرار، حيث سبق وأن حث وزراء خارجية دول اتحاد المغرب العربي في بيان صدر في 7 مايو 2015 في ختام الدورة الـ33 لمجلس وزراء خارجية دول اتحاد المغرب العربي، جميع الأطراف السياسية الليبية إلى "الالتزام بالحوار الشامل والتوافقي من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية" في سبيل أمن ليبيا ودول الجوار.
3. وقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية وجمع السلاح: وهو مطلب أساسي وبند مهم في المفاوضات الجارية، حيث إن اختلال البيئة الأمنية في الأراضي الليبية أدى إلى انتشار مكثف للجماعات والميلشيات المسلحة بشكل غير مسبق، مما هدد معه ليس فقط مؤسسات الدولة وحياة المواطن الليبي، بل دول الجوار أجمع من خلال عمليات تجارة السلاح. وهناك عدد من الموضوعات المرتبطة بهذا الملف مثل هيكلة قطاع الأمن، وإدارة الأسلحة والذخيرة، ونزع السلاح وأمن الحدود، وإعادة إدماج عناصر الميلشيات المختلفة في المؤسسات الأمنية الليبية، ولا شك أن التوصل إلى اتفاق بشأن هذه الأمور والقضايا سيحفز وبقوة دفع عملية الحوار الوطني وحل الخلافات العالقة بين الأطراف الليبية المختلفة.
4. التقدم بطلب لمجلس الأمن لرفع حظر السلاح على الجيش الليبي: حيث هناك حظر مفروض على تسليح الجيش الليبي بموجب قرار مجلس الأمن 1973، وكانت هناك جهود مكثفة من جانب الدبلوماسية لرفع ذلك الحظر، ولكن حتى الآن ما زال مجلس الأمن الدولي يرفض رفع الحظر عن تسليح الجيش الليبي، وهذا اتضح من خلال رفض التسليح المنصوص عليه في مشروع القرار العربي الذي قدم لمجلس الأمن في مارس الماضي، ما يشكل معه العديد من علامات الاستفهام حول الجدوى من عدم تسليح الجيش الليبي رغم الاعتراف الدولي بالحكومة الشرعية في ليبيا، مما يقتضي تحركًا دبلوماسيًا نشطًا ليس من جانب الدول العربية فقط بل من جانب الدول الأفريقية أيضًا، لأن الإرهاب في ليبيا أصبح ذا تأثير قوي على كل هذه الدول، في ظل النشاط غير المسبوق للجماعات الإرهابية في المنطقة. كما أن رفع الحظر المفروض على تسليح الجيش الليبي سيسهم وبقوة في دفع عملية التسوية السياسية في البلاد، خاصة في ظل تعضيد هذه الخطوة للمؤسسة العسكرية، مما يمكنها من فرض الأمن والاستقرار في الأراضي الليبية.
ثانيًا: معوقات
لا يخفى على أحد أن هناك عدد من المعوقات التي تحول دون تحقيق أهداف الحوار الوطني الليبي المشار إليها عاليًا، والتي تتلخص في تعنت الأطراف المتنازعة المشاركة في الحوار، فضلاً عن انتشار الجماعات المسلحة؛
1. حكم المحكمة العليا: فهناك تعنت واضح بين أطراف الأزمة، حيث ينظر مجلس النواب في طبرق إلى نفسه على أنه الممثل الشرعي للشعب الليبي، وأن سيطرة المؤتمر الوطني على طرابلس ما هي إلا سياسة فرض الأمر الواقع بقوة السلاح، خصوصًا وأن المؤتمر الوطني مدعوم من ميلشيات فجر ليبيا، بينما يشير المؤتمر الوطني إلى حكم المحكمة العليا، والتي قضت ببطلان القانون الذي أجريت على أساسه انتخابات مجلس النواب، ويتمسكون بهذا الحكم في إطار المفاوضات الجارية في الصخيرات، وقد صدر هذا الحكم من الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في 6 يونيو 2014، وأثار العديد من ردود الأفعال الدولية والإقليمية والداخلية، حيث رفض مجلس النواب هذا الحكم على أساس أنه تم تحت تهديد السلاح، في نفس الوقت الذي تتمسك به القوى السياسية المناوئة في طرابلس مما يشكل عائقًا قويًا أمام طاولة المفاوضات.
2. انتشار الميلشيات المسلحة وتمددها في الأراضي الليبية وفي مقدمتها تنظيم داعش الإرهابي: حيث إن هذه الجماعات لا تعترف بالمسار الديمقراطي ولا بالحوار لحل الأزمة السياسية، حيث تسعى للسيطرة من خلال قوة السلاح، وهذا ما أبانت عنه الأيام المنصرمة، حيث توسع تنظيم داعش شرقًا وغربًا، حيث أعلن عن قيام ولاية برقة بشرق البلاد، ومركزها في مدينة درنه، وولاية طرابلس في الغرب، ومركزها مدينة سرت، هذا بالإضافة إلى كون الجماعات المسلحة عائقًا كبيرًا أمام سيطرة الجيش الليبي على البلاد، وهذا يشكل بدوره معضلة حقيقية أمام الأطراف المتفاوضة، خاصة في ظل الخلاف في وجهات النظر بين ميلشيات فجر ليبيا الداعمة لبرلمان طرابلس، وقوات معركة الكرامة الليبية التي تدعم برلمان طبرق، حول الترتيبات الأمنية ونزع السلاح.
ثالثاً: رؤية مستقبلية
في إطار هذا العرض السابق للأزمة الليبية وأهداف ومعوقات الجملة الخامسة من الحوار الوطني في الأراضي المغربية وبرعاية ودعم الأمم المتحدة يمكن طرح مسارين لمخرجات الحوار الوطني على النحو التالي:
1. المسار الأول: نجاح الجولة الخامسة من المفاوضات الجارية في الأراضي المغربية؛ وهناك عدد من المؤشرات التي يمكن القياس عليها في هذا الصدد مثل؛ تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع كل الأطراف الليبية، مع تحقيق تقدم ملموس في ملف المصالحة الوطنية، والاتفاق على الترتيبات الأمنية وقضايا نزع السلاح وضبط الحدود، ولكن هذا المسار يقتضي من كل الأطراف قدرًا كبيرًا من المرونة وتحمل المسئولية تجاه المواطن الليبي وتنحية الخلافات الشخصية والسياسية جانبًا.
2. المسار الثاني: فشل هذه الجولة؛ نتيجة لتمسك كل طرف بمطالبة وعدم القدرة على التوصل لحلول وسط، وحل القضايا العالقة، ويمكن القول إن هذا السيناريو سيكون الأعلى تكلفة، لأنه سيعطي الفرصة للميلشيات المسلحة في توسيع نفوذها ونشاطها في الأراضي الليبية، وبالتالي ازدياد الأوضاع الأمنية سوءًا على سوء.