رد مشروع:الطبقة الوسطى بين التفسير السيكولوجي والسوسيولوجى
جميل أن يستأنف القانوني الشهير، الدكتور شوقي السيد، مقالاته بجريدة الأهرام، بموضوع حول إحياء الطبقة الوسطى، (نشر في 9 إبريل 2014)، ومع أن مهارات التحليل التي يتمتع بها الكاتب في تخصصه معروفة ومقدرة، غير أن معالجة موضوع الطبقة الوسطى، تحتاج إلى التحليل السوسيولوجي أكثر من أي تخصص آخر، ولأهمية المقال فإنه يثير العديد من الملاحظات والأفكار النقدية التي نوردها في النقاط التالية:
استخدم الكاتب بيانات مستهلة من نتائج مسوح حديثة يقوم بها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بشكل دوري، غير أنه، اكتفى ببيانات لا تحقق الغرض التحليلي. فقد ذكر سيادته أن (6,1% ) فقط يزيد إنفاقهم العام على 12 ألف جنيه سنويا، وأن (93،1%) يقل إنفاقهم عن ألف جنيه شهريًا. ثم انتقل إلى متوسط الاستهلاك الفعلي للأسرة الذي بلغ 30 ألف جنيه سنويًا في الحضر، 22,6 ألف جنيه في الريف، ثم يستنتج الكاتب من هذه العلاقة الكمية، أن المستوى المتدني لدخول للغالبية، لا تكفي الحد الأدنى للاستهلاك. يلاحظ هنا أن البيانات المستخدمة من نوع واحد (الإنفاق، والاستهلاك) الفارق أن إجمالي الاستهلاك الفعلي، يتضمن إجمالي الإنفاق الفعلي+ إجمالي التحويلات العينية، وكان يتعين على الكاتب أن يوظف بيانات الدخل، كطرف مقابل للإنفاق والاستهلاك حتى يستطيع الخروج بنتيجة.
فعلى سبيل المثال (نجد أن فئات الدخل السنوي للمصريين عام 2012/2013) والتي أظهرتها نتائج مسح الجهاز المذكور، والذي تم إجراؤه على عينة حجمها 24863 أسرة معيشية، موزعة بنسبة 45.4% للحضر ، 54.6% للريف، نجد أن 42% من المصريين يتراوح دخلهم بين 25000-30000 جنيه سنويًا، وأن 10% من المصريين يزيد دخلهم على 30000جنيه سنويا) بينما بلغ متوسط الإنفاق كما ذكره الكاتب في المقال، هنا يمكن استنتاج أن 42% قادرون على الدخول ضمن شريحة متوسط الاستهلاك السنوي في المجتمع المصري، وأن 10% يتجاوزن هذا المتوسط، الأمر الذي لا يتفق مع النتيجة التي توصل إليها الكاتب، بأن المستوى المتدني لدخول الغالبية لا يكفي الحد الأدنى للاستهلاك.
وبصفة عامة، وبعيدًا
عن المقال، فإن هناك مشكلة حقيقية في الحصول على البيانات الخاصة بمسوح الدخل والإنفاق،
التي تعد الحجة الكمية التي يتم بمقتضاها التعرف على تركيب الطبقة الوسطى، بدلالة المتغير
الاقتصادي، بسبب أن الأجهزة الإحصائية الوطنية، تنحو نحو تقديم هذه البيانات بصورة
غير دقيقة، أو على الأقل توسع من نطاق القياس ليضم شرائح عريضة من السكان، تفاديا للمشكلات
(السياسية والاجتماعية) التي تترتب على تشريح هذه البيانات وتفصيلها.
