المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

نحو طريق ثالث: قراءة في الخبرة الألمانية في مواجهة الفساد

الإثنين 23/فبراير/2015 - 10:52 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. محمود عبد الله
يمضي مسار التغيير عادة في مساريْن، أولهما التغيير التدريجي وهو تغيير أخلاقي يستهدف الأفراد، على اعتبار أن النظام الاجتماعي صالح للعيش، وأن المشكلة الحقيقية في الأفراد أنفسهم لأنهم يجهلون طبيعة النظام ولا يستطيعون التكيف معه ومع آليات عمله وتكوينه. فالحل هو العمل جديا على تغيير وعي الأفراد. هذه العملية تتطلب إجراء إصلاح تربويا، يعمل على تكوين وتهيئة المتعلمين، بحيث يكونون مواطنين صالحين، قادرين على العمل في ضوء المعايير والأخلاقيات التي يتربون عليها منذ البداية. وبطبيعة الحال فإن هذه العلمية تمضي في مسار طويل، تستغرق سنوات، وتؤمن بها قوى اجتماعية وسياسية لم تفقد إيمانها في النظام الاجتماعي والسياسي القائم.
بينما على الطرف الآخر نجد مسارًا آخر، وهو مسار تغيير البنية. فالغرض هنا التوجه نحو النظام نفسه وتغيير هيكلة وطريقة عمله وآلياته، حتى يستطيع أن يعمل بعدالة، ويحقق التجانس والتوافق والسلام بين أفراد المجتمع. تغيير النظام وتغيير بنية عمله، مسألة أسرع من تغيير الوعي. وتمييزا بين النمطين سُمِّي النمط الأول بالإصلاح، بينما سميت العملية الثانية بالتغيير الجذري. أي أن التغيير في الحالة الأولى لا يمس القواعد، أو القوانين المؤسِّسة، قوانين التشييد والبناء، بل يمس فقط فاعلي البناء، الأفراد الذين ينبغي عليهم أن يقوموا بتشغيل آلة النظام.
بينما اللحظة الراهنة تفرض إجراء تغييرات عميقة على البنية المجتمعية، وهو أمر ينبغي أن يسير بنا في الاتجاه والمسار الثاني، حتى لا يسقط منا الأهم: الدولة، دون الظن بأن هذا التغيير الجذري يتم فيه التخلي عن اختيار العناصر القادرة على تنفيذ السياسات الجذرية التي تفيد صالح المجتمع وتطوره الحقيقي.

اتبعت الدول الأوربية في عدد من تجاربها أسلوب التطهير، بغرض التخلص من المسئولين الكبار والرموز الكبيرة التي كانت تعيث فسادا في الأرض
أولا- التجربة التقليدية في التغيير: الحالة الأوربية
اتبعت الدول الأوربية في عدد من تجاربها أسلوب التطهير، بغرض التخلص من المسئولين الكبار والرموز الكبيرة التي كانت تعيث فسادا في الأرض في الأنظمة السابقة. وكانت من بين هذه التجارب التجربة الألمانية، أي عملية تطهير الحزب النازي الألماني، ثم عملية تطهير الحزب الفاشستي في إيطاليا.
1- الحالة الألمانية: نظرة متأملة
تعهدت قوات الحلفاء قبل نهاية الحرب بمدة طويلة بتدمير العسكرية الألمانية والنازية. وفور هزيمة ألمانيا في مايو 1945 بدأت سلطات الاحتلال بتنفيذ هذا الهدف من الحرب. فخلال مؤتمر بوتسدام (من يوليو إلى أغسطس 1945) وضعت الدول المنتصرة حجر الأساس لإصلاح ألمانيا: فاتفقت الدول على نزع سلاح ألمانيا وإلغاء قواتها المسلحة وإزالة الفكر النازي من شعبها وإعادة تعليمه من جديد.

