المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

قراءة جديدة: في بنية الحركة الإسلامية المصرية (3)

الأربعاء 01/أبريل/2015 - 10:58 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
دكتور كمال حبيب
عرفنا الصعود الإسلامي في مصر في مطلع السبعينيات باعتباره حركة نهوض وإحياء للأمة تأخذ بيدها إلى مراقي الفلاح والخير، وتفتح لها أبوابا من الرحمة والإصلاح والتجديد في الفكر والروح والعمل والممارسة. واستبشر المحبون لهذا الدين بشباب جديد يريد العودة لدينه، ويرى أن سبيل نهوض أمته يكون بالعودة الحميدة لهذا الإسلام العظيم، كانت الفطرة تقود هذا الشباب وتدفعه بريئا إضافي الجامعات وفي المساجد وفي الأحياء، لم يكن لديه ميل لعنف أو اتجاه لتكفير، كانت عودته شائعة بين كل فئات الأمة جميعها.

أولا- الإسلام المشارك والعودة للبدايات
 دخول الجماعات القديمة المنظمة علي صحوة هذا الشباب أفسدت هذا الإحياء، ومزقت ما كان موحدا، وحولت ما كان للأمة ليكون قصرا على جماعة، وتحول فهم الدين الرحب الواسع الذي لا تحد شطآنه جسور عند بعض هؤلاء الشباب الجميل إلى فهم الجماعة المحدود، بحيث صارت مفهوم الجماعات والتنظيمات حائلا دون الفهم الصافي والحقيقي للإسلام، صارت التنظيمات  والجماعات بمشكلاتها وخصوماتها وانشقاقاتها وصراعاتها الداخلية جسرا يحول بين هذا الشباب وبين انسجامهم للعمل لأمتهم جميعها دون جماعة معينة محددة، لقد أفسدت تلك التنظيمات خط الإحياء  والصحوة الذي كان فطريا بريئا شائعا بين عموم الأمة كلها، لتحتكرها لتنظيماتها وتحول خط الوحدة والاجتماع والتفرق إلى جدل حول ما هي جماعة المسلمين الصحيحة النقية الصافية؟ وشروطها؟ ومن يمثلون هذه الجماعة؟ والبيعة وشروطها، ونصّب كثيرون من أنصاف المشايخ أنفسهم أمراء يطلبون البيعة في صيغة أشبه بالفلكلور، وأقام بعضهم مجتمعات هجرة معزولة عن الناس في الصحراء والجبال، ثم بلغ الشطط مبلغه بظهور جماعات تكفر الأمة كلها وتقول "من لم يكفّر الكافر فهو كافر"، وذاعت أفكار لم يكن يعرفها المجتمع المصري من قبل مثل العزلة الشعورية، وهي أن تعيش بين الناس جسدا بلا مشاعر موالية لهم، وهؤلاء الناس هم المسلمون وهم  البحر الواسع الذي جاء بكل هذه الصحوة الإسلامية، فهؤلاء الشباب جميعا من أين جاءوا؟ هل جاءوا من المريخ؟ هم نبت هذا الشعب المسلم، بيد إن انحرافات التنظيمات وخصوماتها وأعباء جدالها في السجون وصراعاتها مع السلطة هي التي فتحت الباب على مصراعيه لشيوع مثل هذه الأفكار الغريبة.
أفسدت تلك التنظيمات خط الإحياء والصحوة الذي كان فطريا بريئا شائعا بين عموم الأمة كلها لتحتكرها لتنظيماتها وتحول خط الوحدة والاجتماع والتفرق إلى جدل
الإحياء والتجديد يكون للأمة جميعها وليس لفرقة أو طائفة أو جماعة، تكون الأمة كلها جزءا من هذا التجديد أو الإحياء لا يكون مقصورا على جماعة بعينها، ثم نجد في أدبياتها من يقول تلك جماعة المسلمين التي حققت الشروط الواجب بيعتها، ومن لم يبايعها فسوف يموت ميتة جاهلية.
