د. كمال حبيب يكتب: صعود القاعدة في مصر والعالم العربي
جغرافيا
العنف في مصر والإقليم العربي تفتحنا علي معني واضح وهو صعود تنظيم القاعدة
وأفكاره في العالم العربي وفي الإقليم كله بعد أن كان التنظيم قد شهد تراجعا بعد
تفجر الثورات العربية في تونس ومصر ومن بعد في ليبيا، نموذج الثورات العربية الذي
لم يكن متوقعا في نماذج التغيير من منظور التيارات الإسلامية قد طرح بديلا مختلفا عن نمط التغيير في منظور التيار السلفي
الجهادي الذي يعبر عن فكر القاعدة، كما أن نموذج الثورات العربية قد وضع الإسلام
السياسي الإصلاحي في مأزق أيضا، فلم يكن الإخوان المسلمون مثلا هم من قادوا الثورة، كما أن افتراضاتهم حول التغيير
تجاوزها نموذج الثورة أيضا، والافتراض الإخواني يقول بضرورة وجود تنظيم يمثل طليعة
تحاول إحداث نوع من التغيير الداخلي المتدرج في المجتمعات العربية لإصلاح ما
يواجهه من قصور وفساد أخلاقي واجتماعي وسياسي، وحين يجاوز التحول في المجتمع حدود
الأغلبية فإن التغيير يتحقق لكنه يتحقق غالبا عن طريق تنظيم الجماعة وطليعتها
وتكون الجماهير داعمة لهذا التغيير.
أولا: الثورات العربية والقاعدة
نموذج
الثورات العربية في مصر وتونس جعل الناس والجماهير هي التي تقود التغيير بنفسها
دون وسائط تنظيميه من جانب الإسلام السياسي أو من جانب التنظيمات الأخرى
الليبرالية أو القومية أو اليسارية، الخروج العفوي للجماهير التي يقودها شباب من
أبناء الطبقة الوسطي غير مسيسيين ومتواصلين مع وسائط التواصل الاجتماعي ويعرفون ما
يجري في العالم من تحولات تجاه حقوق الناس الاقتصادية والاجتماعية، وأن الاستبداد
واحتكار الثروة والسلطة لصالح فئة ضيقة في المجتمع لم يعد مقبولا، كل ذلك جعل
الثورة تعبر عن شيوع عام في المجتمع حيث تعاطف معها الناس من كل الطبقات والفئات
خاصة المحرومة والمهمشة اجتماعيا، وخرجوا بالملايين في كل ميادين مصر، مع صمود
هؤلاء الشباب في ميدان التحرير واستعدادهم للتضحية بنفوسهم من أجل مستقبل أفضل
لأوطانهم، إذن الناس لم تنتظر الإسلام السياسي الإخواني ذات الطابع الإصلاحي
ليتدرج في التغيير كما يعتقد، وإنما خرجت هي ومثلت قوتها الجماعية بالملايين
وصمودها بلا اهتزاز لثمانية عشر يوما نجاحا في عزل رئيس مستبد استمر في الحكم
لثلاثين عاما.
السلفية
الجهادية هي عنوان فكري يعبر عن شبكات متنوعة تستلهم أفكار تنظيم القاعدة وطريقته
في العمل المسلح، فبعد موت بن لادن وتولي المصري أيمن الظواهري قيادة التنظيم، لم
يملك سحر بن لادن ورومانسيته التي سيطرت علي مخيال الآلاف من شباب العالم العربي
والإسلامي، لم يعد التنظيم يمثل تنظيما واحدا ، وإنما شبكات وأخوات للقاعدة تحمل
فكرها في مناطق عادة ما تكون مناطق توترات واضطرابات وحروب أهلية وضعف لسيطرة الدولة وبسط سلطانها علي أقاليمها،
وحتي الدول الفاشلة كالصومال نجد تصاعدا لشبكات القاعدة التي تحمل أفكار ا لسلفية
الجهادية ، ولم يكن للسلفية الجهادية دور في ثورات الشعوب العربية، لأنها تري أن
تنظيمها وطليعته هي التي تقوم بالتغيير نيابة عن الجماهير، كما أن مطالب الجماهير
التي خرجت بنظم سياسية ديموقراطية أكثر مشاركة وانفتاحا نظر إليه من قبل السلفية
الجهادية بأنه انحراف عن منهج الله الذي يقوم علي تحكيم شريعته عن طريق أهل الحل
والعقد في الأمة، فالديموقراطية دين ، ينازع الله أخص خصائص ألوهيته وهو التشريع،
كما أن البرلمانات هي بيوت الطواغيت لأنها تشرع للناس من دون الله وتعرض شريعته
علي بشر ليقولوا رأيهم فيها، بينما هي قائمة بذاتها لا يجوز عرضها علي البرلمانات
.