ومن نتائج إزالة الأيديولوجية النازية إعادة تسمية الشوارع والحدائق والمباني التي لها رابطات نازية أو عسكرية، ورفع الأنصاب والتماثيل والشعارات التذكارية التي لها صلة بالعسكرية أو النازية، ومصادرة ملكيات الحزب النازي، وإزالة الدعاية النازية من التعليم ووسائل الإعلام والمعاهد الدينية التي لها قواد مؤيدون للنازية، ومنع الاستعراضات والأناشيد النازية أو العسكرية ومنع عرض الرموز النازية.
وهدفت المبادئ السياسية والأساسية لاجتثاث النازية إلى تحديث الحياة السياسية الألمانية على أسس ديمقراطية وشملت ما يلي:
-       تفكيك وإلغاء الحزب النازي وتشكيلاته ومؤسساته الفرعية وجمعياته واتحاداته ومنظماته وجميع المؤسسات الشعبية النازية والتي استخدمت كأداة لسيطرة الحزب ومنع انبعاث أفكاره بأي شكل من الأشكال.
-       إلغاء القوانين المنادية بتأسيس البناء السياسي وكل القوانين والأحكام القضائية، والتنظيمات التي ترسخ التعصب على أساس العرق والوطنية والآراء السياسية والعقيدة.
-       إقصاء واستثناء كل فرد من أفراد الحزب النازي من الذين كانت لهم مشاركات كبيرة في نشاطات الحزب في الدوائر الرسمية، ومن المواقع المهمة في المؤسسات شبه الرسمية والخاصة.
أي بعدما سقطت النازية عسكريا، قام الحلفاء بإجراء تغييرات عميقة في بنية المجتمع الألماني، حيث منعت رموز النازية، وأجرت محاكمات للقيادات السياسية والعسكرية النازية، وشكلت أحزابا جديدة، وعادت الأحزاب التي حظرها هتلر، وأغلقت المدارس ووسائل الإعلام التابعة للنازي، بل ووصل الأمر في عملية التطهير إلى حد أن أقيل 90% من القضاة المشكوك في انتمائهم له، وأجريت تحقيقات موسعة مع كافة الأفراد الذين انتموا للنازية، وصنف النازيون إلى فئات: المنتمي والمتعاطف والمنتمي غير المبالي، وعولجت كل فئة بطريقة مختلفة، هكذا كانت مواجهة آثار العنصرية القومية ممثلة في الهتلرية.
وبطبيعة الحال كانت المطاردة هنا لكيان حزبي يحمل أفكارا عنصرية تهدد الجنس البشري، وليس الأوروبيين فقط. ولكن عملية التطهير ينبغي أن ينظر لها بحذر لعدة أسباب:
تشكيل لجان مستقلة من خارج المؤسسات حتى تتسم عملية التطهير بالتكامل والحيدة والنزاهة وحتى لا يكون فيها مجال للثأر أو الانتقام أو المحاباة
أولها، أنها لم تأت من داخل المجتمع الألماني، بل من قوى عسكرية خارجية تدخلت بالقوة، وأجرت تغييراتها من خلال هذه القوة العسكرية.
ثانيها، أن الفاعلين الذين قاموا بالتطهير لا ينتمون إلى سلك القضاء المدني، وهو ما جعل المحاكمات يشوبها البطلان.

ثالثها، على الرغم من أهمية إجراءات التطهير التي تمت، إلا إن النازية لم تنته من ألمانيا، بل عاد النازيون الجدد إلى مسرح الأحداث للظهور مرة أخرى. ما يعني أن إجراءات التطهير ينبغي أن تسايرها منع أي مصادر لإنتاج النازية. فالعنصرية تولد عنصرية مقابلة. وما يحدث في أوربا راهنا من عنصرية ضد المواطنين من أصل عربي، يؤدي إلى اتساع شبكة الإرهاب عبر العالم. فلم تستطع أوربا أن تقوم بإدماج المهاجرين العرب، فهم مهمشون من الوظائف، وغير قادرين على التوافق مع المجتمع الجديد، ولا يوجد ما يعوض ذلك بصلات قوية بمجتمعهم القديم، نظرا لضعف السياسات الثقافية الخارجية العربية. بل ونشأ تخوف ديموجرافي، من زيادة عدد العرب في أوربا، واتساع شبكة علاقاتهم، وهو ما يصب في النهاية في صالح اليمين المتطرف، في كافة صوره الفاشية والنازية وغيرها من الحركات العنصرية.
2- ما بعد الحالة الألمانية
وبعد ذلك كانت أشهر آليات تطهير في 1991 في أوروبا الشرقية السابقة. وفيها نجد كل الدول سواء كانت بلغازيا، ورومانيا، وألمانيا الشرقية السابقة، وهولندا، وتشيكوسلوفاكيا السابقة، ويوغسلافيا، وألبانيا، والمجر، قامت بإعمال آلية التطهير، ولكنها قامت بتطهير مؤسسات معينة في البداية، وهي مؤسسات الشرطة وأمن الدولة والاستخبارات والقضاء والإعلام. هذه أهم المؤسسات التي تم تطهير الرموز وكبار المسئولين فيها، ممن ارتكبوا فعلا جرائم وتم حظر ممارستهم لحقوقهم السياسية والمدنية سواء في الترشح للرئاسة، أم الترشح للبرلمان والمجالس الأخرى التمثيلية، كما تم إقصاؤهم وحرمانهم من تولي وظائف عليا في البلاد جراء ارتكابهم جرائم في العهد السابق.