سيقول قائل وكيف لهؤلاء الشباب الذي يرى الإسلام طريقا لنهضة أمته أن يكون جزءا من الأمة وفي نفس الوقت يعبر عن أفكاره وعن أطروحاته، وأن يختبرها ويطورها، يكون ذلك عبر صيغة ما نطلق عليه "الإسلام المشارك"، ومعناه أن تكون جزءا من النظام العام للأمة فلا تطرح صيغة المفاصلة ولا التكفير ولا التغيير الشامل لقواعد اللعبة السياسية بل أن تكون أنت جزءًا من قواعدها في سياق تنافسي وليس في سياق استحواذي، أن تعترف بالدستور والقوانين والبرلمان وصناديق الانتخابات وأن تقبل بالتداول السلمي للسلطة، وأن تعتبر الأرضية التي تختلف فيها مع النظام السياسي على أرضية الحفاظ علي الدولة وليس هدمها واعتبارها دولة كافرة جاهلية، وأن تخوض غمار المشاركة في النقابات ومؤسسات المجتمعات المدني، وأن تقدم نفسك في الدعوة باعتبارك عنوانا للرحمة المهداة التي جاء بها الإسلام.
سيقول مشاغبون؛ إن الصناديق لا تُحتَرم، وأن التداول السلمي يتم كسر قواعده، نقول ولو! فإنه لا يصح إلا الصحيح وهذه سبيل الإسلام الدعوة إلى اللـه على بصيرة، التنظيمات السرية بعيدا عن الناس، وسيطرة مجموعة صغيرة على قرار الحالة الإسلامية وتوجيهها جميعا إلى حيث تريد تلك المجموعة هو تبديد لطاقة هذه الحركة وقوتها ودفع شبابها إلى مواجهات غير محسوبة جرى تجريبها من قبل بنفس الطريقة وكأن التاريخ يعيد نفسه! وكأن النهر يجري ارتياده بنفس الطريقة مرتين.
العودة إلى حيث كانت بداية الحالة الإسلامية في مصر هي سبيل الخلاص، حيث كانت الحالة الإسلامية جزءا من حالة المسلمين العامة، وحيث تعمل هذه الحالة لكل الناس بعيدا عن الأفكار الغريبة على المجتمع والتي لا يفهمها الناس، البشر المسلمون واستصحاب أصل الإسلام لهم والوجود داخل بحورهم وفهم لغتهم والعمل معهم هي السبيل لاستواء حالة الإسلاميين على سوقها بعيدا عن ازدواجية الولاء للتنظيمات أو للمجتمعات والدول التي تعيش فيها تلك الحركات الإسلامية.
كما لن تعود الدول والمجتمعات كما كانت قبل ثورات الربيع العربي، فلن تعود الحالة الإسلامية كما كانت أيضا، عليها أن تعيد النظر مليا إلى حركتها وأن تعود إلى بدايتها فطرية بريئة بعيدة عن التعصبات والتنظيمات وازدواج الولاءات لتكون جزءا من مجتمعها ودولتها بعيدا عن المواجهة والاحتراب والتعصب.

ثانيا- مفهوم التجديد والإحياء
الإحياء والتجديد هو أحد سمات الحالة الدينية وفي الحديث "إن اللـه يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة  أمر دينها"، وقد كان المجتهدون الكبار المجددون  مثل عمر بن الخطاب رضي اللـه عنه، ومثل أبو بكر الصديق رضي اللـه عنه مجددين في الإدارة والسياسة وفي إقامة الدين والشريعة معا، وغيرهم من المجتهدين من أمثال بن عباس وابن عمر وابن مسعود، وقد كانوا مجددين في فهم الشريعة وتوضيح مقاصد الشارع منها، وغيرهم من الصحابة الذين تخصصوا في علوم الشريعة وفي علوم الإدارة والسياسة والحروب، كما هي الحال بالنسبة لخالد بن الوليد وعمرو بن العاص.