الأطروحة
الرئيسية لي في هذه المقالة هي أن نموذج الثورات العربية قد طرح بديلا واقعيا
وعمليا عن نماذج التغيير التي طرحتها القاعدة من ناحية وطرحها الإسلام السياسي في
مصر من ناحية أخري، ومن ثم فإن صعود هذا النموذج ونجاحه وحمايته وتحقيق أهدافه
سيقود بالضرورة لتراجع نموذج القاعدة ونماذج التغيير المعروفة التي يطرحها الإسلام
السياسي، الجماهير هي التي تصنع التغيير بذاتها دون انتظار لنخبها وتنظيماتها
السرية في أن تقوم بديلا عنها بالتغيير، وتعثر نموذج التغيير الذي طرحته الثورات
العربية سوف يقود إلي صعود نموذج القاعدة ، لأنه إذا لم يتم التعبير عن آمال
الجماهير عبر الديموقراطية وتداول السلطة وعبر دولة مدنيه تحترم حقوق الإنسان
والأقليات وتتسع لكل أبنائها وجماعاتها فإن البديل هو فرض نموذج القاعدة بالقوة من
أعلي علي الناس وبناء دولة خلافة إسلامية تشد الناس علي قالب ومقاس القاعدة وتفرض
عليهم نموذجها المعتمد علي القوة والسطوة وسيطرة الميلشيات المسلحة علي الجغرافيا
التي يتاح لهم السيطرة عليها، بل ومحاولة إعادة رسم الجغرافيا السياسية الجديدة
للعالم العربي وفق نموذج القاعدة الذي يقوم علي التطيييف وعلي هدم نموذج الدولة
القومية القطرية، وبناء نموذج متجاوز لما يعتبرونه اتفاقية سايكس – بيكو التي
صنعها الاستعمار ورسمها وفق مصالحه وفتح الباب لدولة لا تحكم الشريعة وهي دولة ما بعد
الاستعمار post-colonial وهي بالضرورة
دولة علمانية، من هنا كان ولعهم إلى حد الهوس بالإعلان عن دولة العراق الإسلامية
أولا : وهي تفتقد
لمقومات الدولة في الواقع، كما أنها تهدد وحدة العراق وتضع الجغرافيا السياسية
للإقليم في مهب تطلعات لا أساس لها في الواقع، وقد كان ذلك أحد الأسباب للخلاف
داخل تنظيم القاعدة في العراق، وقد خبت دولة العراق الإسلامية ولم يعد لها نشاط
يذكر مع تصاعد الصحوات في مناطق السنة بالعراق أو ما يعرف بالمثلث السني وخاصة في
المناطق الغربية، وفقدان دولة العراق لحاضنتها السنية بسبب سعي دولة العراق لفرض
الشريعة والأحكام الشرعية علي الناس مباشرة من خلال محاكمها وقضاتها ومؤسساتها
البدائية المفتقدة لقواعد الإدارة والسياسة والحصافة معا.
بيد إن امتداد تأثير الثورات العربية علي الشعب السوري
وخروجه للثورة سلميا في مواجهة نظام
الأسد في مارس 2011، وعنف النظام في
مواجهة الثورة الشعبية واستخدام قواته المسلحة في مواجهة شعبه، قاد الثورة السلمية
إلى العسكرة، ومن هنا بدأ تدخل تنظيم القاعدة ، وظهرت جبهة النصرة في سوريا بقيادة
أبي محمد الجولاني في أواخر عام 2011 ضمن القوي المسلحة المؤثرة في الصراع، باتفاق مع أبو بكر البغدادي
أمير دولة العراق الإسلامية بعد أن كان طالب الجولاني في مطلع عام 2011 في وضع خطة
لمواجهة ما يجري في الشام وهنا بدأ التأسيس لجبهة النصرة التي كان لها ممثلون في مجلس
شوري دولة العراق الإسلامية ولم يكن لجبهة النصرة صلاحية التعامل مباشرة مع قادة
الأقاليم التابعين للقاعدة أو مع مركزها في وزيرستان إلا عبر دولة العراق
الإسلامية، وضاق أبو محمد الجولاني من مراقبة دولة العراق الإسلامية لسلوكه في
الشام فأعلن انضمامه للقاعدة، وهو ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر
المنظمة إرهابية ، وبادر أبو بكر البغدادي
بإعلان "الدولة الإسلامية في العراق والشام" التي يرمز لها
بداعش، وبدأت المواجهات بين الفصيلين علي الأرض وفي الميدان بدلا من توجيه سلاحهما
إلي النظام، وهنا تدخل الظواهري وأعلن
بقاء دولة العراق في مكانها وحدودها بالعراق، وجبهة النصرة في سوريا والشام في
مجالها بالشام دون دمج، بيد إن الطرفين لم يرعويا، ودخلت المواجهات المسلحة بينهما
وفتاوي التكفير والتفجير بينهما مرحلة مفتوحة جعلت قادة تنظيم القاعدة مثل
الظواهري وأبو محمد المقدسي يعتبرون ما جري انتكاسة للنموذج القاعدي.