وحين شكلت لجان للتطهير كانت مستقلة من خارج الجهاز أو المؤسسة التي يتم تطهيرها، وهذا لم يحدث في مصر. بمعنى أن في تطهير أمن الدولة أو تطهير أجهزة الشرطة أو تطهير الإعلام في هذه الدول تم تشكيل لجان مستقلة من الخبراء والقانونيين والحقوقيين حتى الإعلاميين ومنظمات المجتمع المدني من خارج هذه المؤسسات حتى تتسم عملية التطهير بالتكامل والحيدة والنزاهة وحتى لا يكون فيها مجال للثأر أو الانتقام أو المحاباة. للأسف لم يتم حتى هذه اللحظة تطهير أي جهاز في مصر، وكل مؤسسات الدولة والتي استشرى فيها الفساد والمحسوبية. لم يتم التطهير إلا في جهاز أمن الدولة المصري حتى وزارة الداخلية نفسها كوزارة لم يتم تطهيرها حتى هذه اللحظة.
ثالثا- الطريق الثالث
إن مسار التغيير الحقيقي ينبغي له أن يجمع بين المسارين معا. فلا إمكان لإجراء تغييرات على النظام نفسه، وطريقة عمله، كافية بحد ذاتها، لأن هناك عناصر قديمة لا تستطيع العيش والعمل داخل الآليات الجديدة، بل ستسعى بكل قوتها لإفشال عملية التغيير، دون العمل الجاد والحقيقي من أجل إكساب النظام الجديد حقه في الوجود. والمسألة لا تعني وقف إعمال النقد وتشغيله، بل إن النقد والمعارضة جزء رئيسي في بناء النظام وتكوينه، بل إن التغيير يتطلب إنشاء لجان قانونية من قانونيين ينتمون لعناصر متنوعة داخل القضاء الوطني وخارجه، معروف عنها النزاهة ومقدرة من واقع تاريخها المهني، وتستهدف العناصر المحسوبة على النظامين القديمين في النظام الإخواني والمباركي، ممن شابتهم علامات الفساد، بكل صوره سواء كان فسادا سياسيا أم قانونيا أو اقتصاديا، مع التركيز على الفساد السياسي والاقتصادي بالذات.
هذا معناه أن تغيير سياسات العمل التنموي، بمختلف أشكالها، ليست في الحقيقة هي الوسيلة الوحيدة لإحداث التغيير. فلا بد أولا من تغيير العناصر المعروف بمنافحتها عن الفساد وتأييدها لبقاء الأوضاع على ما هو عليه. وبالطبع الأمر يتطلب أن يتم ذلك وفق احترازات وضمانات لا تؤدي إلى اتساع دائرة الاتهام.
إذ بقدر ما يتمتع به تغيير السياسات من أهمية كبيرة، تتطلب نقل الاهتمام من القوى المتسيدة إلى فقراء الريف والحضر، من تأييد رجال الأعمال والمال، إلى تبني سياسات تدعم الفقراء والمهمشين، وتلبي احتياجاتهم المعيشية، وتوسع من حجم الطبقة الوسطى، باعتباره الضامن القوي للدفاع عن القوى الاجتماعية المحرومة، والحفاظ على الهوية الوطنية. لكن هذه السياسات، أكرر، ليست بحد ذاتها كافية لإجراء تغييرات حقيقية. والحديث عن أن ذلك سيؤدي إلى إبعاد الكفاءات والمتميزين، هو قول حق يراد به باطل. ذلك أن عملية التطهير تسعى في الحقيقة إلى وضع الكفاءات والمؤهلين وأصحاب المهارات والمتميزين في المواقع التي يستحقونها، وتفتح الطريق أمام المواطنين النابهين. إنها بالأساس لا تكرس لخطاب تكفيري، ولا لخطاب تآمري، كما كانت في العهود السابقة. بل إنها تسعى لمطلب العدالة، الذي يقوم عليه العمل القضائي نفسه. والمسألة لا تتطلب أن تكتفي بالمؤسسات القومية الرقابية بنفسها، لأن مشاركة المجتمع المدني ضرورية، خاصة وأننا صرنا في مرحلة لم تعد فيه عملية تنمية المجتمع قاصرة على طرف واحد، وهو الدولة، بل أصبحت نتاجا لتعاون مشترك بين الدولة وأصحاب المصلحة في المجتمع المدني. 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