 ولما مضى عصر الشفاهة المحفوظ في الصدور وبدأ عصر التدوين والكتابة في مطلع القرن الثاني الهجري استمر المجددون في كتابة علوم الشريعة المختلفة خاصة السنة التي هي بيان للقرآن وموضحة له ثم جاء الشافعي ووضع الرسالة لوضع قواعد لفهم الشريعة وأحكامها، ومن قبله كان الإمام مالك الذي وضع الموطأ وهو توطئة بين آراء ابن عمر المترخصة وبين آراء بن مسعود المتشددة، ولما أراد أبو جعفر  المنصور أن يجعل الموطأ كتابا عاما للأمة وقانونا يصدر الناس جميعا عنه، قال له الإمام مالك إن الناس قد تفرقوا في الأمصار وأصبح لكل منهم فقههم، وكان الإمام أبو حنيفة قد وضع مذهبه مؤسّسا للعرف والعادة واعتبارهما مصدرا من مصادر التشريع  وأصبح مذهبه مرجعا للقضاء والقضاة، وجاء الإمام أحمد بن حنبل ليدون السنة في مسنده  وليدافع عن عقيدة الناس في إثبات صفة الكلام للـه، وأن القرآن كلامه سبحانه وتعالى لم يخلقه، ومن بعده يأتي أئمة مدوني السنة ومن بينهم الإمام البخاري.
الإحياء والتجديد هو إحدى سمات الحالة الدينية وفي الحديث "إن اللـه يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها
وتكونت المذاهب الأربعة حول مناهج الفهم والقواعد التي وضعها الأئمة الأربعة، وفي مصر كان هنا الليث بن سعد،  وفي الشام كان الأوزاعي، وفي كل مِصْرٍ كان له علماؤه ومجتهدوه ومجددوه، الموضوع الرئيسي هنا هو أن هؤلاء العلماء المجتهدين والمجددين كانوا يجتهدون للأمة كلها، ولم يأتِ واحد منهم ليقول إنني سأضع مذهبا خاصا بي وهذا المذهب الخاص مختلف عما شاع بين الناس من فهم للإسلام، وأنا أضع ما يردّ الناس إلى الصواب الذي اكتشفته، لم يحدث هذا أبدا، بل كان هناك استصحاب لأصل الإسلام للناس، وكان كل مجتهد معروفا أساتذته وطريقته في فهم الشريعة، ولم يشأ أي  واحد منهم أن يؤسس مذهبا لنفسه، وإنما وضع كل منهم طريقة في فهم الشريعة هي أشبه بالمناهج التي توضح بيان مقصد الشارع بشكل جلي لكل المسلمين، ورضي المسلمون من بعده طريقته في توضيح الشريعة وبيان مقاصدها، فاتخذوا من مذهبه طريقة في الفهم والتطبيق فصار هناك شافعية كما هي الحال في شمال مصر، ومالكية كما هي الحال في المغرب وجنوب مصر، وحنابلة كما هي الحال في السعودية، وأحناف كما هي الحال بالنسبة للأتراك.
ووفق عبد المتعال الصعيدي في كتابه "المجددون في الإسلام" فإن المجددين لا يكون تجديدهم في أمور الدين والعبادات فقط وإنما في أمور الدنيا أيضا، فالإسلام ليس دين عبادة فقط وإنما هو نهضة دينية ومدنية معا، قصد بها النهوض بالعرب الذين اختير منهم الرسول أولا، لينهضوا بسائر البشر ثانيا، والإسلام غايته النهوض بأمر الدنيا والآخرة معا بلا تفضيل لأحدهما على الأخرى، ومن ثم كان صلاحه لكل زمان ومكان ولكل الشعوب، وكان اتساعه للتجديد في كل زمان لأن غايته النهوض العام بالإنسانية، ومن ثم فهو يبحث أمر المجددين في الدنيا قبل الآخرة فتاريخ المجددين هو تاريخ نهوض المسلمين في أمر دنياهم قبل أن يكون تاريخ نهوضهم في أمور أخراهم".