ثانيا: القاعدة في مصر بعد الثورة
ظهرت السلفية الجهادية في ميدان التحرير متأخرة، فلم
تشارك في الثورة لأنها تنظر إلي الجماهير نظرة شك، كما أن التنوع داخل تلك
الجماهير والذي ضم كل فئات الشعب المصري لم ينظر إليه السلفيون الجهاديون بعين
الارتياح، بيد إنه بعد نجاح الثورة وسقوط مبارك، بدأت السلفية الجهادية في التواجد
علي هوامش ميدان التحرير دون تدخل مباشر في الأحداث وإنما للدعوة إلي منهج السلفية
الجهادية من ناحية، وبناء تقارب مع من يحملون الفكر، وكان للسلفية الجهادية منصة
يخطب منها الشيخ السلفي المشهور مرجان الجوهري الذي دعا إلى هدم أبي الهول كما حدث
مع تمثال بوذا في أفغانستان، وظهرت السلفية الجهادية بأعلامها السوداء في سيناء
وهاجموا أقسام الشرطة، كما هاجموا خط الغاز الذي يوصل الغاز للصهاينة مرات عديدة
بلغت 15 مرة أو يزيد، ولعل حادثة قتل 16 من الجنود والضباط المصريين في سيناء في
أول يوم في شهر رمضان وهم يفطرون كانت الأكثر مأساوية ودلالة علي تجذر السلفية
الجهادية في سيناء، وبعدها ظهرت جماعات متعددة تنتمي للسلفية الجهادية مثل مجلس
شوري المجاهدين، وجماعة أنصار بيت المقدس، وجماعة كتائب الفرقان، وخلية مدينة نصر
ذات التوجه السلفي الجهادي، وبينما اعتبر التيار السلفي الجهادي في مصر الرئيس
القادم من جماعة الإخوان غير شرعي لأنه جاء بالطرق الديموقراطية وليس عن طريق أهل
العقد فإنه اعتبر أيضا التيارات المنخرطة في العملية السياسية بعد الثورة من
سلفيين وإخوان خارجين عن صحيح الإسلام والدين القويم، كانت سيناء قد شهدت ثلاث
عمليات كبري منذ عام 2004 نفذها تنظيم التوحيد والجهاد السلفي الجهادي والذي قاده
الطبيب خالد مساعد، وهذه العمليات هي تفجير فندق طابا ثم تفجيرات شرم الشيخ عام
2005 ثم تفجيرات منتجع دهب عام 2006، ورغم أن هذه العمليات تشير إلي وجود للسلفية
الجهادية في سيناء إلا أنها تراجعت حتي ظهرت مع ثورة 25 يناير ثم بدأت السلفية
الجهادية في تصعيد عملياتها بعد ثورة 30 يونيو التي أطاحت بالرئيس مرسي ثم إعلان
عزله في 3 يوليو وتعطيل العمل بدستور 2012، وحل مجلس الشوري الذي كان يسيطر عليه
الإخوان.
لسنا بصدد تعقب العمليات التي تؤشر علي صعود السلفية
الجهادية في سيناء ولكننا نلاحظ عدة ملاحظات علي تطور وجود السلفية الجهادية في
سيناء أهمها:
1- لم يعد الوجود السلفي الجهادي في سيناء بعيدا عن التواصل
العضوي مع تنظيم القاعدة خاصة أفرعه في سوريا والعراق، نحن أمام تطور جديد هو أن
الجماعات التي تمارس العنف والإرهاب في سيناء مرتبطة عضويا بتنظيم القاعدة وتعبر
عن تكتيكاته واستراتيجيته ولم تعد مجرد جماعات مرتبطة فقط بالفكرة أو المظلة التي ينضوي تحتها معتنقو السلفية
الجهادية في العالم، ربما لأن أفرع تنظيم القاعدة ممثلة في جبهة النصرة في سوريا
وفي دولة العراق الإسلامية أصبحت أكثر قربا من جغرافيا سيناء، بل في آخر بيان
لجماعة أنصار بيت المقدس بعد تفجيرها لمديرية أمن القاهرة تتحدث فيه صراحة عن تحية
المجاهدين في سوريا والعراق وأنهم يخوضون معركة واحدة في مصر وبلاد العرب ضد
التحالف الصهيو- صليبي ونطالب المجاهدين في سوريا والعراق بدعمنا في معركة مصر،
إذن لم نعد نتحدث عن سلفية جهادية تائهة تعمل ضمن مظلة عامة ولكننا نتحدث عن تنظيم
له علاقة مباشرة مع القاعدة وأفرعها التنظيمية في سوريا والعراق.