ونضيف توضيحًا للقارئ
بأن تكوين صورة متكاملة عن وضع الطبقة الوسطى، ضمن التركيب الطبقي لأي مجتمع، لا يمكن
أن يقتصر فقط على العامل الاقتصادي، الذي تبناه كل من التيار الماركسي، والتيار
الفيبري (نسبة الى ماكس فيبر)، وإنما تتشكل هذه الصورة عبر دراسة العامل التكنولوجي،
الذي أدى إلى نشأة الطبقة الوسطى الجديدة، ويرجع الفضل في إضافة هذا العامل إلى إميل
دور كايم وتلامذته من بعده، وخاصة ديفيد جروسكي. كما يلعب العامل الثقافي دورًا
مهمًا في تصنيف الطبقة الوسطى، ويكشف لنا مشروع عالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو،
عن طريقه، العديد من الجوانب الغامضة في بنية الطبقة الوسطى، وكيف تظهر التمايزات الطبقية،
في سلوك الحياة اليومية، وماهية القيود البنائية – خاصة في مجال التعليم - المفروضة
على صور الحراك الطبقي. وتكتمل الصورة بدراسة العامل الاجتماعي-السياسي، وخاصة
ما يتعلق بالصراعات الاجتماعية غير الطبقية في المجتمع، وكذلك الموقف من الديمقراطية.
يذهب الكاتب أيضا،
إلى أن "روح الثورة كانت تعبيراً عن مطالب وحاجات تلك الطبقة المتوسطة التي
سقطت واختفت.. إذ طالبت بالعيش والحرية والكرامة والإنسانية والعدالة الاجتماعية".
وهذا رأي فيه بعض التعسف، حيث يفترض سقوط واختفاء الطبقة الوسطى، فضلا عن أنه يختزل
الثورة في تحقيق مصالح هذه الطبقة بالذات، على الرغم من أن كثير من المختصين في العلوم
الاجتماعية، وجدوا أن الثورة المصرية عابرة للطبقات.
كما يتفق غالبية الباحثين
على أن النخبة الحاكمة قبل الثورة، لم تسمح مطلقًا بمأسسة الصراع الطبقي، فلا حرية
لممارسة العمل السياسي، في مناخ يتقمص الديمقراطية ولا يؤمن بها، ولا حرية لممارسة
العمل النقابي الذي يكفل تحقيق المصالح الطبقية،فلم تلعب النقابات، دورًا ذا بال في
مأسسة الصراع الطبقي، وعجزت عن تحقيق المصالح الطبقية، خاصة الاقتصادية والسياسية،
بسبب خضوعها القسري، لثلاث قوى سياسية واجتماعية: من جهة نخبة الحكم، ترغيبًا
وترهيبًا، أو منجهة قوى المعارضة - خاصة
قوى الاسلام السياسي- التي استحلت التشكيلات الطبقية كميدان بديل للممارسة السياسية،
وأخيرا من جهة قيادات نقابية فاسدة، استمرأت لنفسها المكاسب الشخصية على حساب
المصلحة العامة للنقابات، ما أدى في النهاية إلى تحول الكفاح الطبقي المؤسسي، إلى كفاح
مشتت وفئوي، يفتقد الإستراتيجية، ويفتقد القيادة المخلصة.
وعليه، فإن الحديث
عن ثورة تعبر عن تناقض وصراع بين طبقتين فقط، في الحالة المصرية، هو حديث ذاتي وليس
موضوعي، فالذي شهدته مصر خلال العقود الثلاثة السابقة على الثورة هو؛ عملية إذعان طبقي،
فيه النخبة الحاكمة، ومن يحالفها ويسوّغ لها، تستغل كل طبقات المجتمع الأخرى استغلالاً
عميقا. وقد خلقت حالة الإذعان هذه، ظواهر الكراهية والعنف التي تنتشر في العلاقات الاجتماعية
المصرية، كما أدت إلى تدهور قيمي وأخلاقي، وفساد بكافة أنواعه.