بل إن عبد المتعال الصعيدي يفتح بابا جديدا في توسيع معني المجددين، فيشير إلى أن الأمة في الحديث قد تكون أمة الإجابة، أي المسلمين الذين استجابوا للإسلام ودخلوا في دعوة النبي محمد صلى اللـه عليه وسلم، وقد تكون أمة الدعوة أي غير المسلمين من بقية العالمين الذين لم يستجيبوا بعد لدعوة الإسلام لكنهم مقصودين بدعوته، ومن ثم فالمجددون ليسوا فقط هم المسلمين ولكن المجددين هم من يقدم جديدا لخدمة الإنسان والعصر والعالم، هنا فكرة التجديد لخدمة الإنسان ونهوض الحضارة الإنسانية دون قصرها فقط على المسلمين أو عالم الإسلام.
وذكر محمد رشيد رضا في كتابه "تاريخ الأستاذ الإمام"، أن هناك مجددين في العمران الحربي في الدفاع عن الإسلام وتوسيع دياره وإقامة أركان العمران فيه، ومنهم صلاح الدين الأيوبي  ومحمد علي في مصر وعبد القادر الجزائري في الجزائر، والسنوسي في ليبيا.

وأشار الصعيدي إلى أن المجددين لا يكونون متعصبين أو مقتصرين على فئة أو طائفة وإنما يكون اجتهادهم لكل المسلمين جميعا، وهو ما نقصده حين نقول "اجتهاد المجتهدين والمجددين يجب أن يكون شائعا بين المسلمين جميعا وليس مقصورا على فئة أو جماعة أو طائفة أو فرقة دون بقيتهم، كما أن اجتهاد المجددين يجب أن يكون للأمة وفي صالح نهوضها والحفاظ عللا وحدتها وبقائها وعمرانها، وليس في مواجهة الأمة بالاستعلاء عليها أو الاستغناء عنها".
المقصد الرئيسي هنا هو؛ أن هؤلاء المجتهدين كان علمهم شائعا ومنتشرا بين الأمة كلها ولم يكن لجماعة مخصوصة ولفئة معينة من المسلمين دون غيرهم، فلما استأثرت جماعة من الناس باجتهاداتها لنفسها دون المسلمين أطلقوا عليهم فرقة، واعتبروا ذلك عنوانا وعلامة على مخالفة سبيل المجددين والمجتهدين الذين يعملون على إحياء دين الأمة وردها إلى دينها ردا جميلا.
وهؤلاء المجتهدون كان اجتهادهم شاملا يسع الدين والدنيا معا، بل إن النهوض الحضاري والارتقاء في العمران وتحقيق الغاية من الاستخلاف والتفاهم بين الشعوب والتعارف بينها والاستفادة من مجدديها فيما يتصل بتحسين الحياة وتحقيق العمران، يعد موضوعا رئيسيا للتجديد ولعمل المجددين.

ثالثا- الإخوان بين العمل العلني والسري 
لما سقطت الخلافة الإسلامية انزعج الناس في مصر، وصدرت خمسة كتب تؤكد أن الخلافة نظام سياسي وليس فقط مجرد دعوة لا علاقة لها بإدارة شئون الدنيا، وسعى علماء ووجهاء في مصر لتأسيس جمعيات إسلامية للحفاظ على الدين وتنقيته مما علق به من شوائب، فتأسست الجمعية الشرعية وتأسست أنصار السنة وتأسست الشبان المسلمين عام 1927 ثم أسس حسن البنا الإخوان المسلمين عام 1928.