2- عمليات التنظيمات السلفية الجهادية وهي ما أطلق عليه
"العنف الاستراتيجي"، يقوم بها بشكل رئيسي تنظيمان التنظيم الأول هو
أنصار بيت المقدس وهو يتبني بشكل واضح أسلوب السيارات المفخخة والعمليات
الانتحارية تجاه مبان سيادية في الدولة متصلة بالجيش والشرطة كما هو الحال في
عملية محاولة اغتيال وزير الداخلية في مدينة نصر، وكما هو الحال في تفجير مباني
المخابرات الحربية في العريش ومبني المخابرات الحربية بأنشاص ومديريات الأمن في
الدقهلية والقاهرة، أما التنظيم الثاني فهو تنظيم كتائب الفرقان وهو يقوم بعمليات
تعتمد علي قنص الأفراد في وضع متحرك كما هو الحال في عملية قتل العقيد أركان حرب
محمد الكومي، وعدد آخر من ضباط وجنود الجيش المصري، واستهدفت حاوية في قناة السويس
بصاروخ أصاب مؤخرتها، كما استهدفت الأقمار الصناعية في منطقة المعادي وهي أهداف
تعكس بوضوح فكر القاعدة وتكتيكاتها.
3- يتواكب مع العمليات الميدانية لتنظيمات القاعدة في مصر
أسلوب إعلامي قوي حيث يركز تنظيم القاعدة علي الإعلام، ويعد فيديو محاولة قتل وزير
الداخلية الذي ظهر فيه ضابط مصري وهو يتحدث عن العملية التي قتل فيها أهمية
الإعلام لدي تلك الجماعات، كما أن الإعلان عن عمليات تلك التنظيمات يتم بسرعة.
خاتمة
صعود القاعدة مرتبط بالتوتر الحادث في الإقليم خاصة بعد
ثورات الربيع العربي، وسقوط أنظمة سياسية وصعود أخري جديدة لا تزال بعد في طور
التأسيس والتكوين، وقد لعب سقوط أنظمة مثل نظام القذافي دورا كبيرا في فتح مخازن
سلاحه التي وصلت لأيدي السلفية الجهادية وتنظيم القاعدة في سيناء، كما أن الحرب
الأهلية في سوريا وعسكرة ثورتها وظهور تنظيمات للقاعدة والسلفية الجهادية فيها فتح
الباب واسعا لدعم الصعود السلفي الجهادي والتنظيمات المرتبطة به بما في ذلك تلك
الموجودة في سيناء، وقد أثر التجاور الجغرافي في انتقال مقاتلي هذه التنظيمات
وإعلان دمج بعضها كما هو الحال في دمج دولة العراق الإسلامية مع جبهة النصرة في
الشام فيما يعرف باسم داعش، بيد إن الطبيعة الخاصة لكل دولة جعلت جبهة النصرة ترفض
ذلك ومعها القيادة المركزية في تنظيم القاعدة ممثلا في أيمن الظواهري، بيد إن
تغليب الهياكل التنظيمية والبيعة والولع بفكرة الدولة فتح جبهة للصراع بين تلك
التنظيمات القاعدية رغم وحدتها الفكرية قتل فيها المئات بل الآلاف، وهو ما يفقد
تلك التنظيمات مشروعها السياسي ويضع مصداقيتها الأخلاقية علي المحك، كما أن العنف
المروع كما يدعو إليه كتاب إدارة التوحش يحمل في نهايته بذور فنائه، وانفضاض الناس
عن فاعليه خاصة وأنه عنف يمارس داخل حدود ديار الإسلام وضحاياه مسلمون، عسكرة هذه
التنظيمات وميلها المبالغ فيه للعنف يحولها إلى جماعات مولعة بالدم وموغة فيه لحد
الحديث عن بعض من يشرب الدم منهم في سوريا والشام وهو دم المختلف معه في تقديرات
المواقف السياسية رغم كونه مسلم.
للاطلاع على المقال كاملة أنظر العدد الثانى من مجلة
"آفاق سياسية".