ثم شهدت مصر في عام
2011، تحطيما لقيود الإذعان، عبر أفعال ثورية – متشابهة الإيقاع مع مثيلتها في تونس-
ضد الطبقة المركزية المتحالفة مع قطاع محدود من الطبقة الوسطى العليا أو المتنفذة،
دون أن يقود هذه الفاعليات الثورية طبقة معينة، وصدرت مفعمة بحيوية شبابية ضخمة من
الطبقة الوسطى الفقيرة، والطبقة العاملة، والعاطلين، والكادحين، ثم انحازت الطبقة الوسطى
المستقرة لها، بعد بلوغ المد الثوري كتلته الحرجة.
وإذا عدنا للمقال، فسنجد أن
الكاتب، بناء على افتراضه بسقوط واختفاء الطبقة الوسطى، يتجه نحو تقرير كيفية اندلاع
الثورة، باستخدام لغة غير واضحة الدلالة، بقوله:" إن قلق الطبقة الوسطى يرتبط بمشاركتهم أو عدم مشاركتهم في أمورهم الحياتية...
ويؤثر ذلك سلبًا على كفاءة العمل والأداء والإنجاز ويؤدي إلى زيادة حدة الفساد وتزايد
المعارضة السياسية والتمرد والانتقام للتناقض بين الأقوال والأفعال، مما ينجم عنه الكثير
من المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية...
هذا هو ما جرى بالضبط، وأدى إلى اندلاع الثورة بعد أن تأخر اصلاح هذه الطبقة لسنوات
طويلة".
ويتضح للقارئ، أن العبارة،
تجمع بين البعد السيكولوجي والبعد البنائي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في نسق تحليلي
واحد، ولا ضير في ذلك، مع أن كلمة (قلق)غير دالة على واقع الأمر، لأنها لا
تتناسب مع مفاهيم الاستغلال والصراع الطبقي، إلا أن مشكلة العبارة السابقة تكمن في
العلاقة الارتباطية (قلق الطبقة.. يرتبط بمشاركتهم أو عدم مشاركتهم في أمورهم الحياتية)
فالارتباط هنا غير واضح ويتسم بالعمومية، ومن ثم فإن الاستنباط الناتج سيكون فيه بعض
المبالغة "إن تأخر إصلاح الطبقة المتوسطة سبب اندلاع الثورة"، ولا
ندري على وجه الدقة ماذا يعني الدكتور شوقي، بعبارة (إصلاح الطبقة).
وينهي الكاتب المقال بأن "إحياء الطبقة المتوسطة في البلاد يجب أن يكون على قمة المسئوليات
القومية وعلى أولويات البرامج والمسئوليات الرئاسية لإعادتها إلى الحياة ورد اعتبارها
والاعتذار لها عما سبق. لأن الطبقة المتوسطة مرشحة لأن تصنع التاريخ بحكم أنها تضم
العلماء والكتاب والأدباء والمثقفين والموظفين والخبراء. ولسوف يظل إحياء الطبقة المتوسطة
مسئولية كبرى أمام التاريخ" وهي خاتمة صادقة المشاعر، مع أن حل الأزمة
المجتمعية في مصر لا يرتبط فقط برد الاعتبار والاعتذار للطبقة المتوسطة، وإنما يرتبط
بالقضاء على الفساد والتوزيع العادل للثروة والتحول الديمقراطي الحقيقي الذي يتأسس
على النزاهة والشفافية والمحاسبة، وجزء من الحل أيضًا، هو تحجيم دور مثقفي السلطة وموظفيها
وخبرائها، الذين يلعبون دورًا مهمًا في تسويغ عمليات الاستغلال التي تمارسها النخب
الحاكمة ضد بقية طبقات المجتمع كافة ومنها الطبقة الوسطى.
على أية حال، الموضوع مهم،
والكتابة في مجال الطبقة، أمر حيوي وضروري في هذه المرحلة، ولا تنتقص هذه الملاحظات
النقدية من قدر كاتب المقال، بقدر ما ترنو إلى توسيع دائرة النقاش.