عبد المتعال الصعيدي في كتابه "المجددون في الإسلام": إن المجددين لا يكون تجديدهم في أمور الدين والعبادات فقط وإنما في أمور الدنيا، فالإسلام ليس دين عبادة فقط وإنما هو نهضة دينية ومد
ومرت الجماعة بمرحلة التأسيس الأولى التي امتدت من عام 1928 إلى عام 1932 حيث انتقلت للقاهرة، وفي القاهرة مرت الجماعة بمراحل ثلاثة رئيسية الأولى إلى عام 1939 بداية الحرب العالمية الثانية ثم الثانية إلى عام 1945، وهي نهاية الحرب الثانية والثالثة إلى عام 1949، وهو العام الذي شهد اغتيال مؤسس الجماعة وقائدها حسن البنا. الارتباك الذي حصل في مسيرة الجماعة جاء في تقديري بعد تأسيس النظام الخاص عام 1940 فقد انتقلت من جماعة دعوية علنية إلى المنحى السري، ومن العمل العام الشائع المعروف للناس جميعا إلى العمل الخاص المؤسس لأول مرة في تاريخ الحركات الإسلامية الحديثة لانتهاج العنف سبيلا لتحقيق غايات سياسية، فقد ترك النظام الخاص بيد شاب صغير لا يزال في العام الأول من كلية الآداب هو عبد الرحمن السندي، كما أن حسن البنا في ذلك الوقت لم يكن عمره يزيد على الأربعة والثلاثين عاما، ومع تأزم الأوضاع السياسية والاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية وظهور القضية الفلسطينية وانخراط الجماعة في العمل السياسي وتوازناته المعقدة، بدأ التنظيم الخاص عمله فاندفع ينفذ عمليات بعضها كان ضد الإنجليز لكنها لم تلبث أن اتجهت إلى الداخل ضد القضاة كما حدث مع القاضي أحمد الخازندار، وللقضاء حساسية خاصة أن تقصد قاضيا بالقتل لأنه  حكم على أحد من جماعتك بحكم لم ترضه.
ولكن المشكلة الكبرى كانت قتْل رئيس الوزراء ووزير الداخلية النقراشي في بهو وزارة الداخلية، كما كان أمر قضية السيارة الجيب ووثائق التنظيم الخاص التي كانت بها ثم محاولة نسف المحكمة التي كانت بها الوثائق، ثم قول البنا عن من نفذ عملية اغتيال النقراشي "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين" وهو ما جعل طالب الطب البيطري "عبد المجيد حسن" يعترف بعد أن كان رافضا الاعتراف في التحقيقات عن شركائه. وتحول التنظيم الخاص إلى مشكلة كبيرة أرهقت الجماعة إلي حد تحدي المرشد الثاني ورفض اختياره واقتحام مقره ومحاولة إجباره على الاستقالة، كما أن عبد الرحمن السندي عمد إلي قتل سيد فايز الذي كان منحازا للمرشد الجديد لتحرير التنظيم الخاص من قبضة السندي، وظلت وصمة العنف تهمة تلاحق الإخوان طوال تاريخهم وهم يحاولون التبرير لها بوجود احتلال، أو أن كل التيارات كانت تمارس العنف وقتها مثل الحزب الوطني مثلا، بيد أنه لا يصح إلا الصحيح فإن العنف لا يمكن تبريره، كما أن العنف يفتح الباب على عسكرة تحيل الجماعات الدعوية العلنية الشائعة بين المسلمين جميعا إلى تنظيم خاص يخطط في الخفاء ليقتل ويفجر، وينتظر أخبار القتل وحوادثه، كما حكى أحمد عادل كمال، وهو عضو التنظيم الخاص، حين كان ينتظر أخبار قتل الخازندار.

رابعا- خطابات البنا بين التجديد والتبديد
حين العودة إلى ما كتبه حسن البنا في رسائله، سوف نرى أن هناك جزءًا مما طرحه يعتبر اجتهادا شائعا بين الأمة يتناول فيه مشاكلها ويتضمن أفكارا ذات روح إسلامية قوية لا غبار عليه، بينما المشكلة في الجزء الآخر الذي يمكن وصفه بالخطابات الحركية المتجهة لجماعة معينة من المسلمين دون بقيتهم، باعتبار أن تلك الجماعة هي حاملة الإسلام، وأن أعضاءها هم المتمثلون للدين الإسلامي، وأن عليهم أن يأتوا ببقية المسلمين إلي فهمهم وخطط جماعاتهم.
 حين نطالع رسائل البنا نجد مثلا "المأثورات" وهي في آداب الذكر وفضل الذاكرين، ومن المثير أن البنا كان يخاطب فيها من يكتب إليه بقوله "أخي" دون تحديد أي كان يخاطب الذاكرين جميعا من المسلمين بغض النظر عن كونهم ينتمون إلى الإخوان أم لا.  وهناك ما يطلق عليه الوظيفة وأشار البنا فيها إلى أنها ليست خاصة بالإخوان ولكنها للمسلمين عامة وفيها أدعية مختلفة وآيات قرآنية مختلفة، وهناك الورد القرآني وأدعية اليوم والليلة والأدعية المأثورة في حالات مختلفة، وكل هذا فيه معنى تنبيه المسلمين على ضرورة الأذكار والورد القرآني، وهو أشبه ما يكون بكتاب "الأذكار" للنووي أو "الكلم الطيب لابن تيميه وشرح تلميذه ابن قيم الجوزية لها بعنوان "الوابل الصيب من الكلم الطيب". كل هذا من العلم الشائع للمسلمين وهو متابعة لما كان يفعله العلماء من قبل لجمع الأذكار المختارة للمسلمين لكي يقوموا بها. فقط ورد الرابطة يبدو خاصا بجماعة الإخوان وأعضائها دون بقية المسلمين، والبنا هنا يستحضر ميراثا صوفيا كان عميقا في نفسه مذ كان عضوا في الجماعة الحصافية الصوفية، إلى حد أنه يقول للعضو "يستحضر صورة من يعرف من إخوانه في ذهنه وهو يقرأ الورد ويستشعر الصلة الروحية بينه وبين من لم يعرفه منهم".
إن اجتهاد المجددين يجب أن يكون للأمة وفي صالح نهوضها والحفاظ على وحدتها وبقائها وعمرانها، وليس في مواجهة الأمة بالاستعلاء عليها أو الاستغناء عنها
وفي كتاب "العقائد" يبدو الكتاب من كتب العقائد التي لخص فيها البنا طرائق من سبقه من علماء المسلمين في فهم العقيدة، فهو يذكر قسم الإلهيات وقسم النبوات وقسم الروحانيات وهو الجزء غير المادي كالملائكة والجن والروح، وقسم السمعيات المتصلة بالحياة الأخروية كالبرزخ والموقف والحساب والجزاء والبعث وعلامات القيامة وغيرها، وهو هنا يسير على طريق من سبقه من علماء العقيدة، ويتخذ مسلكا رصينا محكما بين موقف السلف والخلف في قضية التأويل، وإن كان يرى أن مذهب السلف أسلم وأوْلى بالاتباع.
وفي بحثه عن الجهاد "يبدو البحث ممتازًا، فهو سار على نهج وأقوال من سبقه من العلماء في الدفع عن أرض المسلمين إذا تعرضت لعدوان أو غزو وأن ذلك فرض عين، والقيام بالدعوة إلى اللـه كفرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، ويبقِي على البحث ملاحظات أهمها تحقيق مناطات الجهاد في ظل الدول الوطنية الحديثة، وأن يكون الجهاد عبر مؤسسات الدولة وجيوشها وتحت مظلتها، وما ختم به البنا البحث بقوله: "إن الأمة التي تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب اللـه لها الحياة العزيزة "، وكان يجب الإشارة إلي حسن صناعة الحياة وكما أشار عبد المتعال الصعيدي، أن التجديد لا يقصد الموت للأمة وإنما يقصد لها النهوض والارتقاء في الدنيا قبل الآخرة .
وفي بحثه عن مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي "ويبدو أنها كانت عدة مقالات للبنا حول قضايا متعددة كانت مطروحة على النقاش بعد الحرب العالمية الثانية وفيها يخاطب رئيس الوزراء وأعضاء الهيئات النيابية ورؤساء الهيئات الشعبية السياسية والوطنية والاجتماعية وقادة الفكر والرأي وموجهي الجماهير، وأضاف كل محب الخير وسيادة بني الإنسان وفيها يعنون عنونه الأول "نظرات ثلاث ثم أي لون نختار، وقضيتنا الوطنية وكيف تحل في ضوء التوجيه الإسلامي ووحدتنا في ضوء التوجيه الإسلامي، ونظام الحكم وفيها اعتبر أن النظام البرلماني لا يتعارض مع الإسلام، ودعا صراحة إلى حل الأحزاب باعتبارها سيئة الوطن، وتحدث عن نظام الحكم والنظام الاقتصادي، ويعد هذا البحث بشكل واضح خطابا سياسيا بامتياز، وفيه لم يشر حسن البنا من قريب أو بعيد على الإطلاق إلى جماعة الإخوان، بل كان يتحدث باعتباره مواطنا مصريا يدلي بما يراه في قضايا السياسة  والاجتماع  والاقتصاد دون إشارة واضحة إلى الإخوان المسلمين، أي أن ما كان يطرحه في الواقع هو نوع من خطاب التجديد ينتقد ويطرح بدائل تتفق أو تختلف معه فيها لكنها تمثل رأيا يعبر عن قطاعات مهمة في المجتمع المصري، وهي تلك التي ترى أن الإسلام هو جزء من مشروع هذه الأمة للنهوض.
أما خطابات التبديد لدى البنا فسنجدها في المواضع التي يتحدث فيها للإخوان كجماعة دون بقية المسلمين، وعلى سبيل المثال ففي رسالة المؤتمر الخامس عام 1357 ه عام 1938 م أي بعد عشر سنوات من انطلاق الإخوان كجماعة دعوية، فماذا يقول البنا في تلك الرسالة: "أيها الإخوان ..فكرة الإخوان المسلمين إسلامية بحتة في غايتها ووسائلها ولا تتصل بغير الإسلام في شيء" واستخدم تعبير "إسلام الإخوان المسلمين" وكأنه شعر بثقل العبارة فقال: واسمحوا لي أن أستخدم هذا التعبير ولست أعني به أن للإخوان المسلمين إسلاما جديدا غير الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد صلى اللـه عليه وسلم، ووصف بعد ذلك الجماعة بقوله: الإخوان المسلمون دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية وثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية .. فشمول معنى الإسلام أكسب فكرتنا شمولا لكل معنى الحياة، واعتبر أن الإخوان في مرحلة الدعاية والتعريف ولا يزالون بعد يسعون إلى مرحلة التكوين وتخير الأنصار وبعد ذلك مرحلة التنفيذ والعمل، ثم تحدث عن الكتائب والكشافة والجوالة ودرس التعاليم في الكتائب وأندية الإخوان المسلمين، ثم يمضي مخاطبا المتعجلين المتحمسين من الإخوان "إن خطواتكم مرسومة محددة ... حتى يقول : وفي الوقت الذي يكون فيه منكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحيا بالإيمان والعقيدة وفكريا بالعلم والثقافة وجسميا بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار وأقتحم بكم عنان السماء وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء اللـه. وفي موضع آخر من نفس الرسالة يقول: يتساءل كثير من الناس هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غاياتهم؟ وهل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة علي النظام السياسي أو النظام الاجتماعي في مصر؟ ولا أريد أن أدع هؤلاء المتسائلين في حيرة، بل إني أنتهز هذه الفرصة فأكشف اللثام عن الجواب السافر لهذا في وضوح وفي جلاء فليسمع من شاء، أما القوة فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته.
خبير في شئون الحركات الأسلامية

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